قديم 03-08-2016, 12:45 PM
المشاركة 51
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



قد يكون الرصد الذي أرعبني واظنه أرعب كل من نزل بئر حارس من قبلي ومن بعدي للشرب او السباحة، في الليل او النهار، وسواء كان راكدا هابطا ام كان جاريا متفجرا...وما يزال ذلك البئر مصدر للرعب والخوف حتى هذه اللحظة...قد يكون ذلك الرصد مجرد خرافة، وقصة اسطورية لا أكثر ولا اقل، فتلك البيئة الريفية كانت تنغل بالخرافات، لكن الصحيح لا أحد يستطيع ان يجزم بأن ذلك البئر لا يحتوي رصدا مخيفا، بشعا، كاسرا، مفترسا، كما تقول الحكايات وتردد الذاكرة الشعبية، وبالصورة التي ارتسمت في العقول والقلوب، ولو ان أحدا لم يره رؤيا العين ابدا ولم يصوره أيضا، بعد انتشار أدوات التصوير الفوري والي يومنا هذا...

فان كان السمك الصغير الحجم يخرج الي السطح مع ماء النبع حينما يتفجر، وكنا نشاهده بأم اعيننا يسبح جيئة وذهابا، وننصب له شباكنا البدائية في مجرى النبع، قاصدين اصطياده، والامساك به، وان لم يكن من ذلك فائدة سوى اللهو...والشعور بلذة الانتصار التي تمثلها لحظة الإمساك بواحدة على ضآلتها...فما الغريب ان يخرج أيضا الي السطح كائنات أخرى ضخمة، بشعة، ومخيفة، ومفترسة؟ فربما تكون هذه الكائنات تسكن البحار الباطنية أيضا؟!...تلك البحار التي يكون انفجار النبع نقطة تنفيس لها عندما تمتلئ بماء المطر المنهمر في أشهر الشتاء، فتتفجر قاذفة ما يزيد عن طاقتها، وقدرتها على الاستيعاب والتحمل، فتحمل المياه الصاعدة الى السطح معها ما تحمل من تلك الكائنات الأسطورية التي تسكن في أعماق تلك البحار حتما؟

ثم ما الغريب في ان يكون ذلك الكائن على شكل خاروف، او نعجة، او كلب او حتى وحش اسطوري لا يوجد له مثيل الا في مخيلة الناس الذين ربما شاهدوه في كوابيسهم؟ الا تمتلئ البحار الأرضية السبعة المعروفة للناس بمثل تلك الكائنات؟ ومنها ما هو أضخم، وأبشع، واشد فتكا، من ذلك الرصد اللعين؟! ملقي الرعب في قلوب الأطفال؟ بل وربما يسكن في اعماقها السحيقة المعتمة كائنات أخرى مشوهة، وبشعة ما تزال محجوبة عنا لا يمكن لمخيلتنا ان تتصور شكلها وحجمها وبشاعتها؟ الا تشاركنا مثل تلك الكائنات البشعة سكننا وان كانت بأحجام صغيرة جدا لا تكاد ترى بالعين المجردة؟ اليس الماء مصدر لكل حياة؟ فهل يمكن لاحد ان يجزم إذا بعدم وجود مثل ذلك الكائن الأسطوري حتى وان كان الماء مختزن في باطن الأرض منذ ملايين السنين حيث العتمة المطبقة، والظلام الدامس، ولا شمس ولا نور يبدد الظلمة؟ ومن يدري فلعل الكائنات التي تعيش في ظلام دامس ولا ترى عين الشمس تكون أكثر بشاعة من ان يتخيلها عقلنا؟؟!!

لكن الذين شاهدوا عين النبع في قعر البئر يشككون في رواية الرصد تلك، ويؤكدون بأنه لا مجال لخروج كائنات بأحجام كبيرة من مكان ضيق بحجم عين النبع الضئيلة تلك، خاصة عندما يكون الحديث عن كائن بحجم ذلك الرصد اللعين الذي ارتسم في خيال الناس مع مرور السنين بان له حجم وشكل الخاروف...
بل ويجزم البعض ان الرصد ما هو في الواقع الا صنيعة خيال من كان يصاب بمصيبة فقد طفل صغير له او اخ حبيب في ذلك البئر...وذلك لتبرير تقصيرهم في حماية أطفالهم واحبتهم من الموت غرقا...قصص صنعوها ليواسوا أنفسهم في سردها ويجابروا بعضهم بعضا من الم الفقد ومصيبة الموت...ويبررون فشلهم وعجزهم امام ذلك الكائن الأسطوري مفترس احبتهم...

واظن شخصيا انه لا بد ان ذلك الرصد مجرد خرافة صنعها عقل مزارع، او راعي ماشية او عابر سبيل كان يوما يؤم البئر لوحده...فالمكان الذي يوجد فيه البئر ناء، وبعيد عن الناس، ولا تكاد حين تقف في محيطه في ذلك الزمن، ان تسمع صوتا سوى خرير المياه الجارية، ونقيق الضفادع، وربما أصوات بعض العصافير التي تصدح في المكان وقد وردت الماء لتشرب...وهو حتما مكان موحش، وانت تشعر بتلك الوحشة القاتلة حتى وانت على السطح، فما بالك ان كنت مضطرا للنزول الي اعماق البئر عدد اثنين واربعون درجة لتصل الى حوض ضيق معتم، وكأنك أصبحت في باطن الارض؟ وتصبح هناك وحيدا وكأنك بين دفتي قبر عميق، عميق...الا يشعرك ذلك وكأنك في احشاء وحش ضخم؟ واظن ان الرصد لا بد ان يكون وليد مثل تلك اللحظة الموحشة المرعبة...مجرد مخاوف انسان عبر عنها في لحظة صدق وهو يصف احاسيسه في لحظة مرعبة موحشة من تلك اللحظات...ولكنها كبرت مثل كرة الثلج...تبدأ بحجم صغير، لكنها تكبر كلما تدحرجت وتحولت مع الزمن الى خرافة اسطورية، تناقلتها الذاكرة الشعبية جيلا بعد جيل...وسوف اروي لكم قصة لحظة خوف كان والدي قد مر فيها ورواها لنا...وكان يمكن ان تتحول هي ايضا الي خرافة أخرى وربما اشد رعبا لان بطلها كائن ما ورائي...

لكن حتى وان كان ذلك البئر النبع خالي من ذلك الرصد الأسطوري المخيف، وهو فعلا خرافة ومن صنيعة خيال الناس، ولا يوجد الا في الحكايات الشعبية المتوارثة جيلا بعد جيل، فلا شك ابدا ان ذلك البئر كان يحتوي على رصد مرعب من نوع آخر...

وعلى عكس ذلك الرصد الذي لم يشاهده أحد... شاهد الناس هذا الرصد الاخر المرعب واصابهم اذاه وآلمهم بل وامتص دمائهم...وعلى الرغم من صغر حجمه حتى لا يكاد يرى بالعين المجردة في مرحلة التكوين والولادة، ما يلبث هذا الكائن ان يزداد حجمه ويكبر، ويتضخم، ليصبح بحجم إصبع اليد، ذلك إذا ما تمكن من إيجاد ضحية له يلتصق بها، يمتص دمائها، ويسمن عليها...فهو أيضا من مصاصي الدماء...الذين يفضلون امتصاص دم البشر...

وهذا الكائن ما هو الا دودة مجهرية صغيرة الحجم لا يتجاوز طولها الميليمتر الواحد عند ولادتها، لونها اسود، ولها أرجل عديدة، وربما هي خراطيم امتصاص، ولها قدرة هائلة على الالتصاق، والاستحكام، وهي من الصغر بحيث لا تكاد ترى بالعين المجردة في مراحل حياتها الاولى، وهي تسكن مياه بئر حارس، ولا بد انها تأتي الى الحوض بنفس الطريقة التي تأتي بها تلك الأسمال الصغيرة...

وتسمى هذه الدودة المرعبة بدودة العلق، وربما انهم منحوها ذلك الاسم لأنها تعلق في حلق الانسان إذا ما شرب الماء دون تصفية، وهناك تبدأ بافتراس ضحيتها بامتصاص دمه الذي يسمنها، ويجعل حجمها اضعاف مضاعفة...ويبدو ان هذه الدودة اللعينة تفضل دم البشر الاحمر القاني ليكون على رأس قائمة وجباتها هي أيضا ولو انها اعجز ان تسابق الناموس في ذلك...وما الماء عندها الا وسيلة نقل تصل بها الى جوف الانسان...حيث تستقر الى ما شاء الله اذا لم يتمكن من نزعها...ولذلك كان الناس يحرصون عند شرب الماء على تصفيته باستخدام خرقة قماش تكون عادة شفافة وبمسامات دقيقة جدا، وافضلها كان قماش اليانس الأبيض، الذي كانت ترديده النساء على روسهن، او أي قطعة قماش أخرى متوفرة وباي لون كانت، فاللون هنا ليس مهما انما المهم هو ان تكون قطعة القماش قادرة على احتجاز الشوائب...ومنها تلك الدودة اللعينة مصاصة الدماء...

وأحيانا كثيرة كانت تلك الدودة اللعينة تتمكن من الوصول الى حلق من يغترف غرفة بيده من مجرى النبع، متجاهلا وجودها في الماء او غاضا البصر، او ظانا ان الماء نقي خالي من الشوائب، وهو يراه كذلك في يده وبين اصابعه...وربما تمكنت في أحيان أخرى من تجاوز كل وسائل التصفية، وتسلسلت بمهارتها الغريزية، وبحثها المستديم عن البقاء، والتكاثر، وحفظ النوع الى حلق انسان...ولا بد انها كانت في أحيان كثيرة تتمكن من الولوج الى حلق العديد من السبيحة الذي ينزلون ماء الحوض، وذلك حينما يفرغون افواههم في الماء وهو يسبحون...وذلك امر يستحيل تجنبه...

