قديم 01-17-2011, 12:09 AM
المشاركة 11
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



الكاتب جون ليمان، الذي كان يعمل في تلك الآونة لدى آل وولف في دار نشر هوجارث، كان رآها قبل أسابيع من موتها وتلقّى أحدَ آخر رسائلها. كان قد طُلب منه أن يقرأ البروفة النهائية من "بين فصول العرض" وكانت في تلك الآونة موقنةً أن هذا العمل لا يساوي شيئاً. في هذا الصدد يتذكر ليمان حالتها العقلية في مارس 1941 قائلاً: "أصبحتُ مدركاً تماماً أن فرجينيا بدت متوترةً وعصبيةً للغاية وتشارف الانهيار، كانت يداها ترتعشان بين الحين والآخر، بالرغم من أن حديثها ظلَّ رصينا وواضحا على نحو تام. "كانت قد أعطتني الرواية بثقة غير أنها فجأة بدت متشككة وقالت إنها رديئةٌ جداً، لا يمكن أن تُطبع ولا تستحق سوى التمزيق. وبكل رقّة ولكن على نحوٍ حاسم خالفها ليونارد رأيها."


قي الأيام التالية شرع ليمان في قراءة المخطوطة: "أول ما لفت انتباهي كان طريقة الكتابة – خط يدها – كانت الحروف غير منمقة ولا ينتظمها السطر، وهو مخالف لكل ما سبق من المخطوطات التي قرأتها لها من قبل. كلُّ صفحة كانت زاخرةً بالشطب والتصليحات، فطرأ على بالي أن اليد التي كتبت هذا الكلام قد مسّها تيار كهربائي عالي الفولت."


بعد هذا وصله خطابٌ من فرجينيا تخبره أن الكتابَ سخيفٌ ومبتذلٌ وتافه، ولا ينبغي أن يُطبع، وكانت الرسالة مغلّفة برسالة أخرى لليونارد يقول فيها أنها على تخوم الانهيار. كلا الرسالتيْن كتبتا قبل يوم واحد من الانتحار. يقول ليمان:" حين وصلتني الرسالتان كان الوقت قد فات، فقد كنت موقناً من تيار الحزن الذي يسري بقوة تحت الكلمات في روايتها الأخيرة "بين فصول العرض"، الاكتئاب الحاد، الخوف الهائل، برغم الانطباع الأساسي والظاهري في الرواية، الذي كان أشبه بضحكةٍ مدويّة وثورة."


الشاهدُ الآخر كان طبيبتها الخاصة "أوكتافيا ويلبرفورس" وهي من سلالة "وليم ويلبرفورس". وكانت في تلك الآونة تدير مزرعةً لمنتجات الألبان في منطقة قريبة في الجوار، وكانت تمدُّ آل وولف بمؤنٍ من الزبد والقشدة والألبان في تلك الشهور العجاف بسبب الحرب. كانت تزور منزل فرجينيا الريفيّ بانتظام منذ يناير 1941، لكن الزيارة الرسمية بصفتها المهنيّة كطبيبة لم تبدأ إلا منذ 17 مارس. قبل ذلك بثلاث أيام كانت فرجينيا تناقش إحدى قصصها القصيرة مع د. أوكتافيا وقالت لها إن تلك القصة قد تركتها محبطةً ويائسةً إلى أقصى العمق.


د. ويلبرفورس عملت بعد ذلك كطبيب منتدب في مصحّة "جرايلينج ويل"، لكن معلوماتها في الطب النفسي كانت، مثل كلِّ الأطباء آنذاك، أوليّة برغم أنها قرأت كثيراً في فرويد. وبناءً على طلب ليونارد فحصتِ الطبيبةُ فرجينيا يوم 27 مارس، أي في اليوم السابق على انتحارها. كانت الطبيبة مريضة بالأنفلونزا وغادرت فراشها خصيصاً من أجل هذا الفحص. وبادرتها فرجينيا بأن زيارتها لم تكن ضرورية على الإطلاق، ولم تجب على أسئلتها بصدق. كانت عنيدةً ومقاومةً للغاية وطلبت وعداً بأنها لن تُجبر على الراحة في الفراش – وهو الشرط الأول لدخول المصحّات الرسمية – قبل أن تخضع للاختبار النفسي.


بدا من رسائل أوكتافيا التالية أنها بوغتت وصُدمت من حادثة الانتحار. وهاتفت طبيباً صديقاً لهما كي تتأكد من الواقعة. في 28 مارس كتبت: "أنا مسكونةٌ بشبحِ فرجينيا ومسكونةٌ بفشلي في مساعدتها". وزارت ليونارد الذي أخبرها أنه حين تزوجها لم يكن على علم بطبيعة مرضها. وبأن من طبيعة هذا المرض المعاودة كل فترة بعد الشفاء، وأخبرها كذلك عن كل الآراء التي قيلت لهم خلال فترة زواجهما من قِبَل الأطباء والمحللين. وفي يوم 29 مارس زارته ثانيةً، وأخبرها ليونارد أن فرجينيا بدت سعيدةً ومختلفةً جداً، بل مرحة أيضاً بعد زيارتها الأخيرة لهما. على إنها كانت قبل ذلك محبطةً طوال الوقت. ليس فقط في فترة العشرة أيام التي كثّف فيها ليونارد ملاحظته عليها. جاء في يومياتها ليوم 8 مارس: "أعمل علامةً على جملة "هنري جيمس": [لا تتوقفْ عن المراقبة.]، فأراقبُ العمرَ الذي يتقدم. أراقبُ الجشعَ. أراقبُ نوباتِ الكآبةِ والقنوطِ التي تنتابني، بهذه الوسيلة سوف يمكنني توظيفُ المراقبة."


بدأ ليونارد يشدد الاهتمامَ بها منذ 17 من مارس. وكانت بارعةً في المداراة وإخفاء المرض. حتى بعد هذا التاريخ كانت تكتب خطاباتٍ مبتهجةً ومتماسكةً وواضحةً لعدد من أصدقائها. ربما كانت تروم إخفاءَ حالة الاكتئاب والأفكار الانتحارية عن زوجها وطبيبتها.


بعض النقاد والمحللين عوّلوا كثيرا على الحرب وحال التهديد والخوف من الغزو كأسباب مباشرة لانتحارِها. ليونارد و د.أوكتافيا ويلبرفورس فكرّا –بعد موتها مباشرةً– أن الحرب الثانية ربما أعادت إلى فرجينيا ذكرى مرضها أثناء الحرب العالمية الأولى. وأن الأحداث الجارية قد تكون حوّلت عقلها وأفكارها صوب الموت، لكن ليس صوب الانتحار.


قبل موتها بستة أشهر فقط، أي في 2 أكتوبر 1940، كتبت فرجينيا وولف بنفسها افتتاحية جريدتها، أثناء الغارات الجوية، متخيلةً كيف يمكن للمرء أن يموتَ في إحداها ببساطة، وقالت: "سوف أفكر –أوه– كلا أحتاج عشر سنوات أخرى – ليس هذه المرة....."


سجلّت فرجينيا آراءها حول عملية الانتحار، بينما كانت في الثلاثينات من عمرها وقد كانت في حال صحية جيدة آنذاك، خلال إحدى رسائلها مع المؤلفة الموسيقية "إيثيل سميث"، وكانت واحدة من صديقاتها القليلات اللواتي أسرّت لهن فرجينيا بمرضها القديم. فكتبت في 30 أكتوبر عام 1930: "... بالمناسبة، ما هي الحُجج التي يمكن أن تُقام ضد الانتحار؟ هل تعلمين ما هي "مشنقة فليبيرتي" التي أعاني منها؟ حسناً: يباغتني، مع صفق الرعد، فجأة شعورٌ حادٌ بعدم الجدوى التام لحياتي. هذا شيء يشبه الركض برأسك صوب حائط في نهاية حارة مسدودة. والآن ما هو التصرف حيال هذا الشعور؟ أليس من الأفضل إنهاؤه؟ لستُ بحاجة لأن أقول إنْ ليس لدي أية نوايا نحو أية خطوة في هذا الصدد: غير أني ببساطة أودُّ أن أعرف ما هي الحجج ضد إنهاء الحياة؟"


بعدها بستة أشهر في 29 من مارس 1931، عادت فرجينيا إلى الموضوع ثانيةً: "لماذا شعرتُ بالانفعال بعد المحفل؟ سيكون أمراً مثيراً أن تعتمدي على بصيرتِك الداخلية لتري إلى أي حدٍّ يمكنكِ الكتابة عن حالات العقل المختلفة التي تقودكِ إلى أن تقولي لليونارد حين تعودين إلى البيت: "لو لم تكن هناك، لكنتُ قتلتُ نفسي! "آهٍ، كم أعاني!."


بعدها بعدة أيام سمعت "بياتريس ويب" تتحدث عن الانتحار، وفي 8 أبريل كتبت لها: "وددتُ أن أخبرك، لكنني كنت خجلةً جداً، كم كنتُ سعيدة بآرائك حول مشروعية البحث عن تبريراتٍ ومسوغات للانتحار. وبما أنني أقدمت على المحاولة بالفعل أقول إن من أهم الدوافع، كما فكرت، ألا أكون عبئاً على زوجي، غير أن الاتهام التقليدي بالجبن والخطيئة دائما ما يحتّل الصدارة في آراء الناس."



كان الانتحار هو الحديث دائم الحضور لدى وولف، وكان بوسعها تناوله بهدوء كمادة حديث في أوقات صحتّها العقلية، رغم يقينها أن محاولاتِها السابقة كان لها ما يبررها وكانت من قبيل الإيثار والغيرية. ولأن فترات صباها ومراهقتها كانت متخمةً بحوادث موت الأبوين والأشقاء، فقد ظل الموت حاضراً أمامها طيلةَ حياتها. وكان حضور الموتى لديها على نفس قوة حضور الأحياء، إلى درجة أن إحساسَها بالواقع أحياناً ما كان يتشوّش بقوة حضور وحيوية الماضي.


من خلال كل الاعتبارات السالفة، يمكن أن نستخلصَ تشخيصاً دقيقاً لمرضها الأخير. من خلال رسالتها الأخيرة الذي تركتها قبيل انتحارها. أكد المحللون النفسيون في تقاريرهم أن التشخيص هو "حالة اكتئاب حاد". هي تقول إنها لم تكن مكتئبةً وحسب، بل ماضية نحو الجنون ثانيةً، وأظهرت لوناً من جلد الذات نتيجة إيمانها أنها تفسد حياة زوجها. تملّكها اليأسُ من أن تستطيع مواجهة هجمة المرض الأخيرة ولذا آمنت أن الحل الوحيد يكمن في إنهاء الحياة. جاء في تقرير ليمان أن تعليقها حول روايتها الأخيرة لم يكن مفهوماً، سيما وقد كانت قبل شهور فخورة وفرِحةً بها. وكانت محاولات إقناعها بجمال الرواية أو بإمكانية الشفاء تبوء بالفشل ولا طائل من ورائها. رفضت فرجينيا في البداية أن تُطلعَ الطبيبة، حين فحصتها في اليوم السابق للحادثة، على الأعراض التي تنتابها، ولم تخبرها أن ثمة خللا في الأمر. وبعدها أكد الأطباء أن الأعراض جميعها تتطابق مع "الاكتئاب الحاد".


حين كتبت فرجينيا أنها ذاهبة إلى الجنون "ثانية"، كانت صادقة وتكلمت من خلال خبرتها المزمنة مع الانهيار العقلي. حدث لها الانهيار الأول في عمر الثالثة عشر، والثاني في الثانية والعشرين من عمرها، ثم الثامنة والعشرين، ثم الثلاثين من عمرها. ثم أمضت الفترة بين الواحد والثلاثين والثالثة والثلاثين (1913-1933) كاملة، يتناوبها المرض لفترات طويلة ومتواترة حتى خشي الأطباء من إطباق الجنون التام والدائم عليها. كانت هذه الضربات حادة، وكانت تتطلب أسابيعَ طويلةً من العلاج الطبيّ والخلود للراحةِ في الفراش. وخلال فترة حياتها التالية كان مزاجها متقلبًا معظم الوقت. فسَّرَ انتحارُها تلك السمةَ التي صبغت أعمالها من الغموض والتركيب. وأعيد قراءة كتاباتها من جديد على ضوء انتحارها كمحاولةِ استكشافٍ وتحليلٍ للمأساة التي عاشتها وولف.



* * *


يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 12:15 AM
المشاركة 12
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


رواية "الساعات"



رواية "الساعات The Hours "2002 تأليف "مايكل كننجام Michael Cunningham، الحائزة جائزة "بوليتزر" لنفس العام.

تناولت الرواية آخر يوم في حياة "فرجينيا وولف". لعب المؤلف لُعبتَه الذكيّة حين استعار تقنيّة وولف في بنائها الدراميّ ووظفّها في تشكيل روايته عنها. فتذكّر القارئُ أسلوبَ وولف اللا سرديّ اللا تراتبيّ في معالجة نصوصِها حيث الأحداث تتجاور وخطُّ الزمن أفقيّ، فيخلو القصُّ من تيمة السَّرد الخطيّ التقليديّ الصاعد الذي تتنامى فيه الأحداثُ مع التصاعد الزمنيّ.

تتناول الرواية (الساعات) الأخيرة في حياة فرجينيا وولف عبر رصد يوم واحد في حيواتٍ ثلاث عبر ثلاثة عصور، ومن خلال ثلاث نساء لا تعرف الواحدة منهن الأخرى حيث تفصل فيما بينهن حواجز رأسية/زمانية وحواجز أفقية/جغرافية، وليس من جامع بينهن سوى رواية "مسز دالواي" ووردة صفراء تتكرر في مشاهد عديدة:

كلاريسا: محررّة صحافيّة من الزمن الحالي(زمن كتابة الرواية) عام 2002. ( وهي بطلة رواية "مسز دالواي" ذاتها).

لورا: ربّة منزل في الزمن اللاحق للحرب العالمية الثانية مباشرة عام 1951.
ثم الخَّيط الرابط بينهما، شخصية فرجينيا وولف ذاتها في عام 1923 أثناء محاولتها الشروع في كتابة روايتها الأشهر "مسز دالواي".

