قديم 03-28-2012, 12:24 PM
المشاركة 341
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
الكاتب المغربي مبارك ربيع لـ"المستقبل":
تجربتي في الكتابة السردية لم تنفصل عن تصور للحرية والحركية والتجدد






الرباط ـ رضا الأعرجي
تمثل (طوق اليمام) الصادرة عن دار نشر "المركز الثقافي العربي" في بيروت، تجربة متميزة بين أعمال الكاتب المغربي مبارك ربيع. ففي هذه الرواية يخوض تجربة الكتابة عن البحر كعالم جديد ولكن ليس بالموضع الطارئ في ذاكرته، حيث يبدو كحياة يومية، بل الحياة نفسها، إلى الحد الذي يصبح فيه شخصية من شخصيات الرواية.
وكما في أعماله الأخرى، يقدم مبارك ربيع نفسه إلى القارئ ككاتب لا تشكل الكتابة بالنسبة إليه معضلة، حين يختبر عمق القول لا أدائيته أو جماليته، وإذا كان التساؤل حول وظيفة الأدب يشغل اليوم بال الكتاب والمنظرين على السواء، فإن التفكير في جدوى القراءة لن يحتل موقعا مركزيا لقارئ (طوق اليمام)، حين تصبح التجربة الروائية هي التجربة الذاتية. فمن خلال ذاكرة يقظة، يستعيد هذا القارئ، خصوصا إذا كان مغربيا، لحظات وقائع عاشها أو شهد عليها، حيث تقوم الرواية بتنظيم شتات الأحداث وتنسج العلاقات بينها بما يمكن أن يخص ذواتها ومحيطها، لتتحول بالتالي إلى لحظات من ذاكرته.
بدأ مبارك ربيع (الدار البيضاء 1940) مساره الإبداعي منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، وتميز بحصيلة من الأعمال سواء في حقل الرواية، أم في حقل القصة القصيرة، إلى جانب الدراسة والبحث كأستاذ جامعي متخصص في علم النفس، وتوج هذا المسار الحافل بعمله السردي الضخم (درب السلطان) الذي يعتبر أول ثلاثية روائية مغربية، تناولت عبر ثلاثة أجزاء هي (نور الطلبة)، (ظل الأحباس) و(نزهة البلدية) أحد أشهر أحياء مدينة الدار البيضاء، لينصف بذلك المدينة المغربية التي ظلت بعيدة عن الروائيين المغاربة وانشغالاتهم.
في هذا الحوار مع "المستقبل"، يتحدث مبارك عن عمله الأخير وعن تجربته الابداعية والرواية العربية والعالمية وحدود التفاعل الطبيعية بينهما، في هذه المرحلة الحضارية الفاصلة. وهذا نص الحوار:
***
ما هي القيمة المضافة لعملك الأخير )طوق اليمام)؟
ـ روايتي "طوق اليمام" تجربة جديدة في الكتابة الروائية قائمة على نوع من التداخل مع حياة البحر ومن التجربة الشخصية ومن العلاقات ذات الخصوصية المعينة. وتعتبر بالنسبة لي الكتابة عن البحر عالما جديدا وتجربة جديدة، وقد لقيت الرواية من طرف كل الذين اطلعوا عليها استجابة طيبة.
إن هذه التجربة الجديدة تلقي نظرة على مسار معين من مسارات الكتابة الروائية عندنا في المغرب، وأنا معتز بكل الأعمال الروائية التي أنجزتها لكنني اعتقد أن المتعة في قراءة "طوق اليمام"، تتجلى أساسا في قراءتها عبر مرحلتين. في المرحلة الأولى تكون العلاقة مع النص الروائي علاقة استمتاع وتوليد الانطباعات الأولية التي لا تتأسس على التمييز بين المفاصل. إنها مرحلة المتعة الكلية في القراءة. أما في المرحلة الثانية، فتكون العلاقة مع النص الروائي متجهة نحو اكتشاف التفاصيل وتحليل كل ما هو مرتبط بمكونات الحكي الروائي. إنها مرحلة القراءة النقدية.
اللغة والإبداع
كيف تنظر إلى موقع الرواية المغربية من الرواية العربية؟
ـ لا أريد أن أكون في موضع الذين كلما تحدثوا عن كل شيء في المغرب تحدثوا عنه بإظهار جانب القصور. فالرواية المغربية إذا قورنت بالرواية العربية في المشرق خاصة، من حيث الكم ومن حيث الممارسة لا تزال نماذجها قليلة، لكن من حيث الجودة فان هذه النماذج القليلة استطاعت أن تقدم ما لا يقل روعة عن أي نموذج روائي عربي، بل عن أي نموذج غربي. وأنا لا اقصد بالغربي ذلك الذي ينبهر بالنظرة الفلكلورية التي تعكسها بعض الكتابات المغربية، إنما أقصد من ينظر إلى الفن كفن لا أكثر.
وهل تدرج الرواية المغربية المكتوبة بالفرنسية ضمن هذه النماذج؟
ـ لا اعتقد، وهذا رأي قد يخالفني فيه الكثير، لكنني قلت ذلك بصراحة دائماً وهو أن الأدب ينسب إلى لغته، حتى الفرس الذين كتبوا بالعربية ندخل إنتاجهم في الأدب العربي، والذين يكتبون بالفرنسية يدخل إنتاجهم في اللغة الفرنسية كإبداع، ولكن أدخل في أذهاننا إن هذا أدب مغربي مكتوب بالفرنسية، والأولى في نظري أن يقال انه أدب فرنسي كتبه مغاربة.
وإذا كانت بعض الدول الأفريقية التي ليس لها لغات مكتوبة أو تراث أدبي مكتوب قد اتخذت رسميا لغات غربية لأنها لا تستطيع أن تتثقف أو تبدع إلا عن طريقها، فهذا وضع شاذ، لان اللغة قد فرضت عليها، أما استعماريا أو للضرورة، ولكن هل يصدق الأمر على اللغة العربية؟
الفرانكوفونية
ولكن هناك من الكتاب المغاربة من يكتب باللغتين العربية والفرنسية؟
ـ هذا وضع مختلف بالنسبة لمن اعتاد الكتابة بلغته الأصلية وبلغة أخرى، لكن الذي لا يكتب إلا بالفرنسية كيف يريد أن يصبح أدبه مغربياً؟ اعتقد أن في هذا نوعاً من التمحل.
من الواقع إلى الأسطورة
تنحو في الكثير من رواياتك نحو التاريخ أو الأسطورة. ألا تجد في الحاضر ما يستحق الرصد والتسجيل؟
ـ قد تكون هذه الملاحظة، من الناحية المظهرية صحيحة، لكنها ليست صحيحة بدرجة كبيرة، لأنني لو كتبت عن طريق الأسطورة أو بإلهام منها، لا أعني إلا الحاضر، وأعتقد أن في كتاباتي شيئاً من ربط العلاقة بين الماضي والحاضر كمصدر إلهام.
أنا لا ارجع إلى الماضي لأتمسك به، بمعنى أن يكون هو مصدر القيم، فقيم الماضي هي نحن. أنا نفسي قيمة من قيم الماضي، ولكن علي أن أعيش الحاضر والمستقبل، فذهني وسلوكي ليسا نتاج الحاضر وحده، هما نتاج الماضي والحاضر، نتاج التراث والمعاصرة، وعندما استلهم الماضي أو الأسطورة فإنما أعني الحاضر والمستقبل، ولا يعني هذا إنني أعود اليهما دائماً، حيث أتناول الحاضر المباشر، في الوقت الذي أتناول أيضا الماضي أو الواقع الأسطوري.
ألا ترى أن كثيرا من الروايات العربية تحاول اقتفاء روايات عالمية استفادت في الماضي أو الأسطورة؟
ـ ما تقوله بالفعل يحيل علي أسئلة من هذا النوع مطروحة حول أعمال روائية عربية كلما ظهر عنصر من المشابهة في تعاملها مع الأسطورة.
أنا اعتقد إن الفن كالتكنولوجيا، كالموضة، عندما يبلغ مستوى من النضج الحضاري، تتفق الإنتاجات على معالم مشتركة، وبالنسبة لمن هو في خضم هذه العملية، وقد بلغ درجة النضج فيها، ليس من الضروري أن يقرأ "فلاناً" بالذات لكي يتشابه مع كتابته، يكفي أن يبلغ درجة النضج التي بلغها "فلان" لكي يكتب أثراً مشابهاً، بمعنى أن الإنتاج العالمي لفن من الفنون، في مرحلة من المراحل، يجب أن يبلغ درجة المعالم المشتركة التي تعني مستوى من النضج الحضاري.
لي رأي حول هذا الموضوع، ليس وليد الساعة، بل هو مختمر في ذهني منذ زمن. وربما استطعت في وقت من الأوقات أن أكون نظرية لشرح تطور الفنون، وخاصة في المجال الإبداعي، وهو يتلخص بالقول: "أن هناك مستوى من النضج يفرض نفسه على الأذهان الناضجة فتلتقي في نقط معينة". وبطبيعة الحال، لا يكون هناك نسخ حرفي، ولا يمكن مهما بلغ التشابه أن تكون روايتي هي رواية "فلان". قد تكون هناك عناصر مشتركة مثل كسر بعض القوالب، أو الاستعانة ببعض الرموز، لكن الرؤية إليها فقط تظل رؤية تجزيئية جداً للإبداع وغريبة عن تذوقه لأنها تجعلك تأتي للنص من خارجه، أي من داخل نص آخر.
الحد الفاصل
إذن، ما هو الحد الفاصل بين التقليد والتأصيل، التأثر والتأثير؟
ـ أعتقد أن كل مبدع، وفي ميدان الرواية بالخصوص، لابد أن يتأثر بكتاب أو شعراء أو روائيين أو مسرحيين، ومعنى يتأثر، أي قرأ وشاهد فاختزن شيئاً في نفسه غير محدد، لكن يبقى داخلها كما تبقى في نفسه آثار ثقافية أخرى. وعلى هذا النحو يتأثر بوقائع المجتمع التي يعيشها، وتظل تختمر في نفسه حتى تأتي اللحظة التي تأتلف فيها كل هذه المؤثرات لتصدر في شكل إبداع آخر.
إلى هنا وحدود التفاعل طبيعية وعادية. ولا يمكن أن تبلغ درجة النسخ أو التقليد. ولكن السؤال بعد ذلك هو كيف نستطيع أن نقول إن هذا جديد أو هذا قديم؟ واعتقد أن الجودة هي المعيار، فنحن لا نزال نقرأ القديم الذي نعجب به، والفن ينمو بهذا الشكل، لا يمحو بعضه بعضاً.
النموذج الكلاسيكي
أي من الكتاب أو الروائيين هم موضع اهتمامك؟
ـ لا أزال معجباً بالكتابات الكلاسيكية الروسية لأنها تمثل لي النموذج الروائي الأكبر بالنسبة للإنتاج العالمي. من الممكن أن نتجاوزها من حيث الشكل، لكنها بواقعيتها وبخيالها ما زالت قادرة على الإلهام والصمود، مثلما هي "كليلة ودمنة" أو "ألف ليلة وليلة" ليس في مكانتها في الأدب العربي فحسب، وإنما في مكانتها في الأدب الإنساني.
إذا كان هناك من يقول إن القصة القصيرة خرجت من معطف "غوغول" هل نستطيع أن نقول إن مبارك ربيع خرج من معطف الرواية الروسية؟
ـ أبداً. أبداً. أقرأ كثيراً، ومعجب جداً بهمنغواي وشتاينبك وأميل زولا، وإذا أردت اعترافاً مني فان قراءتي للرواية، حتى قبل أن أكتبها، لم تكن تسمح لي بالاختيار، إلا عندما تتاح لي فرص الاختيار، فأنا أقرأ ما أجده وما يقع أمامي.
ألاحظ انك تستعين بالأسماء الكلاسيكية، على أهميتها. ألا تغريك على القراءة أسماء أخرى؟
ـ أريد من هذا السؤال أن أقول شيئاً، وأرجو أن أكون قد عبرت عنه في كتاباتي، وهو أن التجديد للتجديد ليس هو كل شيء، فعندما أقرأ لهاني الراهب أو حنا مينا أو الطاهر وطار أو رشيد بوجدرة أو غائب طعمة فرمان أو عبد الرحمن منيف، أجد هماً مشتركا وهو أن المتناول لهذا الفن لا يمكن أن يبدأ من آخر نقطة بلغها، قد يكون في هذا بعض المجانبة للصواب، ولكنني أؤمن بأن المهتم سواء على مستوى الممارسة أو مستوى النقد لا يمكنه أن يقتصر على الجديد مطلقاً، وإلا فلن يفهم هذا الفن أبدا، وعندما أتحدث عن الفن الكلاسيكي أعني به منذ اليونان حتى الآن، وليس القرن السابع عشر أو التاسع عشر.
لماذا؟
بعد هذه الرحلة الطويلة مع الكتابة، هل تساءلت: لماذا أكتب؟
ـ أعتقد أنني لم أتساءل: لم أكتب؟ أو على الأصح، أن التساؤل على هذا النحو إن حصل، فهو لم يكن جديا ولا عميقا في نفسي، لعله من قبيل أسئلة تراود على السطح بفعل العادة أو التقليد، دون إثارة جدية اهتمام في الذات، رغم أن هذا الـ "لماذا" كثيرا ما أسمعه أو أقرأ عنه لدى زملاء آخرين.
كنت وما أزال في لسان حال يجيب عن تساؤل بنظيره: لم لا أكتب أمام وفي عالم ما يفتأ يسود ويسوء بسيادة العدم والغياب والضياع للقيم الإنسانية الجميلة، والمعاني السامية النبيلة، لما تعلمناه في مدرسة البراءة والحب والطفولة؟
أرى، أن الإبداع هو فضاء حريتنا المتبقي، أو هامشها المرن لكل تقلص وامتداد، والحرية أبجدية الوجودية الأولية الأولى، تلك التي فطرنا عليها، ونشأنا ـ بكل أسف ـ على الجهل بها، وحقنا في الإبداع، هو حقنا في الحرية والحلم، حق شخوصنا وفضاءاتنا، ولذلك لخصنا كل القيم النبيلة في الإنسان وما هو إنساني، ننقب عن صفاء الطبيعة في البشرية وفي الكون، ولعل منتهى مثل هذه المرونة والحرية في الفكر والفن، وفي الأداء والأداة، قد يفسر ما جعلني انصرف عن حق أو بدون حق، إلى ممارسة الكتابة في جنس الأدب السردي، لذلك، فان تجربة الكتابة السردية لم تنفصل عندي منذ البدء، عن تصور للحرية والحركية والتجدد.

