قديم 06-03-2012, 12:39 AM
المشاركة 791
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
صدر المجلد الثالث ( الجزء الثاني ) للأعمال الروائية للمشري وضم هذا المجلد ثلاث روايات هي الرواية المشهوره ( الوسميه ) وهي أول عمل روائي للمشري وبعد ذلك رواية في ( عشق حتى ) ثم الرواية الأخيرة (
المغزول ) ..

هذا المجلد معروض حاليا ً بمعرض القاهرة للكتاب والذي بدأ قبل أيام وكذلك سيكون متوفر بمعرض الكتاب القادم بالرياض وهو صادر عن دار فراديس بالبحرين .

مبروك لمحضره ورحم الله عبدالعزيز مشري وشكراً لأصدقاء الأبداع ولكل من يحتفل بالمشري ( حيا ً ... بعد موتنا )

هذا مقال علي الدميني /

ما يشبه التقديم.. للجزء الثاني من روايات عبدالعزيز مشري

بقلم / علي الدميني

تلتقي " البنى الأساسية " للروايات الثلاث المنشورة في هذا المجلد، حول ما يمكن وصفه بمحور " التناص الحياتي " بين السارد وسردياته ، فيتبدى لنا تماهي الروائي مع حياته في أعلى ذرى تتشابكها، من خلال شفافية المكاشفة والتدفق العفوي لسرد الحدث، ورسم المكان والشخصيات ، بحميمية لافتة.
ف "الوسمية "، كأول تجربة روائية للكاتب ، تتسم بوجدانية العلاقة بين الكاتب وموضوع نصه، بما يحفزه على رسمها لغويا وفق " لغة المعيش اليومي " في مجتمع القرى ، التي كانت تشكل " تعاونيات " حياتية طبيعية ، تحكمها وتتجلى عبرها جماليات ومدلولات العلاقات البشرية في أي مجتمع قروي بسيط، يعيش على إنتاج معرفته بذاته، وإنتاج خيراته لنفسه، وإقامة علاقاته المتوازنة بين أفراده، ومع المحيط المجاور.
ولذا يغدو توظيف " لغة المعيش اليومي" – التي سكّ مصطلحها هنا الدكتور معجب الزهراني – كتعبير عن رغبة عاطفية دفينة، في إيجاد معادل فني قادر على الاحتفاظ بالذكرى "الإنسان / المكان" من خلال تكريس البلاغة الخاصة لتلك اللغة اليومية البسيطة، في كتابة النص.
وهذا المنحى المختلف هو ما جعل رواية " الوسمية "تأخذ موقعها في الحقل الروائي المحلي والعربي ( اتفاقا و افتراقا) منذ البدء.
أما رواية " في عشق حتى " فإنها نص إبداعي ، تتشاكل فيه " عذرية عشق قيس وليلى " ولذة الحرمان الذي عاشاه ، مع تأملات العلامة الفقيه " ابن حزم " لحالات الافتتان والتوله في طوق الحمامة"، لتفصح جذور تلك الأمثولات العاطفية عن أشباهها المعاصرة في افتتان العاشق بمعشوقته، فكرةً كانت ، أو حلماً، أو امرأة ، عبر تجليات عشق الروائي ل "حتى" !
وحين نصل إلى الرواية الثالثة "المغزول " فإننا سنقرأ حالة أخرى من إبداع الذات لكتابة حياتها في عمل مختلف، يواجه فيه الروائي موته، بل ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في رؤية " ما بعد الموت" ، لنمضي معه في هذا النص لمعايشة أشد لحظات الألم ،وفقدان الوعي ، ولقاء الموت وما بعده، ومن ثم عود ة الروائي إلى الحياة، محملاً بنقض تراجيديات الأساطير والواقع التي يحملها الإنسان في حياته.
ولعل من الصدف العجيبة والدالة أيضاً، أن يعيش " عبد العزيز مشري " هذه التجربة ويكتبها روائيا ً في نفس الفترة التي عايش فيها شاعرنا العظيم " محمود درويش" تجربة " مواجهة الموت "، وإبداعه لملحمته الشعرية المتفردة "جدارية محمود درويش" في عام 1999م!!
** ** **
أصدقاءنا
بهذا المجلد الثالث من" الأعمال الكاملة " للراحل الباقي " عبد العزيز مشري" يسعى " أصدقاء الإبداع – أصدقاء عبد العزيز مشري" لتقديم أعماله الخصبة ، والمتعددة الاهتمامات والسمات الإبداعية ، إلى قرائه والمهتمين بإعادة التأمل فيها وقراءتها نقدياً، ليبقى صوته الإنساني والوطني حياً كما يستحق ، في سيرته العطرة، وفي غيابه الحي وحضوره بيننا.
وتبقى كلمات للتاريخ ،ولذكرى الراحل ، ورغباته، تستدعي منا الإشارة إلى أننا قد أجرينا بعض التعديلات الطفيفة على عبارات من رواية " الوسمية " ، و رواية "المغزول" ، تقديراً للضوابط الاجتماعية ( التي نعرف أن سقف حرية التعبير الإبداعي في المملكة ، قد تجاوزها، ولكن!!!) ، آملين – بحنان خالص – أن يسامحنا " عبد العزيز" على ما قمنا به من اجتهاد!!علي الدميني
أحمد مشري
من أعضاء مجموعة
"أصدقاء الإبداع- أصدقاء عبد العزيز مشري