هذا الانسان يصبح ضحية تلك الدودة الشرسة مصاصة الدماء في لحظة، وفي غفلة من الزمن...وما تلبث ان تظهر على وجهه ملامح الهزال، والضعف، وفقر الدم...فتبدأ رحلة البحث عن السر، ومحاولة كشف السبب...ولا يطول البحث كثيرا حيث يتم العثور على إحداها، وقد علقت في حلقه، وكمنت هناك بهدوء مطبق...ولولا لونها الأسود، وحجمها الذي يصبح ملموسا في الحلق، ومظاهر الضعف والهزال الأخرى، لربما ظلت هناك كامنة دون ملاحظة...وظني ان الناس طورت مهاراتها في ذلك الزمن للتعامل مع المخاطر، ومعالجتها، ولو بطرق بدائية لكنها كثيرا ما كانت ناجعة...

وما ان يتم العثور عليها حتى يسارع الشخص الضحية الى الطبيب الشعبي الذي كان يستخدم أدوات بدائية في نزعها...وكان هذا الطبيب الشعبي في قريتنا اسمه أبو هارون رشيد جبر، وهو رجل ضخم الجثة، نبيه، ويتقن عدة مهارات، وكان يشاع عنه انه يستطيع التعامل مع أي قضية ميكانيكية او حتى طبية...واظنه كان كذلك فقد كنت ارقبه وهو يعمل امام مطحنته المجاورة لبيت جدي صالح، وفي مرة شاهدته وهو ينزع علقه من فم ضحية من ضحايا دودة العلق...

وكان الى جانب تخليص الناس من مصائب العلق يقوم بعمل طبيب الاسنان...حيث يستخدم كماشته في خلع الضرس الذي نخره السوس او ذلك الذي يبدو متآكلا ومسببا للألم...وأحيانا أخرى كان يربط الضرس بخيط يشده بعزم فينخلع الضرس...وللمفارقة أصبح ابنه البكر هارون اول طبيب اسنان من أبناء القرية يتخرج من الجامعات ويمارس مهنة طب الاسنان لاحقا...

اما وسيلته لنزع العلق من الحلوق، تلك الدودة البغيضة، فكانت شوكة طويلة، يأخذها من نبته اسمها نبتة العليق...واظن انها اخذت اسمها من دودة العلق ونسبة لها، لأنها كانت أداة ناجعة لإزالتها...ان لم تكن الوحيدة في غياب الأدوات الطبية الحديثة...حيث يقوم الطبيب الشعبي على غرز الشوكة في جسد العلقة العالقة هناك في حلق الضحية، ومن ثم سحبها، ربما بعد ان يفرغ ما امتصته من دماء حتى يتمكن من الإمساك بها وربما ان وسيلته الوحيدة لدفعها التخلي عن ضحيتها هو قتلها ...ولكم ان تتخيلوا فظاعة ذلك المشهد ومخاطره...

واذكر ان أكثر الادوية شعبية في تلك الأيام كان شربة الخروع التي يقال انها شديدة المرارة ولها مذاق سيئ، واظن ان السبب لذلك كان حرص الناس على تخليص الجهاز الهضمي من الدود الذي يعلق فيه...سواء كان مصدر ذلك الدود بئر حارس، او البرك المفتوحة في الجبال والوديان، وما يعرف (بالمقر) وهو عبارة عن حفرة صغيرة في الصخر تمتلئ بماء المطر، وكانت هذه المقور منتشرة بكثرة في البراري، واذكر انني شربت منها وانا صغير اكثر من مرة، وكان اشهرها في براري قريتنا مقر اسمه مقر الشقرمين، ولا اعرف اصل التسمية هذا من اين جاء، لكن هذا المقر كان مصدرا مهما للماء خاصة للرعاة او من تنقطع فيهم السبل ويضطر للشرب... وكان هذا المقر في قمة جبل الكرك في الجهة القبلية من القرية....وقد ازله الجراد لاحقا عن الخريطة وشيد مكانة مسبحا واسعا...

ولم يكن أحد يتحرج من الشرب من تلك الاحواض المائية الصغيرة، رغم علمه انه يتشارك في ذلك مع بعض الحيوانات البرية غير الاليفة والاخرى المدجنة الاليفة، وكثيرا من الكائنات الأخرى الدقيقة التي كان بعضها يظهر في الماء على شكل دود احمر واسود...وقد اعتاد الناس على غرف أيديهم في الماء الاحواض تلك بعد إزاحة الدود الظاهر امام اعينهم ثم شرب ما يتيسر لهم وما تحمله راحة ايديهم...

حتى الابار الحلقية التي كان الناس يحفرنها في المنازل والبراري المجاورة، وكانوا يغطوها ويحاولون تصفية ماء المطر المتجهة نحوها باستخدام عشبة النتش، وهي نبتة شوكية او اغصان اشجار أخرى يضعونها في المصرف وهي فتحة جانبية يعبر ماء المطر من خلالها، ويحاولون قد الإمكان المحافظة على نظافة الماء فيها، بتنظيفها من الترسبات...كثيرا ما كانت هذه مرتعا لأصناف عديدة من الدود أشهرها دودة بلون احمر كان والدي يحاربها بصب كمية من الكاز في البئر...حيث يصبح مذاق الماء سيئا لمدة أيام قد تطويل ويعتمد ذلك على كمية الكاز المصبوب في البئر...

وانا لا اعرف حقيقة كيف ان الناس لم يموتوا جميعا من شرب مثل ذلك الماء...وكيف كانت أجسادهم قادرة على احتمال ومقاومة كل تلك الحشرات والكائنات المرئية منها وغير المرئية...واذكر ان دكتور علوم الاحياء قام واثناء دراستي الجامعية في جامعة بيت لحم بعرض ما يوجد في ماء الابار الحلقية تحت المجهر الميكروسكوبي، بعد ان انتشل شيئا منها من بئر كان محفورا في ارض مجاورة لمبنى المختبر، وكان ذلك في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، وقد زلزلني ما شاهدته بأم عيني من كائنات حية تعيش في الماء لا يمكن ملاحظتها بالعين المجردة...

يتبع...

قديم 03-10-2016, 02:00 PM
المشاركة 52
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


اما الخرافة والخزعبلات الذهنية المحضة التي مصدرها النفوس، فربما كانت اشد وقعا، وأثرا، والما، على الناس من تلك البيئة الريفية وما تحتويه من مخاطر، وأدوات قتل، بما فيها ذلك الرصد الأسطوري المرعب حتى وان كان حقيقيا او متخيلا...

ولا بد ان الخرافة كانت نتيجة تراكمات جمة، خلفها الاستعمار وادواته، والفقر ومآسيه، والجهل وبلاويه، في مثل تلك البيئة المنعزلة عن باقي العالم على مدى قرون مضت، لكنها استفحلت، واحتدت في القرن التاسع عشر بعد وصول الجراد الشرس المحتل الذي استوطن الأراضي الغنية، والساحلية، وتسبب بسلسلة طويلة وممتدة من الهزائم والانكسارات، ولا بد ان ذلك انعكس على صحة الناس النفسية، والقدرات العقلية، والتي صارت أقرب الي الذهانية منها الي المنطق والواقعية...

وقد كانت الخرافة في ذلك الزمن الصعب أداة تخويف مرعبة، تتسبب بالكثير من الرعب والخوف خاصة لنا نحن الاطفال...واظنها ازدهرت في ذلك الزمن لأنها وجدت البيئة المناسبة، والأرض الخصبة، فنبتت مثل الفطر تحت شجرة بلوط اغصانها وارفة، وارضها خصبة في احراش قرية ديراستيا المجاورة، والمشهورة بغزارة انتاجها إذا ما ابرقت وارعدت، وامطرت وارتوت الأرض من خير السماء...

فمن ناحية كانت القرية شبه منقطعة عن العالم الخارجي...فلا وجود لوسائل الاتصال أي كان نوعها، وحتى الترانزستور جالب الاخبار فأظنه كان عملة نادرة، ان لم تكن نادرة جدا...واظن ان الرجال كانوا يتجمعون فيما ندر عند من اقتنى واحد لسماع نشرات الاخبار...وكان الترانزستور في تلك السنوات ضخما ومكلفا يأتي على شكل صندوق خشبي...يشغل مساحة تعادل مساحة التلفزيونات الحديث من صنف اثنان وثلاثون بوصة...

كان نهار ذلك الريف موشحا جدا...وكان ليله مظلما بل هو شديد الظلمة والوحشة... فلا وجود لأدوات الإضاءة الا تلك البسيطة منها، مثل القنديل والسراج، واللوكس اليدوي...والتي لا يكاد نورها يبدد عتمة المكان وظلمة النفوس...وكان التعليم نادرا ووسيلته الكُتاب...وكان الجهل مطبقا...وكانت النفوس منكسرة بعد سلسلة من الهزائم المزلزلة ...فتراكم ظلام المكان والزمان على ظلام النفوس...ظلمات فوقها ظلمات...لكل ذلك صار الريف الفلسطيني في ذلك الزمن ينغل بالخرافة...وتعصف به الخزعبلات...

وتعددت الحكايات الخرافية...منها ما لجأ اليه الناس كادة تريبة وتعليم، تقوم على التخويف وبث الرعب في النفوس خاصة لنا نحن الاطفال...فمثلا كنا نرتعب إذا سقطت منا حبة ملح على الأرض...فلقد كانت الخرافة تقول بأن من اسقطها سيقوم يوم القيامة بالتقاطها برموش عينيه...ولكم ان تتخيلوا مدى الرعب الذي كان صيبنا كأطفال وقدر زرعوا في عقولنا اننا سنعاقب يوم القيامة على إضاعة فصوص الملح وليس اكثر ، اذا ما سقطت منا على الأرض عن عمد او من غير عمد ودون قصد... ولطالما سألت اختي الكبرى والتي كانت مصدر هذه الخرافة بالنسبة لي ان كان هناك مجال ان اجمعها بأصابع يدي بدلا من روموش عياني؟ فكان الجواب دائما يأتي قطعيا وكما ورد في الخرافة...بل برموش العينين...ولطالما حرصنا على حبات الملح وبذلنا جهدنا كي لا تسقط منا، وبحثنا عنها اذا ما سقطت حتى نتجنب العقاب الاخروي قبل الدنيوي...