قديم 03-28-2012, 01:05 PM
المشاركة 342
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
مبارك ربيع
- اذا اقرينا بأن الكتابة الروائية نوع من انواع السيرة الذاتية نجد ان مبارك ربيع عاش في طفولته فترة حرجة وحاسمة من تاريخ المغرب الحديث، وهي فترة الاستعمار، كما رسمها وسجلها لنا فير رائعته الريح الشتوية.
- عايش في طفولته انفجار الأزمة السياسية بين فرنسا والمغرب ام 1952 ونفي الملك محمد الخامس وأسرته والزجّ بالوطنيين في السجن وإغلاق المدارس الحرة، ومن بينها مدرسة لحلو حيث كان مبارك ربيع يتابع دراسته.
- اصوله من العالم القروي ولا بد انه تأثر كثير بظيم الاستعمار.
- رده على سؤال لماذا تكتب رد قائلا: "كنت وما أزال في لسان حال يجيب عن تساؤل بنظيره: لم لا أكتب أمام وفي عالم ما يفتأ يسود ويسوء بسيادة العدم والغياب والضياع للقيم الإنسانية الجميلة، والمعاني السامية النبيلة، لما تعلمناه في مدرسة البراءة والحب والطفولة؟
- وهو يرى، أن الإبداع " فضاء حريتنا المتبقي، أو هامشها المرن لكل تقلص وامتداد، والحرية أبجدية الوجودية الأولية الأولى، تلك التي فطرنا عليها، ونشأنا ـ بكل أسف ـ على الجهل بها، وحقنا في الإبداع، هو حقنا في الحرية والحلم، حق شخوصنا وفضاءاتنا، ولذلك لخصنا كل القيم النبيلة في الإنسان وما هو إنساني، ننقب عن صفاء الطبيعة في البشرية وفي الكون، ولعل منتهى مثل هذه المرونة والحرية في الفكر والفن، وفي الأداء والأداة، قد يفسر ما جعلني انصرف عن حق أو بدون حق، إلى ممارسة الكتابة في جنس الأدب السردي، لذلك، فان تجربة الكتابة السردية لم تنفصل عندي منذ البدء، عن تصور للحرية والحركية والتجدد.

للأسف لا يوجد ما يشير إلى طفولة مبارك ربيع. هو حتما عايش ظروف الاستعمار القاسية وربما تعرض للكثير هو وعائلته كما ورد في رواياته وهو ما يمثل حياة ازمة وقلق وجودي وغياب للحرية، لكننا سنعتبره مجهول الطفولة إلا إذا ظهر لنا عكس ذلك أثناء استكمال هذه الدراسة.

مجهول الطفولة.

قديم 04-01-2012, 09:14 AM
المشاركة 343
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
48- دار الباشا حسن نصرتونس

تلك هي دار الباشا وذلك هو عالمها المبهم الذي تأخذنا إليه. دليلنا إلى هذا العالم شخص اسمه "مرتضى الشامخ". وإذا كان من شأن الدليل أن يكون عارفا بالمكان، مرشدا إلى أسراره وأكنافه، فإن دليلنا إلى دار الباشا لا يملك المعرفة ولا برد اليقين، بل هو دليل يبحث عن حقيقة لا يستطيع تحديدها، جسد مثقل بذكريات من الماضي تزيد الفراغ من حوله اشتدادا وتجعل من الرجوع إل البداية أمرا مؤلما ، وتتصاعد الأسئلة لتملأ رأسه ...لكن الأجوبة تتلفّع بالغموض وتلوذ بالخواء
اتب قصة من الجيل الأول غداة الاستقلال . ولد بتونس العاصمة عام 1937. تلقى دراسته بجامع الزيتونة ثم التحق بكلية الآداب ببغداد . عمل بالتدريس . تنقل من المهدية إلى حمام الأنف إلى موريتانيا
نــشــر ليالي المطر - قصص 1968 دهاليز الليل - رواية 1977 52 ليلة - قصص 1979 خبز الأرض - رواية 1985 السهر والجرح - قصص 1989


==
انحسار الرؤية

بيد أن هذه المكوّنات الإنشائيّة لم يتقلَّصْ حضورها في الرّواية التونسيّة تقلُّصاً واضحاً ذلك أنّ نزعة التوثيق والإخبار تظل قائمة في كثير من النصوص الروائية التي ظهرت في العقود الأخيرة من القرن العشرين وصورة العالم لم تتغير كثيراً فيها وكذلك صورة السّارد رغم محاولة بناء شخصيَّةٍ روائيّةٍ مغايرة هي أقرب إلى البطل الإشكاليّ ولكنّها محاولة هي طموح لم يتحول إلى حقيقة ولعل أبرز هذه النّصوص رواية حسن نصر "دار الباشا" التي رغم محاولة التّجديد فيها ظلّتْ مُرْتَبِطَةً بميثاقها الواقعيّ الّذي حددناه سلفاً.

لقد كتب حسن نصر(40) "دار الباشا"(41) روايتين أخريين [دهاليز الليل(1977)- خبز الأرض(1985)] وقد نهج فيهما نهج الواقعية التقليديّة من خلال ذلك التشخيص الوصفي للواقع المعيش أو لهذا النصّ الدنيوي الذي تسعى الرّواية الكلاسيكية إلى تجسيده، فمن الطَّبِيِعيّ إذن أن يتساءل الباحث عن قيمة هذه الرّواية الجديدة وما يمكن أن تضيفَه إلى تجربة الكاتب السّابقة وإلى الرّواية العربيّة عموماً. تطمح هذه الرّواية إلى عرض شخصيّة "مرتضى الشامخ" الذي ترك دار الباشا" ثم عاد إليها بعد أربعين عاماً لا يستطيع قارئ الرواية أن يتمثلها، فتغيب الوقائع والأحداث المتعلّقة بهذه المرحلة الطويلة من حياة الشّخصيّة المحوريّة ولا نكاد ندرك ملامحها إلا عبر إشارات تبريريّة يصرح بها السّارد في بعض مواطن الرّواية أهمّهُا ما ورد بالفصل السّابق عندما يقول "خرجت مُمزَّقاً طريد أفكارك، تلاحق أوهاماً وأشباحاً، تقاذفتك الأهواء والعواصم واختلطت عليك اللغات المختلفة شرقيها وغربيها:
من باريس إلى لندن ومن جنيف إلى بون ومنها إلى طهران فدمشق فبيروت، تقلبت ظهراً على بطن، وانتفضت من الأعماق حتى غشي عليك، اختلطت عليك السبل، ففقدت السيطرة على نفسك، أضعت توازنك، تزلزل كيانك من الجذور حتى كفرت بكل شيء، أصبت بصدمة حضارية حادة، تملكك الذهول، فخرجت على الناس مذهولاً، لتلقي ما تبقى منك في جحيم الصحراء"(42) وعبثاً يبحث القارئ عن ملامح هذه السبل التي اختلطت على مرتضى الشامخ أو عن هذه الصدمة الحضاريّة الحادة الّتي واجهها فلا يعدو الأمر أن يكون من باب التبرير اللّفظي لهذه الوضعية الّتي وضع فيها المؤلف شخصيته وهي تباشر حياتها في دار الباشا" بعد انقطاع طويل وعودة مفاجئة مفعمة بحنين جارف إلى المكان.