قديم 06-03-2012, 09:26 AM
المشاركة 792
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عبد العزيز مشري
وكيبيديا

روائي وقاص سعودي ولد في قرية محضرة، بمنطقة الباحة الواقعة جنوب منطقة الطائف بحوالي 200 كم، في عام 1954 م. تفرغ للقراءة الذاتية و الرسم والكتابة الإبداعية مبكراً، حيث أعاقته ظروفه الصحية عن استكمال دراسته ، أو الانتظام في عمل وظيفي,تميز بغزارة الإنتاج وتنوع الاهتمامات ( قصة – رواية – شعر – رسم – خط – موسيقى - كتابة اجتماعية وأدبية ). نشر أعماله في الصحف والمجلات السعودية، والعديد من المجلات العربية .
• - وقد أصدر أصدقاء الإبداع – أصدقاء عبد العزيز مشري – وعلى رأسهم علي الدميني كتابا توثيقياً لمسيرة حياته الإبداعية ، بعنوان " ابن السروي .. وذاكرة القرى " في مناسبة تكريمه من قبل "جمعية الثقافة والفنون بالباحة " في عام 1999م، و قد حوى الكتاب عدداً كبيراً من أهم الدراسات النقدية التي تناولت أعماله، كما ضم حواراً شاملاً عن حياته وإبداعه ورؤاه الثقافية والاجتماعية .