لقطة المفتتح في الرواية عام 1941، وهو العام الذي أنهت وولف فيه حياتَها عن طريقِ إغراق نفسِها في نهر " أووز"، المجاور لمنزلها الريفي ببلدة سُسيكس. رسم المؤلف مشهد الانتحار بالتفصيل، وبعدها يعود بالزمن إلى الوراء ليرصدَ لحظاتٍ حميمة وخاصّة في حياة وولف؛ تلك اللحظات التي فيها تمسك بقلمها لتكتب.

ينتقل السرد بعد ذلك مباشرة إلى عام 1951. إحدى القارئات ( لورا) تطالع رواية "السيدة دالواي"، وعلى مقربة منها ابنها الصغير ريتشارد ، الذي سيغدو أحد أهم شخوص العمل الأدبي في الحقبة الثالثة من الزمن عام 2002.

ثم ينتقل السرد مباشرة إلى الزمن الراهن (يحيلنا ذلك إلى تقنيّة وولف في التوازي الزمني)، فنجد السيدة دالواي ذاتها(كلاريسا) تعدُّ الترتيبات لإقامة حفل تكريم لذاك (الصغير) ريتشارد الذي أصبح الآن شاعراً مشهوراً غير أنه أُصيبَ بأزمةٍ نفسية نتيجةَ إصابته بمرضٍ خطير ، مما يدفعه إلى القفز من شرفة منزله المنعزل البائس يوم تكريمه في حفلٍ أُقيم على شرفه ولم يحضره أبداً.

سيمضي السرد في الرواية بالتوازي بين الأزمنة الثلاثة، ليرصد السيدات الثلاث كلٍّ في عصرها وحسب ظروف وشروط عصرها.

استعاد الروائيّ "كننجام" معبودته الأدبية "فرجينيا وولف" للحياة، ناسجاً قصتها في تواشج ذكيّ مع امرأتين أكثر معاصرةً (كلاريسا – لورا).

في أحد صباحات لندن الرماديّة عام 1923 تصحو فرجينيا على حُلمٍ كئيب ومتكرر، سوف يقودها هذا الحلم إلى الشروع في كتابة روايتها الجديدة "مسز دالواي". تبدو حزينةً لأنها اِنتُزِعت من منزلها الذي تحب في بلوومز بيري، ولا يخفف من حزنها واضطرابها حنوّ زوجها المحب ليونارد الذي أخذها إلى المنزل الريفيّ الهادئ علّها تُشفى من انهيارها العقلي. تجاهد أن تكبحَ عصفَ عقلِها الذاهب نحو الجنون وتحاول السيطرة على أفكارها لتكتب.

في الزمن الراهن، وعلى نحوٍ متوازٍ، يومٌ صحوٌ من أيام شهر يونيو في بلدة "جرينيتش" في لندن، كلاريسّا فون، التي تخطّت الخمسين بعامين، تعدُّ الترتيبات من أجل حفل تكريم يقام على شرف حبيبها القديم ريتشارد، الشاعر الذي فاز بجائزة أدبية كبرى والذي ينتظره موتٌ بطيء إثر إصابته (بالإيدز). وعلى الجانب الثالث، في لوس أنجلوس عام 1951، "لورا براون" ، ربّة البيت التي تنتظر طفلاً، تشعر باضطرابٍ وإحباط غير مبرريْن. يتملكها إحساسٌ عدميّ ويائس كلما حاولت أن تجد مبرراً لوجودها خارج دور الأم والزوجة، سوى أنها مع هذا، تفعل ما في وسعها من أجل الترتيب لعيد ميلاد زوجها، لكنها لا تستطيع التوقف عن متابعة قراءة رواية "مسز دالواي" لفرجينيا وولف.

لقطات سريعة خاطفة لحياتيّ هاتين المرأتين وخطٌّ عريض وأساسيّ يتقاطع معهما يمسُّ حياةَ وولف ذاتها فتتشكلُ شبكةٌ دراميةٌ واحدةٌ تجدلُ حيوات تلك السيدات الثلاث بخيوطٍ تتقاطع مع رواية "مسز دالواي" من ناحية، ومن ناحية أخرى اشتراكهن في البحث عن "لحظات الوجود" الحقيقية، تلك اللحظات الثمينة التي يحاول فيها المرءُ أن يقبضَ على شيء من التحقّق أو يجد مبرراً مقبولاً لحياته. حول ذلك المعنى يقول كننجام في روايته على لسان كلاريسا: "من هدايا الحياة الصغيرة لنا ساعةٌ هنا أو ساعة هناك، حين تحنو الحياةُ فجأة –برغم كلِّ العقبات والتوقعات– لتتفَتحَ طاقة نورٍ وتمنحنا كل الأشياء التي حلُمنا بها طويلاً."
فيما يتجول كننجام بين النساء الثلاث، عبر انتقالاتٍ ناعمة غير مفتعلة، تلتقط وولف، في نهاية الفصل الأول، قلمَها لتخطَّ جملتها الأولى في الرواية: "قالت السيدةُ دالواي إنها سوف تشتري الورود بنفسِها.

"Mrs. Dalloway said she wouldbuy the flowers herself."


في بداية الفصل الثاني (نفس لحظة كتابة الجملة السابقة)، تمرُّ عين "لورا" على هذا السطر تحديداً، فتبدو سيماء الابتهاج على وجهها، ربما لفكرة الورود وربما لكونها موشكة على حال استغراق وشيك مع رواية بقلم فرجينيا وولف التي تعشق كتابتها.

على الجانب الآخر، يصبح يوم كلاريسا (ابنة الزمن الحالي) انعكاساً مرآوياً ليوم السيدة دالواي (بطلة رواية وولف وابنة أوائل القرن الماضي)، مع مسحة تحديثية تناسب زمن الألفية الثالثة (وتلك هي اللعبة الخطرة التي لعبها المؤلف من تعديلِ زمنِ رواية وولف وما يستتبعه هذا التعديل الزمنيّ من تغييرات في الأحداث التي أساءت في بعض الأحيان إلى رواية وولف "مسز دالواي" إلى حدٍّ ما من وجهة نظر بعض النقاد)، ولكن يبدو أن المؤلف أرادَ أن يخرجَ من أسرِ زمن وولف ليفتح مجال الإلهام على مصراعيه ويفيد من تقنيات العصر الحديث وكذا ليخلقَ ثراءً درامياً على خطِّ الزمن.


كلاريسا تعلم أن رغبتها القوية في منح صديقها القديم (المصاب بالإيدز في رواية "الساعات" والمصاب بصدمة القذيفة من الحرب العالمية حسب رواية وولف "مسز دالواي") حفلاً رائعاً ومتقناً كي يرفع من روحه المعنوية أمرٌ سوف يبدو مبتذلاً وغير مقبولٍ بالنسبة للجميع. رغم ذلك فقد كانت موقنة أن ذاك الحفل ضرورةً نفسية ووجودية ربما تسدُّ ثغرةً في باب اليأس المشرّع على مصراعيه أمام الشاعر الذي ينتظر نهايته الوشيكة. غير أنه سيرفض حضور الحفل حين تذهب لدعوته قائلاً: ".. لكن سيظل عليّ مواجهة الساعات، الساعات التي ستعقب الحفل"، ثم يباغتها ويقفز من الشرفة ليغدو الانتحار هو الخط الرئيسي في الرواية منذ المشهد الأول.

أحسن المؤلف توظيف تيمات فكر وولف التي تجلّت في روايتها السيدة دالواي وكذلك في مقالة "غرفة تخصُّ المرء" ليصنع حبكةً محكمة من التوازيات الزمنية والبشرية.

وبالرغم من محاولة مؤلف الرواية "تمجيد" وولف عبر روايته إلا أن التغييرات التي صاغ خلالها روايتها "مسز دالواي" (من أجل جعلها متسّقةً والزمن المعاصر الذي كُتبَت فيه) قد حملت وجهين، أحدهما إيجابيّ والآخر سلبيّ.


ففي حينٍ، فتح المؤلف قوسَ الزمنِ على اتساعه فمنحَ روايته ثراءً تقنيّاً ومعاصراً لم يكن يتاح له لو أنه احترم زمن الرواية الأصلية لوولف في أوائل القرن الماضي، ومن ثم استفاد من (عصرنة) الشخوص لخلق دراما جدلية نتجت عن التباين الزمانيّ بين نساء من أزمنة مختلفة.

غير إنه على الجانب الآخر أضعف جلال رواية "مسز دالواي" حين غسل عنها زمن الحرب الكونيّة الأولى بكل ما غلّف تلك المرحلة من شجن واشتباكات وتداعياتٍ سوسيولوجية وسياسية وانقسامات نفسية لمعاصري ذاك الزمن. وجازف بالاصطدام مع قراء وولف المعاصرين الذين أحبوا رواياتها بكل مفردات ذاك الزمان الجميل (لأن كلَّ ماضٍ هو جميل بالضرورة). كما أن استبدال إصابة الشاعر بالإيذر عوضاً عن إصابته بصدمة عصبية من جراء انفجار قذيفة في الحرب على مقربة منه، يعدّ إساءةً بالغة لرائعة وولف الروائية. (هذا في رأيي على الأقل).

ربما كان من الضروري على قارئ رواية الساعات أن يكون على دراية بأسلوب كتابة وولف الروائية حتى يتسنى له فهم "الساعات" بسهولة، وفحص مفرداتها الجمالية من حيث البناء الدرامي وتوظيف الأحداث. فتلك الرواية هي تجسيد لفلسفة وولف التي صاغتها في إحدى رواياتها على لسان إحدى شخصياتها (غير أنها خانتها في حياتها بانتحارها) حيث تقول: "ليس بوسعك أن تجد السلام الداخلي، بتجنب الحياة".

رواية الساعات، كما يقول الناقد كيري فريد، هي ترنيمةُ وصلاة تضفر بين الوعي بما تمنحنا الحياة من جمال وما ترزأنا به من خسارة، وتؤكد ما يحاول كننجام أن يثبته دائماً خلال أعماله، وقد صرّح به غير مرة، أن الفنَّ أكثر رحابةً وثراءً من مجرد "عالم من الموجودات" التي نرى.

يُذكر أن الرواية تم تحويلها إلى فيلم في ذات العام من إخراج "ستيفن دالدراي"، جسدّت فيه دور فرجينيا وولف الممثلةُ الأمريكية الجميلة "نيكول كيدمان"، وبرع الماكيير في نحت ملامح وولف بدقة وأنفها المميز على وجه كيدمان حتى أن المشاهد يستطيع بالكاد البحث عن ملامح كيدمان الحقيقية في وجه وولف بطلة الفيلم. وجسّدت دور لورا براون الممثلة "جوليان موور"، بينما لعبت دور كلاريسا فون الممثلة "ميريل سترييب"، وجسّد "إيد هاريس" دور ريتشارد سبتيمس.


القفز فوق سلّم الزمن والانتقال المباغت بين فصول العرض والتقاطع المشتبك مع الوقت والشخوص هي أهم تقنيات وولف في البناء الروائيّ وهي التيمة ذاتها التي لعب عليها المخرج في بناء دراما فيلمه الذي فاز بأوسكار.

يقول الناقد الأدبيّ "برناديت جاير" من ولاية "أرلينجتون": رواية "الساعات" تُعد أحد أجمل الروايات المعاصرة التي قرأتها، ومن السهل أن ندرك لماذا حصدت بوليتزر. ويظهر تميُّز العمل في نجاح المؤلف في تناول الأمر من منظور المرأة حيث نلمس كيف اخترق دواخل روح هاتين السيدتين، واستطاع أن يستلهم ويستقرئ كيف كانت تفكر وولف أثناء عملية الكتابة وماهية حوارها الداخلي".


* * *

يتبع
.
.
.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 12:19 AM
المشاركة 13
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


عن: رواية لم تكتب بعد


صدرت للمرة الأولى عام 1921 ضمن مجموعة قصصيّة بعنوان "الاثنين أو الثلاثاء". هذه القصة لا تتبع النسَق التقليدي للقصِّ أو السرد المنطقي المتراتب المتعارف عليه في آونة كتابتها. فالكاتبة تحاول أن تَشْرَحَ وتُشَرِّحَ عملية الكتابة ذاتها. فنجد الراوية تتكلم عن رواية تحاول أن تكتبها، لكنها لم تكتبها بعد. تصف لنا كيفية تخلّق الفكرة والحبكة والسرد القصصي ومحاولات الكتابة والإخفاق والتعديل ثم إعادة الكتابة.


ستبني الراوية حبكتها الدرامية من خلال ما تستطيع قراءته من أفكار السيدة التي تجلس قبالتها في عربة بالقطار أثناء رحلة إلى الجنوب الإنجليزي. ستظل طوال الوقت ترقبها خلسة بعد أن أطلقت عليها اسم "ميني مارش". فتبني شخوصاً محتملَة وحبكةً دراميةً لروايةٍ على وشك الكتابة وتغذّي السرد بملاحظاتها حول السيدة بالمشاهدات الواقعية عبر نافذة القطار. وتنجح الراوية في تضفير الواقع بالخيال، والمتعيّن بالذهنيّ. فإذا مرّ القطار بمدينة، بها بعض البيوت المترامية، تلتقط عينها غرفة النوم العلوية في أحد تلك البيوت، لتنسج خطّاً دراميّاً توشجّه في متن القصة المفترضة، وهكذا.

ولذا سنلمس تلك الوثبات المباغتة بين الواقعيّ والخياليّ، بين صوت الراوية الراصد، وصوت الشخوص، في تداخلٍ وتشابك قد يستغلق على القارئ في البدء ريثما يعتاد تلك الآلية مع تقدّم القراءة. لأن هذه القصةَ بروفةٌ أولى أو مسودّة (تعمدت الكاتبة أن تبدو على هيئة مسوّدة غير مكتملة) لرواية لم – ولن - تكتمل، سنجد فترات تأمل وتفكير من المؤلفة، أو لحظات توقّف عن الكتابة بين الحين والآخر، عبرّت عنها فرجينيا بشرطة مطولّة ( _____ )، و قد قمتُ بوضعها في ذات المواضع حسب النصِّ الأصلي.

الارتباكُ في السرد مقصودٌ من الكاتبة، لأنها تقف فوق لحظة الكتابة ذاتها بكل ما يعتوّرها من انصهار الوعي في اللا وعي، وبكل ما فيها من تردّد ومفاضلة واختيار في محاولة لاقتناص الفكرة ثم العدول عنها أو إعادة تحريرها وهكذا. إضافةً إلى منهج وولف السرديّ خلال أسلوب التداعي الحر.