ومنذ الفصل الأول من الرّواية يصرِّحُ السَّارِدُ بهذا الوجه الإشكاليّ الّذي يريد أن يسم به شخصيته "هذا هو الجسر الذي عليك أن تعتبرُه من الماضي إلى الحاضر ومن المنفى إلى المنفى، إليه جئت دون رضاك ومنه خرجت هارباً، وإليه تعود تارة أخرى تبحث عن معنى"(43) فتصبح العودة إلى المكان قادحاً للعودة إلى الماضي بما تحمل من معاني الاسترجاع وسبر لأغوار الشخصية الباحثة عن معنى وجودها.
وتمر رحلة البحث بمسلكين:
* مسلك باطني هو بمثابة رحلة طويلة من حياة السّارد تتّخذ من السيرة الذاتيّة بعض ملامحها، فيعود السّاردُ إلى طفولة "مرتضى الشامخ" ونشأته في عائلة متوسطة وأمر طلاق أمه وبعض وجوه تعلّمه وتقلّبه في بعض المهن وبعض مغامراته الشّخصية.
* مسلك خارجي هو بمثابة إعادة بناء للمكان، فعبر الذاكرة تسعى الشخصية إلى تركيب "نهج الباشا" لوحةً لوحةً ومشهداً مشهداً، بمبانيه وأزقّته ودوره ودكاكينه.
ويتجادل المسلكان، يتقاطعان حيناً ويلتقيان حيناً آخر ليملأ هذا الزّمن الذي مضى ويرضيا هذا الحنين لحياة خلت وتتعب الذاكرة في استرجاعها "فأي فراغ مهول حصل في ذاكرته"(44).
بيد أَنَّ للحاضر منطقاً مغايراً ووجهاً صدامياً عنيفاً، فهذه الدَّارُ العتيقة الّتي هجرها أهلها أو كادوا وتحولت إلى كابوس مفزع في خيال الشخصيّة الرئيسيّة (مرتضى الشامخ) وحلمها، في حاجة إلى ترميم هو من مسؤولية الجيل الجديد. هكذا يُصَرِحُ الأدب: "بالنسبة إليَّ، لقد قمت بواجبي نحوها، وحافظت عليها إلى حد الآن، الأمر بعد اليوم لم يعد يعنيني، أصبح موكولا إليكم، أنت وإخوتك وأبناء عمومتك"(45)، لَكِنْ هل يقدر هذا الجيل على ترميم ما بناه الأسلاف وهل يقدر على الحفاظ على مكتسبات هي مُعَرَّضَةٌ بحكم الزّمن وتطوّر الحياة إلى التلاشي والاندثار؟ ويأتي الجواب على لسان أحد أبناء العم: "هذا البيت يريد أن ينهار، لماذا لا نتركه ينهار وانتهى الأمر، تلك أماكن ماتت وانتهت، لم تعد لتقوم لها قائمة، ماتت مثلما مات أبي، فهل يعود أبي من القبر؟"(46) وهو يبرر الأمر بمنطق العصر والزمن: "فالدنيا تغيرت، والناس لم تعد تنظر إلى الوراء، الدنيا تسير نحو الأمام والّذي يبقى ينظر إلى الوراء أو إلى الماضي يتخلف عن الركب ويفوته القطار"(47) وتنتهي الرّواية بما يشبه صيحة الفزع" من يعيد إلى أحلامي الجميلة.. من يعيد إلي شامه".. ويعيد طفولتي الضائعة"(48). وهي صيحة تؤكد أن بطل الرّواية اقتنع في النّهاية بمنطق الزّمن وأنّ مسؤولية الأجيال الجديدة في إنجازات عصرها وأَنَّهُ لا سبيل إلى التّوفيق، لكل عصر رجاله ولكل زمان أفعاله وخياله.
تلك هي إشكاليّة هذا البطل الروائيّ في رواية "دار الباشا" وهي إشكاليّة قديمة حديثة، فالحنين إلى الماضي ومحاولة بعث بعض مظاهر حياتنا القديمة من خلال قضية التّراث والإشكاليات التي يطرحها، عالجتها الثقافة العربية منذ نهاية القرن الماضي والثلث الأول من القرن العشرين وعالجها الأدب معالجة خاصة وعالجتها الرّواية بوجه أخص. فقد تعرض إليها منذ الأربعينات نجيب محفوظ في رواية "خان الخليلي".. وهي إشكالية حديثة لأنها تطرح من جديد في أشكال التعبير الفني المختلفة ويكفي أن نذكر في تونس هذا الشريط السينمائي "عصفور السطح" الذي يعود بالذاكرة إلى تونس القديمة في أربعينات القرن العشرين من خلال رسم لوحة فَنِيَةٍ عن مظاهر العمران والحياة فيها ولا شك أن حسن نصر شاهد هذا العمل الفني وتأثَّرَ به تأثّراً فنّياً واضحاً نعثر على ملامحه في رواية "دار الباشا" فالكاتب خضع لهيمنة صورة العصفور، فهو يستعيرها في الرّواية مرتين "رفت أصابعه كأجنحة عصفور يريد أن يفرّ ص49" وهو بذلك يعيد الاستعارة ذاتها وكان قد استعملها في بداية الرواية ص50 ويتحول هذا الحضور إلى ضرب من الاقتباس في مستوى التشخيص، ففي صفحة أربع وأربعين يتحدث السّارد عن علاقة "منجية" بصالح الفيّاش. "واصلت طريقها عبر سوق سيدي محرز ودخلت به في الزحام، بينما هي منشغلة أمام إحدى المعروضات ناداها من خلفها رجل… انتبذ بها ناحية وراحا يتجاذبان الحديث"(51), فهذا المقطع السّرديّ يذكر بذاك المشهد السينمائي في شريط "عصفور السطح" والذي يُجَسّده الممثل محمد إدريس مع إحدى الممثلات وهو مشهد مراودة وفي الصفحة الرابعة والثلاثين بعد المائة يصف السّارد مرتضى الشامخ وهو طفل، كيف صعد السطح مع صديقه ليطلا على مشهد جنسيٍّ ثم ينطلقان على السطح عدوا: "امرأة تقف أمام النافذة، كنا ننظر إليها من موقع لا ترانا فيه، ورأينا رجلاً يتقدم فيأخذها إليه ويفر بها منه… انطلقنا نجري هاربين كأنما أحد كان يجري وراءنا، أخذنا نقفز المدرج نكاد نطير" ولا أحد يَشُكُّ في إحالة هذا المقطع السرديّ على صورة السطح برُمَّتِها، تلك التي تخيلها فريد بوغدير قبل حسن نصر وهكذا يربط الخطاب الروائي من خلال هذه الرّواية علاقةً وطيدة بالخطاب السينمائي. فالكاتب عادة يكتب وهو يتذكر.
إنّ هذه الرواية من حيث بناؤها العام تتبنى مقولات الخطاب الواقعي الوصفي. والخطاب الواقعي الوصفي هو بالدرجة الأولى خطابٌ تبريريٌ، فالسارد الذي كثيراً ما يتدخل ويسوق الأحداث سوْقاً إنّما هو يتدخل ليبرر أساساً. فكل حدثًٍ ينبني على منطقٍ ولكلِّ حالةٍ مبرراتْها النفسية أو الأيديولوجية أو الحدثية.
لقد صاغت الرواية العربية الحديثة أجمل شخصياتها الإشكالية(25) ولكن القارئ المختص في الرواية لا يمكن له أن يهمل شخصيتين روائيتين يمكن أن تعتبرا أنموذجين أساسين في صياغة الشخصية الإشكالية وهما مُصطفى سعيد في"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح ومنصور عبد السلام في رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" لعبد الرحمان منيف. والشخصيتان أنموذجيتان لأنهما متكاملتان من حيث البناء، مُبرَرَتان تاريخياً وأيديولوجياً ونفسياً، بيد أننَّا عندما نتأمل شخصية "مرتضى الشامخ" نُدْرِكُ أنها شخصيةٌ غير متكاملة البناء إذ ينقصها التَّبريرُ الكافي الذي يُشرْعُ وجُودَهَا. فهذا الرجل الذي عاد من حيث لا ندري يعيش أزمة عنيفةً وقد استطاع الكاتبُ فعلاً أن يطوِرَ هذه الأزمةَ، لكنّنا لا نُدرِكُ أبداً أسباب هذه الأزمة وأبعادها. لاشكَّ أنّ الساردَ ألمح إلى أن بطله عاش بعيداً عن وطنه ثم عاد إليه بعد أربعين عاماً.(53) لكنَ مسألة تقنية تطرح وهي متعلقة أساساً بهذه المدة التاريخية، فالبطل لا يبدو لنا شيخاً في الرّواية بل هو كما نتصوَّرُ رجلٌ كَهْلٌ في نهاية الأربعين أو عند الخمسين، فإذا عاش أربعين عاماً خارج وطنه فهو لا يمكن أن يكون قد عاش أكثر من عشرة أعوام في وطنه، فسنون الاغتراب أربعة أضعاف سنين الوطن ولكنّها لا تحتلُّ في حيّز السّرْد سوى بعض المقاطع القصيرة جدّاً وهي مقاطع وصفيةٌ وليست تشخيصيةً، فهي من باب كلام السارد وليس من باب الوقائع التي يُشَخّصُها السَّاردُ والأمر في اعتقادنا ليس مجرّد ملاحظة عابرة بل إنّه يتّصلْ وثيق الاتصال بالمنهج الفني الذي اقتفاه السَّارِدُ، فإذا كان السارد في الرواية مورَّطاً إلى حدّ الأذنين في الأحداث لكثرة تدخّلاته السّاخرة فإنّه يتحتّم عليه أن يصف لنا الوقائع التي عاشها البطل الإشكاليّ في بلاد الغربة وأن يُشَخّصَهَا ليبررَ تلك الأزمة التي ذكرها ولم يصفها وليجد مَعْبراً لذاك الحنين الجارف إلى "دار الباشا" لكن السّارد لم يفعل. وإذا كان التّبريرْ الدّاخلي غير موجود فلابدَّ من البحث عندئذ عن تبرير خارجيّ وبذلك ندخل إطار التأويل، فالنص لم يعُدْ يَقْولُ شيئاً وإنما على الناقد أن يقول وأن يجد مدخلاً يبرّرُ هذه الشخصيّة الإشكالية "دار الباشا". ولن يكون التّبرير إلاّ تبريراً حضاريّاً أو بعبارة أخرى سياسيّاً عاماً. ذلك أنّ الرّواية تطرح قضيّة العودة إلى الأصول، فالبطل لا يحقّقُ ذاته إلا عبر الذاكرة، تلك المسيرة الاسترجاعية عبر الزمان الآفل وعبر المكان المهدّد بالزّوال وعندئذ يُصْبِحُ الاسترجاع فَراراً من واقع مُخِيفٍ هو واقع العقل المجحف الذي يهدّد الخيال والحلم وهو كذلك واقع المصالح المادية والتحرّر الاقتصاديّ والمضاربات المالية، فالمكان لا يكتسب قيمته برائحة الإنسان فيه وفعله الحضاري وقيمته التاريخية ولكنّه أضحى سِلْعَةً تخضع لاقتصاد السوق ف "هذه الأراضي التي تحيط بالمدينة كانت من قبل لا تساوي شيئاً والآن، انظر كيف ارتفعت قيمتها، من شَدْرِي، ربما "دار الباشا" ترتفع قيمتها يوماً وهذه الأماكن لا تكتسي قيمتها من ذاتها، نحن الذين نكسبها القيمة التي تستحقّ، بما نحقّقه من عمل وننجزه من مشاريع، بالعمل يمكن أن ترتفع قيمة "دار الباشا" وليس بالحلم"(54). إنّ العمل والمشاريع والمضاربات الماليّة هي لغة العصر الحديث الذي قطع مع الأيديولوجيا والقيم المثاليّة. ذاك وجه من وجوه فهم أبعاد هذه الشخصية الإشكالية، ولكنَّ الوجه الآخر يتمثّل في أنّ البطل في هذه الرّواية بمسيرته النكوصيّة إنما هو رمز لهذا الجيل الذي عاش أحلاماً كثيرة وواكب هزّاتٍ سياسيةً واجتماعيةً عنيفةً على الصعيد القطري وعلى الصعيد القومي، يستيقظ لكي يُدْرِكَ أنَّ كُلْ تلك الأحلام قد تهاوت وعندئذ يعود بحثاً عن الأصول والجذور فلا يجد منها إلا أطلالاً تتهاوى لتُعبِّرَ عن أزمة جيل شاخ قبل الأوان.
في "دار الباشا" يتضخّم السارد-هذا الكائن الوهمي- تضخماً غير عادي، فنحن-داخل الرّواية- إزاء رؤيتين مستقلّتين هما رؤية البطل (مرتضى الشامخ) ورؤية السّارد ولا شكَ أن الرّؤيتين تتقاطعان بل تتطابقان تطابقاً كاملاً ولكنّ رؤية السّارد تطفح على رؤية الشخصية ولعل عبارة الإنشائيين" الرؤية من الخلف". لا تكفي لتجسيد هذه العلاقة بين السّارد والعالم الذي يرويه ويصفه.
لا يمكن أن نعتبر السّارد شخصيَّةً روائيّةً إذ أنه ليس طرفاً مباشراً في الأفعال التي يتخيّلها المؤلّف ولكنّ سلْطته التعليقية والتفسيرية والتبريرية (خارج حقبة الأربعين عاماً التي إليها أشرنا) تقوى إلى درجة يتحوَّل بها السّارد إلى بطل من الدّرجة الأولى. فأغلب عناصر العالم المرويّ تصل إلى القارئ عبر عين السارد وليس عبر عين السارد وليس عبر عين الشّخصيّة الإشكاليّة والأمثلة في الرّواية كثيرة وهذه بعضها: "عرجت به بعد ذلك إلى زاوية سيدي محرز ودخلت السقيفة الرحبة الشاسعة، ملاذ الحيارى والمساكين والبائسين، صدمه المنظر العجيب، أطفال تتعالى أصواتهم بالبكاء، نساء يتنقلن كالأشباح أو يجلسن تحت حائط السقيفة، ثيابهن بالية، نظراتهم مخطوفة، ركام من الأدباش وأكداس من الفوضى، حصر مهترئة، فرش متسخة، أوان مبعثرة، أرضية مغطاة بالنفايات(55). إنّ مثل هذا الوصف يكون في كثير من الأحيان وصفاً تزيينياً لا علاقة له بالشخصيّة الرئيسية بقدر علاقته بالسّارد إذ يعكس -من موقع التّبئير- نظرة السّارد إلى هذا العالم السّحريّ الذي يريد أن يرصده من خلال ملامح تونس القديمة، ولذلك يصبح وصف المؤثّثات والمكان برمّته مجرد إطار تسبح فيه الشّخصيّة ولكنّه لا يعكس نفسيتها وأزمتها وحالتها الفكريّة، ويعكس الوصف أحياناً أخرى موقفاً توثيقياً واحداً، فالسّارد يتّخذ من حركته الشخصيّة في المكان وسيلةً ليَرْسمَ من خلالها بعض اللّوحات عن شوارع تونس القديمة لتسجيلها وتوثيقها عبر إعادتها إلى الذاكرة: "رجل يدفع عربة وآخر يحمل فوق رأسه قُفّةً، متسوّل يطلب صدقة وأعمى يقرع الأرض بعصاه، بائع العطور، ماء الزهر وماء الورد والعطر شيّة، دلال وسقّاء وحامل المبخرة وسلاّك الواحلين يلقي الكلام الموزون ويعبر سريعاً، فرقة نحاسية تتقدم باتجاه سيدي محرز من وراءها "المظهر" في ثيابه الزاهية يحف به الأطفال وهم ينشدون وراء الفرقة"(56). وفي هذا السّياق لا يمكن أن يفوت الباحث المختصّ أن يلاحظ أنّ الكاتب وضع مقطعاً وصفيّاً كاملاً وهو الفصل الخامس عشر برُمَّتِهِ، لا تذكر فيه أيّة شخصيّة من شخصيّات الرّواية ولو مجرد ذكر ولا حضور فيه إلاّ للسّارد الذي نتخيّل أنه الكائن الذي يقف وراء هذا المقطع ولكنّ هذا الفصل يمكن أن يحذف ولن يؤثر حذفه في سياق الأحداث ولا في بناء الشخصيات فلا مبرر لوجوده إلا رغبة المؤلّف في الوصف المجاني وفي التّوثيق واتّخاذ موقف من الحضارة الحديثة ولذلك يصبح المقطع أشبه ببحث في العمارة الحديثة(57) ونضيف إلى هذا الفصل ما رواه السّارد عن الحرب ليتحوّل إلى مُؤَرّخ شاهِد ومحلّلٍ لأبعاد الحدث(58) ولا يضاهي هذا المقطع التّاريخي الطّويل إلا مقطعَ شبيه يصف فيه السّارد واقعة تازركة(59).
وهكذا تتحولُ الرواية إلى ما يشبه الوثيقة التاريخيّة لهيمنة حضور السّارد ورغبته الملحّة في تسجيل الوقائع التاريخيّة والمشاهدات العمرانيّة مؤكّداً بذلك حقائقية العالم الذي يحيل عليه ومصداقيته الوهم المرجعي الذي إليه يشد الوقائع والأحداث وبذلك يظلّ برنامج الميثاق الواقعي قائماً.