مؤلفاته : 1- باقة من أدب العرب ( وهو عبارة عن مختارات تأسيسية من نصوص التراث العربي ) عام 1973م
2 - المجموعات القصصية القصيرة التالية: ( وقد أعيد إصدارها من قبل " أصدقاء الإبداع – أصدقاء عبد العزيز مشري "، ضمن مشروع إعادة نشر أعماله الكاملة ، في المجلد الأول عام 2001م)
أ - موت على الماء ( النادي الأدبي بالرياض – عام 1979م) ب - أسفار السروي ( نادي القصة السعودي – عام 1406- 1986م) ج - الزهور تبحث عن آنية ( نادي جازان الأدبي – عام 1987م) د - بوح السنابل ( نادي الطائف الأدبي – 1408- 1987) هـ - أحوال الديار ( النادي الثقافي الأدبي بجدة – 1993م) و – جاردينيا تتثاءب في النافذة ( إصدار خاص 1998م )
3- كتاب "مكاشفات السيف والوردة " ( سيرة أدبية – نادي أبها الأدبي – عام 1996م)
4- الأعمال الروائية ( الجزء الأول – المجلد الثاني من أعماله الكاملة والصادر في عام 2003م ( وقد تضمن هذا المجلد إعادة نشر كتاب "مكاشفات السيف والوردة " إضافة إلى الروايات التالية :
ا - الغيوم ومنابت الشجر ( مختارات فصول المصرية عام 1989م) ب - ريح الكادي ( المؤسسة العربية للدارسات والنشر – عام 1992م) ج - الحصون ( دار الأرض بالرياض – عام 1992م) د – صالحة ( مختارات فصول المصرية – عام 1996م)
5- الأعمال الروائية ( الجزء الثاني - وسوف تتضمن إعادة نشر الأعمال الروائية التالية):
أ – الوسمية ( دار شهدي – القاهرة – عام 1984م) ب - في عشق حتى ( المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عام 1996م) ج - المغزول ( وأصدرها أصدقاؤه بعد وفاته – أواخر عام 2005م )
وسوف يعاد إصدار الروايات الثلاث الأخيرة في المجلد الثالث من أعماله الكاملة.
مخطوطات : ترك الراحل لنا المخطوطات التالية:
1 - القصة القصيرة في المملكة " وتضمنت بعض قراءاته النقدية وتأملاته عنها" 2- ترنيمة - نصوص شعرية كما ترك عدداً كبيراً من اللوحات الزيتية والرسومات المخطوطة بالحبر ، ويطمح أصدقاؤه إلى طباعتها في كتاب.
محطات في حياته :
  • - شارك عبد العزيز في تحرير الملحق الأدبي لجريدة اليوم "المربد" من عام 75- 82م ، وأسهم بالكتابة الأدبية والاجتماعية في مختلف الصحف السعودية، وينوي أصدقاؤه اختيار بعض تلك المقالات وإصدارها في كتاب.
  • - تزوج في عام 80م من السيدة "ناهد" ،وهي مواطنة أردنية من أصل فلسطيني، وأهداها مجموعته القصصية الثانية " أسفار السروي"، وحيث لم ينجبا في عام 90م نظراً لظروفه الصحية ، فقد اختار - بطريقة نبيلة لا يباريه فيها أحد - أن ينفصلا بالتراضي بينهما ، ليتيح لها فرصة الزواج والإنجاب .
  • - أصيب بمرض السكري " في وقت مبكر من حياته ، وأدّت مضاعفات المرض ، والعقاقير الطبية مع مرور الزمن إلى التأثير على البصر، واختلال توازن حركة المشي، والفشل الكلوي واضطراره لغسيل الدم" الديلزة " ثلاث مرات في الأسبوع، وكذلك تعرضه لضغط الدم .
  • - أجريت له عملية لزراعة الكلى، في مستشفى الملك فهد بجدة، في النصف الأول من عام 1993م، وساعده نجاحها على استعادة تألقه و إبداعه في السنوات الست الأخيرة من عمره، ولكن " الغرغرينا " بدأت بغزو أطرافه، فتم بتر إصبع من يده اليسرى، ثم بترت القدم اليمنى، وبعدها تفاقم الحال حتى تم بتر ساقه اليسرى كاملة .
وفاته:
توفي رحمه الله في مستشفى الملك فهد بجدة في يوم الأحد في الساعة السادسة إلا ربع مساءً، بتاريخ 7/5/2000م، وكان إلى جانبه شقيقه الوفي أحمد مشري، وصديقه المخلص "سعد الدوسري" ، وقد ووري جثمانه الثرى في مقبرة الفيصلية بجدة، ويقع قبره في الجهة الشرقية من المقبرة على مسافة أربعة أمتار من الجدار الشرقي، وثمانية أمتار من الجدار الشمالي.
مصادر

فحته في موقع القصة العربية
http://www.arabicstory.net/?p=author&aid=111

قديم 06-03-2012, 11:08 AM
المشاركة 793
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عبد العزيز مشري
ولد في قرية محضرة بمنطقة الباحة عام 1374هـ
تفرغللقراءة الذاتية والرسم والكتابة الإبداعية مبكرا ، وحيث أعاقته ظروفه الصحية عناستكمال دراسته أو الانتظام في عمل وظيفي.
ـ تميز بغزارة الإنتاج وتنوعالاهتمامات إذ صدرت له الأعمال التالية:
1ـ باقة من أدب العرب ( مختاراتتأسيسية من نصوص التراث العربي )
2ـ المجموعات القصصية التالية : ( موت على الماء ـ أسفار السروي ـ بوح السنابل ـ الزهور تبحث عن آنية ـ أحوال الديارـ جاردينيا تتثاءب في النافذة )
3ـ الروايات التالية : ( الوسمية ـالغيوم ومنابت الشجر ـ ريح الكادي ـ الحصون ـ في عشق حتى ـ صالحة )
4ـ " مكاشفات السيف والوردة " كتابيضم سيرته الإبداعية والثقافية.
5ـ مخطوطات :
أ ـ المغزول ـ رواية .
ب ـ القصة القصيرة في المملكة ـدراساته وتأملاته فيها.
6ـ عدد من اللوحات الزيتيةوالرسومات والمخطوطة بالحبر .
ـ شارك في تحرير الملحق الدبيلجريدة المربد من عام 75 ـ 85م .
ـ كتب في كافة الصحف السعودية .
ـ أصيببمرض السكري وأدت مضاعفات هذا المرض وعلاجه مع مرور الزمن إلى تأثير على البصرواختلال في التوازن والمشي والفشل الكلوي مما اضطره للغسيل عن طريق ( الديلزة ) ،وكذلك تعرضه لضغط الدم.
ـ زرعت له عملية كلى عام 1993مبجدة وقد تمت العملية بنجاح مما ساعده على السطوع مرة أخرى ، إلا أن ( الغرغرينا ) راحت تأكل أطرافه فبترت إصبع من يده اليسرى ثم بترت قدمه اليمنى وبترت الساق اليسرىكاملة.
ـ توفي رحمة الله عليه بمشفى الملك فهد بجدة يوم الأحد عند الساعة السادسة إلا ربعا مساءً بتاريخ 7/5/2000م بحضور أخيه أحمد مشري وصديقه سعد الدوسري ، ووري جثمانه في مقبرة الفيصلية بجدة