وقد حاولتُ أن أنقل ذلك الارتباك بأمانةٍ قدر الإمكان، إلا في الحالات التي ارتأيت فيها أن اختلاف الروح والبنية الصياغية بين اللغتين: الإنجليزية والعربية، سوف يسبب إلغازاً وطلسميّةً عند المتلقي، في تلك الحالات فقط جانبتُ الأمانةَ قليلا ومارستُ النزرَ اليسيرَ من (اللصوصيّة) أو التوضيح الطفيف بقدر ما يخفف حدّة الغموض ويخدم عمليّة التلقي وفي ذات الوقت لا يستلب من النص الأصلي ولا يضيف إليه (من وجهة نظري).

تنتهج هذه القصة - كما يقول النقاد - أسلوب السرد التجريبيّ الحداثيّ، خلال لغة إنجليزية تقليدية رصينة. وهي عبارة عن مونولوج داخلي مندرجٌ تحت "تيار الوعي" ومتأرجحٌ بين شحذ الخيال الذاتيّ والرصد الظاهري للواقع الخارجيّ. وهذا السرد القصصيّ الذي يتماوج بين التشكيل التخيْليّ وبين الملاحظة الموضوعية، يقود الراوية صوب اكتشافات غير متوقعة سواء عن ذاتها أوعن طبيعة الفنِّ والإبداع وعن كيمياء التشكيل الأدبيّ.

* * *



الملامح الرئيسية للعمل




تفتيت التراتب الزمنيّ الكرونولوجي.
التباس وغموض الحبكة القصصيّة والأحداث.
تفعيل الإدراك الحسيّ، والنقلات المباغتة لعقل المؤلفة.
الإخلاص للقيم الجمالية ليوازن بين الأبعاد العديدة للواقعية ومحاولة تضفيرها في كلٍّ متماسكٍ راسخ. وعدم الانشغال بالبناء السردي المحكم والنهايات ذات الحبكة التقليدية، بل ترك النص مفتوحاً غنيّاً بفضاءات تسمح للقارئ بولوجها والتعامل معها وتكملتها.
الانشغال بعملية التأليف والإبداع، وكذا العلاقة الخاصة التي تنشأ بين الكاتبة وبين عملها الإبداعي الذي لم يزل في طور التكوين.
استجابة المبدع للعالم الخارجي لحظة خلق عالم الرواية.
التأكيد على فنِّ الكتابة عوضاً عن محاكاة الواقع الخارجي على نحو فوتوغرافي، والتأكيد على التخييل الإبداعيّ والواقع الداخلي الذاتي.
تشحيذ ملكة التخيل في أقصى صورها في ربط أنيق مع الواقع، أي تضفير الميتافيزيقي مع الفيزيقي، ومثال ذلك الرحلة التي خاضتها الراوية داخل جسد موجريدج، واصفةً لنا تدفّق الدم في القلب، وتشابك الضلوع والعمود الفقاريّ، وتماسك النسيج البشري، (ثم دخول خيط الواقع) حين ترقبْ تساقطَ قطعِ اللحمِ ودفقات الخمر داخل جوفه (إذ شرع في تناول وجبته)، ثم تجوّلها عبر جسده حتى تنتهي رحلتها إلى العينين لتبدأ في مشاهدة العالم من خلالهما.
الانشغال بمشكلات القمع: السياسيّ، النوعيّ، الجنسيّ، العاطفيّ، الروحيّ، الفكريّ.
التشكيل المعقد للخط الرمزي يصبغ الدلالات ووضوح الحدث بمسحةٍ من عدم الترابط الظاهري ويكرس التفاصيل الحادة والشخوص الاستبدادية في القصة.
تناول مسألة الرغبة الجسدية، وإدراك - أو سوء إدراك - الذات.



* * *






رواية لم تُكتَب بعد (1921)




مثلُ هكذا تعبيرٍ تَعِس، كان في ذاتِه كافياً ليجعلَ عينيّ المرءٍ تتسللانِ فوق حافةِ الجريدةِ إلى حيث وجهِ تلك المرأة البائسة _____ وجهُها، الذي لا يُلفتكَ لولا تلك النظرة التي حملتْ، إلى حدٍ بعيد، ملمحاً من قضاءِ الإنسانِ وقَدَرِه.


الحياةُ، هي ما تراه في عيونِ الناس؛ الحياةُ هي ما يتعلمونه ويكتسبونه، وما اكتسبوه وتعلّموه بالفعل، وأبداً، بالرغم من هذا يحاولون إخفاءَه، ويجتهدون في التوقف عن الوعي بـ _____ بماذا؟ الحياةُ تشبه تلك التي، تبدو لنا.


وجوهٌ خمسة قُبالتي _____ خمسةُ وجوهٍ ناضجة _____ وتسكنُ المعرفةُ في كلِّ وجهٍ منها. والعجيب، برغم هذا، كم يرغبُ البشرُ في إخفائها!


سيماءُ التَكتِّم كامنةٌ في كلِّ تلك الوجوه: شفاهٌ مغلّقة، عيونٌ تغلَّفُها الظلال، وكلُّ واحدٍ من الشخوص الخمسة يفعل شيئًا من شأنه إخفاءُ أو إفسادُ معرفتِه.


أحدهم شرعَ في التدخين؛ وآخرُ أخذ يقرأ؛ وثالثٌ راحَ يفتّشُ عن مفرداتٍ في قاموسِ جَيبٍ؛ بينما راح رابعٌ يحدِّقُ في خريطة شبكةِ مسارِ القطار المثبتةَ في إطارٍ قبالته؛ والخامسُ _____ أخطرُ ما في الخامسِ أنها لم تكن تفعلُ شيئًا على الإطلاق.



إنها تنظرُ صوب الحياة، تنظرُ وحسبْ. ولكن، آهٍ أيتها المرأة التعسة سيئةُ الحظ، هيا اِنضمّي إلى اللُعبة _____ خذي دورَك الآن، إكرامًا لنا، اشرعي في التخّفي!


وكأنما سمعتني، رفعت المرأةُ بصرَها، تململتْ في مقعدِها قليلاً، ثم تنهدتْ. بدتْ كما لو كانت تعتذر، وفي ذات الوقت كأنما تقول لي:
" فقط لو كنتِ تعرفين!" .... ثم عادت مجدداً تنظرُ إلى الحياة:
- " لكنني أعرف. "
أجبتُها في صمت، فيما أرنو لصحيفة "التايمز"، مراعاةً لدواعي اللياقة العامة.

" أعلمُ الأمرَ كلَّه."


يتبع
.
.
.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 12:24 AM
المشاركة 14
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


( السلامُ بين ألمانيا وقوى التحالف تمَّ أمس التبشيرُ به رسمياً في باريس _____ انتخاب "السينيور نيتّي"، رئيساً لوزراء إيطاليا _____ تحطُّم قطار ركابٍ في" دونكاستر" إثر اصطدامه مع قطار شحن بضائع …)

" جميعُنا يعرف _____ صحيفةُ " التايمز" تعرف _____ لكننا فقط نتظاهرُ بعدم المعرفة."

مرةً أخرى، تسللتْ عيناي فوق حافةِ الجريدة. فاختلجتِ المرأةُ، انتزعتْ ذراعَها على نحوٍ غريب، أرْختْه في منتصف ظهرها ثم هزّت رأسها.


من جديد, أطرقتُ برأسي لأُغرقَها في مستودعي الكبير، مستودع الحياة.


" خذْ ما شئتَ," تابعتُ, " مواليد، وفيّات، زواج، نشرةُ أخبار البلاط الملكيّ، من عادات الطيور، ليوناردو دافنشي، جريمة قتل في "ساندهيل"، ارتفاعُ الأجور لمواجهة تكاليفَ المعيشة، _____ ياااه ! خذْ ما شئتَ," أعدتُها مراراً،" كلُّ شيءٍ في "التايمز"، الحياة كلُّها."

من جديد، وبضجرٍ لا نهائي، أخذَ رأسُها في التحرِّك يميناً ويساراً حتى إذا ما هدَّه التعبُ من جرّاء الدوران المتسارع، سكنَ من جديد فوق عنقِها.

لم تعدْ "التايمز" تمثّل حائطَ حمايةٍ لي أمامَ مثل ذلك الحزنِ في عينيها. سوى أن الأشخاص الآخرين قد حالوا دون تواصلنا.

أفضلُ ما يمكنُ اتخاذه ضدَّ الحياةِ هو أن تطوي الصحيفةَ مرارًا حتى تحصلَ على مربعٍ سميك منتظم الأضلاع. مربع مُصمَت وغيرِ مُنْفِذٍ حتى للحياة.

هذا بالضبط ما فعلت، ثم رنوتُ لأعلى مسرعةً، متسلحةً بالدرعِ الواقي الذي صنعتُه توّاً من الجريدة، غير أنها اخترقتْ حائطَ دفاعي وحدّقت مباشرةً، وعلى نحوٍ ثابتٍ، في عينيّ كأنما تنقِّبُ في أغوارِهما عن أثرٍ من شجاعةٍ، لتحيلَها ضَعفًا وصلصالاً رطباً.

سوى أن اختلاجتَها، وحدها، أفسدتْ كلَّ شيء، وأَدَتْ كلَّ أملٍ، وحسمتْ كلَّ خيال.

وهكذا كنا نتهادى بالقطار خلال "سيرلي" وعبر حدود "سُسيكس". غير إني، بعينيّ الشاخصتين صوب الحياة، لم ألحظ المسافرين الآخرين وقد غادروا القطار واحداً فواحداً، حتى غدونا – باستثناء الرجل الذي يقرأ – وحيدتيْن معاً.

هاهي محطة "الجسور الثلاثة"، بدأ القطار يزحفُ بنا ببطءٍ حتى رصيف المغادرة، ثم توقف.

تُرى هل سيغادرُنا الرجل؟ في الحقيقة لم أكن واثقةً من رغبتي، دعوتُ الله على الاحتماليْن، غير أني في الأخير تمنيتُ أن يبقى. في تلك اللحظة تحديداً، انتبه الرجل، انتفضَ، كرمشَ جريدته وألقاها باستخفافٍ كما يتخلَّصُ المرءُ من شيءٍ انتهى منه ولم يعد في حاجة إليه، ثم اندفع بعنفٍ نحو باب القطار، وتركنا وحيدتيْن.

بعد انحناءةٍ طفيفة إلى الأمام وعلى نحوٍ فاترٍ لا لون له، بدأتِ المرأةُ الحزينةُ تتجاذبُ معي أطرافَ الحديث _____ تكلمتْ عن محطاتِ القطار وعن العطلاتِ، عن الأشقّاء في إيستبورن"، ون ذلك الوقت من العام الذي هو فصل الـ....، نسيتُ الآن، شتاء أم خريف. لكنها في النهاية نظرتْ من النافذةِ، وراحتْ تتأملُ – أنا على ثقةٍ – الحياةَ وحسب.

أخذتْ شهيقًا ثم قالت: " البقاءُ بعيدًا _____ تلك هي الخسارة _____" آه ها نحن نصلُ إلى بؤرة الفاجعة.

- " زوجة أخي" _____ قالتها بينما المرارةُ في نبرتِها تشبه سقوط قطراتِ ليمونٍ على سطحٍ من الحديد البارد، وكأنها تتحدث – لا معي – بل مع نفسها، تمتمتْ: " هُراء"، كأنما أرادتْ أن تقول _____ "هذا ما يردده الجميع دوماً"


فيما تتكلم، كانت تتململُ في جِلستِها على نحوٍ عصبيّ كأن بشرةَ ظهرِها كما لدجاجةٍ منزوعةِ الريشِ في نافذة عرض محلٍّ لبيع الطيور.

- " ياااه، تلك البقرة !"


توقفت عن الكلام بغتةً على نحوٍ عصبي،ّ وكأن البقرةَ الخشبيةَ الضخمةَ، في المرجِ الأخضرِ الذي مررنا به، قد صدمتها وأنقذتها من ارتكاب حماقةٍ ما.

عندئذ ارتعدتْ، ثم تلوّتْ بحركةٍ زاويّةٍ شاذة، كما لم أرَ من قبل طيلة حياتي، وكأنما نوبةَ تقلّصٍ حادّة قد تسببتْ في التهابٍ وحكّةٍ في بقعةِ الجلدِ فيما بين كتفيها.


بعدها، عادت من جديد لتبدو كأكثر نساء الوجود شقاءً وحزناً، ومن ثمَّ أيضاً، بدأتُ من جديد ألومُها وأستنكرُ عليها ذلك، لكن ليس بذات اليقين السابق، لأنه لو كان ثمةَ سببٌ، ولو علمتُ أنا هذا السبب، إذاً لاختفت وصماتُ العار من الحياة.
" زوجاتُ الأخوة، " قلتُ لها _____
زمَّت شفتيها وأمالتهما، كأنها ستبصقُ سُمّاً في وجه الكلمة؛ لكنهما بقيتا مزمّمتين. كل ما فعلته أن أخرجتْ قفازَها وراحتْ تفركُ بشدّة بقعةً على زجاجِ نافذة القطار.


كانت تحكُّ كأنما لتمحوَ شيئًا من الوجود وإلى الأبد _____ وصمةً ما، تلوّثًا لا ينمحي.

في الواقع، ظلّتِ البقعةُ راسخةً رغم جهودِها، ومن جديد غاصتِ المرأةُ في رِعدتِها وفي اشتباك ذراعيها، تماماً كما توقعتُ أنا أن تفعل.

شيءُ ما دفعني أن أُخرجَ قُفازي وأشرعَ في حكِّ نافذتي. كانت هناك بقعةٌ صغيرة على الزجاج أيضًا. بقيتْ، رغم كلّ محاولاتي، مكانَها.

عندئذٍ، تسربتْ إليّ حالةُ التقلّص ذاتُها، لويتُ ذراعي وشبكته خلف ظهري. وشعرتُ بأن بشرتي أيضاً كما لدجاجة مبتلّةٍ في نافذة عرض محلٍّ لبيع الطيور؛ ثمة بقعةٌ في الجلد بين الكتفين بدأتْ تلتهبُ و تستحِّكُني، أشعرُ بها لزجةً، أشعرُ بها فجّةً. هل يمكنني الوصولُ إليها؟

حاولت ذلك خلسةً، لكن المرأةَ لمحتني. وألقتْ في وجهي ابتسامةً تحملُ سخريةً لا نهائية، وحَزَناً لا نهائياً. ابتسامةٌ سرعان ما تلاشت من وجهها واحتوتها الظلال.