قديم 04-01-2012, 09:16 AM
المشاركة 344
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
Return to Dar Al-Basha




A haunting, poetic, semi-autobiographical evocation of a Tunisian childhood during the days of nationalist resistance against French colonial rule.

Return to Dar al-Basha by the contemporary Tunisian author Hassan Nasr depicts the childhood of Murtada al-Shamikh and his return forty years later to his home in the medina or old city of Tunis. After being taken from his mo

...moreA haunting, poetic, semi-autobiographical evocation of a Tunisian childhood during the days of nationalist resistance against French colonial rule.

Return to Dar al-Basha by the contemporary Tunisian author Hassan Nasr depicts the childhood of Murtada al-Shamikh and his return forty years later to his home in the medina or old city of Tunis. After being taken from his mother and raised in his father's home where he was physically abused and emotionally marginalized, Murtada spends a life of anxiety wandering the world. His return is prompted by a mysterious visit from one of his father's Sufi friends as he roams the desert in Mauritania. Murtada retraces his steps through the medina to his family's house in anticipation of a possible reunion with his troubled father, vividly reliving sights, smells, and sounds from his childhood and evoking his childhood initiation into Islamic mysticism as he experiences a personal journey of the spirit across space and time.
Nasr succeeds in conjuring up a Tunisian boyhood not unlike his own and brings to life in a poetic, sensual narrative the spaces, light, colors, and life of Tunis some six decades ago. Murtada searches the streets of Tunis and his memories for the decisive mistake he feels he must have made-that has left him a perpetual wanderer until he undergoes a cathartic nightmare sequence that leaves him shaken. Only then is he finally able to come to peace with his past and with himself. In William M. Hutchins' lucid translation, the novel serves as an evocation and tribute to the historic city of Tunis the novel and meditates about the position of the past in a rapidly modernizing society.


==

Return to Dar al-Basha

A Novel




Hassan Nasr


Translated from the Arabic by William Maynard Hutchins








A haunting, poetic, semi-autobiographical evocation of a Tunisian childhood during the days of nationalist resistance against French colonial rule.



Reviews

"Nasr’s hero in this multi-layered novel develops a deep humanity as he describes with almost mystical grace his tortured passage through life. Born in Dar al-Basha, a busy quarter of the old city of Tunis, the protagonist experiences a dreadful childhood of physical and psychological abuse and rejection. Finally he flees his tyrannical father and roams the world for 40 years, seeking escape from a life he could not understand and trying to come to terms with himself and the world. In the moving ending, he returns to his childhood home, generous spirited and purged of bitterness. Often impressionistic, Nasr’s writing is dominated by sensual imagery of colors, sounds and smells. Descriptions of the surrounding world frequently contrast with the hero’s inner turmoil and give a sense of continuity to balance his fragmented perception of it. Beneath the surface lies a stratum of Sufi thought, and below that a layer of anti-colonialism. The translation is excellent, and Hutchins maintains a consistent style that does justice to the Arabic original. This fine novel, Nasr’s first appearance in English, is a fine example of modern Arabic fiction from North Africa. Highly recommended."
Choice
"Return to Dar al-Basha is a semi-autobiographical novel describing a boy’s Tunisian childhood during the era of nationalistic resistance against French colonial rule. Taken from his mother and raised in his father’s home, physically abused and emotionally neglected, he grows up into a perpetual wanderer. Questioning his inability to set roots, he explores the streets of Tunis, recalls his childhood introduction to Islamic mysticism and Sufism, and braces himself to see his father again. An evocative, heartfelt tale, providing an unforgettably vivid impression of Tunisian life through a child’s eyes."
The Midwest Book Review
Description
Return to Dar al-Basha by the contemporary Tunisian author Hassan Nasr depicts the childhood of Murtada al-Shamikh and his return forty years later to his home in the medina or old city of Tunis. After being taken from his mother and raised in his father’s home where he was physically abused and emotionally marginalized, Murtada spends a life of anxiety wandering the world. His return is prompted by a mysterious visit from one of his father’s Sufi friends as he roams the desert in Mauritania. Murtada retraces his steps through the medina to his family’s house in anticipation of a possible reunion with his troubled father, vividly reliving sights, smells, and sounds from his childhood and evoking his childhood initiation into Islamic mysticism as he experiences a personal journey of the spirit across space and time.
Nasr succeeds in conjuring up a Tunisian boyhood not unlike his own and brings to life in a poetic, sensual narrative the spaces, light, colors, and life of Tunis some six decades ago. Murtada searches the streets of Tunis and his memories for the decisive mistake he feels he must have made-that has left him a perpetual wanderer until he undergoes a cathartic nightmare sequence that leaves him shaken. Only then is he finally able to come to peace with his past and with himself. In William M. Hutchins’ lucid translation, the novel serves as an evocation and tribute to the historic city of Tunis the novel and meditates about the position of the past in a rapidly modernizing society.
View other books in this series
Author | Translator
Hassan Nasr was born in Tunis in 1937. He has published a number of novels and short stories. This novel was first published in 1994.
William Maynard Hutchins is the recipient of a 2005-2006 National Endowment of the Arts grant for literary translation and the principle translator of The Cairo Trilogy by the Egyptian Nobel Laureate Naguib Mafouz.

قديم 04-01-2012, 09:23 AM
المشاركة 345
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
حسن نصر
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
أديب تونسي ولد بحي الحلفاوين أحد الأحياء الشعبية بتونس العاصمة 4 فيفري 1937 سنة. تلقى دراسته بالمدرسة القرآنية ثم بجامع الزيتونة. تعاطى بعض المهن الحرفية الحرة ثم اشتغل معلما مدة قصيرة, التحق بعد ذلك بكلية الآداب ببغداد ثم انقطع عن مواصلة الدراسة وعاد للتدريس من جديد بالمعاهد الثانوية. سلخ أكثر من ثلاثة عقود من العمر في هذه المهنة وخرج للتقاعد.


بدا الكتابة مع بداية الاستقلال نشر مجموعة من النصوص الشعرية بجريدة العلم التونسية. أول قصة قصيرة دمعة كهل ظهرت1959 بمجلة الفكر وستطبع هذه القصة موضوعا وأسلوبا فترة تعرف في تاريخ الادب التونسي بادب المقاومة ضد المستعمر الفرنسي و مجموعة ليالي المطر خير دليل على هذه الفترة كما تطرق في هذه المجموعة إلى المواضيع الاجتماعية والأزمات الفردية والصراع بين الاجيال وعوالم أخرى هذا دون أن يخلو البعض منها من نزعة وجودية.

كما كتب القصة القصيرة جدا سماها قصة تقرا في دقيقة واحدة نشر أغلبها في ملحق جريدة العمل الثقافي بشكل أسبوعي.و تعكس هذه القصص حالتي النكسة التي خلفتها حرب 67 من جهة والخيبة التي خلفاتها التجربة الاشترلكية في تونس من جهو أخرى.

كما أن بعض هذه القصص يفضح بأسلوب بأسلوب سربالي كيف تعمل أجهزة الضغط على تشيئة الإنسان.

و خلال تلك الفترة كتب رواية دهاليز الليل التي تدور احداثها في مدينة المهدية وتحكي عن التجربة الاشتراكية في قطاع الصيد البحري.

بعد سنوات من الانقطاع عن الكتابة رجع حسن نصر فاصدر رواية خبز الأرض تحدث فيها عن تعلق الإنسان بالأرض وماساة الفلاحين سكت مرة أخرى عن الكتابة ثم عاد فاصدر روايته الجميا و دار الباشا.

تحصلت بعض كتبه على جوائز من وزارة الثقافة ليالي المطر:الجائوة الشجيعية سنة 1968 دهاليز الليل:الجائزة التشجيعية سنة 1978 السهر والجرح:جائزة الابداع سنة 1989.





==


اخي الزائر الكريم،،،

ساعدنا في الحصول على تفاصيل حياة مبديعنا العرب (خاصة ما يتعلق بطفولتهم ومأسيهم) لنشرها في موسوعة منابر ثقافية والتي تشكل نواة لمركز ابحاث ودراسات متقدم على الرباط التالي:


قديم 04-03-2012, 02:01 PM
المشاركة 346
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
الروائي التونسي حسن نصر

للأسف لا تتوفر معلومات حول سيرته الذاتية، ولكن يكاد يكون هناك شبه إجماع أن روايته في الكثير من السيرة الذاتية وان أخذنا بذلك وهو فعلا قد عاش حياة فيها الكثير من الألم بسبب طلاق والديه ليعش مع والده شبه المختل نفسيا ولذلك عرضه لكثير من العذاب والألم مما اضطره للهرب منه ليجول حول العالم تقريبا ثم يعود بعد أربعين سنه إلى مكان ولادته. إذا كانت هذا الرواية واقعية وإذا كان حسن نصر قد اختبر ولو القليل من هذه الأحداث فنحن نستطيع أن نقول عنه انه عاش مأزوما أن لم يكن يتيما اجتماعيا وحتى يتيما. ولإغراض هذه الدراسة سنعتبره مأزوما.

مأزوم.

* سيرنا استقبال اي اضافات حول سيرة حياة الروائي حسن نصر وشكرا.

==


اخي الزائر الكريم،،،


ساعدنا في الحصول على تفاصيل حياة مبديعنا العرب (خاصة ما يتعلق بطفولتهم ومأسيهم) لنشرها في موسوعة منابر ثقافية والتي تشكل نواة لمركز ابحاث ودراسات متقدم على الرباط التالي:



قديم 04-03-2012, 10:34 PM
المشاركة 347
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
49- مدينة الرياح موسي ولد ابنو موريتانيا

أقدم الرواية المعروفة "مدينة الرياح" للكاتب الموريتاني الرائع موسى ولد ابنو..

رواية تسافر في التاريخ في أركان لحظات زمنية مختلفة، و في زوايا أماكن متباينة، كل هذا ستلتهمه آذانك من فم جمجمة استنطقها باحثون فضوليون ينقبون عن آثار الماضي في الغلاوية في الشمال الموريتاني "و من الفضول نعمة.. و منه قد تكتب رواية "

الرواية
http://www.4shared.com/file/46665556...et_alrya7.html

==

نبذة الناشر:
كانت (فاله) حزينة دائماً.. تبكي أحياناً بدون سبب مفهوم.. تعلقت بي شيئاً فشيئاً.. كنت كما لو أني طير من طيورها أو دويبة من حشراتها.. كان يبدو لي أحياناً أنها تعتبرني شاهداً على عالم مضى، أثراً واهياً من زمن انصرم.. عندما تلامسني تفعل ذلك بحذر وحنان، كأنني آنية خزفية ملكية، عثر عليها باحث مهووس. كانت تغيب أسابيع طويلة.. أسكن البيت وحدي مع النباتات والحيوانات.. وفي الليل أقرأ مخطوطاتها الشعرية التي تتغزل بالطبيعة.. عندما أقرأ شعرها يخيل إلي أنها حاضرة تكلمني.. لا حدود لشغفها بالطبيعة لهذا غادرت مدينة الرياح، وسكنت في هذه الضاحية المعزولة.