ولا اعرف لماذا كانت هذه القاعدة الخرافية تنطبق على الملح فقط ودون السكر مثلا وقد شابهه في كل شيء الا الطعم والمذاق...او حتى أي صنف آخر من أصناف النعم الكثيرة...من أصناف الطعام الذي كان متوفرا حولنا؟

ثم لماذا يكون عقاب إضاعة فصوص الملح بتلك الفظاعة بينما اسقاط الخبز وهو الأهم بالنسبة لبقاء الانسان، اقل حدة فكان المطلوب منا إذا ما سقط الخبز رفعه عن الأرض ثم تقبيله ووضعه جانبا في مكان لا تدوسه الارجل...اما الرز، والعدس، والبصل، والثوم فلم يكن أحد على ما اظن ليحتج او يلومنا لو دسنا عليها بأقدامنا...فليس لها تلك القدسية التي للملح والخبز...

اما خرافة حبة الرمان التي قالوا لنا بأنها تحتوي على حبة بركة...فقد كانت اقل تخويفا وتعذيبا للنفوس ربما ولو انها كانت تسبب الحسرة والندامة...ولكننا كنا نحرص كل الحرص على ان لا تقع منا أي حبة على الأرض...وان وقعت كنا نسارع للبحث عنها واكلها كي لا نفقد البركة...وطمعا في الحصول عليها، لعلها تكون تلك الحبة هي بعينها دون غيرها حاملة البركة...وان فقدنا حبة للسوس او الدود اصابتنا الحسرة على إضاعة البركة ربما...

ولا يقاس الرعب المتأتي من هذه القصص الخرافية، مع ذلك الذي كان يخرج علينا من حكايات الجن المرعبة...فقد زرعوا في نفوسنا اننا في كل مرة نرشق فيها الماء على الأرض علينا ان نتوقع ان يلبسنا الجن إذا نسينا التسمية...وإذا ما دخلنا المنزل دون ان نسمي ونسلم ركبتنا الشياطين، ونامت الي جوارنا، وأكلت اكلنا...وعلينا الحذر من القط باللون الأسود لأنه شيطان، اما الأبيض، والاحمر والرمادي، والاخضر فهي جالبة للحظ ربما، او على الأقل محصنة ضد الجن والشياطين...

كانت بيئة مليئة بحكايات العفاريت والجن...حتى ان الناس كانت تخاف الوصول الي مناطق بعينها لما اشيع عنها من حكايات الجن...والتي تؤكد بأنها مسكونة بالجن، وان بعض الناس شاهدوهم في تلك الأراضي المنخفضة والمنعزلة عادة...فلم يكن أحد ربما يجرؤ على الوصول الي منطقة (لقنة) خاصة في ساعات الليل، وهي الأرض الواقعة بين قريتنا وقرية ديراستيا...فقد كانت الحكايات تؤكد بأن الجن قد ظهر لكثير من الناس في تلك البقعة...وان ذهب احد الناس الي هناك فأظن ان هاجس تجلي الجن وظهوره له كان يظل حاضرا ومؤرقا ومرعبا...ولا اعرف اين ذهب ذلك الجن، والعافريت هذه الأيام بعد ان تمددت منازل القرية، ووصلت الى ارضهم المزعومة تلك، فقد أصبحت تلك الأرض الان معمورة، ومسكونة لكن بالبشر وليس بالجن ولم يعد احد يتحدث عن رؤية الجن في تلك الناحية، وكأنهم فص ملح وذاب كما يقول المثل...

في مثل تلك الأجواء المرعبة والتي عصفت بالناس فيها الاحاديث الخرافية وقصص الجن والعافريت يقال ان رجالا من القرية تراهنوا على من يجرؤ على زراعة وتد في بيت مهدوم من عزبة مجاورة اسمها عزبة الخربة، كان سكان قرية أخرى مجاورة تسمى قرية مردة وكانوا أصحاب نفوذ قد هاجموها فما سبق وقتلوا أهلها، وهجروا من نجا منهم، واستولوا على ارضهم، ولم يبق من بيوتهم الا الاطلال...ويبدو ان شخص اسمه ذيب القره قبل التحدي...وابدى قدرته على فعل ذلك...ولا بد انه سار الى هناك في احد الليالي المظلمة...وعندما وصل داخل المنزل المهدوم، في العزبة التي تبعد ما لا يقل عن ثلاثة كيلومترات عن قريتنا، دخل المنزل المهدوم واخذ يدق الوتد في الأرض بحجر كما تقول الحكاية...وعندما انجز المهمة، وهم بالخروج والعودة شعر بأن رداءه كان عالقا وكأن شيئا يمسك به ويشد به اليه...ولا بد انه في تلك اللحظة ظن بان جنيا او عفريتا من الجن قد خرج له، وقد عكر صفوه، واقلق راحته، وافسد عليه ليله، فامسك بطرف رداءه...ولا بد انه ارتاع من الخوف وحاول الهرب مسرعا ولم يتسنى له حتى خلع رداءه المشدود، وعاد الى اقارنه بملابسه الداخلية...وفي اليوم التالي وجدوا انه كان قد دق طرف رداءه مع الوتد وان الجن براءة مما كانوا يدعون...

ولا عجب والحال كذلك ان ينسج الناس من خيالهم الواسع مثل تلك الحكايات المرعبة، وان يجعلوا ابطالها من الجن والعفاريت...او ان يرى الناس الأشياء على غير حقيقتها...حيث تصور لهم هزائمهم النفسية، ومخاوفهم الأشياء على غير حقيقتها...والصاق التهم بكائنات ما ورائية يظنون انهم رأوها رؤي العين...واذكر ان الناس تداولت بعد زلزال وهزيمة عام 1967 بعض القصص الخرافية، وكنت انا شاهدا على ذلك هذه المرة...فالبعض اكد ان القنفذ وهو حيوان له شوك قد نطق في مخيم بلاطة واخبر الناس بأن الجراد سوف ينحسر عن البلاد وان النصر ات...ولن يطول الانتظار...والبعض الاخر اكد ان الهزيمة أدت الى ان اصبح اللون الأخضر من ورق شجرة الزيتون الى الأسفل وخرج اللون الرمادي الى الخارج...ربما حزنا والما على الهزيمة...فكانت تكل تصورات ذهانية تعبر عن مرارة الهزيمة وقساوة ضياع الحلم بالعودة القريبة الي الجنة المفقودة...الي الأراضي الساحلية، ما دامت الأراضي الداخلية قد ضاعت هي أيضا...واظن ان ذلك يفسر سبب خروج تلك القصة عن القنفذ الذي نطق وتكلم من قلب مخيم لاجئين، وليس من أي مكان آخر...

ولا عجب ان يستشعر الناس الخوف من الزوال او الظلال او أي صغيرة وكبيرة وقد تراءت لهم انها كائنا ما ورائيا...في مثل ذلك الزمن وتلك الظروف...ويبدو ان هذا ما حصل مع والدي في أحد الليالي المظلمة في زمن الشباب...حيث كان عادا من قرية سلفيت المجاورة...وكان يمتطي فرسا...وفي نقطة معينة لا تبعد عن القرية كثيرا...ظن انه رأى شبحا في الأرض المجاورة من الطريق المؤدية الي القرية... وكان إذا سار الى الامام سار ذلك الشبح معه الي الامام...وإذا عاد الي الخلف تحرك ذلك الشبح بالاتجاه المعاكس...والله فقط يعلم مدى الرعب الذي أصابه في تلك اللحظة ومدى السرعة التي انهزم فيها من ذلك المكان...وقد شك أن عفريتا من الجن قد برز له في تلك الناحية واخذ يطاره...

والله اعلم كيف امضى ليله ليعود في اليوم التالي الى الموقع، وقد انارت الشمس بأشعتها المكان وازالت الاوهام والزوال...فوجد ان صاحب الأرض كان قد قطع اغصان شجرة زيتون وترك جذعها امردا...وان ما ظنه كائنا ما ورائيا في تلك اللحظة، انما هو عرق تلك الشجرة لا اكثر ولا اقل...بقايا شجرة ثابتة بثبات جذورها في الأرض لكن خوفه من حكايات الجن جعله يظن بأنه التقى مع عفريت وتصوره يتحرك معه أينما اتجه...ولو انه لم يعد الي الموقع في اليوم التالي ليتأكد مما رأى، ومن ثم نسج حول تجربته حكاية من حكايات الجن والعفاريت لأصبحت تلك الحكاية خرافة أخرى من الخرافات الكثيرة التي كانت تعصف بالعقول والقلوب...ولربما اصبح المكان شبه محرم على الناس لشدة خوفهم ان يتلبسهم الجن الساكن في تلك الناحية ايضا...

يتبع ...

قديم 03-13-2016, 02:58 PM
المشاركة 53
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



تخيلوا معي كيف لو ان كائنا أشعثا، اغبرا، يبدو ما ورائيا، بمظهر اقل ما يقال عنه انه مخيف، ظهر فجأة لأحدهم في ليلة صماء، بكماء كالحة الظلام، وكأنه برز من تحت الأرض، او هبط من السماء، في مثل تلك الأجواء المرعبة التي كانت تعصف بالمكان، وتنغل فيها حكايات العفاريت والجان؟!...هذا ما قيل لي انه حصل مع والدتي، قبل ان أتي الي هذه الدنيا ربما بسنوات...وربما كنت حينها اتشكل ملتصقا بها وفي رحمها...