لكنها تواصلتْ معي على كل حال، قاسمتْ أحداً سرِّها أخيراً، وبعد أن سرّبتِ سُمَّها، لم تكن لتقول المزيد.

وبينما أتكئُ للوراء في رُكني الخاص، وأحجبُ عينيْ عن عينيها، وفيما أنظر إلى المنحدرات والتجاويف وحسب، الرماديّات والأرجوانيات ومناظر الشتاء الطبيعة، قرأتُ رسالتَها، حللتُ شَفرةَ سرِّها ورموزَه، قرأتُ الرسالةَ الخبيئةَ تحت نظرتها المحدّقة.

"هيلدا"، زوجةُ الأخ. هيلدا؟ هيلدا؟ هيلدا مارش _____ السيدةُ الناضرةُ، ذات النهدين العامريْن، المرأةُ رفيعةُ المقامِ. تقف هيلدا عند باب البيت بيدها عملةٌ فضّية بينما سيارة التاكسي على وشك التوقف.

- "ها هي ميني البائسة، أكثر فقراً من جندب، أكثر تعاسةً من أي وقت مضى _____ بعباءتِها القديمة ذاتِها التي جاءت بها العام الماضي. حسناً، حسناً مع وجود أطفال، هذه الأيام، لا يستطيع المرءُ أن يفعل أكثر. لا يا ميني، أنا سأدفع، هاهي الأجرة أيها السائق _____ لن تجدي أساليبُكَ معي. تعالي يا ميني أوه، يمكنُني حملك، ضعي عنكِ سلَّتَكِ!". وهكذا تدخلان إلى غرفة الطعام.

- " العمّة ميني يا أولاد."

ببطءٍ تبدأ السكاكينُ والشوكُ في الهبوط على الطاولة. ينكّسان رأسيهما (بوب وباربرا)، يُعرضان عن المصافحةِ بجفاءٍ؛ ثم يعودان ثانيةً إلى طعامِهما، يسترقان النظرَ بين فترات امتلاء الفم، ثمَّ يعاودان المضغ من جديد.


لكننا سوف نقفز فوق هذا، لنحذفْ هذا؛ الديكورات، الستائر، الصحن الصينيّ ذا الورود ثلاثية الأوراق، مكعبات الجبن الأصفر المستطيلة، ومربعات البسكويت البيضاء _____ نعم، لنهملْ كلَّ هذا، ولكن انتظروا! في منتصف وجبة الغداء، تحدث إحدى تلك الارتجافات؛ يحدِّق "بوب" في وجهِها، والملعقةُ في فمِه. " أكملْ طبقَ البودينج يا بوب! " لكن هيلدا استنكرت هذا.

(لماذا لابد أن ترتعش دائماً هكذا؟" لنحذفْ هذا، نحذفْ، حتى نصلَ إلى بسطة الطابق العلويّ؛ الدرابزين النُّحاسيّ للسُّلَم، مشمع الأرضية الممزق؛ أوه نعم! ثمّة غرفة نومٍ صغيرة تُطلُّ من بين أسطح بنايات "إيستبورن" _____ الأسطح المتعرجة مثل العمود الفقاريّ ليرقات الفراشات، هذا الاتجاه، وذاك الاتجاه، مقلمةً بشرائحَ حمراء وصفراء، مع ألواحٍ من الأزرق الغامق)

والآن يا ميني، الباب مغلق، هيلدا تنزلُ بتثاقلٍ إلى البدروم؛ وأنت تفكّين الشرائطَ عن سلّتك، تضعين على سريرك قميصَ نوم هزيل، وإلى جانب بعضهما، تضعين فردتيْ خُفٍّ مبطَّنٍ بلبّاد الفراء. أما المرآة _____ لا، أنت تتجنبين المرايا.

بَعْض الترتيبِ المدروس لدبابيسِ القبعةِ. الصندوق الصغيرُ المصنوعُ من محار البحر، ربما بداخله شيءٌ؟ ها أنتِ تهزينه؛ إنه زرارُ القميصِ، المصنوعُ من اللؤلؤ، الزرار الذي كان داخل الصندوق قبل عام _____ هذا كل ما هنالك. ثم هناك الزفرةُ، التنهيدة، ثم الجلوس إلى النافذة.


يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 12:28 AM
المشاركة 15
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



الثالثة من مساء أحد أيام ديسمبر؛ السماء تمطر رذاذاً خفيفاً؛ ضوءٌ يأتي من الأسفل من نافذة سقيفة محلِّ بيع الأقمشة، وآخر من الأعلى يأتي من غرفةِ نومِ الخادمة _____ هذا الضوء انطفأ. فلم تجدِ المرأةُ شيئاً تنظرُ إليه.

خواءُ اللحظة _____ ، والآن، في أيِّ شيءٍّ تفكرين؟

(دعوني أختلسُ النظرَ إليها؛ إنها نائمةٌ أو تتظاهر بأنها نائمة؛ إذًا، تُرى فيمَ يمكن أن تفكّرَ في الثالثة ظهراً أثناء الجلوس جوار نافذةِ قطارٍ؟ الصِّحة، المال، الفواتير، أم تفكر في الله؟)

أجل، ميني مارش تصلّي لربِّها، وهي تجلسُ على هذه الحافة من المقعد وتنظرُ صوب أسطح أبنيةِ "إيستبورن". هذا مناسبٌ جدّاً؛ ولعلّها نظفتِ الزجاجَ أيضاً، لترى اللهَ على نحوٍ أفضل.

لكن، أيُّ ربٍّ تَرى؟ من هو إله ميني مارش؟ إله الشوارع الخلفية لـ" إيستبورن "، إله الساعة الثالثة من بعد الظهر؟


أنا أيضاً أنظر إلى أسطح الأبنية، أنظر إلى السماء؛ لكن، آهٍ يا عزيزتي _____ يا لرؤية الآلهة! لابد أن ربَّها يشبه الرئيس كروجر(1) أكثر مما يشبه الأمير ألبرت(2) _____ هذا أكثر ما يمكنني منحه؛ أراه يجلسُ فوق كرسي في عباءةٍ سوداء، ليس في مكانٍ بالغ العلو؛ ربما يمكنني أن أدبّر له غيمةً أو غيمتيْن كي يجلس فوقهما؛ بعدها ستتدلى يدُه بهدوءٍ من الغيْمة قابضةً على عصا، الصولجان، أليس كذلك؟ _____ سوداء، غليظة، ومليئة بالأشواك _____.


عجوزٌ شرسٌ وطاغية _____ إله ميني مارش! أتراه هو الذي أرسل الحَكَّةَ والبقعةَ والرِعشة؟ أمن أجل ذلك كانت تصلّي وتدعوه؟ إذاً، الشيءُ الذي حاولتْ محوَه من فوق زجاج النافذة كان بقعةً من الخطيئة! أوه، ميني مارش إذاً ارتكبتْ جريمةً ما!

لديّ اختياراتي الخاصّة فيما يخصُّ الجرائم. الغابات تتحرك سريعاً وتطير ____ في الصيف تنمو عُشبةُ "الجريس" البريّة ذات الأزهار الزرقاء؛ في تلك البدايات، مع قدوم الربيع، تنبتُ زهرةُ الربيع. أرحيلٌ ما؟ أشيءٌّ من هذا؟ منذ عشرين عاماً مثلاً؟ هل ثمة عهودٌ أُخلِفَت؟ لا، ليس من جانب ميني! هي كانت مخلصةً دائماً. انظروا كيف كانت ترعى أمَّها وتُمَرِّضُها! كم أنفقتْ من مالٍ لبناء الضريح _____ أكاليلُ الزهر تحت الغطاء الزجاجيّ _____ زهور النرجس البريّ في الأصص. لكنني خرجتُ عن الموضوع.

جريمةٌ ….ربما يقولون أنها أبقت على حزنها، طمست سرَّها ____ قمعتْ أنوثتَها، هكذا سيقول _____ رجال العلم. ولكن، أيُّ هراءٍ حين آسرُها وأختصرُها في قفصِ الغريزة! لا _____ الأمر أبعدُ من ذلك.


فيما تتجولُ عبر شوارع "كرويدون" قبل عشرين سنة، كانت العُقدُ بنفسجيةُ الّلون في شرائطِ الستائر المخمليّة على فاترينة محلات بيع القماش التي تتلألأ تحت أضواء المصابيح الكهربائية، تخطفُ بصرَها. تتلكأُ _____ إلى ما بعد الساعة السادسة. لكن، مع هذا، مازال بوسعها الوصولُ إلى البيتِ إذا ما ركضت. وهكذا، تندفعُ عبر الباب المروحيّ المصنوع من الزجاج.


وقت التصفيات السنويّ، ثمّة صوانٍ مسطّحة ممتلئة حتى الحافة بالشرائط، تتوقفُ، تجذبْ هذه، تعبثُ أصابعُها في تلك التي تعلوها زهورٌ متفتّحة ____ لا حاجة للانتقاء، لا حاجةَ للشراء، فكلُّ صينية تحمل مفاجآتها ودهشتها. " لا نغلقُ قبل السابعة. " .. وجاءت السابعة.

تركضُ، تندفعُ مسرعةً صوب البيت، وصلتْ، لكن متأخرةً جدّاً.

الجيران _____ الطبيب _____ الشقيق الرضيع _____ غلاية الشاي _____ احتراق الجسم بالماء المغليّ _____ المستشفى _____ الموت _____ أو مجرّد الصدمة من فكرته، اللوم والتوبيخ؟

أجل، لكن التفاصيل لا تهم! الأهم هو ما تحملُه بداخلِها، البقعة، الجريمة، الفعلة التي تستوجب التكفير عنها، إنها هناك دائمًا، بين الكتفيْن.

"نعم" يبدو أنها تومئ إليّ، "إنها الفعلة التي ارتكبتُها" ... سواء ارتكبتِ خطيئة أم لا، وأيّا كان ما فعلتِ، أنا لا أعبأُ بهذا، ليس هذا ما أريد.

الفاترينة الزجاجيّة لمحال بيع الأقمشة، ذات الفيونكات والشرائط البنفسجيّة، _____ نعم، هذا الموضوع سوف يفيد(1)، أمرٌ تافه بعض الشيء، فكرة مطروقة ومألوفة _____ طالما المرءُ بوسعه الاختيار بين الجرائم، سوف يكون هناك العديد جدّاً من الاختيارات.

( دعوني أختلسُ النظرَ ثانيةً _____ مازالتْ نائمة، أو تتظاهر بأنها نائمة! بيضاءُ، مُتْعبَةٌ مُستهلَكةٌ، الفمُ مُغلَقٌ _____ بوجهها مسحةٌ من العناد والاستعصاء على المعالجة، ربما أكثر مما يظن المرء _____ لا ملمحَ واضحاً أو إشارة للغريزة) _____ ثمة جرائمُ عديدةٌ لا تناسبك؛ جريمتُك متواضعة؛ بينما القصاصُ جليلٌ ومهيب؛ لأن بابَ الكنيسةِ يُفتحُ الآن، المقعدُ الخشبيّ الصلب يستقبلُها؛ تركعُ فوق البلاط البنيّ ؛ كلَّ يومٍ، في الشتاء، في الصيف، في الغسق، في الفجر، (هي الآن في هذه الحال) تُصلّي... كلُّ آثامها تسقطُ، تسقطُ، إلى الأبد تسقط... البقعةُ سوف تمتصُّ الآثامَ جميعًا. إنها تتفاقم، يحمرُّ لونُها، تحترق. بعد هذا سوف تخزُ المرأةَ فتختلجُ وتتشنّج من فرط الألم.

الأولادُ الصغار بدأوا يظهرون. " بوب موجود على الغداء اليوم" _____ غير أن النساءَ المُسنّات هن الأسوأ.



في الواقع ليس بوسعِك الصلاةُ والدعاءُ الآن أكثر من ذلك. لأن كروجر غاصَ تحت الغمام _____ ذابَ وانمحى كأنما بريشةِ رسامٍ مضمّخةٍ باللون الرماديّ السائل، بعد أن أضاف إليها مسحةً من الأسود _____ حتى طرف الصولجان اختفى كذلك. هذا يحدث دائماً! بمجرد أن تشاهديه، تشعرين بوجوده، سرعان ما يأتي من يقاطعكما ويفسد الوصل. إنها هيلدا الآن.

كم أنت تكرهينها! إنها حتى تغلقُ بابَ الحمّامِ بالمفتاح طوال الليل أيضاً، مع إنه الماء البارد وحسب ما تحتاجين إليه، أحياناً يبدو الاغتسالُ مفيداً حين يسوء الطقسُ في الليل. ثم "جون" على الإفطار _____ الأطفال _____ الوجبات شديدة الرداءة، وأحيانا يتواجد أصدقاء _____ نباتات السرخس جميعها لا تستطيع إخفاءهم _____ هم يخمنون ويتخيلون أيضاً؛ لهذا تخرجين إلى حيث الواجهة المائية الأمامية، حيث الموجات رماديّة اللون، وحيث الصحف تتطاير، وحيث المخبأ الزجاجيّ مفعمٌ بالحياة ومُنفِذٌ للهواء البارد، في هذا المكان يكلفكُ المقعدُ بنسين _____ مكلّفٌ جدا _____ لأنه يلزم وجود وعّاظ على طول الضفة الرمليّة.

آه، إنه زنجيّ ____ يا له من رجلٍ مضحك !_____ هذا الرجل الذي يحمل الببغاوات _____ ياللكائنات الصغيرة المسكينة!

أما من أحدٍ هنا يفكر في الربّ؟ ____ هناك، فوق الجسر البعيد، يمسك عصاه _____ لكن لا _____ لاشيءَ هناك سوى الرماديّ في السماء، أو، لو كانت السماءُ زرقاء، لولا تلك الغيوم البيضاء التي تخفيه وراءها، ثم هذه الموسيقى _____ إنها موسيقى الشرطة العسكرية ____ وعمَّ يبحثون؟ هل يمسكون بهم؟ كم يحملق الأطفال! حسنًا، إذاً العودة إلى المنزل عبر الطرق الخلفية _____. .. " العودة إلى المنزل عبر الطرق الخلفية! "

لهذه الكلمات معنى؛ ربما نطقها رجلٌ عجوزٌ له لحيّة وشارب _____ لا، لا، لم يتكلم في الحقيقة؛ سوى أن لكلِّ شيءٍّ معنىً _____ الإعلاناتُ المتكئةُ على بواباتِ البنايات _____ الأسماءُ فوق فتارين المَحال _____ الثمارُ الحمراءُ في السِّلال _____ رءوسُ النساءِ في محال الكوافير _____ كلها تقول: "ميني مارش!" .. لكن، هناك ارتجافةً أخرى. .. " البيض أرخص ثمنًا!"

