لقد مرت الأيام والأسابيع والشهور والأعوام سابحة فى بحر الأبدية.. وطنى صار لى أرضاً غريبة وبلاد الغرباء أصبحت وطنى..
لكن حب فتاتى لا يزال حياً فىَّ.. وكما تسقط دمعة القلب على مياه البحار كذلك غرق حبى لها فى بحر حبى للإنسانية بأسرها..
حبى الذى يشمل ملايين من أولئك الغرباء الذين لا يعرفوننى وقد شغفت بهم منذ حداثتى.

مودتي

إن الذى غرس فى قلبى هذه الآمال الحسان لا يعجز عن أن يتعهدها بلطفه وعنايته حتى تخرج ثمارها وتتلألأ أزهارها..
وإن الذى أنبت فى جناحىّ هذه القوادم والخوافى لا يرضى أن يهيضنى ويتركنى فى مكانى كسيراً لا أنهض ولا أطير..
وإن الذى سلبنى كل ما يأمل الآملون فى هذه الحياة من سرور وغبطة، ولم يبق لى منها إلا حلاوة الأمل ولذته،
لأجلّ من أن يقسو علىّ القسوة كلها فيسلبنى تلك الثمالة الباقية التى هى ملاك عيشى، وقوام حياتى.

مودتي

أحياناً يتصاعد عطر لا تعرف من أين جاء، ولا ترى أجنحة الهواء التى تحمله.. عطر غريب يتراوح بين الحنين والتوهج،
عطر مدهش تحس أنك تعرفه قبل ذلك، صافح حواسك فى مكان ما أو زمن ما أو عصر ما.. هذه رائحة الماضى..
وللماضى سحر لا يعرف تأثيره المسكر سوى الحاضر الشتائى البارد.. ثمة خيط عطرى يحرك داخلك آلة الكمان فتسمع عزفاً يذوب ولا ترى يد العازف..
وتتلفت حولك: من أين يأتى هذا العطر؟ أتراه قادماً من غرفة الذكريات داخل القلب الإنسانى؟
وتذكر أنها كانت لحظة مدهشة.. تذكر إحساسك باللحظة ولا تذكر اللحظة، تذكر كيف دمعت عيناك ورق فؤادك،
وأحسست أنك تريد أن تنحنى على الأرض وتحتضنها كلها فى صدرك.

مودتي

أشتهى فقط أن أركض مغمض العينين وراء أجمل الفراشات التى تملأ حديقتنا الريفية، وأقطفها مثلما أفعل مع الزهور الهشة، وأجمعها،
وأحذر من إتلاف ألوانها واجسادها الناعمة.. أربطها كله مع بعض بخيط من النور وبأشعة الشمس، واحممها بماء الزهر الخفيف،
وأضعها فى عمق كفيك، وأتمتم فى أذنيك: اركبى عربة الفراشات.. اركبى هذه الهشاشة، واتركيها تقودك نحو الجنة..
إنها محملة بألوان قوس قزح وهدايا الميلاد.

مودتي

ها أنا أقف على حافة هذيانى، يغادرنى حتى جسدى، يقتات الوقت على نبضى، يستخدمنى ليكمل مشوار الحياة،
ولحظة أن أتلاشى يتخلى عنى وينفينى خارج الزمن، فلا يبقى إلا رماد وحدتى، أختنق بشكل منمّق، كى يصير رحيلى موتاً ناعماً.
وأجتهد فى مغادرة مكانى وتقيدنى حيرتى، لن تنفكّ عقدتى حتى أنفث خيبتى فى ذاكرة الماضى وتعود حياتى للسير من جديد.

مودتي

حين تفقد الأشياء معناها يستوى كل شىء مع أى شىء، وبنعمة النسيان تتحول الجروح الأليمة تدريجياً إلى جروح أليفة يمكن احتمال آلامها..
ثم تتحول مع الأيام إلى ندوب لا تؤلم، لكن أثرها لا يزول!

مودتي

كأن البذور المبثوثة فى العدم، فى ثنايا الرمل، بين الصخور الصماء، تنتظر هذه اللحظة، تتلهف على لقاء السماء بالأرض،
حتى إذا تم اللقاء، تململت النطفة فى العدم، وتنفست الصعداء، وشقت الأرض أو الحجر، وأطلت برأسها بحثاً عن الشمس والحياة.
يروق له أن يتوقف وينحنى ليتأمل الوريقات الصغيرة التى تفلق طبقة الطين لترفع رأسها من العدم مدفوعة بقوة الحياة..
تهتك حجاب الظلام لتنعم بالفضاء والعراء.

مودتي

هذا الكنز الثمين هو العقل: لقد فقدتُ العقل، يابنة أخى، حين استخدمت أوقات فراغى الطويلة فى قراءات حمقاء،
ولقد ردّت لى السماء اليوم عقلى. ولن أستمتع به زمناً طويلاً، لكن امتنانى مع ذلك لا يقل شدة. وسوف أستغل على الأقل،
هذه اللحظات القصيرة، وهى وحدها المحسوبة فى حياتى، لكى أستدرك على قدر استطاعتى أخطاء ضلالى الطويل، وأن أصنع الخير الذى لم أصنعه من قبل.

مودتي

وسلالٍ من الورد،
ألمحها بين إغفاءةٍ وإفاقة
وعلى كل باقة
اسم حاملها فى بطاقة
... ... ... ...
تتحدثُ لى الزهراتُ الجميلةُ
أن أعينها اتسعت - دهشة -
لحظة القطفِ، لحظة القصفِ،
لحظة إعدامها فى الخميلة!
تتحدث لى..
أنها سقطت من على عرشها فى البساتين
ثم أفاقت على عَرضِها فى زجاج الدكاكين، أو بين أيدى المنادين،
حتى اشترتها اليدُ المتفضلةُ العابرة
تتحدث لى..
كيف جاءت إلىّ..
(وأحزانُها الملكيةُ ترفع أعناقها الخضرَ)
كى تتمنى لى العمرَ!
وهى تجود بأنفاسها الآخرة!!
كل باقة..
بين إغماءةٍ وإفاقة
تتنفس مثلى - بالكاد - ثانية.. ثانية
وعلى صدرها حملت - راضية..
اسمَ قاتلِها فى بطاقة!

مودتي