وما ذلك الكائن الاشعث، الاغبر، الا تلك العجوز التي كنت قد حدثتكم عنها، آكلة الجراد ذي الاجنحة، والذي هاجم قريتنا في احدى السنين، ووجدت من دون الناس في هجومه فرصة لتعويض النقص في البروتين...

ويبدو انه في أحدى الليالي كالحة الظلام، كانت تلك العجوز قد وضعت على وجهها سخام القدور، مثل ذلك الذي يضعه هذه الأيام الجنود على وجوههم قبل دخول المعارك، ليصبحوا بمظهر بشع واشد شراسه مما هم فعلا عليه... ولعلهم بذلك يلقون الرعب في قلوب الاعداء...كما وشقت ثيابها، وعفرت على رأسها من تراب الطابون، والذي يسمونه محليا (السكن) وهو الرماد الذي تتحول اليه الأشياء عند احتراقها، وربما اضافت اليه القليل من الطحين...وحلت غطاء رأسها وبعثرت شعرها او ما تبقى منه في تلك الاثناء، وبدت في مظهرها وكأنها كائن ما ورائي...او كأنها خرجت من تحت انقاض ركام زلزال مدمر فشوه منظرها، وبدت في منظرها مرعبة، انسانة في صورة كائن خرافي...

وربما ان صورتها كانت اشد سوء وبشاعة مما أستطيع ان أصف هنا في هذه العبارات ...إذا كانت في تلك اللحظة غاضبة، مزمجره لأمر لا بد أصابها، ودفعها لتتصرف بمثل ذلك الجنون...

وتلك الطقوس البائسة من العادات المرعبة التي كانت تفعلها النساء في حالات الحزن والحداد والغضب... فبدت وكأنها خرجت لتوها من أحد القبور، دفنوها فيه بعد ان فقدت وعيها، ظنا منهم انها ماتت وانقلت الي الدار الاخرة...فاستيقظت في ساعة متأخرة من الليل فوجدت نفسها فيه فنبشت التراب من حولها بأظافر يديها...وخرجت بعد جهد جهيد بوجهها الشاحب ومنظرها المرعب تسير على غير هدى...

وبدلا من ان تعود تلك العجوز الي منزلها وهي على ذلك الحال، اتجهت لغرض في نفسها، صوب بيتنا، الذي لا يبعد عن مكان سكناها سوى أمتار قليلة، مسافة قصيرة قد لا تتجاوز الثلاثون مترا...ودخلت على امي الباب مسرعة، دون اذن، او احم، او دستور...وكأنها عفريت من الجان، خرج لتوه بصورته المخيفة من الحكايات...وداهمتها على حين غرة في فناء الدار...فكان الذي كان...

وكأن زلزالا من قياس عشر درجات على مقياس رختر قد ضرب الأرض وحرك الاشياء...فاهتزت اركان المكان...واهتز قلب امي بشدة غير مسبوقة...وقفز نبضه على سلم الدرجات...وتسارع الى ارقام فلكية...وكاد ان يحدث فيه انفجار بركاني عنيف...

حاولت امي الهرب وهي فزعة وقد ظنتها عفريت من الجان...لكن تلك العجوز الشمطاء وبدلا من ان تتراجع الي الوراء...سارعت الي الامام باتجاه امي الخائفة، المفزعة، المرتجفة...لتضمها الى صدرها...ولكم ان تتخيلوا وقع تلك الضمة القاتلة...ووقع ذلك الزلزال العنيف على قلب امي، وعقلها، وقد أصابها الفزع والذهول لما جرى...حينما تمثلت لها تلك العجوز عفريت من الجان...

زلزال مدمر لا بد انه ساهم في موتها ولو بعد حين...لا بل إن لم يكن هو السبب الذي أدى الي قتلها في نهاية المطاف...وان كتبوا في شهادة الوفاة بأنها ماتت بالسكتة القلبية...او ربما لأسباب أخرى طبيعية...

زلزال عنيف لا بد ان تبعه تسونامي من الاثار والاحداث...ستظل حتما باقية، وقد انطبع في البصمة الوراثية...ما بقي الزمان والمكان...

يتبع..

قديم 03-15-2016, 04:07 PM
المشاركة 54
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



امرأة أخرى من الحي، وبيتها لا يبعد سوى بضعة أمتار عن بيتنا، وهي من صنف آخر مختلف من النساء، ومصدر اشد قسوة، وأبشع من البلاء...عيناها الجميلة تقطر شرار مستطيرا، وحتما هي لم تكن اقل شرا وتدميرا...وكان سلاح هذه المرأة العيون، وليس السخام، والرماد، والجنون...

امرأة أخرى فتية بعيون زرقاوية، او ربما هي خضراوية او بين هذا وذاك...المهم انها عيون بألوان سحرية، وبقدرات جهنمية، وشيطانية فوق عادية...واسنانها فرق بكل تأكيد وبصورة ظاهرة وجلية...

وقد تأكدت من ذلك شخصيا حين دنوت منها الى حد كبير، مخاطرا بكل شيء لأقطع الشك باليقين ولأعرف ان كان فيها فعلا ما يقال عن الحساد...وأنتم حتما تعرفون ماذا يقولون في الامثال الشعبية عن اصحاب العيون الزرق، والاسنان الفرق؟

نعم...انهم اشخاص يمتلكون عيون بقدرات سحرية فوق طبيعية...واشعة ليزارية فوق بنفسجية...إذا ما سلطت هذ الاشعة على الجمل ادخلته القدر...وإذا ما سلطت على الانسان ادخلته القبر...

انه الحسد...آفة رهيبة اظنها تعصف بالمجتمعات الصغيرة، المنفتحة على بعضها البعض، حيث لا خصوصية ولا اسرار...والابواب مشرعة مفتوحة امام الجميع وفي كل الأوقات...

وقد ابتلينا بهذا المرض في قريتنا في ذلك الزمان، وعصف في بيئتنا المحيطة، وأقلق راحتنا...واظنه في أحيان كثيرة كان يسقطنا ارضا، ويهشم أيدينا، وارجلنا، وروسنا، ويشوه وجوهنا...ويطرحنا أحيانا أخرى مرضى لأيام واسابيع...وربما ادخل البعض القبر...كما ادخل الجمل القدر...

حيث يشاع ان ذلك الجمل الذي كنت قد حدثتكم عنه، والذي قلت لكم انه تزحلق على صخور بئر حارس الملساء، وذبحه صاحبه على إثر ذلك، وفرق لحمه على سكان القرى المحيطة والمجاورة... لم يكن في حقيقة الامر قد تزحلق، وان الصخور من تلك التهمة براء، وانما كان ذلك الجمل ضحية من ضحايا الحسد من النوع الفتاك...وان زحلقته كانت بفعل فاعل...جريمة ارتكبها صاحبها مع سبق الإصرار والترصد، رجل حسود...وتهمة عليها شهود...

حيث يقال ان رجلا ممن عرف عنهم امتلاك مثل تلك القدرة السحرية، الشيطانية، سأل الرجال وهم مجتمعين في المضافة...ان كانوا يرغبون بالأكل من لحم ذلك الجمل الذي كان قد مر بالقرية في ظهيرة ذلك اليوم وشاهده الناس؟

فقالوا له نعم...وربما قالوها له، وقد اتخذوه سخريا...فما كان منه الا ان جمع امامه كومة من التراب، وجعله على شكل سنام الجمل...وقال بصوت مرتفع وهم يستمعون" يقطعك يا ذلك الجمل ما اجملك!!!"...

وما هي الا ساعات قليلة حتى وصل لحم ذلك الجمل الي القرية، حيث كان ذلك الرجل الحسود قد رماه بساهم عيونه الحاسدة القاتلة، فطرحه ارضا، وكسر قوائمه فما عاد ينفع معه الا السكين لترحيه من الكسر والوجع والانين...قتله واوصل لحمه القدر بشر حسده المستطير اللعين...

وان كنت لا أستطيع تأكيد تلك الرواية، واجزم بمدى دقتها وصحتها...وهل فعلا كانت رواية واقعية، وحدثت كما قيل ويقال...ام هي قصة من نسج الخيال...وان ذلك الرجل لم يكن قاتلا، بل هو ضحية من ضحايا القيل والقال...لكنني أستطيع ان أؤكد أثر الحسد الذي شاهدته بعيني...وامام ناظري...

وما تلك المرأة الحسودة التي خفتها طوال سنوات طفولتي وخاف الناس من حولي، وقد شاء القدر ان يكون بيتها قريب من بيتنا...وكانت كثيرا ما تعبر فناء دارنا متخذة منه طريقا مختصرا تعبر من خلاله لقضاء بعض شؤونها...ما تلك المرأة الا نموذج للحساد واظنهم كانوا كثر في ذلك الزمان...

فقد كنا نعجب نحن سكان ذلك الحي من قدرة تلك المرأة اشد العجب...ومن واقع ما سمعنا، وعرفنا عنها، ولمسنا وشاهدنا بأم اعيننا ما تستطيع فعله بقدرات عيونها السحرية...الشيطانية الجهنمية...

رغم اننا كنا حريصين اشد الحرص على تجنبها بكل الوسائل، والحيل...حتى أننا كنا إذا شاهدنا زوالها ات من بعيد...عدنا من فورنا...ندير لها ظهورنا ونرجع من حيث اتينا...سالكين طريقا اخر ومحاولين تجنب شرها وشر عيونها الفتاكة بك الاساليب...وإذا ما استشعرنا وجودها في مكان نفر منه هاربين بسرعة ريح عاصفة، ونحن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم...