هذا ما يحدث دائماً! كنت أفكر بها فوق شلالات المياه، نحو الجنون مباشرةً، عندئذ، فجأةً مثل قطيعٍ من أغنام الحُلْم، استدارتْ هي نحو الجهة الأخرى، وانزلقت بين أصابعي.

البيضُ هو الأرخص. مربوطةٌ بحبالٍ عند شواطئ العالم، لا جريمةَ من الجرائم، أحزانَ، تطرّفَ، جنونَ المسكينة ميني مارش؛ ثمة وقتٌ دائماً لتناول الوجبات السريعة؛ لن تراها في جوٍّ عاصفٍ بغير معطف مطر، لا تعدمُ الوعيَ كليّة برِخَصَ البيض. ولهذا، ستصلُ إلى البيت _____ وسوف تكشطُ حذاءها الطويل من الوحل.. هل قرأتُكِ على نحوٍ صحيح ؟

لكنه الوجهَ البشريّ _____ الوجهَ البشريَّ فوق الحافة العليا لصفحة الصحيفة المحتشدة يحمل أكثر، مازال يخبئُ أكثر.


الآن، فُتِحَتِ العينان، تنظران بحذرٍ؛ وفي داخل العين البشريّة ثمّة ____ كيف يمكن أن نسمي هذا الشيء؟ _____ ثمة انكسار _____ انقسام _____ لكنك حين تقبضُ على ساق النبتة، إذا بالفراشة تختفي _____ الفراشة التي تتشبّثُ في المساء بأعلى الزهرة الصفراء _____ تحركي، ارفعي يدَك، بعيداً، عالياً، بعيداً جدّاً.


لن أرفع يدي. تشبّثي ساكنةً، ثمَّ، ارتجفي، يا حياة ...، يا روح ...، يا نفس ...، يا أيّاً ما يكون من ميني مارش _____ أنا، أيضًا فوق زهرتي _____ والصقرُ فوق الزغب _____ وحيداً، وإلا ما جدوى الحياة إذاً؟



يتبع
.
.
.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 12:44 AM
المشاركة 16
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



من أجل أن تعلو؛ تشبّثْ ساكناً في المساء، في منتصف النهار؛ تعلّق ساكناً فوق المنحدر. رجفة اليد _____ ستختفي، في الأعلى! ثم تتزن من جديد.

وحيداً، غيرَ مرئيّ؛ تشاهدُ كلَّ الأشياء الساكنة هناك في الأسفل، كلُّ شيء يبدو فاتناً. لا أحدَ يرى، لا أحدَ يهتم. عيون الآخرين هي سجونُنا؛ أفكارُهم هي أقفاصُنا.

الهواءُ في الأعلى، الهواءُ في الأسفل. القمرُ والخلود .. أوه، لكنني أسقطُ في الحَلبة! هل تسقطين أيضاً؟ أنتِ يا من تقبعين في الركن، ما اسمك _____ امرأة _____ "ميني مارش"؛ ألم يكن شيئًا شبيها بهذا ؟


إنها هناك، ملتصقةٌ ببرعمِ زهرتِها؛ تفتحُ حقيبةَ يدِها، تُخْرِجُ قوقعةً مُجوّفة _____ بيضة _____ من الذي كان يقول إن البيضَ هو الأرخص؟ أنتِ؟ أم أنا؟ إنه أنتِ من قالها في طريق العودة إلى البيت، هل تتذكرين؟ حينما فتحَ السيدُ العجوز مِظَلَّته فجأة _____ أو ربما كان يعطس، أليس كذلك؟

على أية حال، "كروجر" قد رحل، وأنتِ عدتِ "إلى المنزل من الطريق الخلفي"، وكشطتِ حذاءكِ الطويل. أجل. والآن تبسطين فوق ركبتيكِ مِنديلاً ورقياً لتُسقطي فيه كسراتٍ صغيرةً مضلّعةً حادةَ الزوايا من قشرة البيضة _____ كسراتُ خريطة_____ أُحجية، كم أتمنى لو أمكنني تجميع الكسرات سويا! فقط لو تجلسين ساكنة.



حرّكتْ ركبتيها _____ فتشظّتِ الخريطةُ إلى أجزاءٍ من جديد. لأسفل منحدرات جبل الأنديز تندفع كتل الرخام الأبيض ضاغطةً عنيفة، ساحقةً، حتى الموت، حشود من كتائب البغال الإسبانية ، بقوافلها ومواكبها _____ "دريك" يجمعُ الغنائم، ذهبًا وفِضّةً... لكن لنعدْ _____.


إلى أيّ نقطة نعود، إلى أين؟ هي فتحتِ الباب، تعلِّقُ مِظلَّتِها على الحامل _____ هذا غنيٌّ عن القول؛ هكذا، أيضاً، نفحةٌ من رائحة لحم بقريّ تأتي من البدروم؛ قطرةٌ، قطرةٌ ، قطرة. لكن الشيءَ الذي لا يمكنني الخلاص منه، الشيء الذي يجب عليّ أن أتجاوزه، هو رأسٌ منكَّس، وعينان مغمضتان، تمتلكان جسارةَ كتيبة، وعماءَ ثور، هجومٌ ثم انفراطُ العقد في الهواء، هي، بغير شك، تلك الشخوص المختبئة خلف نبات السرخس، وكلُّ هؤلاء الرحّالة من التجار.


هناك، كنتُ أخفيتهم طوال هذا الوقت على أمل أن يتلاشوا بطريقة أو بأخرى، أو الأفضل أن يظلّوا ينبثقون، لأنهم في الواقع يجب أن يفعلوا ذلك، إذا ما كانت الرواية ستمضي في طريق الجمع بين الثراء والتخمة، بين القدر والمأساة، كما تفعل الروايات عادةً، حين تتناول أحداثُها اثنين، إن لم يكونوا ثلاثة، من الرحالّة التجار، وبستاناً كاملاً من النباتات والدريقات.

"سعف النخيل وأوراقُ تلك النباتات لا تخفي إلا جزءاً صغيراً من التاجر المسافر وحسب _____ "نباتات الخلنج كان بوسعها إخفاؤه كليّةً، وعلى سبيل المساومة، أعطني رميتيْ الحمراء والبيضاء، التي من أجلها كافحتُ وتضوّرتُ جوعاً؛ لكنها الخلنجيات في مدينة "إيستبورن" – في ديسمبر – فوق طاولة عائلة "مارش" _____ كلا، كلا، لن أجرؤ؛ كل الأمر عبارة عن كسرات خبز وآنية ملحٍ للسفرة وكشكشات في غطاء المائدة ونباتات سرخس.

ربما بعد برهة سيكون لنا وقتٌ بمحاذاة البحر. علاوة على ذلك، فأنا أشعر، من جرّاء تلك الوخزات اللطيفة من النقوش والزخارف الخضراء و شظايا الزجاج المتكسّر، أشعر برغبة في التحديق والتلصص على الرجل الجالس في مواجهتي _____ رجلٌ يمتلكُ القدْرَ الذي يمكنني تدبّره. "جيمس موجريدج"، هل هو ذلك الرجل الذي يُطلقُ عليه آل مارش اسم "جيمي


[ ميني، يجب أن تعديني ألا تنتفضي أوترتجفي مجددًا حتى أستقرُّ على الأمر].
"جيمس موجريدج يسافرُ من أجل المتاجرة في _____ هل نقولُ في الأزرار؟ _____ غير أن الوقت لم يحن بعد لاستحضار الأزرار في الرواية _____ الكبير منها والصغير فوق الكروت الطويلة، بعضها يشبه عيون الطاووس، بعضها ذهبيٌّ باهت، بعضها يشبه الحجارة، والبعض مكسوٌّ بطلاء الشُّعب المرجانيّة _____ لكنني قلتُ إن الوقت لم يحن بعد.

هو يسافرُ، وفي أيام الخميس، يومه الذي خصصه لـ " إيستبورن "، يتناولُ وجباته مع آل مارش. وجهه الأحمر، عيناه الصغيرتان الثابتتان _____ كلا، على الإطلاق. الأمورُ على إجمالها تبدو عاديةً _____ شهيته الرهيبة إلى الطعام (هذا مُطَمْئِنٌ؛ لأنه لن ينظر إلى ميني قبل أن يأتي الخبزُ على مرقةِ اللحم ويجعلها تجف)، فوطةُ السفرة مطويةٌ على شكل جوهرة _____ ولكن هذا بدائيٌّ، وأيًّا كان الأمر بالنسبة إلى القارئ، فهذا لن يغرر بي.

فلنترك أشياءَ موجريدج جانباً، دعونا نتحرك. حسناً، أحذيةُ العائلة يتم إصلاحُها في أيام الآحاد بواسطة جيمس نفسه. إنه يقرأُ صحيفة "الحقيقة". لكن ماذا عن أهوائه؟ الزهور _____ وزوجتُه ممرضةُ المستشفى المتقاعدة _____ شيءٌ مثير_____ بالله عليكِ دعيني أحصل على امرأة واحدة لها اسم يروق لي! لكن لا؛ هي واحدة من بنات الأفكار، هؤلاء الأطفال الذين لا يولدون إلا في العقل، غير شرعيين، وبرغم هذا نحبهم، تماما مثل نباتاتي الخلنجية.

كم من البشر يموتون في كلّ رواية كُتِبت _____ البشرُ الأفضلُ والأعز، بينما موجريدج يحيا. تلك خطيئةُ الحياة. هاهي "ميني" تأكل بيضتَها في هذه اللحظة، قُبالتي وعند النهاية الأخرى من الخط _____ هل تجاوزنا "لويز"؟ _____ لابد من وجود "جيمي" _____ وإلا فما سبب ارتجافتها؟

لابد من وجود " موجريدج " _____ خطيئةِ الحياة. الحياةُ تفرضُ قوانينَها؛ الحياةُ تعرقّل الطريق؛ الحياةُ هي وراء نبات السرخس؛ الحياة هي الطاغية، أوه، لكنها ليست مستبدّةً على الضعفاء!

لا، لأنني أؤكد لكم أني أتيتُ بملء إرادتي؛ جئتُ بإيعازٍ من السماء التي تعلمُ أيُّ إكراهٍ وراء السراخس والأباريق الزجاجية، حيث الموائد ملطخةٌ والقواريرُ ملوثة. أتيت من دون مقاومةٍ لأغرزَ نفسي وأغيب في مكانٍ ما في نسيج اللحم المتماسك، في الشوكة الغليظة للعمود الفقريّ، حيث سيكون بوسعي أن أفهمَ أو أجد موطئ قدمٍ داخل الإنسان، داخل روح موجريدج ؛ الرجل.


التماسكُ الهائلُ للأنسجة؛ العمودُ الفقريُّ صلدٌ مثل عظامِ الحوت، مستقيمٌ مثل شجرةِ البلوط؛ بينما الضلوعُ تتفرّعُ مثل الأشعة؛ اللحمُ البشريّ متوترٌ ومشدودٌ مثل نسيجِ المشمّع؛ التجاويفُ الحمراء؛ حركات القلب الانقباضيّة من امتصاص وضخٍّ، بينما من أعلى تتساقط قطعُ اللحمِ في مكعباتٍ بنيّة وتتدفق الجعةُ بِرَغْوَتِها لتتمخضَ مع الدمُ من جديد _____ وهكذا نصلُ إلى العينين.


خلف الدريقات تبصرُ العينان شيئًا: أسودَ، أبيضَ، شيئًا موحِشًا؛ الآن الصحنُ ثانيةً؛ وراء الدريقات تبصرُ العينان امرأةً متوسطةَ العمر؛ "شقيقةَ "مارشهيلدا على شاكلتي أكثر،" الآن، تنظر العينان إلى شرشف الطاولة.


"مارش بوسعه أن يدرك ماذا أصاب آل موريس..." سنناقش هذا الأمر لاحقًا؛ جاءَ طبقُ الجبن؛ الصحنُ ثانيةً؛ دعه يدور دائريّاً _____ الأصابعُ الضخمة؛ والآن المرأة الجالسة قبالته.


" شقيقة مارش _____ لا تشبه مارش كثيراً، أنثى بائسة رثّة متوسطة العمر... يجب أن تطعمي دجاجاتِك.... بحق السماء، ما الذي أهاجَ ارتجافاتِها؟ ليس ما قلته أنا؟ هل أنا السبب كذلك؟ عزيزتي، عزيزتي، عزيزتي! يالـ تلك النسوة متوسطات العمر! عزيزتي، عزيزاتي!"


[ أجل يا ميني؛ أعلم أنك ارتجفتِ، لكن مهلا دقيقة _____ يا جيمس موجريدج!].


"عزيزتي، عزيزتي، عزيزتي!" كم يبدو الصوت جميلاً! مثل طرقةِ مِطرقة فوق ضلعِ لحمٍ مغمورٍ في التوابل، مثل خفقةِ قلبِ حوتٍ عجوز حينما تحتشد البِحارُ كثيفةً ضاغطةً عليه حين تتلبد المروجُ بالغيوم.


"عزيزتي، عزيزتي!" ماذا تفعل نواقيسُ الجنائز للأرواح المضطربة كي تعزيها وتهدّئ من روعِها، تحتضنُها في طبقاتِ الكتّان، قائلةً، "الوداع، حظّاً طيّباً!" وبعد ذلك تقول، "أين تكمنُ سعادتُك؟" برغم من هذا سوف يقطف موجريدج زهرتَه من أجلها، وهذا ما كان، انتهى الأمر.

يتبع
.
.
.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 12:49 AM
المشاركة 17
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


والآن ما هي الخطوة التالية؟ " سيدتي، سوف يفوتك القطار،" فهم لا يتلكئون.


ذاك هو طريق الرجل؛ ذاك هو الصوت الذي يدوي صداه؛ صوت كاتدرائية القديس "بولس" وصوت الحافلات العمومية ذات المحركات.