قديم 04-03-2012, 10:34 PM
المشاركة 348
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
بقلم د. موسي ولد ابنو


توطئـة : أقدم هذه المقاربة لنصي مدينة الرياح والحب المستحيل1 بوصفي قارئا.
فالكتابة أملت نفسها دون مبررات. أما القراءة فهي دائما بحث عن مسوغات للكتابة.
I. تجليات التراث واستلهام الكتاب
تدور أحداث روايتي الحب المستحيل ومدينة الرياح في مستقبل بعيد٬ بعد نهاية القرن الحادي والعشرين. لكن إذا كانت أحداث الحب المستحيل تدور كلها في هذا المستقبل البعيد، فإن مدينة الرياح في جزئيها الأول والثاني، تسترجع فترات من الماضي؛ لأن بطلها ﮜارَا الذي سافر في اللازمان يسترجع في لحظة سكرة موته ذاكرة الماضي السحيق، بدءا من القرن الحادي عشر م. الذي ولد في بدايته، ومرورا بالقرن العشرين الذي جابه هاربا نحو المستقبل، بفضل الخضير الذي ينقله من الماضي إلي المستقبل ليريه ما آل إليه البشر. وهذان النصان يجعلان من التراث مرتكزا لكتابة رواية الخيال العلمي. ففي مدينة الرياح كما في الحب المستحيل أقحمت التراث القديم في رواية الخيال العلمي سواء كان هذا التراث عالميا، من خلال اتراجيديا اليونانية، أو عربيا إسلاميا من خلال التراث العالِمْ القرآني، أو التراث الشعبي الموسيقي البيضاني. فجاء النص على منوال حكاية أديبية، لا بالمعنى لفريدي(Freudien)، ولكن بالمعنى الصُّوفُّوكْلِي. فصوفوكل (Sophocle) عندما ألف أُدِيبْ ملكا كتب اتراجيديا البصيرة الإنسانية، وذلك وفق القراءة المتميزة التي قدمها كارل رينهارت (Karl Reinhart). فالطريق الفاصل بين بداية مجد البطل التيبي (نسبة إلى مدينته (Thèbe) إلى نهايته المروعة، هو صراع بين الظاهر(الكُمُونْ) و الحقيقة (التجلي). يتقدم أديب نحو تجلي الحقيقة، وبهذه الطريقة – كما يقول هايدكر- (Heidegger) " يتقدم خطوة خطوة ليجعل نفسه في اللاكمون، وتتجلى أمامه الحقيقة التي لن يطيق النظر إليها إلا بفقء عينيه، لينقذ نفسه من الظاهر المضلل. وهكذا يكون البطل التيبي قد اضطر إلى أن يعمي نفسه كي يرى حقيقة ذاته". فبفقدان بصره تمكن أديب من النظر ببصيرة لتتجلى أمامه الحقيقة.
إن الأساطير والنصوص التراثية المؤسِّسة، سواء كانت عالمة أو شعبية، لا تقص علينا حكايات من الماضي بقدر ما تنبئنا عن خبايا مستقبلنا؛ وهذا هو مرتكز توظيف التراث في رواية الخيال العلمي. فرواية الحب المستحيل مثلا هي تأويل للخطيئة الآدمية على أنها أمر سيحدث في المستقبل بطرد بني آدم من الكوكب الأرضي الذي يكون قد دمره مجتمع التقانة. كما أنها أيضا تأويل للأمانة في سورة الأحزاب، على أن نقض الميثاق الأزلي الذي ورد في هذه السورة ينبئ عن جهالات وزلات مجتمع التقانة الواقعة في الحاضر والتي ستتفاقم في المستقبل. والرواية هي أيضا تأويل لقصة آدم وحواء التي، وإن كانت قد خرجت من ضلعه لتوقعه في الخطيئة، إلا أنها تمثل أيضا مآله ، بما أحدثه مجتمع التقانة من تخنيث للجنس البشري وهدم للأسس الطبيعية لعلاقات الجنسين من تكاثر وتكافل، وبتحويله الرجال نساء، والنساء رجالا، واستنساخه البشر. وهذا القدر مطروق في الحب المستحيل، وقد قاد البطل، في نهاية الرواية، إلى تغيير جنسه للحاق بمحبوبته، حيث قرر أن يتحول إلى امرأة فأصبح حواء. تؤول أيضا رواية الحب المستحيل نصا تراثيا عالميا آخر هو أسطورة المأدبة لأفلاطون وتوظفه في الخيال العلمي لتصف مجتمعا مستقبليا نزل به نفس العقاب الإلهي الذي سبق وأن نزل بالجنس الاندروجيني (Androgyne) .
تتزاوج في مدينة الرياح وفي الحب المستحيل لغات عدة (تراثية، فلسفية، علمية) وأساليب عدة (روائية، شعرية، موسيقية، دينية) لتشكل كتابة تتعطش إلى الحقيقة، ذلك العطش نفسه الذي قتل ﮜارَا، بطل مدينة الرياح، ثم بعثه من جديد. وقد أنتجت هذه الكتابة سماء جديدة وأرضا جديدة، "أرض الرجال"، وسماؤهم التي تمكنهم من النظر إلى أنفسهم حسب عبارة هانري كوربين (Henri Corbin). إنه عالم الرواية الذي يدعونا إلى التفكير: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} (الآية).
بغض النظر عن الأسباب الموضوعية والذاتية والعوامل المفترضة، سواء كانت عوامل نفسية ، أو كانت وجودية أو سوسيو تاريخية، يظهر من خلال قراءة الروايتين أنهما ترتبطان بأنموذج أسطوري يتجاوز بشكل كبير الكاتب نفسه، واللحظة السوسيو- تاريخية. ففي الروايتين يمكن تقصي معنى النص على ضوء الأساطير الكبرى. فمن الأسطورة استوحيت التجليات التي ألهمتني إنشاء عالم ينافي الواقع المبتذل، بل يتجاوز ذلك ليرفض وطأة هذا الواقع المنساق وراء السفالة.
تدور أحداث مدينة الرياح في برازخ التاريخ، وتعتمد أسلوبا في الكتابة برزخا بين الواقعية والرمزية، وبين رواية الخيال العلمي والرواية التاريخية. فالمكان والزمان والشخوص واللغة التي أنتجتها الرواية تتأسس في فضاء بعيد٬ فضاء القَصص القرآني. تستلهم رواياتي النص القرآني، سواء في وجهها الإبداعي: (خلق المصطلحات والجمل وأسماء الشخوص)، أو في تكوين عالم جديد يحاكي عوالم القَصص القرآني، أو حتى في إيجاد تقنيات جديدة للحكي. فمثلا، خلال كتابة مدينة الرياح، عرضت لي معضلة إبداع بطل يشهد على عشرات القرون وينتقل بين حقب زمنية متباعدة. وإن كانت فكرة نسبية الزمن قد خطرت ببالي كطريق إلى حل ممكن، إلا أنها لم تسعفني. لكن عندما استحضرت قصة أصحاب الكهف، وكونهم عاشوا {ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا} (الآية) تبلورت أمامي طريقة تمديد حياة بطل الرواية لتغطي قرونا كثيرة. كما أني استلهمت القَصص القرآني في خلق شخصية الخضير في الرواية، ملَك الزمن، الذي ينقل البطل من فترة زمنية إلى أخرى٬ ليؤدي وظيفته كشاهد على الفعل الإنساني عبر التاريخ.
وبما أن موضوع الرواية الرئيسي هو بصيرة الإنسان والحكم عليها من خلال مقارنة فترات من التاريخ تفصلها قرون عدة، كان لابد من إيجاد لحظة يتكور فيها الزمن، لحظة يمكن أن تشتمل علي عشرات القرون التي جابها البطل، وتكون هذه اللحظة لحظة حق تنجلي فيها الحقيقة أمام البطل-الراوي، وتمكنه من الحكم على التاريخ وعلى نفسه وعلى الزمن. هنا يظهر دور القَصص القرآني وأهمية استلهامه في الكتابة الروائية وفي حل معضلات الحكي: لقد جاء في القرآن الكريم أن لحظة الحق هذه كائنة، وهي لحظة سكرة الموت: { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ(19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ(20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ(21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } ( سورة ق ). فعند سكرة الموت يتمدد الزمن ليستدير فيسترجع الأمد مهما طال، وتُسترجع البداية، وتتكشف الحقيقة. هكذا جاء الحكي في رواية مدينة الرياح ليروي لحظة الحق هذه، لحظة الشهادة التي ينكشف فيها الغطاء. يروي البطل في هذه اللحظة ببصيرة ثاقبة أحداثا عاشها في زمن امتد عشرات القرون، أحداثا كان في غفلة منها فتكشفت له وصار شاهدا عليها، يعرف كل شيء عنها ويحكم عليها ببصيرة:
«...أنا في عالم جديد، تهاجمني خلاله ذكريات تافهة، غريبة، من الحياة التي تغادرني.. وجاءت سكرة الموت بالحق.. لم أعد في غفلة من شيء.. بصري اليوم حديد.. أضاءت سكرة الموت تلافيف حياتي التي ظهرت بصور مكبرة آلاف المرات، والزوايا المظلمة كأنما صوبت عليها آلاف الشموس الصحراوية الموتورة.. انزاحت الحواجز بين الظاهر والباطن، البادي والخفي، المعلوم والمجهول.. الوعي يتم من خارج منطقة الوعي. إنني من منطقة ما بعد الحياة، وما قبل الموت، من منطقة التخوم، أستعيد شريط حياتي.. أسمعه، وأراه، أدركه بالتفاصيل. ليس فيه قبل ولا بعد.. أنا الذي أفنيت حياتي أحاول٬ بلا جدوى٬ أن أربط حياتي بأحلامي، وشعوري بلا شعوري، ووعيي بوعي الآخرين، لأصدر حكما على الآخرين، وعلى ذاتي، وعلى الزمن، وارتدت محاولاتي يائسة مخذولة.. ها أنذا أشاهد ما عجزت عنه طوال حياتي يتحقق من تلقاء نفسه ساعة موتي.. الآن٬ وبعد ما خرجت من الميدان، أرى نتيجة المعركة الحاسمة بين حياتي وأحلامي، مجسدة أمامي بدقة متناهية، كل شيء فيها يأخذ حجمه الصحيح قبل أن تلتهمها بالوعة العدم. أرى العالم كله من عدسة ناظور، كله الآن بديهيات، لم تعد ثمة ألغاز ولا أسرار.. كله على مستوى واحد من الوضوح. الزمن اختزل نفسه في بعد واحد، لم يعد ثمة ماض ولا مستقبل، أصبح حاضرا فحسب.. وشخصت البداية..» (ص 9-10).
تتجلى في القصص القرآني كل الحقيقة الإنسانية، وكل تحديات الحاضر. هذا ما جعلني أستلهم من القرآن الكريم أهم موضوعاتي الروائية. ففي روايتي الأولى، الحب المستحيل، تمحور الحكي حول الأمانة الواردة في الآية قبل الأخيرة من سورة الأحزاب. { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}. فالأمانة هي أمانة العلم الذي أودعه الله الإنسان، عندما علمه الأسماء: {وعلم آدم الأسماء كلها} (الآية)، والظلم هو الجهالة المحكوم بها أزليا على الإنسان، والتي تجلت في زلاته في ماضيه وحاضره وفي مستقبله، وهذا ما تكرسه المدن غير الفاضلة في الحب المستحيل. أما بنية مدينة الرياح فهي تمثُّلٌ لقَصص سورة الكهف. فالأجزاء الثلاثة في الرواية تتناص مع القَصص في هذه السورة: (قصة أصحاب الكهف، قصة موسى عليه السلام والخضر، وقصة ذي القرنين). كما أن هذه الأجزاء الثلاثة تتمثل المحطات الثلاث في قصة موسى عليه السلام والخضر (خرق السفينة، قتل الغلام، إقامة الجدار).
تتقاطع الثيمات في الرواية مع موضوعات القَصص في هذه السورة: السفر خارج الزمن (زمن الكهف) البصيرة (مجمع بحري المعرفة الإنسانية والمعرفة الإلهية)، الفعل وعلاقته بالخير والشر (خرق السفينة، قتل الغلام، إقامة الجدار)، وأيضا غرور الإنسان وقصور بصيرته (اعتراض موسى عليه السلام على أفعال الخضر). وهي أمور تتمثل في الحكي من خلال حكم كاهنة أوداغوست على ﮜارَا : "لن تستطيع أبدا أن تحكم بتمعن على المستقبل بالحاضر.." (الرواية ص61). وهو الحكم نفسه الذي تحكم به الكهانة على أوديب في اتراجيديا صوفوكل. لكن التناص يتجلى بشكل أوضح في كون "كهف" أصحاب الكهف برزخا زمانيا ومكانيا: {وترى الشمس إذا طلعت تزَّاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه..}. والمكان في مدينة الرياح كهف برزخي، فجمهورية ﺗﻧﮕَلَّ هي "جمهورية المنكب البرزخي الديمقراطية". كما أن أحداث الرواية تدور في الفضاء الموريتاني الذي يسميه الشيخ محمد المامي "المنكب البرزخي" ويقول عنه أبو الهامة:"هذه الأرض برزخ" (ص54)، كما أن ﮜارَا يقول: "كهفي ممتلئ سوداوية إلى حد الفيضان.." (ص125)، وزمانها زمن كهفي: البطل ﮜارَا ينقله الخضير في اللازمان٬ من فترة تاريخية إلى أخرى. والحكي في الرواية ينتقل مرتين من الزمن إلى اللازمان حيث يفر البطل في نهاية الفصل الأول إلى قمة الجبل فيلتقي الخضير، و يفر في نهاية الجزء الثاني ليلتقيه مرة ثانية؛ مثلما هو الحال في سورة الكهف التي ينتقل قَصصها مرتين من الزمن إلى اللازمان: الأولى عندما يعتزل أصحاب الكهف مجتمعهم ويلجئون إلى الكهف، والثانية عندما يصل موسى عليه السلام إلى مجمع البحرين ليلتقي الخضر.
ومن أبرز إشكاليات هذا التناص المقابلة بين الجزء الأخير من الرواية الذي يتناول مستقبل مجتمع التقانة، وقصة ذي القرنين التي تتناول مصير الأرض بعدما مُكن للإنسان فيها: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} (الآية)، كما أن ﮜارَا والثعلب و فاله وكلابها و النمادي وكلابهم يشكلون في الرواية تمثلا لأصحاب الكهف وكلبهم، وأيضا فإن لازمة رواية مدينة الرياح: "إذا كنت رافضا للقدر فاعتزل البشر، وانفرد في الصحراء وانتظر أمر ربك.." هي تمثل لنداء أصحاب الكهف {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} (الكهف:16) في نهاية الجزء الأول من الرواية، يهرب ﮜارَا من مجتمع بشري فاسد، مجتمع أُودَاغُوسْتْ فيأوي إلى رأس جبل الغلاوية منتظرا الخلاص بالموت أو رحمة من الله، مجيبا نداء البعيد الذي جعل أصحاب الكهف يعتزلون مجتمعهم، فهو ينتج ويؤول على صعيد حياته البشرية هذا النداء الذي أجابه أصحاب الكهف. وهو نفس النداء الذي جعل موسى عليه السلام يقصد مجمع البحرين (بحر المعرفة الإنسانية وبحر المعرفة الإلهية) ليلتقي الخضر (الخضير في الرواية).
يظن الإنسان أنه صائب النظر وأنه يسعى من أجل الخير وطبق الهدف الذي حدد لنفسه. لكنه في أغلب الأحيان يكون أعمى، بينما يظن أنه يبصر؛ فتنتج أفعاله عكس ما أراد. يظن الإنسان - والحالة هذه- أنه يسعى لمصلحته، وهو في الحقيقة يعمل لهلاكه. فيكون التخلص من الظاهر سبيلا أوحد لاكتشاف الحقيقة الجوهرية ومعرفة الحكمة الإلهية. وهذا بالضبط هو موضوع القَصص القرآني في سورة الكهف. ففي مستهل هذه السورة تأتي قصة أصحاب الكهف الهاربين من ظلم المجتمع البشري، والذين يتقبلهم الله في رحمته، فيخرجهم من الزمن الفلكي ليدخلهم في الزمن الكهفي: {وترى الشمس إذا طلعت تزَّاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه}، ليرجعهم بعد قرون إلي مجتمعهم، فيروا ما آل إليه. ثم تروي السورة قصة موسى عليه السلام والخضر، التي تُظهر بجلاء قصور البصيرة الإنسانية وعجزها عن تقصي الحقيقة. وفي الأخير تروي سورة الكهف قصة ذي القرنين الذي ملك المشرق والمغرب، وجال الأرض مكتشفا الوجوه المختلفة لفعل الإنسان فيها، حتى وصل بين السدين وأقام السد دون يأجوج ومأجوج. وتُستنتج دلالة هذا القَصص في الآية97 من السورة : {قل هل نُنَبِّئُكُمْ بالأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}.