فلم يكن لدينا شك بقدراتها السحرية، وقد شاهدنا آثرها مرارا وتكرارا، على الانسان والحيوان فينا وفي بيتنا وفي الأشياء حولنا...
وفي زمن لاحق اذكر انني وفي أحد الأيام، وانا ما أزال اذكر تلك الحادثة تماما، وكأنها حدثت بالأمس القريب، وما تزال غضة، طرية...وكنت اجلس انا وأخي محمود الأكبر سنا، على الصخور الكائنة على جانب الطريق الواصل الي بيتنا، تلك الصخور التي كان الناس يضعونها للجلوس عليها امام المنازل وفي الطرقات يتسامرون خاصة في ساعات المساء...ومر من امامنا طفل من أبناء الجيران ويبدو انه كان عائدا من الدكان...وكان مهندما، نظيفا، جميلا، يحمل في يده لعبة، او بعضا من الطعام، وكان يسير وهو يشع بهجة وحيوية وسرور...وكأنه فرخ حمام...

وقد انتبهنا حين ظهرت تلك المرأة الحسود فجأة...وما هي الا لحظات حتى سلطت سهام عينيها عليه...واخذت تحدق فيه، واستنفرنا من الخطر الزاحف ونحن نحاول الانزواء بعيدا عن عينيها ونتمتم بآيات قل اعوذ برب الفلق...

واستشعرنا بأن كارثة على وشك الحدوث، وعرفنا بانها لا بد واقعة، من واقع التجارب الماضية...فصرنا نرقب الموقف بعيون فاحصة، ومتأملة، وخائفة على مصير ذلك الغلام المحتوم الذي كان يتقافز مثل طائر الريكزان ...

وصرنا نتهامس ونعد لسقوطه عدا تنازليا، ونحن متأكدين اننا على وشك مشاهدة تلك المرأة وهي تمارس سحرها، وتنفث حسدها...منتظرين الكارثة التي على وشك الحصول...عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد...

وسقط ذلك الغلام على الأرض كما توقعنا...فأسهم عيون تلك المرأة الحاسدة تصيب دائما ولا تخيب ابدا...

يتبع...

قديم 03-17-2016, 02:49 PM
المشاركة 55
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

ولم تكن عيونها لتصيب البشر من دون الحيوانات، والشجر، والحجر ايضا...فقد كانت بقرتنا والتي كنا نسميها (العسله)، من الأهداف التي ابتليت بشر حسدها المستطير، وهي بقرة جميلة من أصول هولندية بألوان جذابة، أرضية بيضاء، وبقع سوداء، ودرة حليب كبيرة، ربما هي الأكبر من بين الابقار التي كانت في القرية، وكانت تعمل اعمال شاقة واهمها حراثة الأرض ودرس القش بعد الحصاد، وكانت تنجب كل عام، وتعطي حليب بسخاء وكرم، كان يكفينا ونبيع ما يزيد عن حاجتنا منه ومن مشتقاته، البان واجبان لذيذة وشهية...

وفي أكثر من مرة كانت تتوعك فيها صحة تلك البقرة الودود، الولود، الحلوب، وتصبح غير قادرة على السير والنهوض، خاصة بعد ان يشيع خبر انجابها وانا شاهد على ذلك ورايته بأم عيني...

ويشهد اخى احمد بأنه شاهد بأم عينه ما جرى من اثر للحسد على تلك البقرة في مرتين على الاقل والذي جرى كما يرويه بأنه شاهد اخي الاكبر وهو يحلب البقرة العسله، وكان الحليب ينزل من بين اصابع يديه بغزارته المعتادة، حارا، شهيا، واثناء عملية الحلب تلك، مرت تلك المرأة الحسود من فناء الدار دون استئذان وشاهدت ما كان يجري، وفورا كان الحليب ينقطع، ويتوقف عن النزول، وكان درة الحليب جفت فجأة...

وكانت عمتي حليمة هي المنقذ في مثل تلك الحالات، نستنجد بها ونسارع اليها في طلب المساعدة بدلا من الذهاب الي الطبيب البيطري، والاهل على قناعة بأن المكروه الذي أصابه البقرة نتج عن سهام الحسد القاتلة...حيث كانت عمتي تقوم بممارسة طقوسها الشعبية لرد العين وإزالة الحسد...

وكنت ارقب تلك الطقوس وانا غير مصدق على قدرتها تحديد ما أصاب البقرة، وغير مصدق بأن فيها الشفاء...حيث تأتي عمتي بجمرات من نار متقدة تضعها في مكان قريب من البقرة الضحية، وتأخذ في قراءة بعض الآيات القرآنية عليها، وربما بعض الادعية الأخرى التي كانت تبدو مثل طلاسم بالنسبة لي وانا في تلك السن المبكرة، ثم تقوم على رمي حجارة من الشبة البيضاء اللون في النار ...وتتابع القراءة والدعاء على ما اظن...وما هي الا لحظات حتى يحدث صوت في النار هو اشبه بصوت انفجار صغير...فتنظر في النار صوب حجارة الشبة التي تنطق على ما يبدو بسر الوعكة الصحية التي اصابت البقرة...فان كان سبب مرض تلك البقرة وتوعكها هو الحسد كانت الشبة تتشكل بعد انفجارها على شكل عين بشرية واضحة جلية، واذا ما حصل ذلك تكمل طقوسها بالقراءات والادعية المخصصة لرد سهام العيون الحاسدة...

والعجيب انها كانت على ما يبدو تصيب في كل مرة، وما ان تنتهي من طقوسها حتى يحدث تغيير فوري على صحة البقرة، إذا جزمت بأن البقرة أصيبت بالعين من واقع ما يحدث لحجر الشبة في النار... ثم ما تلبث البقرة ان تتماثل للشفاء التام وكأن شيئا لم يكن...وكأن عمتي كانت تمارس نوع من الطقوس السحرية ذات الأثر العلاجي السحري الفوري...وللأسف لم يعد الناس يمارسون مثل تلك الطقوس التراثية الشعبية الجميلة...ولا اظن ان أحد حتى يعرف ما طبيعة تلك الادعية التي كانت تقال في مثل تلك المناسبة...

وقد شاهدت هذه الطقوس بأم عيني أكثر من مرة وانا شاهد عليها...كما انني كنت اترقب على أحر من جمر تلك النار ما سيحدث لكتل الشبة التي كانت تلقيها عمتي في النار، وشاهدت كيف كانت تتحول بعض حجارة الشبة الى جسم على شاكلة عين الانسان...مما جعلني اقتنع بالمطلق بقوة العيون الحاسدة وسهامها الفتاكة وقد عرفت واختبرت ما يمكنها ان تفعل...وصرت اخشاه اشد الخشية واستمر ذلك طوال حياتي وحتى هذه اللحظة...

وما هذه المرأة الا مثال واحد على امتلاك البعض لقدرة الحسد، وما يستطيع فعله الحساد واظنهم كانوا كثر، وكأن في كل حارة حاسدها...ودرويشها...

وكنت إذا اشيع عن شخص انه حسود اتجنبه بكل الوسائل ولو كان اتهامه بالحسد من باب الحقد والغيرة والقيل والقال وتحت قاعدة ألف جبان ولا الله يرحمه...حتى انني كنت امتنع عن المرور في الأماكن التي يحتمل ان يكون فيها مثل ذلك الحاسد حتى لا التقيه صدفة...

وكان الناس يمارسون طقوس عديدة في سبيل حماية أنفسهم من كيد الحاسدين وسهام عيونهم الشريرة...ومن تلك الطقوس ارتداء الاحجبة، والتعاويذ، والطلاسم ومنها الخزرة الزرقاء...وفي أحيان كثيرة كنت انا شخصيا ارتدي طلسما عبارة عن عقد تبرز فيه حبة زرقاء كان يقال لنا انها ترد تلك الطاقة الفتاكة التي تنبعث من العيون الحاسدة الي صاحبها او على الأقل تغير اتجاهها وتشتتها فلا تعود قادرة على الفتك بنا...

والصحيح ان خوفي من الحسد ظل معي طوال عمري...رغم انني لم اعد استخدم تلك الطلاسم منذ وقت بعيد...بل طورت من أدوات حماية نفسي من اخطار الحساد بترديد المعوذات وقول الادعية الشرعية الأخرى المعروفة، ولو انني كنت اضطر أحيانا للجوء الي الطقوس التراثية، والتي كانت منتشرة على النطاق الشعبي، إذا ما تفوه شخص امامي بما يؤشر الي حسده، وبحيث استشعر خطورة تلك الطاقة المنبعثة من عيونه، او حتى من كلماته وان لم يكن بعيون زرق واسنان فرق...ومنها الرقيات الشعبية التي يمارسها بعض الدراويش وان كانت ثقافتهم تعادل الصفر...

وحتى انني عندما أصبحت رجلا متعلما، واسع الثقافة على ما اظن...ظل خوفي من الحسد قائما، وكنت الجأ أحيانا للعلاج بالطريقة الشعبية...وكنت ابحث عمن يتقن تلك الرقيات ليمارس طقوسها علي...حيث أسلم الدرويش رأسي ليقرأ عليه...وكنت احيانا اذهب لمثل تلك الغاية عند قريبة لنا درويشه اسمها امنة الشريف...والتي كان يشاع عن قدرتها على رد الحسد وازالته... فرغم انها كانت امية، لا تقرأ ولا تكتب، لكنها كانت تتقن ادعية عجيبة غريبة، بكلمات مسجوعه، وموزونة، ومنمقة، ولها وقع شديد على النفس...وظني انني ما كنت لأحفظها حتى لو جربت، ولكني لم أحاول حتى معرفة تفاصيل ما تقوله...والمهم عندي كان دائما تلك الهالة من الطاقة الإيجابية التي كنت استشعر بأنها أصبحت تغمرني وتلفني وترد عني كيد الحاسدين وسهام عيونهم الفتاكة...

لقد كان الحسد في طفولتي مصدر خوف بالنسبة لي وكان حتما آفة خطيرة، ومرض اجتماعي فتاك...وقد طور الناس للوقاية منه وعلاجه طقوس عديدة وادعية عجيبة ومؤثرة...وعلى الرغم من ان نور المعرفة والعلم تمكنا مع الزمن من إزالة الخوف من الكثير من الخرافات...ظل الحسد وما يزال مصدر خوف للكثيرين ...