لكننا نكنس فتات الخبز بعيداً. أوه يا موجريدج ، ألن تنتظر؟ هل يجب أن تمضي؟ هل ستسافر إلى إيستبورن هذه الظهيرة في واحدة من تلك العربات الصغيرة؟

هل أنت ذلك الرجل المحبوس داخل صناديق الكرتون خضراء اللون، والذي، بين حينٍ وآخر، يسدل ستائرها، وفي أحيان أخرى يجلس على نحوٍ مهيب شاخصاً للأمام مثل أبي الهول، ودائما هناك نظرة تشبه القبور، تشبه شيئًا من أداوت متعهدي الدفن الذين يجهّزون الموتى، التابوت، بينما الغسق يحيط بالحصان والحوذيّ؟ أخبرني _____ لكن الأبواب صُفِقَتْ. لن نلتقي أبداً من جديد. الوداع يا موجريدج!


أجل، أجل، إني قادمة. تماما فوق قمة المنزل. لحظة واحدة، سوف أتريّثُ برهةً. كم يتجول الوحل في العقل _____ كم من دوامات تتركها تلك الوحوش، المياه تتأرجح، والأعشاب الصغيرة تتماوج، خضراء هنا، سوداء هناك، تضربُ في الرمال، حتى تتجمع الذرّات مجدداً بالتدريج، ثم تَنخلُ الرواسبُ نفسَها، ومن جديد من خلال العين، يبصر المرءُ كلَّ شيءٍّ صافياً وساكناً، وقتئذ، تصعد إلى الشفتين بعض الصلوات والدعوات من أجل الموتى، جنازةٌ للأرواح من تلكم التي يومئُ فيها المرءُ برأسه لهؤلاء الذين لن يلتقيهم بعد ذلك أبداً. .. جيمس موجريدج أصبح ميتّاً الآن، رحل إلى الأبد.

حسنًا يا ميني _____

- " ليس بوسعي مواجهة الأمر أكثر من هذا."



إذا ما قالت ذلك _____ (دعوني أنظر إليها. إنها تكنسُ قشر البيض نحو منحدراتٍ عميقة).


لقد قالتها بالتأكيد، بينما تميلُ على حائط غرفة النوم، وتقتلعُ تلك الكراتِ الصغيرةَ التي تزيّن حوافَ الستارةِ قرمزيةِ اللون.

غير أن النفسَ حين تتحدث إلى النفسِ، من يكون المتكلم؟ _____ الروح المدفونة؟ النفس التي أُقصيْتْ، وأُزيحت عميقاً، عميقاً، في عُمِقِ السرداب المركزيّ لكهوف الموتى؟

النفسُ التي اعتمرتْ الوشاحَ الحاجبَ وتركتِ العالم _____ نفسٌ جبانةٌ ربما، لكنها جميلةٌ على نحوٍ ما، لأنها تحلّق حاملةً مشكاتِها المنيرة بغير توقّفٍ أعلى وأسفل الدهاليز المعتمة.


" ليس بوسعي تحمّل المزيد".

هكذا قالت روحُها. "ذاك الرجل على مائدة الغداء _____ هيلدا _____ الأطفال." أوه، أيتها السماء، هذا نشيجُها! ها هي الروحُ تنتحبُ مصيرَها، الروحَ التي طُردَت وأُزيحت على مقربةٍ من هنا، أو هناك بعيداً، حتى تستقرَّ فوق السجاجيد الواطئة _____ حيث مواطئ الأقدام الهزيلة _____ والمِزَقُ المنكمشة لكل هذا الكونِ الآخذِ في التلاشي _____ الحبُّ، الحياة، الوفاء، الزوجُ، الأطفال، لا أعرف تحديداً أي بهاءٍ وروعة في لمحات مرحلة الأنوثة المبكرّة. " ليس من أجلي _____ ليس من أجلي."



لكن، حينئذ _____ شطائرُ الفطائر، الكلبُ العجوزُ الأجرد؟ الحصيرةُ المزخرفة بالخرزِ التي يجب أن أتخيلَها، ومواساة لفافات الكتان. إذا كانت ميني مارش قد دُهست وأُخذت إلى المستشفى، لكان سيهتفُ الأطباءُ والممرضاتُ أنفسُهم..... هناك المشهد والرؤية _____ وهناك المسافة بينهما _____ البقعة الزرقاء في نهاية الطريق المشجّر، بينما، برغم كل شيء، الشاي وافرُ، وشطائر الكعك ساخنة، والكلبُ _____ "بيني، عدْ إلى سلّتك أيها السيد، وانظر ماذا جلبت لك الأم!" وهكذا، تأخذين القفازَ ذا الإبهام المقطوع، تتحدين مرةً أخرى الروح الشريرة المتلصصة فيما يُعرف بالولوج داخل الثقوب، تجددين التحصينات، تجدلين الصوفَ الرماديّ، تنسجينه للداخل والخارج.


تنسجين للداخل والخارج، من جانبٍ إلى جانبٍ وتعيدين ذلك، تغزلين الشبكةَ التي من خلالها الله ذاته ... _____ صهٍ، لا تفكري في الله! كم هي الغرز مُحْكَمَة ومحبوكة! يجب أن تفخرينَ برتقِك ونسيجك. يجب ألا ندع شيئًا يزعجها. لندعِ الضوءَ ينسابُ برهافةٍ، ولنجعلْ الغيمةَ تُظهرُ القميصَ الداخليّ للورقةِ الخضراء الأولى. لندعِ العصفورَ يحطُّ على غصن الشجرة، ويهزُّ قطرات المطر المعلّقة على مرفق الغصن.... لماذا ترفعُ بصرَها إلى أعلى؟ هل هناك صوتٌ ما، فكرةٌ ما؟ آه، السماء! مرةً أخرى تعودين للشيء الذي فعلتِ، الزجاج السميك ذو الفيونكات البنفسجية؟ لكن هليدا سوف تأتي. الخزي، العار والفضيحة، أوه، أغلقي تلك الثغرة.



بعدما أصلحتْ ميني مارش قفازَها، تلقي به داخل الدرج، ثم تغلق الدرج في حسمٍ. اقتنصُ نظرةً لوجهِها عبر انعكاسه على الزجاج . الشفتان مزمومتان. الذقن معلّقةٌ ومرتفعة. بعد ذلك بدأت تعقدُ رباطَ حذائها، ثم لمست حنجرتَها. على أي شكل دبوس الزينة على صدرك؟ نباتٌ طفيليّ أم ترقوةُ طائر؟ وما الذي يحدث؟ إن لم أكن مخطأةً جداً، فإن النبضات تتسارع، اللحظة ستأتي حالا، الخيوطُ ستتسابق، والطوفانُ أمامنا. هنا تكمنُ الأزمة! كانت السماءُ في عونِك! تمعن في اكتئابها. تشجعي تشجعي! واجهي الأمر، كُوُنِيه أنتِ، بالله عليكِ لا تنتظري فوق الحصيرة الآن! ها هو الباب هناك! أنا في جانبك! تكلمي! تصدّي لها، اقهري روحَها!



" أوه، معذرةً ! نعم، هذه إيستبورن. سوف أنزل هنا من أجلك. دعيني أجرّب مقبض اليد."



[ لكن يا ميني، برغم استمرارنا في الإدعاء والتظاهر، فإنني قرأتك على نحوٍ صحيح _____ أنا معكِ الآن ].

- " هل هذه كلّ أمتعتك؟"

- " نعم بكل تأكيد، أنا ممتنةٌ جداً."

( لكن لماذا تتلفتين حولكِ هكذا؟ هيلدا لن تأتي إلى المحطة، ولا جون؛ وموجريدج يقود سيارتَه في الجانب البعيد من إيستبورن).


"سوف أنتظر بجانب حقيبتي يا سيدتي، هذا أكثر أماناً. قال أنه سيلتقي بي.... أوه، ها هو ذا! هذا هو ابني." .. وهكذا.. يمضيان سويّاً.


حسناً، ولكنني حائرة.... بدون شك، يا ميني أنتِ تعلمين أكثر، شابٌ غريب.... توقّفْ! سوف أخبره _____ ميني! آنسة مارش! _____ لا أعرف برغم هذا. ثمة شيء غريبٌ في عباءتِها فيما يحركها الهواء. أوه، لكن هذا غير صحيح، غير لائق ولا محتشم...... انظروا كيف يتثنى فيما يمضيان نحو البوابة الرئيسية. لقد وجدت تذكرتَها. يالها من نكتة! يمضيان بعيداً، إلى الأسفل نحو الطريق، جنباً إلى جنب.... حسناً، إن عالمي في حالٍ سيئة يصعب الخلاص منها! ما الذي أتكئُ عليه؟ ما الذي أعرفه؟ تلك ليست ميني. لم يكن هناك موجريدج على الإطلاق. من أنا؟ الحياة عاريةٌ مثل قطعة عظام.



ولكن تبقى النظرة الأخيرة إليهما _____ بينما هو يخطو نحو الحاجز الحجري وهي تتبعه حول حافة البناية الضخمة، يملئاني بالحيرة _____ يغرقاني من جديد. شخصان غامضان! أم وابنها. من تكونين؟ لماذا تمشين نحو الشارع؟ أين ستنامين الليلة، ثم، غداً؟ أوه، كم تدور وتلتف مثل دوامة _____ تطفو بي من جديد! سأبدأ في تتبعهما. الناس يقودون السيارات في هذا الطريق وفي ذاك الطريق. الضوء الأبيض يتقطّع وينسكب. النوافذُ ذات الزجاج السميك.

زهورُ القرنفل وزهورُ الأقحوان. نباتُ اللبلاب في الحدائق المظلمة. عربات الحليب على الأبواب. أينما ذهبتُ، ثمة كائنات غامضة، أنا أراكما، تنعطفان عند الناصية، أمهاتٌ وأبناء، أنتِ، وأنتَ، وأنتِ. أُسْرعُ، أتتبعُهم. هذا لابد هو البحر كما أتخيل، مناظرُ الريف الطبيعية رماديةُ اللون، معتمةٌ مثل الرماد؛ المياهُ تدمدمُ وتتحرك. إذا ما سقطتُ على ركبتيّ، إذا ما مارستُ الطقوسَ الدينية، الألاعيبَ العتيقة، إنه أنتم، أيتها الكائنات الغامضة غير المعلومة، أنتم من أتعبّد فيهم، فإذا فتحتُ ذراعيّ، فإنه أنتم من أعانق، أنتم الذين أجذبهم نحوي _____ أيها العالم الجدير بالحب!


* * *





يتبع


.


.


.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 12:54 AM
المشاركة 18
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


حوارٌ لم يتمْ




مع فرجينيا وولف




هذه نخبة من الأسئلة التي وجهها القراءُ المعاصرون من مختلف الأعمار والثقافات للروائية فرجينيا وولف بعد موتها بعقود. أجابَ عنها نخبةٌ من خبراء الصف الأول اتكاءً على كتابات وولف ورواياتها ورؤاها في الحياة والثقافة والأدب. أسئلة حول منهجها الكتابي وآرائها حول الحياة ووضع المرأة وحياتها الخاصة وانتحارها، وإجابات متخيَّلة لم تقلْها وولف غير إنها متكئة بقوة على أسلوب تعاطيها للأمور.


كيف كانت الحياة في بريطانيا أثناء الحرب العالمية؟


أفترضُ أنك تقصد الحرب الكونية الثانية (1939-1945). نعم، بالفعل أتذكّرُ الكثير من الأمور عن تلك الفترة. لقد مِتُّ عام 1941 غير أني أذكر جيداً السنوات الأولى من الحرب والشهور السابقة التي أرهصتْ لها.



في مذكرّاتي ليوم 22 يناير 1939 أشرتُ إلى أن حرباً وشيكة تلوح في الأفق. في اليوم التالي أصدرَ رئيس وزارتنا مستر "شامبرلين" بياناً في الإذاعة يدعو فيه كل مواطنٍ إلى الخدمة: "من واجبِ كلِّ رجل أن يؤمِّن سلام البلاد" كان هذا يعني تنظيم المؤن، و"التعتيم الأسود" (الذي يعني تغطية النوافذ بالأقمشة السوداء حتى تغرقَ لندن في الظلمة وتنطمس معالمُها فتظنُّها الطائراتُ المعادية مناطقَ ريفيةً فلا تعبأ بإلقاء القنابل عليها)، وكل فرد أظهر تعاونا مع الأمر.


كم كرهت هذا التعتيم الأسود! في يومياتي ليوم 2 فبراير 1940 كتبتُ: "إن التعتيم الأسود أشد إجراماً من الحرب ذاتها... لم تغب عن خاطري لندن في حال السلم، مصابيحُ الليل، حافلاتٌ تزأر فيما تمرُّ عبر ميدان تافي ستوك..."

كنت كثيراً ما أتشوّق لجولاتي المسائية، حيث كان من الخطورة أن يسير أحدٌ في الظلام الدامس. اكتشفتُ وقتها كم أحببتُ مدينتي، وتخيلت ما لو سقطتْ قنبلةٌ فوق أحد شوارعها، خاصة تلك الأزقة الصغيرة ذات الشرفات النحاسية والستائر التي تعبق برائحة النهر، والعجائز وهم يقرأون! بالتأكيد كان إحساسي الوطني يشتعل، بالرغم من كوني أميل للنهج المسالم، وأرفض الحرب بكل مستوياتها.

كان زوجي متورطا في العمل السياسيّ، وكنت على درايةٍ بالكثير من الظروف السياسية التي يمرّ بها العالم آنذاك، غير إني بدأت أشعر أن التفكير في أسباب الحرب لونٌ من إهدار الوقت.

حينما كنا في منزلنا الريفي كنت أتوق إلى السفر إلى المدينة، لكنني عدلتُ عن فكرتي قائلة: "ما المغزى من الذهاب إلى هناك؟ أن نُقتَل بقذيفة؟!"
في مايو 1940 كسرَ الألمانُ خطَّ الدفاع الفرنسيّ وبدءوا في التوجه صوب القناة. كنتُ مرتعبةً من فكرة الغزو، خاصة وزوجي يهوديُّ الأصل مما يعني أن خطراً عظيماً يحدق بنا.

الصحفُ كانت "صانعة أبطال"، أي كانت تعرض صور المقاتلين الأبطال بنظراتِهم المنتشية بالنصر فيما كنتُ أفكر "إلى أي مدى نحن جديرون بمثل هؤلاء الرجال؟" كنت أحاول أن أكتبَ روايتي الأخيرة، "بين فصول العرض"، وكان من الصعب جداً الشروعُ في الكتابة بينما كل تلك الأحداث تجري.