قديم 04-03-2012, 10:37 PM
المشاركة 349
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
يستوحي نص مدينه الرياح هذا المعنى ويتناوله على صعيد الزمن البشري، زمن التاريخ، ليقارن أفعال البشر في فترات من التاريخ متباعدة ، لكن ضمن تاريخ بلد واحد (موريتانيا) من الماضي إلى الحاضر والمستقبل٬ تقاس من خلالها بصيرة الإنسان، وهل هو يسعى إلى الخير أم إلى الهلاك، وهل أن الإنسان ينتقل، بفعله في التاريخ، إلى الأفضل أم أنه يرذل. هكذا يكون ﮜارَا ، بطل رواية مدينة الرياح، الضمير الذي يقارن بين الماضي والمستقبل في مسيرة التاريخ، وهو الإنسان المنتشل من المستقبل البعيد ليروي ذاكرة الماضي السحيق.
أما في مدينة الرياح فإن تأويل قصة ذي القرنين من سورة الكهف نتج عنه تصور لما سيؤول إليه مجتمع التقانة. فعند ما أتدبر محطات ذي القرنين في سورة الكهف، وأتدبر تمكينه في الأرض وإتيانه أسباب الأشياء كلها، فالذي يتبادر إلى ذهني هو الإنسان التقاني الذي غزا مشارق الأرض ومغاربها، والذي تحكم في الطبيعة: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} (الآية 83). وعندما أتدبر ما ورد في القرآن الكريم عن محطات ذي القرنين (العين الحمئة، القوم الذين تطلع عليهم الشمس دون ستر ، البشر الذين لا يفقهون قولا و يأجوج ومأجوج) فإنه يحضر ذهني تلوث المياه وتشقق طبقة الأوزون في الغلاف الجوي التي نتجت عن جهالات البشر وفساده: {إن يأجوج و مأجوج مفسدون في الأرض} (الأية90) وهي كلها أمور تذكر بما آل إليه مجتمع التقانة.
رافق هذا التأويل لقصة ذي القرنين في الجزء الأخير من رواية مدينة الرياح توظيف آخر للتراث في مجال الموسيقى الشعبية البيضانية (موسيقى البيضان، الموريتانيين البيض) من خلال استلهام (جانْبَتْ الغول) طريق ﮔﻠنَيْدِيَّ في التِّيدِنِيتْ، التي أوحت بمجتمع مستقبلي وقع في التهلكة. فمَوْسَقَتْ ﻟﮕنيدي الجزء الأخير من الرواية الذي يتناول مجتمع ﺗﻧﮕَلَّ ومدينته غير الفاضلة (مدينه الرياح)، ﺗﻧﮕَلَّ "الغول الْمُلَوِّثْ" (الرواية) الذي حول المجابات الكبرى إلى مخزن للنفايات السامة.
II. مَوْسَقَةُ الرواية
ينتظم نص مدينة الرياح تحديدا على شكل جلسة موسيقية بيضانية، وتأتي أجزاؤه وفصوله على شكل طرق ومقامات التيدنيت (عود الموسيقى البيضانية). فيقابل الجزء الأول من النص الطريق السوداء (أول طرق التيدنيت)، والجزء الثاني يقابل الطريق البيضاء (الطريق الثاني من التيدنيت)، ويقابل الجزء الثالث طريق ﻟﮕنيدي (الطريق الثالثة في التيدنيت)، لأن هذا الجزء من الرواية يتناول المجتمع التقاني المستقبلي الذي فقد إنسانيته ولأن طريق ﻟﮕنيدي تمثل الموسيقى التي لم يعزفها البشر، بل إن عازفها هو الغول انْوَفَّلْ (الغول لغة يعني الهلكة، وكل ما أهلك الإنسان فهو غول، أو الغول: كل ما زال به العقل).
جاءت ﻟﮕنيدي في النص باسم برج التبانة، لأنها ترمز لعالم آخر، ولأن عازفها لا ينتمي إلى عالم البشر؛ ولأن الجزء الأخير الذي يقابلها تدور أحداثه في فترة مستقبلية هاجر فيها بعض البشر من الكوكب الأرضي إلى عوالم أخر، وفيها صارت بعض الكائنات الفضائية تجوب برج التبانة، وأحيانا تحط على الأرض بحثا عن شذرات من عصرها الذهبي، كما هو حال سُولِيمَا التي تصطاد النفوس الخيرة في برج التبانة٬ مسافرة في ثقوبه السوداء بسرعة الضوء٬ من نقطة إلى أخرى من مجرتنا. وهي ترمز في الرواية إلى نَمَادِي الفضاء المقابلين لنَمَادِي المجابات الكبرى. هذا ما جعلها تساعدهم في ثورتهم البيئية. واسم (سوليما) منحوت من الحروف الأولى من كلمات فرنسية ثلاث: Soleil (الشمس) و Libya (اسم النقطة 32 من الخريطة الأرضية لكوكب المريخ) و Mars (المريخ)؛ وذلك لأنها لما كانت تُحضِّر رحلتها إلى الأرض تدربت في "مركز تدريس اللغات والحضارات الإنسانية" الموجود داخل النظام الشمسي في ليبيا، على المريخ.
في مراكز تخزين النفايات السامة، التي ترمز إلى هَلَكَةِ مجتمع التقانة وفساد أهله في الأرض؛ جاءت موسيقى ﻟﮕنيدي، طريق الغول انوفل ، كما وصفها ﮜارَا: «ثقيلة، صاخبة، حادة، متلاحقة، سريعة، تعجل عن الآذان فتخترق الجسم، لتدخل من جميع مسام الجسد، ألحانها غليظة فاحشة..» (ص162). ويضيف ﮜارَا واصفا هذه الموسيقى، )في الصفحة 164 (: «كنت منزعجا شديد التوتر من الموسيقى الجحيمية التي تبعث النكد وتدفع إلى الإحساس بالقرف والغثيان؛ كتائب مسلحة بعتاد كثيف من الآلات الكهربائية والالكترونية تتبارى في الصخب الذي يفجر طبلة الأذن، وينفذ إلى مواطن الإحساس، كالمكاوي؛ سيل عرم من المفرقعات المحطِّمة للسكينة، العديمة التناسق والتناغم، يرافقها صراخ مسعور، يكرر ذات النبحة في نشاز أبدي. كلمات الأغنية في ضمير الأنا تحكي عناد البشر في ضلالاتهم، موقعة على أوزان قصيرة مبتذلة..».
تقابل مقدمات أجزاء الرواية الثلاثة مداخل طرق التيدنيت وتوجد في كل جزء خمسة فصول تقابل المقامات (أَظْهُورَ) الخمسة، المشكلة لكل طريق من طرق التيدنيت، وهو ما يوضحه الجدول التالي:
(جدول التناص بين مدينة الرياح و التيدنيت )