واشد ما أمقته هذه الأيام هو ذلك الطبع من أحد الأشخاص الذي سبق ان تعرفت عليه بحكم الزمالة في العمل ثم افترقنا كل في سبيله،وهو صاحب عيون زرق وعيون فرق،، وما ان يراني في الطريق صدفة حتى يسأل سؤاله المعهود كيف: الأولاد؟ ويكون هذا دائما فاتحة كلامه وعتبة حديثه، وكأنه جهاز كمبيوتر مبرمج على ذلك الطبع بشكل مطلق لا فكاك منه، حيث يحرص عليه ويقدمه على كل الكلام الاخر...سؤال متعب بالنسبة لي أحس في نبرته بانه ينم عن حسد بين، وما ان اسمعه من جديد حتى يزلزل كياني وابدأ في قراءة كل الآيات والتعاويذ التي امل ان تحميني وتحمي اهلي واولادي وان كانوا على سفر وبعيدين بعد المشرقين والمغربين...

والصحيح ان قصصي مع الحسد كثيرة ومتعددة...وبعضها واضح، ومذهل في طبيعته، ووقعه، واثره، وكأنه ينفذ حتى من اسوار النور التي يعتقد الانسان انها يبنيها حول نفسه، وتصبح تحيط به، وتلفه، بقراءة التعاويذ والاحراز...ولا عجب اذا ان يكون سلاح العيون الفتاك هذا سببا في دخول كثيرين القبور...

يتبع...

قديم 03-20-2016, 06:52 AM
المشاركة 56
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
لقد كان الحسد في طفولتي مصدر خوف بالنسبة لي وكان حتما آفة خطيرة، ومرض اجتماعي فتاك...وقد طور الناس للوقاية منه وعلاجه طقوس عديدة وادعية عجيبة ومؤثرة...

وعلى الرغم من ان نور المعرفة والعلم تمكنا مع الزمن من إزالة الخوف من الكثير من الخرافات...ظل الحسد وما يزال مصدر خوف للكثيرين ...
أسعد الله أوقاتك أخي أيوب
من الواضح من السرد أن طفولتك كانت مليئة بالرعب والخوف ..
وجميل جداً أن يكون نور العلم والمعرفة هو العلاج الناجع لتلك المخاوف التي تسببت لك بالحسد والعين
علماً بأنه كما يقال - ثلث القبور من العيون -
الحمد لله أنه الله سلمك وتسلحت بسلاح العلم للقضاء على هذه المخاوف
بارك الله فيك ...
الآن سؤال أراه مهماً ..
ما الذي جعلك تفكر كثيراً في موضوع الأيتام ؟؟
هل سبب ذلك كونك يتيماً أم أن هناك ظروفاً أخرى ساهمت في ذلك التفكير ..
لأني أرى أن معظم موضوعاتك لها علاقة بهذا الجانب .. حتى تعليقاتك على أي موضوع تربطه بذلك
ويسعد أوقاتك



تحية ... ناريمان الشريف

قديم 03-21-2016, 02:18 PM
المشاركة 57
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
اشكرك استاذة ناريمان

صحيح ان مخاوفي تكاد تكون تلاشت من كثير من مصادر الخوف التي عيشت في ظلها لاسبب عديدة من الوعي والمعرفة لكنني اميل الي تأيد ما جئت به حول الحسد وقولك من ان ثلث من في المقابر من الحسد، وحقيقة لا اظن ان الحسد ينتهي ما دامت الدنيا قائمة، حتى انني لاظن بأنني ما ازال بشكل او بأخر ضحية من ضحاياه والله المستعان على الحسد والحساد..


اما بخصوص سوالك
"ما الذي جعلك تفكر كثيراً في موضوع الأيتام ؟؟ هل سبب ذلك كونك يتيماً أم أن هناك ظروفاً أخرى ساهمت في ذلك التفكير ..؟ لأني أرى أن معظم موضوعاتك لها علاقة بهذا الجانب .. حتى تعليقاتك على أي موضوع تربطه بذلك ؟

- حتما كوني يتيم واحدة من اهم العوامل، ثم ان الطريقة التي توصلت فيها الى احتمال وجود علاقة بين اليتم والابداع الادبي جعلتني اهتم بالبحث في هذه القضية وهي حينما كنت اطلع على سيرة حياة الاديب الروسي تولستوي فوجدته فقد الام في سن مشابهه لسني اي في الثانية ولم ير صورة لها وانا كذلك من هنا تولد لدي فضول شديد حول القضية وكرست لها الكثير من الوقت ثم ركزت عليها من خلال دراستي الادب الانجليزي في البكالوريوس ثم خصصت بحثي في الدراسات العليا في محاولة لأثبات الفرضية ان هناك علاقة بين اليتم والابداع الادبي...ولكني وجدت حينما انجزت رسالة الماجستير بأن الاجابات التي حصلت عليها غير كافية وعلى الرغم ان رسالة الماجستير اعتمدت ووافقت اللجنة على الفرضية اي ان هناك علاقة بين الابداع وتجربة فقد من نوع ما...
لذلك استمريت في البحث وكان هدفي تقديم دليل احصائي على اقل تقدير ومن هنا صار همي ان اختار عينه موضوعية حتى احصل على نتائج علمية باستخدام الاسلوب الاحصائي في الدراسة وبالصدفة وقع تحت يدي كتاب اعظم 100 شخصية في التاريخ لمايكل هارت وبعد ان تبين بأن 54% من المشمولين في الكتاب ايتام مسجل يتمهم على الانترنت وان الباقي مجهولي الطفولة الا اثنان من المئة عاشوا في احضان والديهم لذلك صارت قناعتي بتلك العلاقة شبه مطلقة بانتظار اجراء دراسات علمية مخبرية تؤكد ما توصلت اليه في الدراسات الاحصائية.

هذا التراث البحثي اوصلني الى قناعة بأن القضية وهي " وجود علاقة بين اليتم والعبقرية" غاية في الاهمية ولا بد ان يهتم بها المجتمع...وهذه الاهمية تكمن في ان على الناس ان تعي بأن اليتيم هو مشروع انسان عظيم فاهم القادة والعلماء والادباء واي مجموعة من المجموعات التي تتصف في العبقرية في مجالها جاءت من بين الايتام حتى ان الانبياء اولى العزم كلهم عاشوا طفولة في غياب الاب وفي ذلك ما يؤشر الى اهمية اليتم في صناعة الشخصية الانسانية.

وعلى الرغم انني كرست كل حياتي لهذه القضية لا اعتقد انني اوفيتها حقها ولا بد من الاستمرار في التركيز عليها حتى تصبح جزء من المواد الدراسية على المستويات الجامعية وحتى تعم الثقافة التي تؤشر الى وجود تلك العلاقة فينعكس ذلك على اسلوب تعامل الناس مع شريحة الايتام خاصة في دور الايتام التي ارى بأنه يجب ان يبدل اسمها بدور الابداع وتلعب دور التأهيل المعرفي لمشاريع العظماء...وربما تقام مدن للابداع عند توسع القناعات وبهدف لتأهيل الايتام ولغاية الاستفادة القصوى من طاقات اذهانهم اللامحدودة...

اتصور ان يد واحدة لا تصفق ولذلك اسعى دائما لخلق الوعي بالموضوع والاهتمام به ايضا وانا بصدد التنسيق مع كلية علم النفس في جامعة النجاح من اجل اجراء دراسات حول الموضوع وعلى امل ان نخلص الي وضع كتاب دراسي على المستوى الجامعي في علم سيكولوجية الايتام...

لقد كتب من دون شريعة حمورابي على الحجر بأن تلك الشريعة وضعت من اجل حماية اليتيم والارملة ولكن بعد كل هذه القرون ما يزال اليتيم والارملة يعانون الامرين، وأملي ان أسهم في تأسيس تراث يؤدي الى حماية اليتيم والارملة، ويوفر لهم الوعي المجتمعي بأهمية دورهم في المجتمع وبالتالي التعامل معهم من منطلق الدور المهم الابداعي يوالعبقري الذي يمكن لليتيم ان يلعبه في المجتمع...فعقول الايتام اداة التطور الحضاري الاهم...

ثم اظن بأن كل انسان يعيش من اجل قضية مركزية ما ويكرس كل حياته وجهده لها، وانا اخترت هذه القضية لأنني وكما أقول في آخر جملة من كتابي " الايتام مشاريع العظماء" ان اهم استثمار يمكن ان يقوم به الانسان هو الاستثمار في ذهن يتيم...

ولعل الفائدة تكون دنيوية واخروية....
ولك التحية ،،،

قديم 03-23-2016, 03:08 PM
المشاركة 58
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
لا اعرف ان كان نشري لمذكراتي بهذا الاسهاب ما يزال يروق للمتلقين الاحبة هنا زوار منابر... ولا اجد غضاضة في ان اجيب على اي سؤال يمكن ان يطرح اثناء استمراري في نشر مذكراتي وعلى شاكلة سؤال الاستاذة نريمان السابق.
لانني وجدت في نشر هذه المذكرات هنا حافزا يعينني على استكمال هذا المشروع الذي آمل ان يتحول الي نص سردي جميل في صيغته النهائية وفي نهاية المطاف...
اهلا وسهلا بكم وشكرا لكم على الدعم والمساندة ...

قديم 03-23-2016, 03:10 PM
المشاركة 59
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


وكانت عمتي حليمة هذه واحدة من مجموعة نساء أحاطت بي في سنوات طفولتي الأولى، نساء ربطني فيهن صلة القرابة، جلبن لي الكثير من البهجة والسعادة على الرغم من حياة البؤس والشقاء التي كن يعشن بها والتي كانت بائنة وواضحة في حياتهن وملامحهن...وعلى الرغم من المآسي التي عصفت بهن، وحولت حياتهن الي كرب ومعاناة...