بالمناسبة، هل شاهدتم برنامجاً تليفزيونيّاً معاصراً لكم يسمى "منزلٌ في الأربعينيات"؟ فهمت أنه يرصدُ يوماً من حياة أسرة عاشت ثمانية أسابيع في منزلٍ تم بناؤه على ذات الطراز السائد في الأربعينيات، بكل مفردات الحياة آنذاك، المؤن، التعتيم الأسود، الغارات الجوية الخ ، إذا ما استطعتم أن تشاهدوا هذا البرنامج، أعتقد أنه سيعطيكم فكرةً جيدة عن حال بريطانيا وكيف كانت في تلك الآونة.



هل مقالتا "غرفة تخص المرء"، و"ثلاثة جنيهات" تعكسان رؤاكِ السياسية الخاصة؟


نعم، الاثنتان تعكسان أفكاري، وقد كُتبتا من أجل أسباب مختلفة، وانطلاقا من مقاربات فكرية مختلفة.

كتبتُ "غرفة تخصُّ المرء" أساساً كمحاضرةٍ دُعيتُ لألقيها في جامعة نيونام في كامبريدج، حول المرأة والإبداع. (وعن طريق معجزةٍ ما، بعد ثلاث سنوات من نشر "غرفة تخص المرء"، وجدت كل صفحات مقالتي الأصلية عن المرأة والإبداع، لكنني لا أذكر ما إذا كنت بالفعل كتبت المحاضرة التي ألقيتها أم فقط كتبتُ مقالةً ترتكز على هذا الموضوع).

بمجرد أن بدأت أفكر في عنوان المحور، تملكني السخط من جراء غياب صوت النساء المميزات هناك. كان القليل من النوافذ متاحًا للمرأة آنذاك. بالتأكيد كانت نبرة المقالات مرحة بعض الشيء لكنني كنت جادة فيما يخصُّ المحتوى.

إبان كتابتي "ثلاثة جنيهات" كنت حانقة. كنت عنيفة في كل ما جاء بها. كتبتها في حالٍ من الاعتقاد الغاضب. وكانت ردود الفعل فجّة حول هذه المقالة: كيو دي ليفيز، الناقدة بجامعة كمبريدج قالت إنني بدوت وكأنني واقعة تحت وهم أن النساء ظلت لقرون يقلّبن القدور بيدٍ ويؤرجحن المهد بالأخرى...(أمر مضحك. كانت ترمي أنني مشوشة العقل، وغير ملمّة بالواقع).

غير أني حصدتُ خطاباتٍ كثيرةً من نساءَ متباينات، غير أكاديميّات، يعبّرن عن امتنانهن حين صادفوا مشاعرهن التي أرّقتهن طويلا مطبوعة على الورق. وهذا يعني أن تلك الكتابات قد مسَّتهن عميقاً وعَنَتْ شيئاً لهن... أجل كتاباتي عكست أفكاري ورؤاي السياسية والاجتماعية.



هل كنت تعتقدين حقاً باحتياجك إلى غرفةٍ خاصة من أجل أن تبدعي؟


أجل، كتبتُ تلك المقالة عن اقتناع تام، بعد شهور قليلة من محاضراتي لطلاب كامبريدج حول المرأة والإبداع.

بالرغم من أنني أتمنى أن تتناول هذا العمل بوصفه إبداعاً، لكنه لم يكن كذلك، فقط هي كتابة تعكس أفكاري الخاصة. فكما تعلم، جعلت جوهر القضية في بداية الكتاب الأولى، أن المرأة يجب أن تحصل على مالها الخاص وغرفتها الخاصة إذا ما نيط بها كتابة الإبداع. وصلتُ إلى ذاك اليقين قبل أن أتطرّق إلى طبيعة المرأة المبدعة، وطبيعة الإبداع التي ستكتب، وبقية الكتاب دار حول لماذا أنا على كل هذا اليقين من كون هذين الأمرين من الضرورات ما-قبل-الأولى.

ربما ظروف إلقاء المحاضرات في كمبريدج أدت إلى إيماني الذاتي بوجوب حصول المرأة المبدعة على تلك المصادر كي تبدع، أعني المال، المكان، الخصوصية.

كلما فكرت في كل تلك الأموال التي أهرقت في المؤسسات الذكورية، وفي الظروف التي يتلقى خلالها الرجالُ الدرسَ في كمبريدج، لا أتمالك نفسي من التفكير في النساء اللواتي ظللن يعملن لقرون طويلة، ومرّ شقاؤهن سدى، من دون أن يُلتفت إليه.

كتاباتي أعلنت عن إيماني بوجوب أن يُنظر للمرأة الكاتبة باعتبارها محترفة كتابةً لا موضوعاً للكتابة، وأيضا أشارت كتاباتي إلى ضرورة أن يكون الكاتبُ عمومًا مثقفا، وعلى علاقة وثيقة بالمكتبات والمراجع.

لو تأملنا هذه الكتابات الآن، ربما نجد أن "غرفة تخص المرء" هي إعلانٌ عن كتابتي: فهي مزيجٌ من الخيال المحلّق في الوهم، ومن إمكانية أن نرى الحياة كرواية، موشاة بقوة بالمعطيات الفكرية والسياسية في ذات الوقت.



هل تمتعتِ بطفولةٍ سعيدة؟


تمتعتُ بطفولة نشطة، كما يمكنك أن تستخلص من خلال سيرتي الذاتية التي سيكتبها "هيرميوني ليي" فيما بعد.

كان لي سبعة أخوة وأخوات: شقيقان، شقيقة، أخان غير شقيقين، وأختان غير شقيقتين. ولا غرابة إذاً أن بدت أمي مشغولة طوال الوقت.

عشنا في لندن، ولذا اعتدنا أن نؤخذ إلى حدائق كنزنتون لمشاهدة تمثال "بيتر بان"، وقرأنا الكثير من الأعمال مثل "الكنز الذهبيّ"، بل وأنشأنا صحيفتنا الخاصة. كان اسمها "جريدة بوابة هايدبارك (مازلت أحتفظ بها، كان أنا من كتبَ معظمها).

أتذكّر حين كنت صغيرةً جداً، ألعب أسفل طاولة غرفة الطعام مع شقيقتي فانيسا. كانت تسأل عن أشياء مثل "هل للقطط السوداء ذيول؟ وتتساءل عما إذا كانت السماء متشابهة في كل مكان.


في الصيف ذهبنا جميعا إلى سانت أيفز وعشنا في منزل كبير جوار البحر. (كتبتُ عن فصول الصيف تلك في رواية "صوبَ المنارة") . كنا نخرج للعب باصطياد اليعاسيب والفراشات.


قبل موتي بدأت أكتب عن ذكرياتي الأولى، واكتشفت أنني أتذكّر بوضوح مراحلي الأولى حين كنتُ طفلةً في روضة أطفال سانت أيفز، أصحو مبكرا في الصباح، أستمع إلى صوت البحر فيما أفكر أن هذا الصوت هو "المتعة الصافية" التي يمكنني أن أستقبلها.. وهكذا يمكن أن أقول، نعم كانت طفولتي سعيدة! (إلى أن ماتت أمي، ولكن هذه قصة أخرى).



يتبع


.


.


.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 01:00 AM
المشاركة 19
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



هل كانت تأتيكِ الأفكار الأجمل للروايات في الريف أم في لندن؟

كلاهما ألهمني. وجدت لندن مفعمة بالبهجة كما يمكن أن تلمس من "مسز دالواي".

في مقالتي "الشوارع الساحرة"، تكلمت عن شوارع لندن التي أحببت السير فيها شتاءً. تكلمت فيها عن هواء لندن المنعش والنزعة الاجتماعية التي تسود شوارعها. المشي في لندن يشبه المشي على بساط سحريّ. أنتجت الكثير من رؤاي هكذا، إيقاع السير يضبطني على إيقاع الكتابة.

هناك كتابٌ للكاتبة "جين موركرافت ويلسن" عنوانه: "فرجينيا وولف: حياتها في لندن: سيرة المكان"، وفيه رسمت الكاتبة خريطة لجولاتي ! ليس فقط جولاتي بل بعض جولات شخوص رواياتي أيضاً.

زوجي ليونارد كان يعتقد أني أغدو أضعف وأقل مقاومة للمرض حين أكون في لندن، ولهذا كنا نعود أدراجنا إلى بيتنا الريفيّ في سُسيكس، بيت الرهبان، الذي دائماً ما كان هادئاً ومريحاً. كثيراً ما كتبت هناك في الحديقة حين كنت أرغب في الهروب من ضوضاء لندن وطابعها المثير، كنت أترك نفسي تغرق تماماً داخل عقلي حتى تأخذ أفكاري في التكوّن. أفترض أن مفتاح الكتابة يكمن في أن تكون وحيداً، ولهذا حتى حين أكون في لندن وأفكر في عملي أخرج وحدي في نزهاتٍ خلوية.

ساعدت كتبُكِ الكثير من مرضى الاكتئاب والقلق العقلي؛ حتى غدوتِ "صوتًا" للبشر ذوي الآلام العظمى. عندما رحلتِ، هل كنتِ تشعرين قبلها أن لا أحدَ هناك يمكنك الحديث معه، أو أن أحدًا لا يفهمك؟

أنا مندهشة ومسرورة أن كتبي ساعدت البشر المكتئبين، لم أفكر مطلقاً أن تكون لكتبي تلك الوظيفة. كان ينتابني القلق بشدة حين أضطر للكتابة عن الاضطرابات العقلية، وأجفل من خوض تلك المسالك.

لم ينتابني القلق في الواقع من عدم وجود أحدٍ أتكلم معه حين فكرت في الموت، لأن انهياراتي النفسية لم تكن وليدة حزنٍ أو قلق، لكنه الخوف المروّع من مرضٍ لا شفاء منه. شرحتُ الأمرَ لزوجي بوصفه "مرضاً فظيعاً". حين مرضتُ في الماضي كان هناك الكثير من الناس يحاولون المساعدة، لكنني كنت أشعر أن أصواتاً كثيرة غير موجودة تغمرني.

الشيء الذي أحبطني حقاً هو حين بدا لي أنه لم يعد هناك قراءٌ لأعمالي. كثيرٌ من أصدقائي بدءوا يموتون، وشعرت فجأةً أني أحيا في عالمٍ بلا قراء. كأنه عالمٌ بغير "صدى". ما جدوى الكتابة في عالم بلا قرّاء؟ (في واقعكم الآن يمكن أن أرى كم كان القياس خاطئاً بمجرد إلقاء نظرة على حياتي منذ موتي)
لكن لا، لم أشعر حقيقةً أن ليس هناك من أكلمه.

على العكس: أحسستُ أنني سأدمر حياة هؤلاء القريبين مني إذا ما تركت هذا المرض المروّع يصرعني ثانيةً. في الورقة التي تركتُها لزوجي ليونارد قلت له: "أعرف أنني أخرّب حياتَك... كلُّ شيء ضاع مني ماعدا اليقين بطيبتك" لهذا كان لدي بالفعل كل شيء يمكن الحياة من أجله.



ما هي الدلالة وراء "اللغة السريّة" التي تشاركتِ فيها مع ليونارد؟ ولماذا اتخذت شخصيات الحيوانات؟ هل كانت محاولة لخلق حالة عزلة وخصوصية؟


أظن أن كل الزوجات والأزواج لديهم "لغةٌ سريّة" خاصة بهم، حتى وإن لم يدركوا دائماً أنهم يتكلمون بها. تتزايد الشفرات والرموز بين الناس، وهم يطورون طرائقهم الفطرية في التواصل فيما بينهم.


حاولت أن أظهر هذا في رواياتي، وأظن أنني بذلت اهتماماً بذلك في روايتي الأولى "الخروج في رحلة بحرية" حين صوّرت مدام ومستر آمبرووز فيما يتكلمان سوياً بمعزل عن الناس، وكذلك راشيل وتيرينس وهما يجتهدان أن يؤسسا شفراتهم الخاصة بينما يتعارفان.


هل تعرف في أي قصة قصيرة حاولت اختبار هذا الأمر بدقة؟


إنها بعنوان " لابين و لابينووفا". كانت كُتبت قبل عام 1919، سوى أنها لم تُنشر حتى عام 1938، وهي تحكي الحياة الخيالية السريّة التي تعيشها زوجة تزعم أن زوجها أرنبٌ وأنها أرنبة. الزوج أصابه الملل من وطأة الوهم، ثم أوقفه، وكان في هذا نهاية الزواج. ما أعنيه أن تلك الشفرات والرموز والأسرار المشتركة تحفظ العلاقات وتساعدها على البقاء. حتى وإن بدت للآخرين شيئاً شاذاً غريباً.


ليونارد وأنا احتوانا زواج حميم للغاية، بالرغم من كل الكلمات الخبيثة التي قيلت دائما حول برود علاقتنا وفتور مشاعري. ربما قرأت شيئاً عن الإشارات الكثيرة في رسائلي القديمة ومذكراتي حول أسماء حيواناتنا الأليفة والألعاب التي مارسناها مع حيواناتنا. مازلنا نحتفظ بكل هذا في السنوات الأخيرة. ومازلت أتذكر الضجة التي كان يثيرها القرد الأمريكي الصغير الخاص بليونارد، وهناك إشارة غامضة حول "المرح الخاص" بشأن هذا الحيوان كتبتها نحو عام 1936، أي قبل موتي بثلاث سنوات.


لهذا أظن أن المرح مع تلك الحيوانات الأليفة يصنع نوعاً من مساندة المشاعر وتعميق الحميمية. نعم كانت لنا "لغة خاصة"، بالرغم من أن الجميع يعلمها لأنني كتبت عنها في مذكراتي.



هل لديك أقرباء مازالوا على قيد الحياة هذه الآونة، وهل يشتركون معك في موهبة الكتابة؟


نعم لدي الكثيرُ جداً! شقيقتي فنيسّا بيل لديها ابنان وابنة: جوليان (الذي قُتل في الحرب الأهلية الإسبانية)، كوينتين وأنجيليكا.


ابن أختي كوينتين بيل (الذي كتب سيرتي الذاتية) لم يعد حيا الآن، لكن زوجته آن أوليفر بيل هي محررة مذكراتي جميعها( يالها من مهمة شاقة!!).