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

مدينة الرياح التيدنيت
الجزء الأول: برج السوداء. (تدور
أحداث هذا الجزء من الرواية في قرى
ﮔﻧﮕار َالسود)
اطْرﻳﮓْ الكَحْلَ (خَبْطَتْ لَكْوَرْ): معزوفة لكور(الزنوج):
ﮔُولْ الحَمَّادِ كانْ اسْعَ/ وَجْبَرْ مَانْ اسْلاكَتْ لَنْفَاسْ
اُمَرَّتْ عَنُّ ذِيكْ الخَلْعَ/ إِسَوَّلِّ ذاك امْنْ النَّاسْ
عنْ ﻟﻓﮔيعَ وا ﻟﻤﻓﮕﻊ / شَنْهِ مارَتْهُمْ فَنْتَماسْ
ﻟﻓﮔيعَ َ خَبْطَ تُمَوَّرْ /مارَ فَالتَّاشَبَّطْ تَظْهَرْ
وا ﻟﻤﻓﮕﻊ خَبْطَتْ لَكْوَرْ/ مَارَتْهَ فَلْمَهْرْ اَرَدَّاسْ وَاصْلْ انْتَمَاسْ ادْخُولْ افْكَرْ/ فِيهْ الطَّزَانَ غَيْرْانَّاسْ
ﮔَالَتْ عَنُّ هُوَّ ذَ الدَّهْرْ/ فَاصَلْ فَطَّزَانَ والسَّاسْ
مقدمة الجزء الأول: آﮔْوَيْدِيرْ
(بحوث أثرية في مقبرة الغَلاَّوِيَّة القديمة) آﮔْوَيَدِيرْ: شُورْ فَكْحَالْ انْتَمَاسْ (مقام من فواتح الطريق السوداء و كلمة آﮔويدير تعني المقبرة(
الفصل الأول: "الذهب": وصف قافلة الملح التي كانت تجوب "بلاد الذهب": الاسم القديم لمواطن زنوج موريتانيا
ثيمات الفصل الأول:
- وصف تحميل القافلة.
- الأب يخذل ابنه ﮜارَا.
- ظهور شخصية النصراني الكافر.
- فاله، بطلة الرواية وأيضا اسم امرأة من شنقيط مشهورة في تاريخ موسيقى التيدنيت كَرْ اطْرِﻳﮓْ الكَحْلَ: انْتَمَاسْ (المعزوفة الأولى من الطريق السوداء)
لَشْوَارْ (المقامات):
- آوديد ( أصل هذا الشُّورْ محاكات رغاء الإبل
عند تحميل قافلة تِيشِيتْ)
- ﮔَيْوَارْ: يدل اسم هذا المقام على الخَذُولِ
- لَكْوَيْفَرْ: الكويفر
- فاله: شاهده: «يُوﮔِ يَيُوﮔِ بُولَيْدِي»
الفصل الثاني: مُوسَ اسْبَعْ
- البَرْزَخْ: مكان الرواية.
ثيمات الفصل:
- أطفال القرية يمارسون لعبة "ادْيَرَا لاكَسِّ"(استحداث زئير الأسد)
- حنين البطل إلى قريته وأصدقائه.
- زوجة تَالُوثَانْ تعشق رجلا آخر. فَاغُ اطْرﻴﮕ الكَحْلَ: ﺗﻧﭼُوﮔَ.
البَرْزَخْ ادْخُولْ(مقدمة) في ﺗﻧﭼُوﮔَ
لشوار (المقامات):
- مُوسَ اسْبَعْ (استحداث زئير الأسد)
- المَشَوَّشْ: اسم هذا المقام يعني (الذي يحن إلى الأحبة)
- اتْرَوْجِيحْ: اسم هذا المقام يعني (ترجيح شيء أو شخص على آخر) كلماته: يَلاَّلِ نَخْتِيرٌ عَنٌّ
الفصل الثالث: الرَّشْقُ
ثيمات الفصل
- المطر يفاجئ القافلة التي تضطر إلى دفن أحمالها. وتصل غَانَا، آخر قرى السودان، قبل أوْدَاقُوسْتْ وفيها يتعرض البطل للرشق مع باقي عبيد القافلة
- البائعة تعرض سلعها على ﮜارَا، رغم أنه مربوط إلى مؤخرة الجمل، ويمشي بين رجليه تفاديا لرشق الأطفال.
اكْحَالْ اطْرﻴﮔْ الْكَحْلَ: هَيْبَ
لَشْوَارْ (المقامات):
- الرَّاﺷﮔَ: وكلمة الَّرﺷﮔَ تعني نوبة المطر
- اتْعَسْرِ، وكلمة اتعسر في الحسانية تدل
على شيء يأتي في غير موضعه
الفصل الرابع: اللَّيَّنْ
ثيمة الفصل
- البطل يقع في حب فاله في أوْدَاغٌوسْتْ سَنِّيمَ الْبَيْظَ: ﻣﻐﭼّوﮔَ (مقام الحب في التيدنيت)
لَشْوَارْ (المقامات):
- اللَّيِّنْ
الفصل الخامس: الْبَرَّانِ
ثيمة الفصل:
- بعد ظهور المذنب يحدث انقلاب في كيان البطل الذي يصبح "غريبا على الأرض" (ص70)
ابْتَيْتْ اطْرﻳﮔْ الكَحْلَ: بَيْقِ
لَشْوَارْ (المقامات):
- الْبَرَّانِ: كلمة البران تعني الغريب
- الْهَايْمَاتْ: (الهائمات)
الجزء الثاني: "برج البيضاء" (البيضان والنصارى): تدور أحداث هذا الجزء في الفضاءات التي يسكنها البيضان، كما يتناول عاداتهم وتاريخ موريتانيا الحديث (مجيء المستعمر، قتل كبلاني)
اطْرﻳﮔْ البَيْظَ: مقام لَبْيَاظْ يرمز إلى البِيظَانْ وإلى لغتهم (وَذْنُ بَيْظَ،٬ اَبَيْظَنْ مَنْ تِيدِنِيتْ وَلْ مَانُ)
المقدمة: "الطبل" (الرياح "تدوي في جنبات الكدية كالطبل") (ص 81)
كتائب النسور تحوم باحثة عن جثة، تنتظر موت البطل ادْخُولْ اطْرﻳﮔْ البَيْظَ: مَكَّ مُوسَ
لَشْوَارْ (المقامات):
- أﮔَتْمَارْ (كلمة أﮔَتْمَارْ تعني الطبل)
- اتَّحْوَامْ (لَعْسَيْرِ): كلمة التحوام في الحسانية
تعني حَوَمَانُ الطير
الفصل الأول: "الأبكم"
ثيمات الفصل:
- البعثة الأثرية تلتقط البطل من قمة جبل الغلاوية وهو فاقد الكلام.
- فاله خائفة من هذا الجسم الهامد، فهي تصرخ وتلوذ ﺒﮔُوسْتْبَسْتَرْ
- مجنون الكلام (القناص المهذار)
- سقوط البطل من فوق الجمل يعيد إليه قدرته على الكلام
كَرْ اطْرﻳﮔْ البَيْظَ مَكَّ مُوسَ
لَشْوَارْ (المقامات):
أَنَيْوَالْ لَبْكَمْ:الأبكم. شاهده:
وَلْفِ دَمْعَتْهَ بَتَّجْلاَجْ /يَامَسْ تَجْرِ مَاسَكْنَتْ
أَرَاعِ ذُوكْ اذْنُوبَكْ يَالْحَاجْ/ هَيَّ ﮔَاعْ اتْبَانْ اﻧﻓﮔﻌَتْ
- اتْشَيْمِّيرْ (كلماته: ظَحْكَتْ فَالَهْ تَنْزَاهْ الْعَيْنْ...)
- لَمْجَيْنِينْ (تصغير كلمة مجنون): اسْرُوزِ لَكْحَلْ
- كَلَمْتْ الَبَيْكَمْ (اسم هذا الشور يعني كلمة الأبكم)
الفصل الثاني: "انْتْرَشْ"
ثيمات الفصل:
- البطل يحل محل مَرْدُوشَا في خدمة فاله
- فاله تختار "مَعْطَلَّ" اسما للبطل. فَاغُ اطْرﻳﮔْ الْبَيْظَ: اسْرُوزِ
لَشْوَارْ (المقامات):
- انْتْرَشْ (و كلمة انْتْرَشْ تعني أقحم في الأمر)
- الْحَرْ (و كلمة الْحَرْ تعني العتيق: معطل اسم من أسماء العتقاء)
الفصل الثالث: التَّرِكة

ثيمة الفصل:
يتناول هذا الفصل الإرث الحضاري الموريتاني من خلال خصوصيات مجتمع البيضان القديم
وتقاليده
اكْحَالْ اطْرﻳﮔْ الْبَيْظَ: انْيَامَ
لَشْوَارْ (المقامات):
- التَّرِكَة )الميراث(: (شُورْ فَتَّحْزَامْ)
الفصل الرابع: محنة
ثيمة الفصل:
- يتناول هذا الفصل محنة الاستعمار من خلال وصف السيبة في ﺗﺟﮕﺞ إثر قتل كبلاني
ابْيَاظْ اطْرﻳﮔْ الْبَيْظَ: جَيْنَّ
لَشْوَارْ (المقامات):
- الْمَحْنَ (المحنة)
الفصل الخامس: "العتق"
ثيمات الفصل
- عملية تنفذها المقاومة ضد بعثة المستعمر أثناء ترحالها بين ﺗﺟﮕﺞ وتيشيت
- البطل يهرب من أسر ﮔُوسْتْبَسْتَرْ اْبتَيْتْ اطْرﻳﮔْ البَيْظَ: ﻟﻌﺘﻳﮔْ (العتق)
لَشْوَارْ (المقامات):
- لَرْحَالْ (الأرحال)
- الرﻣﮕانِ
الجزءْ الثالث: "برج التبانة"
يتناول هذا الجزء الأخير من الرواية الدواهي التي تهدد البشر بالهلاك بعدما عم الفساد الأرض. (من شخوص هذا الجزء: الغول ﺗﻧﮕَلَّ(كل ما أهلك الإنسان فهو غول) اطْرﻳﮔ ﻟﮔنيدي: اطْرﻳﮔْ الغُولْ انْوَفَّلْ(طريق الغول انْوَفَّلْ)، وكلمة غول تعني الهلكة والداهية. "ﻟﮕنيدي اطْرﻳﮔْ فَتِّيدَنِيتْ "بَيْنْ اسْمَ واتْرَابْ"("ﻟﮕنيدي طريق في التيدنيت بين السماء والأرض"، كما يقول موسيقيو البيضان)
المقدمة: "انْوَفَّلْ" ادْخُولْ ﻟﮔنيدي: انْوَفَّلْ
الفصل الأول: "الْمَاشِ"
ثيمات الفصل:
- البطل يتيه بلا هدف في منطقة الباطن ويكتشف مركز النفايات السامة كَرْ اطْرﻳﮔ ْﻟﮕنيدي: انْوَفَّلْ
لَشْوَارْ (المقامات):
- الْمَاشِ (الماشي)
الفصل الثاني: النَّوْحُ
ثيمات الفصل:
- البطل يبكي ويصرخ مستنجدا بالخضير (ص 154)
- أُمَّة مراكز النفايات السامة هي شر الأمم
فَاغُ اطْرﻳﮔ ﻟﮕنيدي: فَاغُ لَكْبِيرْ
لَشْوَارْ (المقامات):
- انْوَاحْ: الصيغة الحسانية لكلمة "النوح " في الفصحى
- الرﮋَّ: الصاعقة
الفصل الثالث: نهوند
ثيمة الفصل:
- سوليما تتغول للبطل في صورة امرأة فاتنة اكْحَالْ ﻟﮔنيدي: نَهَوَنْدْ
لَشْوَارْ (المقامات):
- اﺗﮋَخْرِيفْ: اسم هذا الشور يعني التشكل في ألوان بديعة
الفصل الرابع: لَبْرَازْ(المبارزة)
ثيمات الفصل
- مبارزة كلامية بين سائق شاحنة النفايات السامة وخفيرها
- يتقمص البطل زي سُولِيمَا للتخفي ويتمكن من الهروب من مركز النفايات السامة ليلجأ إلى دار فاله (يقف عند الباب مناديا: فَالَه افْتِحي الدار")ص 176
- "كانت فاله حزينة دائما، تبكي أحيانا
بدون سبب مفهوم... كانت تغيب أسابيع
طويلة..." ص 179
ابْيَاظْ اطْرﻳﮔ ﻟﮕنيدي لَبْرَازْ، ﭽﮔْرَاتْ، ﻣﻧﭼَلَّ
شاهد مقام انْوَفَّلْ: "فَالَه حَلِّ ادَّارْ..." (فاله افتحي الدار)
لشوار :
ﭽﮔْرَاتْ شاهد ﭽﮔْرَاتْ:
"آن ﮋﻧﮕرَ نَبْغِيهَ /هِيَّ قَالَتْ مَا تَبْغِينِ
آنَ نَفْرَحْ بَمْجِيهَ /هِيَّ تَبْكِ لَيْنْ اتْجِينِ
(أنا ﮋﻧﮕرَ أحببتها /وهي تصدني
أسر بقدومها /وهي تبكي حين تجيئني)
الفصل الخامس: "ﺒﻳﮔِ الْمُخَالَفْ" ابْتَيْتْ اطْرﻳﮔ ﻟﮕنيدي: ﺒﻳﮔِ الْمُخَالَفْ
جاء هذا التقابل بين أجزاء وفصول الرواية وطرق ومقامات التيدنيت ليبرز علاقة موضوع الحكي في كل جزء مع دلالات الطريق المقابل في التيدنيت، والعلاقة بين ثيمات الفصول وثيمات المقامات. وهذا التناص بين الرواية والتيدنيت نابع من الطبيعة المشتركة للزمن الروائي والزمن الموسيقي، لأن الأدب والموسيقى يحاكيان زمن الأسطورة، ولأن زمن الرواية وزمن الموسيقى، حالهما حال زمن الأسطورة، ينقذان من مأساة النهاية. يكثر الاسترجاع في الرواية لأن موسيقي التيدنيت تفرض الترديدة والاسترجاع والتنويع، ويستدير زمنها كما يستدير الزمن في طرق التيدنيت ومقاماتها. هكذا إذن تنهل رواية مدينة الرياح من معين ميتلوجيا موسيقى التيدنيت، وبهذا تكون رواية سينفونية بالمعنى الحقيقي.