وكانت تلك العمة حليمة، صلبة، قوية الشخصية، صاحبة عزيمة، وشكيمة، وحكمة، وكرم، حتى انهم كانوا يلقبونها بأخت الرجال بسبب سمات شخصيتها القيادية، وكانت بالنسبة لوالدي الحصن الحصين في الدفاع عنه والوقوف الي جانبه في ازماته، وهو الذي لم يكن له اخوة او اخوات سواها، مما جعلها عزوته الوحيدة خاصة انه لم يكن له اعمام او عمات، وكان له خال واحد كفيف مات مبكرا...

فكانت هذه العمة حليمة، ام نايف، السند والداعم والمدافع الشرس عنه خاصة في المواقف الصعبة التي كانت تتمثل في الحجز على املاكه كنتيجة لعدم قدرته على تسديد الديون الربوية التي كان مضطرا لأخذها لعلاج والدتي حينما مرضت، تلك الديون التي سلبته في نهاية المطاف جزءا عزيزا غاليا من ارضه المزروعة بأشجار الزيتون...

وقد كنت في طفولتي المبكرة شاهدا على احد عمليات الحجز هذه حيث حضرت الجهات الرسمية، وقامت بعملية جرد لكل شيء كان له قيمة في البيت وتم الحجز عليه بما في ذلك خزانة الملابس ولو انها كانت شبه بالية، ولم يكن الهدف طبعا تلك الأشياء ذات القيمة المادية المتدنية ولكن الغاية كانت اجباره على التنازل عن الأرض مقابل ما عليه من دين ربوي ارتفعت قيمته في سنوات قليلة اضعاف مضاعفة...وهي تجربة لو تعلمون شديدة الوقع والالم على النفس لا يمحى اثرها ابدا خاصة على طفل صغير في السن شاهد قوة امنية وهي تنتهك بيت والده وتحجز على ممتلكاته وتهدده بالحجز والسجن...
ولا بد ان عمتي هذه كانت قد اكتسبت قوة الشخصية تلك من الواقع العام الصعب بل المرير الذي مر به العالم ككل في القرن العشرين، وانعكس على فلسطين كونها مركز العالم القديم، والأرض المقدسة، التي ظلت محط أطماع الكثيرين على مر السنين...

فقد شهد القرن العشرين حربين عالميتين جلبتا الدمار والقتل والمآسي والفقر والعوز...ومن حكايات العوز التي رواها لنا والدي عن فترة الحرب العالمية الاولي والمعروفة لأبناء فلسطين (بسفر برلك) ان الناس أصابها جوع فظيع حتى ان الناس كانوا يبحثون عن حبات الشعير في براز البقر لكي يجمعوه ويجعلوه خبزا يعتاشون عليه...

ثم شهدت فلسطين تنفيذا لوعد بلفور المشؤوم، والذي احتل الجراد من الصنف البشري على أثره المناطق الخصبة من فلسطين الساحلية كمرحلة أولى وبصورة تدريجية خبيثة، ثم وبعد سنوات استكمل الجراد السيطرة على باقي الأرض الفلسطينية الداخلية، والجبلية والمزروع اغلبها بأشجار الزيتون... وكانت محصلة ذلك كله بؤس وشقاء والم للإنسان الفلسطيني بشكل عام والذي عانى من الهزيمة والتشرد...ولا بد ان ذلك أصاب حياة الانسان الفلسطيني في الريف بمقتل وحول حياته الى ما يشبه الجحيم..

ولكن الوضع العام لم يكن هو مصدر الألم الوحيد لعمتي حلمية فقد قيل لي بأنها واجهت تجربة فقد مريرة في بداية حياتها الزوجية الأولى وكانت حينها صبية في مقتبل العمر، حيث كانت قد تزوجت من رجل من قرية مجاورة، يبدو انه كان مغرورا بقوته البدنية، او ربما خانه ذكاءه في لحظة غفلة قاسية، او ان عيون حاسده فتكت به...

حيث قام على ما يبدو بربط حبل الرسن لثور قوي على وسطه كان يجره وهو ينقله من مكان الي اخر...وما لبث ذلك الثور ان هاج وماج بعد ان هاجمته حشرة صغيرة تشبه النحلة، لكنها لا تهاجم الا الحيوانات وخاصة البقر منها، وتصدر هذه الحشرة الطائرة والتي تسمى محليا (الكيكوبة) صوت زنة اشبه بالرنين وهي تطير، وتحلق باحثة عن ضحاياها من البقر، وتظهر أكثر ما تظهر في موسمي الربيع والصيف...

وفر ذلك الثور القوي من حشرة الكيكوبه بطبعه الغريزي محاولا النجاة بنفسه، فسقط ذلك الرجل قوي البنيان على الأرض، واخذ الثور يجره وهو هارب من ملاحقة تلك الحشرة وصار الجار مجرورا...ولم يتوقف الثور حتى كان ذلك الرجل قد فارق الحياة من شدة ما أصابه من ارتطام وكدمات وكسور في انحاء جسمه...لتصبح عمتي حليمة الصبية الوحيدة عند والديها ارملة في مقتبل العمر، ولم يمض على زواجها سوى بضعة أشهر فقط، فهي حتى لم تكن قد انجبت من زواجها الأول...لتعود من توها وعلى أثر مقتل زوجها الأول الي منزل والديها وهي ارملة مكسورة الخاطر...

ولكم ان تتخيلوا صعوبة ان تكون المرأة ارملة في ذلك الزمن المر...حيث كانت المرأة تتحول في مثل تلك الحالة الي عبء اجتماعي يسعى الاهل الي التخلص منه مهما كلف الامر لقطع السنة الناس، ووقفهم عند حدهم في مسألة القيل والقال...فكانت زيجتها الثانية مرتبة من شخص بسيط وفقير الحال ما كان ليقوى على زواج من صبة بكر...حيث قام جدي على شراء ارض قريبة من منزلنا من مختار القرية خليل اليونس بقيمة ستة دنانير كما هو مدون في حجة الارض، وبنى لها بيتا ملتصقا ببيت والدي، وكان ذلك البيت عبارة عن غرفتين من الحجر والطين وساحة وطابون خبيز وبئر ماء محفور في الارض...ثم اشترى لهما بقرتين ليعتاشا من كدهما وانتاجهما... وعاشت هي مع زوجها الثاني حياة الفلاح البسيط...حياة بؤس وشقاء مليئة بالفقر والمعاناة...وكان يعينها على تلك الحياة وتلبية متطلباتها المادية جدي ووالدي، وكأنها ما زالت عزباء تسكن في بيت اهلها...

ومن النوادر التي تؤشر الى وحدة الحال في ذلك الزمن بين عمتي ووالدي ما أخبرني به أحد أبناؤها، ابن عمتي صالح، حيث أعلمني بان جدي كان اذا اصطاد العصافير في موسم التين يقوم على قسمة حصيلة صيده والذي كان يصل في أحيان كثيرة الى 300 عصفور في المرة الواحدة وفي اليوم الاحد بين الاسرتين...نصفها لأحفاده من الابن ونصفها الاخر لأحفاده من البنت الوحيدة...

ولكن ذلك لم يكن الشيء الوحيد الذي يؤشر الى وحدة الحال فقد كان روزنة القمح، وخوابي الحبوب والطعام وبراميل الزيت، وانية العسل مفتوحة لها على مدار الساعة، ولو ان ذلك لم يعد يحظى بموافقة خالتي زوجة ابي الثانية، والتي حلت محل امي بعد موت جدي بعامين وبعد موت امي بأيام...وكانت خالتي تقاومه ضمن حدود لا تتسبب بالقطيعة، لتتمكن في نهاية المطاف من وضع حد له خاصة بعد ان تغيرت ظروف عمتي الي الاحسن، واصحبت في بحبوة من العيش بمساعدة أبنائها الذين اصبحوا مقاولين فاعلين ومنتجين يعملون في مجال المقاولات...حتى ان ابنها الثاني صالح، اصبح مع الأيام واحدا من اغني أبناء المنطقة قاطبة يدير مجموعة مشاريع تشغل مئات العمال وتدر أرباحا طائلة...

عاشت عمتي حليمة حياة بؤس وشقاء وفقر مرير معظم حياتها...الى ان تبدل حال اسرتها في زمن لاحق وبعد ان شاخت تقريبا، لكنها حتى في ذلك الزمن ظلت تعيش حياة الفلاحة الصعبة بكل ما فيها من ظلف العيش، وسقطت في أحد الأيام وقد تجاوزت السبعين...وانا ما ازال في المدرسة الثانوية على أثر جلطة دماغية اصابتها وهي تعمل في ساحة الدار تحت اشعة الشمس الحارقة تدق القش لتوفير مونة طابون الخبز...

وظلت على أثر ذلك مطروحة الفراش، في حالة شلل شبه تام لسنوات طويلة لاحقة كنت أجد في اثناءها صعوبة في زيارتها، وهي طريحة الفراش وأسيرة المرض الذي اقعدها وشل حركتها وجعل لسانها يتحرك بصعوبة، وكلامها لا يكاد يكون مفهوما...وذلك لعدم قدرتي على تقبل ما أصابها وجرى لها وعدم استطاعتي مشاهدتها وهي طريحة الفراش، ضعيفة مسكينة وقد عرفتها في طفولتي المبكرة تلك المرأة القوية، المقدامة، الحانية، الحنون، صاحبة الكبرياء، وعزة النفس، ذات الإرادة والعزيمة قل شبيهها...لتصبح كسيحة، مسلوبة القوى تنتظر الموت لعله يخلصها مما أصابها...

واذكر تماما انني كنت اشعر بدفء خاص جدا وانا بقربها، على الرغم امن فارق العمر حينما أصبحت أدرك الأشياء من حولي...وكان الوقت الذي كنت امضيه في منزلها من أجمل الأوقات وأكثرها دفئا وحنانا وسعادة...وكانت كريمة معي معطاءة لا تبخل علي بشيء ابدا...حتى انني كنت اذهب اليها لتعيرني دراجة ابنها الأستاذ صايل خلسة، وما كانت لتمنعها عني ابدا رغم انني لم أكن طويلا بما يكفي لركوبها حسب الأصول المتعارف عليها، ومن خلال الجلوس على كرسي السائق، وانما اكتفي بركوبها وانا أقف على البدالات او اجلس على المساورة التي نسميها جحش الدراجة لكي أتمكن من الوصول الي البدالات وتحركيها لتندفع العجلات...