كوينتين وآن أوليفر بيل كان لديهم ابنتان وابنٌ: فرجينيا نيكلسون، كريسيدا بيل، وجوليان بيل.

جوليان بيل كان رساماً وشاعراً وكان ضالعاً بقوة في النقد الفني. وأنجز كتاباً عن الرسام "بونار" عنوانه "بيير بونار" إصدار دار فيدون. ونشرت قصائده في دار نشر ديل.

كريسيدا بيل ليست كاتبة، لكنها مصممة مشهورة في فن النسيج، أما فرجينيا بيل فكانت كاتبة. ألفّت كتابا حول "شارل ستون"، الكتاب الذي بدأ كوينتين في جمعه قبل موته، وأعلم أنها الآن تعكف على تأليف كتابٍ جديد.

ابنة أختي آنجيليكا تعيش في فرنسا. هي كاتبة أيضاً، ولديها كتابان هما "مخدوعون بالطيبة" عن دار شاتّو ووينداز، وكتاب "اللحظة الخالدة" عن دار نشر باكربراش في أمريكا. ولديها بنات كثيرات. إحداهن تدعى هنريتّا جارنيت: وهي مصورة ممتازة، وكاتبة أيضاً. وهي الآن تكتب السيرة الذاتية لـ "آني تاكيري".

وهكذا ترى أن الكتابة تجري في العائلة!( آمل ألا أكون قد أغفلت أيّ واحد).



هل تعاملتِ مع قصصك القصيرة بنفس الجديّة التي كتبتِ بها رواياتك، أم كانت مجرّد محاولات تجريبية؟


كانت محاولات تجريبية، لكنني تعلمت الكثير من كتابة القصص. تعلمت كيف أعيد تشكيل الرواية. لم أتوقع أن تطبع قصصي القصيرة كلها، لكنهم طبعوا، حتى مجموعتي "الأزرق" و"الأخضر"، التي تندرج تحت أقصر القصص القصيرة التي كُتبت على الإطلاق (هل قرأتهما؟ إنهما تجريبيتان للغاية!)


لقد اكتشفت من خلالهما كثيراً من مفاهيم الإدراك الحسي والإدراك التجريدي، خاصةً في "كيو جاردنز"، حين تتأمل الناس المارة فيما يتحدثون حولك وكأنك في سرير من الزهور بين الحدائق.


عبر هذا المنظور، يبدو حديث الناس غريباً ومفككاً وغير مترابط( نيل، بيرت، لوت، كيس، فيليب، با، هو يقول، هي تقول، أن يقول، أنا أقول، أنا أقول ....)، وهذا هو سرير الزهور الوحيد الذي يحظى بالتماسك والترابط. تبدو لي الحياة على هذا النحو، بصدق، إنها الطبيعة وحدها التي تملك الترابط، بينما نحن عشوائيون، بالرغم من التحكم الذي نحاول أن نمارسه على حياتنا عن طريق كل الحكايات التي نحكيها.

في كلّ من قصتيّ "العلامة التي على الجدار" و "رواية لم تُكتب بعد"، تجد أن سلطة الراوية واهنة ومقوّضة. القصة تبدو منطقية، لكن حين نصل إلى النهاية، تبدو القصة شيئاً مختلفاً تماماً. وهكذا تجد الكثير من الخدع واللعب في قصصي، بشكل أو بآخر، غير إنني أيضاً أطمح فيها في تصوير العالم بالألوان الطبيعية.



يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)
قديم 01-17-2011, 01:06 AM
المشاركة 20
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



هل تعتقدين أن مقالاتكِ كانت على نفس المستوى من القوة مثلما لكتابتك الروائية؟




لقد قضيت وقتاً طويلاً في تجويد تلك المقالات، لهذا آمل أن تراها جيدة!
حين كنت صغيرة، كان يُنتظر مني أن أستضيف أبي، السير ليزلي ستيفن، وأصدقاءه على مائدة الشاي. كان رئيس تحرير مجلة "كورنيل" وأحد محرري المعجم العالمي للسيرة الذاتية، لذا كان أصدقاؤه من صفوة المجتمع ! مؤخراً، أخذت على مقالاتي طابعها الحكائي الثرثار في تلك الأيام. غير أني تعمدت أن تأخذ الطابع الحواريّ. أردت لها أن تبدو وكأنها انعكاس لما يفعله الناس حين يجهرون بآرائهم ووجهات نظرهم حين يتكلمون.

بعض تلك المقالات هامٌ للغاية من أجل فهم رواياتي، مثل مقالة "الرواية الحديثة"، التي فيها أستكشف فكرة كيفية استحضار وعي الشخوص وأحاسيسهم الباطنة في الرواية. كذلك مقالة "مستر ومسز براون". هل قرأت مقالة "كيف يجب أن يُقرأ الكتاب؟" – المقالة التي فيها شرحت كيف يمكن للناس الحصول على الفائدة القصوى من القراءة؟

لكنني آمل أن تقرأ المقالات الأخرى ذات الطابع المرح، مثل تلك التي كتبتها عن الممثلة "آلين تيري". كنت متأثرة جداً بقصة حياتها، كانت بحق امرأة لا تتكرر (مرةً، في أحد العروض، نسيت كلامها على المسرح، لكنها كانت من التمكّن والخبرة والثقة بالنفس بحيث لم يلحظ أحد من الجمهور ذلك). جعلت منها إحدى الشخصيات في مسرحيتي الوحيدة "مياهٌ عذبة".


أي رواية من رواياتك تعتقدين أنها صوّرت حياتك أكثر؟


يا له من سؤال شاسع!.. وسؤال صعب كذلك، لأنني بالرغم من عقدي العزم أن أخدم بالكتابة القيم الفنية وحسب، وليس اعتبارها طريقة للتعبير والبوح، (تماماً كما قلت قي "غرفة تخص المرء)، لكن ثمة شيئاًَ مني موجودٌ داخل كل رواية.
كتابة "غرفة جاكوب" جعلتني أكتشف كيف أبدأ في عمر الأربعين وأقول شيئاً عبر صوتي الخاص.

توقفت عن محاولة الكتابة على طريقة الروائييْن "جورج ميرديث" أو "جين أوستين"، وتعلمت أن أستخدم العين الخاصة بعقلي أنا.

كنت أصوّر المشاهد على ذات النحو الذي يفعله الرسام، مثلما يمكنك أن تلحظ من الطرائق التي وُصفت بها المشاهد في أعمالي (آرثر والشاطئ – البحث عن جاكوب؛ جاكوب يرى الصخرةَ التي تشبه على البعد مربيته، غرفة جاكوب الفارغة في كامبريدج؛ المشهد في النهاية، عندما قدمت مسز فلاندرز حذاءه الفارغ).

"غرفة يعقوب" كانت مشروعاً تجريبيّاً في الرسم المشهديّ، ومن خلالها انعكست اهتماماتي الجمالية في ذلك الوقت.

غير أن ثمة خيطاً من السيرة الذاتية في تلك القصة، لأن شخصية جاكوب (يعقوب) ارتكزت في الأساس على شخصية شقيقي "ثوبي" الذي مات عام 1906 بحمى التيفوئيد، ولم يتجاوز السادسة والعشرين بعد.


رواية "الخروج في رحلة بحرية" تعكس عراكي الثقافي المبكر، وربما تجد شيئاً مني في راشيل فينريس، فيما تتعلم كيف تحيا بين جماعة من الرجال المثقفين اللامعين، من دون أن تفقد إحساسها بذاتها.


وأيضاً هناك شيءٌ مني في كاثرين هيلبري في "الليل والنهار"، بالرغم من اعتقاد الناس أن تلك الشخصية مرتكزة على شقيقتي فانيسا.


رواية "صوبَ المنارة" كانت انعكاساً صادقاً لمشاعري، لأنني خلدّت فيها أبي وأمي في شخصيتيّ مستر ومسز رامساي؛ وأيضاً "أورلاندو" كُتبت من أجل، واعتمدت على، "فيتا ساكفيل ويست"، التي فتنتني وأسرتني.


أعتقد أنه من العدل أن أقول أنني في كل رواياتي، كنت أنهل من ذاتي وفي ذات الوقت أحاول أن أبني هياكل جمالية وفكرية.


وبالتأكيد أنا لا أنتهج في كتاباتي الروائية منهج كتابة السيرة الذاتية، غير أنني أبحرُ عميقاً داخل مشاعري الخاصة قبل أن أكتب الرواية.


وبطبيعة الحال تتغير ذاتي مع كل رواية، إذ أختبر أحاسيسي وأعيد ترتيبها على نحو جديد في كل مرة.



هل ترسمين خريطة لروايتك، أم تتركينها تنمو مع تقدمها؟



هذا يختلف من رواية إلى أخرى. دائماً ما تكون لدي خطّة من نوع ما للرواية، حتى ولو لم يكتمل المحور الرئيس تماماً في التو. حينما بدأت "غرفة يعقوب" كان المحور الرئيسيّ مفقوداً بالنسبة لي، غير أني كنت قد قبضت تماماً على الحالة النفسية والمزاجية التي أريدها.

تخيلتها مثل بناء بغير سقالات أو هيكل... بدا تشكيل الحضور لشخصية جاكوب تدريجياً وساحراً، يلمعُ مثل النار تحت طبقة من الضباب. كتبتُ "دعنا نفترضُ أن الغرفة سوف تحمل هذا الحضور مجتمعاً في الصفحة الأولى من المخطوطة، ثم تبنيت وباشرت فكرة غرفته كنقطة مرجعية ومتكئ انطلاق للعمل.

بالنسبة لرواية "صوبَ المنارة" كان لدي أكثر من خطة للمشروع. رسمت شخصية مسز ومستر رامساي اتكاءً على شخصية أمي وأبي، خاصة حسب ذكرياتي عنهما خلال إجازاتنا الصيفية في سانت آيفيز، حيث كنا نذهب ونحن أطفال. عرفت منذ البدء أنني أودُّ أن أخلق حالة موت ما. كان لدي، حتى في البدايات الأولى لكتابة الرواية، فكرة تدور حول أب يجلس في قارب فيما ينشد "سوف نفنى، كلٌّ على حدة" بينما نحن نسحق سمكةً ماكريل تحتضر. رسمت مخططاً للشكل العام الذي أردته للكتاب: كتلتان من الكتاب:

الجزء الأول والجزء الأخير، يتصلان سوياً عبر ممر ("الوقت الذي يمرُّ" خلال حلم اليقظة في المنتصف). وهكذا عمدت إلى تخطيط الشكل والهيكل ثم بدأت بعدة صور قوية. أما ماذا حدث لشخوص روايتي فقد كانوا ينبثقون في رأسي فيما أتقدم في كتابة الرواية.


غير أنك لو زرت يوما مكتبتي الضخمة، لرأيت كم المحاولات التي أنجزها في الكتابة قبل أن تأخذ مسارها المضبوط، يمكنك أن تلقي نظرةً على مسودات مخطوطة "صوبَ المنارة" أو "الأمواج"، وسوف تعرف كمَّ الكتابات التي أخطها قبل أن أنتهي إلى رواية مكتملة! كم ضخم!



لماذا غيرتِ منهجك تماما بعد رواية "الليل والنهار"؟



كنت مسرورة للغاية من تلك الرواية. فكرت أن هذه الرواية أكثر نضجاً بكثير من روايتي الأولى "الخروج في رحلة بحرية" . أقترح عليك أن تقرأها إن لم تكن قد فعلت من أجل أن تلمس أفكاري المبكرة عن استقلال المرأة. هذه الرواية تدور حول أيهما أكثر أهميةً، أن تكون نفسك من أجل خاطر الآخرين بأن تأخذ هويتك منهم (مثل مسز هيلبري، التي تؤمن بالحب والزواج)، أم أن تكون نفسك من أجل خاطرك أنت (مثل كاثرين الذي خالفتها الرأي) . لكنها ماري داتشيت التي جسدت شخصية ذات عقلية فردية ومهدت للتبرير السياسيّ.



أيٌّ من الشخصيتين من وجهة نظرك نجحت في انتزاع تعاطفك أكثر، ماري أم كاثرين؟



المشكلة أن النقاد كانوا فظّين جدا تجاه الرواية وغير متعاطفين معها. إي إم فورستر قال أنها كانت محض رواية كلاسيكية و احتاجت الشخصيات أن تكون جديرة بالحب أكثر من هذا، أما ربيكا ويست فقد قالت أنها رأت عالم الرواية كله غريب عنها.


حين اشترينا ليونارد وأنا دار نشر، وبدأنا في طباعة القصص القصيرة والقصائد الخاصة بأصدقائنا، كتبت وقتها قصة ربما تعرفها وهي "كيو جاردنز". نالت هذه القصة مع "العلامة التي على الحائط" الكثير من الاستحسان والقبول: كل واحد بدأ ينتبه أن لي أسلوباً مرناً وانسيابياً في وصل الأشياء معاً عبر منظومة بدت أكثر تشويقاً عما كان الأمر عليه في أسلوبي الكلاسيكي، ومع هذا لم أكن مقتنعة في بادئ الأمر، وواصلت الكتابة القصصية فيما أفكر كيف يمكنني أن أجعل كتابتي أكثر مرونة وانسيابية.


ثم كتبتُ قصةً أخرى وهي – رواية لم تُكتب بعد –وبدأت أتبين أنه يمكنني أن أكتب روايةً كاملةً على نفس النحو: شيء ما ينفتح على شيءٍ آخر. هذا الأسلوب غذّاني بالكثير من الأفكار وأفادني في الرواية التي كتبتها بعد ذلك وهي "غرفة يعقوب"، وفي تلك النقطة فكرت أنني أخيراً توصلت إلى كيفية أن أبدأ في قول شيء بصوتي الخاص الخالص... غير أني مازلت أحب "الليل والنهار" رغم كل هذا.


يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)

مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: جيوب مثقلة للحجارة .. فرجينيا وولف
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فرجينيا وولف و رواية " إلى المنارة" ريم بدر الدين منبر الآداب العالمية. 20 01-27-2015 02:02 PM
فيرجينيا وولف – د. زياد الحكيم د. زياد الحكيم منبر الآداب العالمية. 3 08-26-2012 11:06 AM
فيرجينيا وولف- هل كان انتحارها آخر صرخاتها ايوب صابر منبر الآداب العالمية. 1 10-04-2011 01:55 PM

الساعة الآن 12:00 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.