قديم 04-03-2012, 10:38 PM
المشاركة 350
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
III. ﮔﺎرَا ، شاهد على الزمن
إن اتراجيديا والدين واختيار المكان والزمن السيسيو تاريخي، تشكل مسوغات أسست خلال الحكي وجوه ﮜارَا المختلفة. والحدث الملهِم الذي انطلق منه الحكي، في مدينة الرياح، كان اكتشافَ هذا الاسم. كانت الفكرة التي سبقت اكتشاف اسم بطل الرواية وكتابتها تتصور عملا روائيا أقرب إلى اللوحة السيسيو تاريخية للمجتمع الموريتاني. هكذا فرضت الفترة المرابطية نفسها كبداية، لأنها المرحلة المؤسسة لتاريخ هذا البلد. في تلك الفترة كان صنهاجة يقطنون شمال وغرب موريتانيا، بينما كان ﮔﻧﮕار َ يسكنون الجنوب والجنوب الشرقي، فيكون إذن المجتمع الصنهاجي-ااﮕﻧﮕارِي هو مجتمع الرواية. ومن ثم جاء دور موسيقى التيدنيت التي أنتجها المجتمع الصنهاجي- ااﮕﻧﮕارِي ، بثلاثيتها التي طبعت ثقافة البيضان والتي شكلت ثلاثية النص. وخلال بحثي عن أسماء شخوص هذه الفترة التي قد ترد في الحكي، اكتشفت أن الاسم الحقيقي لعبد الله بن ياسين، داعية المرابطين، هو سيدي عبد الله مُولْ ﮜارَا ، ووجدت أن "ﮜارَا" اسم يعبر بجلاء عن تلك المرحلة من تاريخ هذا البلد، ببعديها الصنهاجي و ااﮕﻧﮕارِي. ف"ﮜارَ" (قَارَةٌ) كلمة تحمل رنينا سودانيا ﮔﻧﮕاريا، وهي في نفس الوقت كلمة بيضانية عربية تعني –كما ورد سابقا- الجبيل الأسود الشاهد. وبما أن سيدي عبد الله مول ﮜارَا، المعروف بابن ياسين، كان بطل تلك الفترة التاريخية، توصلت إلى نتيجة مؤداها أن اسم بطل الرواية سيكون "ﮜارا". وجاء اسم أبي البطل "فارَا مُولْ" نتيجة لهذا الإلهام: "مول"، إشارة إلى الأصل البربري لاسم ﮜارَا، و"فارا" إشارة إلى أصله ااﮕﻧﮕارِي. وهكذا تكون ثنائية الفترة، بجانبيها الصنهاجي و ااﮕﻧﮕارِي ، قد تجسدت في اسم البطل. عندها بدأت استكشف هذا الاسم، أعني اسم ﮜارَا ٬ لأن الاسم، كما يقول رولان بارت(Roland Barthes) «يمكن أن يستكشف وأن يتكشف وتحل رموزه. فهو وسط بالمعنى البيولوجي، يمكن أن نغوص فيه، ونسبح إلى ما لانهاية في التأملات والمتخيل اللذين ينطوي عليهما٬ كما تحتوي الصَّدَفَةُ درتها، أو كما تختزن الوردة أريجها قبل تفتقها. وبعبارة أخرى فإن اسم العلم يحمل دائما في طياته معنى مكثفا.»
إن تفتق معنى ودلالات اسم ﮜارَا هو الذي أعطى لشخص بطل الرواية وظيفته كشاهد على الزمن الغابر، و الذي يمكن أن يجتاز الحقب. وهذا المعنى المستوحى من طيات الاسم هو الذي أوجد فكرة حكي يتناول فترات زمنية متباعدة؛ كما أنه أوجد فكرة انتقال البطل من الزمن الفلكي إلى اللازمان، لكي يتمكن من الانتقال من فترة زمنية إلى أخرى. ومن ثم جاءت فكرة الزمن الكهفي وفكرة الخضر، مَلَكُ الزمن، الذي يمكن البطل من الانتقال في اللازمان. يظهر من هذا أن الرواية كلها تبلورت انطلاقا من استكشاف دلالات هذا الاسم.
يرمز ﮜارَا لوجوه عدة من أسطورة أُدِيبْ (Œdipe) : فهو مثل لايوس (Laïos) والد أديب، تخبره الكهانة بأن ابنه سيقتله، كما أخبرت Laïos في الأسطورة اليونانية. لكن ﺗﻧﮕَلَّ، قاتل جده والمتزوج جدته، لم يفقأ عينيه ، كما فعل بطل اتراجيديا اليونانية، لأنه الأديب التقاني، الغارق في الظاهر، المنغمس في الخطيئة.

هكذا يُنْزَعُ البطل من الزمن، ليُخلص من مأساته، وليصير شاهدا عليه. فيتحول إلى كائن خارج الزمن، يُنتشل ليدلي بشهادته. إلا أن ﮜارَا كان منقطعا عن ذاته وعن الآخرين وعن الزمن الماضي، عاجزا عن التذكر في كل الفترات التي عاشها بعد الفترة الأولى. النوم وحده هو الذي يمكنه - في نوبات أحلام وجيزة- من الشعور بذاته وبالأزمنة الغابرة التي عاشها. لكنه مع كل يقظة يفقد ذاته ويرجع إلى عبثية وجوده. فقط ٬ وبعد موته٬ عندما انتشل بعد أزمنة طويلة، باح بسره، ودخل دائرة الخلود. بعد تحليل معهد أركيولوجيا الفكر الإنساني لبقايا مادة لَمْيَلِينْ في جمجمته ، ظهرت الأفكار التي اختلجت في نفسه لحظة سكرة الموت، والتي حملت شهادته على القرون التي جابها. وهكذا تكون سكرة موته قد أنتجت لحظة تخيل أدبي، صار بموجبها فعل حياته فعل بطل، وتلك هي وظيفة التذكر التي تسمو بالحياة إلى قدر إلهي، حسب عبارة أفلاطون. هكذا شكلت عظام ﮜارَا النخرة، التي حتها الزمن، الصفحة البيضاء، الفارغة، الموحية باليأس والموت والتي عليها كتب الباحثون الأثريون، بعدما عبطوا الأرض، ملحمة حياة دامت أكثر من عشرة قرون، واسترجعها البطل- الراوي لحظة سكرة موته. فانتفت الصفحة البيضاء، وفُتح الباب لقدر معاكس. فنتجت من حكاية، تبدو تافهة، إرادة خلاقة أعادت إنتاج متيولوجيا مذهلة.
IV. عبقرية المجابات الكبرى
تتضافر أمور كثيرة تجعل من المجابات الكبرى مسرحا روائيا خصبا. فلم يكن من الممكن أن تتجسد لوحات مدينة الرياح ولا أن توجد شخوصها خارج هذا الفضاء الصحراوي المترامي الأطراف، والذي يجعل الإنسان في مواجهة مع نفسه ومع الكون. فلا يمكن مثلا أن نتصور مصير ﮜارَا المأساوي أو كوارث التلوث التي وردت في الرواية خارج هذه المفاوز المهلكة. وهنا تظهر بجلاء جدلية المكان ومسميات الشخوص. فالوجوه الأصلية لاسم ﮜارَا٬ بطل الرواية، ترجع إلى المجابات الكبرى. فكلمة "ﮔَارَ" تعني في الجغرافيا البيضانية "الجبيل المستدق، المنفرد، الأسود، شبه الأكمة، مَلْمَلَهُ الحَتُّ، فبقي شاهدا على طبيعة عبثت بها عوامل التعرية". أخذ منه بطل الرواية اسمه ولونه الأسود، كما أخذ منه وظيفته كشاهد على أزمنة غابرة. فالمجابات الكبرى مملوءة ﮜورًا، كما هو حال ﮜارَا - البطل، الذي تَفَلَّقَ في المجابات الكبرى، فصار ﮜورا (الفتى القنقاري المخطوف، المشدود إلى ذنب جمل، والعبد الثائر في أوداغوست، والفتي الكهفي على جبل الغلاوية، والثائر الإيكولوجي في المجابات الكبرى.)
وبما أن الرواية تنطلق من الزمن والفضاء الموريتانيين كان لزاما أن تدور أحداثها في المجابات الكبرى التي صهرت طبيعتها الإنسان الموريتاني، وأنتجت أساطيره وثقافته. غير أنني اضطررت إلى تغيير التناغم الجمالي في هذا المكان من محطة من الحكي إلى أخرى. هكذا تنتقل الرواية من فضاء طرق القوافل الرحب، المفتوح، في الجزأين الأول والثاني، إلى الفضاء الضيق٬ الحرج٬ داخل مراكز تخزين النفايات السامة التي غزت المجابات الكبرى في الجزء الثالث. جاء هذا الديكور الأخير عندما غير ﮜارَا وجهه، ليغرق في تشاؤم مطلق.
V. دلالات الأسماء
عندما أكتب أترجم، أحاول أن أبث حقيقة جديدة في اللغة والمصطلحات تتجاوز قواعد التلقي والتقبل، لتنتج نصا يوحي - من خلال شرف المعنى- بدلالات جديدة للأمكنة والأزمنة والشخوص والمصطلحات، وأكون مترجما يؤَوِّل دائما الألغاز الكبرى للحياة. هذه الترجمة تنتج معاني جديدة لا توجد في أي قائمة للمصطلحات أوفي أية لغة، وتؤدي إلى النشوة الموسيقية وتحيل على الميتافيزيقا. ويتجلى تفتق هذه المعاني عندما يجتاز الإبداع حدود اللغات. هكذا فإني، ومن خلال اسم واحد من بين أسماء شخوص الرواية، ﮔُوسْتْبَسْتَرْ(Ghostbus ter) الذي نحت ليتناغم مع اسم أوْدَاغُوسْتْ، أتجاوز اللغات لأصل إلى صميم معنى وظيفة هذا الشخص في النص. فتصير كلمة قوستبستر في الرواية اسما لرئيس البعثة الأثرية التي تبحث عن أوداغوست، مدينة القوافل المفقودة التي طمرتها الرمال ولم يعد أحد يعرف مكانها. فتشكلت كلمات ثلاث، تبعا لإيقاعها الموسيقي – Ghost )ﮔوست( "شبح" بالانكليزية، Buster(باستر) "باحث"، و"Aoudaghost" ("أوداغوست"، الاسم الصنهاجي لمحطة القوافل المفقودة في الصحراء)- فجاءت كلمة "Gostbuster" اسما للباحث الأثري في الرواية، الذي يعني اسمه بالانكليزية الباحث عن الأشباح...
ترتبط دلالات الأسماء بمواضع الحكي في روايتي الحب المستحيل و مدينة الرياح. فأسماء الشخوص ليست اعتباطية، وإنما هي ذات دلالات، وتحمل في طياتها مواضيع الحكي، وهكذا تظهر الجدلية بين الأسماء والسرد. وقد تمثل بعض أسماء الشخوص نقطة انطلاق تشكل النص، وفي بعض الأحيان تفرض أسماء الشخوص نفسها انطلاقا من مسار السرد. ففي الحب المستحيل تشكل النص انطلاقا من اسم آدم الذي يرمز للإنسان الكامل، الرجل الأول الذي خرجت من ضلعه المرأة وبسببها وقع في الخطيئة، ونقض الميثاق الإلهي، فطرد من الجنة. وقصة سيدنا آدم تنبئ بزلات البشر في العصر المستقبلي، والتي يتمحور حولها النص. فاسم مَاِنكِي (Manikè) يترادف مع كلمة manikè التي تعني في اليونانية "فن التنبؤ بالمستقبل" و تعني أيضا في اللغة اليابانية المرأة التي عرفت الحب. وترمز هذه البطلة لشخص المرأة المتحكمة في مصير الرجل، وقد مثلت قدر آدم في الرواية٬ الذي تحول إلي امرأة من أجل أن يعيش حبه معها. أما (Androgyne) خُنَاثَةُ في الحب المستحيل ٬ فهو شخص يرمز، كما يوحي اسمه، إلى اختلاط الأدوار وإلى محو الفوارق بين الجنسين، الذي تفاقم في المجتمعات الحديثة. وفي الحب المستحيل يوجد أيضا شخص ريمان(Riman) الذي يوحي اسمه بالشيطانية ويمثل أهل الشر في المجتمعات الحديثة. أما شخص أبو الهامة "الرجل الدميم عظيم الهامة" في روايتي الحب المستحيل و مدينة الرياح فهو سقراط، كما وصفه أفلاطون في كتابه الثناء على سقراط. ويعود وجود شخصي الشيطان وسقراط دون أي تغيير في اسميهما أو في ملامح شخصيهما، من نص إلى آخر، إلى كون الأحداث التي تدور في الروايتين هي تجسيد للصراع الأزلي بين الخير والشر، وذلك من المنظور الديني-الفلسفي الذي جسده أبو الهامة (سقراط) في الجزء الأخير من مدينة الرياح، حيث ظهر وقد أعفى لحيته وجعل على هامته طاقية الأصوليين، وتحدث بوعظهم. يوجد مسوغ آخر لظهور سقراط في مدينة الرياح، وهو أن بعض استتباعات قراءتي لأسطورة المأدبة (الأفلاطونية) التي وردت في الحب المستحيل توجد في مدينة الرياح: فإذا كان العقاب الإلهي الذي نزل بالجنس الآنْدْرُوجيني قد نتج عنه ظهور الجنسين، الذكر والأنثى، فإن هذا الفصل رافقه فصل آخر فصم شعور كل إنسان إلى ثنائية الوعي واللاوعي، التي لا تقل خطورة عن فصل الإنسان الاندروجيني المتكامل، بأنوثته وذكورته، والذي جعل منه الزوجين الذكر والأنثى، كما ورد في أسطورة المأدبة. هذه الثنائية بين الوعي واللاوعي شكلت موضوعا محوريا في رواية مدينة الرياح.
هذه بعض التجليات التي أمكنتني من استلهام التراث في كتابة رواية الخيال العلمي.
1صدرت رواية الحب المستحيل بالفرنسية سنة 1990 عن دارL'Harmattan تحت عنوانL'Amour Impossible قبل أن تصدر بالعربية عن دار الآداب سنة 1999. وأيضا صدرت مدينة الرياح أولا بالفرنسية عن دارL'Harmattan سنة 1994 تحت عنوان Barzakh قبل أن تصدر بالعربية عن دار الآداب سنة 1996.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 86 ( الأعضاء 0 والزوار 86)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية.
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أعظم 50 عبقري عبر التاريخ : ما سر هذه العبقرية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 62 05-16-2021 01:36 PM
هل تولد الحياة من رحم الموت؟؟؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2483 09-23-2019 02:12 PM
ما سر "الروعة" في افضل مائة رواية عالمية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 523 09-09-2018 03:59 PM
اعظم 100 كتاب في التاريخ: ما سر هذه العظمة؟- دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 413 12-09-2015 01:15 PM
القديسون واليتم: ما نسبة الايتام من بين القديسين؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 18 08-22-2012 12:25 PM

الساعة الآن 12:47 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.