لقد ملأت عمتي حليمة طفولتي بهجة وسعادة وسرور لا اظن انها اختبرتها هي بنفسها طوال عمرها لان ظروف حياتها كانت أصعب من ان يحتملها انسان...وماتت عمتي حليمة اثناء دراستي الجامعية...وحزنت لموتها لكنني لم احضر دفنتها لأنني لم أكن لأستطيع احتمال ان ارها وهي تدفن تحت التراب...



يتبع..

قديم 03-30-2016, 02:12 PM
المشاركة 60
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:



اما المرأة الثانية من ضمن قائمة النساء اللواتي منحنني البهجة والسعادة والمسرة في طفولتي المبكرة وعوضنني قليلا عن فقدان الام، وكن بالنسبة لي بمثابة الام البديلة، ولو ان لا امرأة تستطيع ان تكون بديلة للام، حتى لو كانت كاملة الاوصاف...كانت هذه المرأة ابنة عمتي حليمة واسمها نوفه ام ماجد، وكانت أكبر سنا من أكبر اخوتي، وكانت تبدو لي عجوزا حيث كانت متزوجة ولها أولاد وبنات اكبر مني وهم آمنة وماجد ومسعدة ووسيلة من نفس سني وحسن وهو اصغر مني سنا...وكنت اظن قبل ان ادرك الأشياء حولي بأنها عمتي واخت ابي كما هي عمتي حليمة وليست ابنة لها...حتى ان اخوتي كانوا ينادوها بلقب عمتي احتراما وتقديرا لسنها ولمعاملتها الحسنة لنا...وبقينا على ذلك الحال نناديها عمتي حتى ماتت قبل ثلاثة سنوات تقريبا وبعد ان طال بها العمر واقتربت من المائة الا قليل...

ويبدو ان هذه العمة قد تزوجت في ظروف بالغة الصعوبة...فقد زوجوها وهي صبية بكر لرجل مسن من أبناء عمومتها، واسمه ذيب القره، وكان حينما تزوجها بعمر والدها او ربما أكبر، كما كان أرملا... حيث كانت زوجته الاولى قد ماتت وقد أنجبت له خمسة، او ستة أبناء وبنات...وكانوا جميعا أكبر منها سنا الا احدى بناته وتسمى مريم وكانت آخر العنقود فكانت أصغر منها...

وما كان لتلك الزيجة ان تتم في ظني لولا حالة الفقر المدقع التي كان يعيشها الناس، والظلم الذي كانت تعاني منه النساء في ذلك الزمن، واظنها ما تزال تعاني منه على نطاق واسع خاصة في مناطق الأرياف والمناطق الأقل حظا ليس فقط في فلسطين بل في كافة انحاء العالم...ظروف كانت زيجة البنت فيها تعتبر خلاص بالنسبة لأهلها، يخفف من معاناتهم، ولو ان عش الزوجية كان بالنسبة للبنت في مثل تلك الظروف أقرب الي الجحيم او السجن والقبر...

وكانت عمتي نوفه هذه تسكن في منزل مكون من غرفتين من الحجارة والطين اقيمتا على ظهر بيت قديم، شاهق الارتفاع ويزيد ارتفاعه على خمسة أمتار...وكان على من يريد ان يصل الي تلك الغرفتين ان يتسلق درجا صعبا، لزجا خاصة في أيام المطر والشتاء، وكان مكشوفا من جوانبه، ويطل على الشارع الرئيسي دون ساتر يذكر، وهو مشيد من الحجارة غير المستوية التي تتطلب انتباه شديد حين الحركة عليها خشية من التزحلق...وقد كان صعود ذلك الدرج بالنسبة لي في طفولتي المبكرة عملية مخيفة، اما هبوطه فكان أشبه بمهمة مستحيلة ...

وكان يتبع ذلك البيت القديم وامامه مباشرة ساحة واسعة أقيم الحمام في أحد أطرافها أسفل شجرة توت ضخمة، وكان الوصول اليه عند قضاء الحاجة مغامرة، ويتطلب الكثير من الجهد والانتباه...بينما أقيم الطابون في طرف آخر، كما كانت هناك سقيفة مجاورة للبيت تستخدم لإيواء الخيل الذي كان يمتلكه زوجها، فقد اشتهر بتربية الخيل والاتجار بها...

ثم الحق زوجها الي كل ذلك وفي وقت لاحق غرفة من الطراز الحديث شيدت من الباطون المسلح، كان بابها يفتح على ساحة الدار وغرفة أخرى فوقها أي طابق ثاني، وكان بابها يفتح على الشارع الرئيسي المار من وسط القرية...وكان يستخدمها زوجها لعمله التجاري حيث كان يعمل جزارا إضافة الي استقبال الضيوف، ولعب طاولة النرد مع اصدقاؤه في حالة الانتهاء من بيع الذبائح التي كانت نادرة في ذلك الزمن، ولا تزيد عن ذبيحة واحدة في أيام الجمع...واظنه كان يمضي معظم وقته في تلك الغرفة الخارجية...وقلما كنت اراه في المنزل الرئيسي اثناء النهار...ولا اظنه كان يبقى فيه الا لقضاء حاجاته او عند المبيت وفي ساعات الليل وحينما تحين ساعة النوم...

وكان زوجها من اعيان القرية، ومن كبار ملاك الأرض المزروعة بالزيتون، كما ان أبناؤه الكبار من الزوجة الأولى كانوا من بين اول من سافر الي الكويت للعمل هناك في مطلع الستينيات من القرن الماضي ان لم يكن في الخمسينيات...وفي تقديري كان من اغنى اغنياء القرية، لكن ذلك الغنى لم يكن ينعكس على حياة عائلته، التي اذكر انها كانت تعيش في ذلك الزمن على الكفاف واظنه كان مقترا...ومؤشر ذلك عندي وانا الطفل الصغير وهو الامر الذي انطبع في ذاكرتي ان عائلته كانت تفعل شيئا لم نكن نفعله نحن في بيتنا، ولا اظن انني شاهدت أحدا اخر يفعله سوى بيت عمتي نوفه...فقد كانت عمتي نوفه تقوم بعد غلي الشاي على فرش حثالة الشاي الحلل الذي استخدم للتو في الشمس على صينية من القش لتجفيفه ثم لتقوم على إعادة غليه واستخدامه من جديد مرة أخرى وربما مرات وحتى تتوقف حثالة الشاي عن صبغ الماء باللون الأسود...

كانت ظروف معيشة عمتي نوفه صعبة للغاية، وكانت عمتي نوفه امرأة مكافحة، صبورة، لا تكف عن العمل ابدا...وكانت على الرغم من الشقاء الظاهر لا تغيب عن وجهها الابتسامة ابدا وان غضبت صمتت وربما تأففت قليلا بصوت مكتوم...وكانت كريمة، مضيافة، شديدة الحنان، حسنة المنطق، تبدو اما رؤوما لكل من حولها، وكأنها نبع حنان لا ينضب ابدا...وكانت حريصة كل الحرص على الرغم انها امية على تعليم ابناءها وبناتها...فكانت ابنتها امنة واحدة من أولى البنات القليلات اللواتي التحقن بالمدرسة على الرغم انها كانت مختلطة في ذلك الزمن أي في اربعينيات القرن الماضي، وأنهت المرحلة الابتدائية بنجاح قبل ان تتزوج... بينما تخرج باقي الأبناء والبنات من الجامعات وعملوا جميعا مدرسين...

وعلى الرغم من بيئة العيش الصعبة تلك والظروف القاسية، والاعمال الشاقة كانت عمتي نوفة تبدو سعيدة في حياتها، ولا يظهر عليها أي أثر لذلك الحريق الذي اظنه كان مضطرما في داخلها...بل على العكس اظنها كانت مصدرا ملهما للتفاؤل والحنان، وكنت أحس بدفء ذلك الحنان الذي كان يغمرني حينما اراها...وقد ظل ذلك الشعور معي طوال حياتي حتى ماتت...وكانت دائما ملجأ في لحظات الكآبة...فمجرد الجلوس معها والحديث اليها يهون من اصعب الأمور وأكثرها تعقيدا...واظنها كانت تمتلك حلا بسيط سحريا لأي مشكلة مهما تعقدت واستحكمت حلقاتها...

كانت زيارة منزل عمتي نوفه بالنسبة لي في طفولتي المبكرة شيء جميل ومصدر للسعادة والبهجة، وقد حرصت على تكرارها كثيرا وانا طفل صغير، وكأنني كنت اعوض بلقائها بعضا من حنان الام المفقود...رغم ان صعود الدرج الحجري الواصل الى منزلها كان يعتبر بالنسبة لي مغامرة خطيرة، ومهمة صعبة إن لم تكن شبه مستحيلة...وكذلك كان السطوح المفتوح من الجهة الغربية، والشبابيك الشرقية من غرفة النوم الرئيسية التي لم تكن محمية سوى بأباجور خشبي وكانت هذه ايضا مصدر خوف مستديم ولا ينقطع ما دمت في الجوار...وقد كانت نتيجة أي تزحلق او سقوط من تلك المواقع الموت المحقق حتما...

يتبع...


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: لقاء .. مع الأستاذ الكبير أيوب صابر
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الأستاذ حمود الروقي في لقاء على قناة عالي الفضائية عن الموهوبين علي بن حسن الزهراني المقهى 8 08-11-2012 12:16 AM
مع الأستاذ أيوب صابر .. دعوة للجميع احمد ماضي منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 30 07-10-2011 11:33 AM

الساعة الآن 01:07 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.