قديم 06-03-2012, 11:11 AM
المشاركة 794
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
عن : عبد العزيز مشري
مجموعة مقالات ودراسات ومعلومات:
http://menber-a10z10.info/forum.php?action=list&cat_id=51

قديم 06-03-2012, 11:14 AM
المشاركة 795
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
حوار مع عبد العزيز مشري
كنا على الموعد في الخامسة مساءً ، في شتاء دافئ يغمر مدينة جدة ، وحين دخلت الباب الرئيسي جاء على كرسيه - الذي يجيد أخوه أحمد دفعه " وسواقته " عبر الدرج والممرات - ولم يطل عناقنا فقلت له : أتبخل علينا يا عبد العزيز أم أنك تحتفظ بالعناق لغيرنا ؟ ضحك وكان" الشنب " الكثّ المزدان بأولى الشعيرات البيضاء يهتزّ بأناقة .
جلسنا في فناء البيت الصغير حيث تُـقاسمنا شجيرة الكادي وحوض الريحان شطر المكان .
- ماذا تشرب ؟
- شاي ثقيل ورأس معسل بحريني
لم يطل الوقت حتى اكتملت عدة المجالسة وبدأ نقيق "الأرجيلة" يشاركنا حفاوة اللقاء .
قلت له : يا عبد العزيز .. أنت من عائلة كريمة تحظى بمحبة واحترام غالبية أهل قرية "محضرة " ( وليس 99% ) منهم ، وقد توارث أجدادك ثم والدك هذا التقدير الذي أهلهم للحصول على لقب "شيخ القرية"، فهل تعد نفسك لهذا اللقب بعد عمر طويل إن شاء الله؟
- قال يكفي ما احتمله جدي وأبي من تبعاته .
- قلت، وهو يعبّ من " لي " الأرجيلة : سأكون أول الرافضين لتعيينك في هذا المنصب لأنه لا يليق بقرية مثل "محضرة" أن يكون شيخها روائياً يكشف المستور والمسكوت عنه أو كاتباً مشاغباً وعنيداً مثلك، لا يثنيه عن رأيه " سبعة سيوف " .
غرق في الضحك وقال :
هذا رأيك باعتبارك أحد المناوئين لزعامتي ، ولكنني أعرف أنك قد عايشت تلك القرية التي كانت برلماناً تلقائياً شديد الإنصاف ؛ في ساحة مسجدها – يوم الجمعة - .. حيث كان الجماعة بعد أداء صلاة الجمعة .. يخرجون من باب المسجد، يتسابق كل منهم إلى مقعد أو متكأ على " الحجيرة " المحيطة بتلك الساحة، يستمع للجديد والمطروح .. واحد يشتكي من التعديات البهائمية ، وآخر يشكو من مظلمة في مزرعته ، وثالث يدعو الجماعة لعزيمة زواج ابنه أو ابنتــه، أو دعـوة لـ" طينة " سقف البيت الحجري الذي بني ونما بين عيون الكل .. هل رأيت كيف كانت تأتي المرأة ملفوفة بالبياض ملثمة وفي يدها بنتها أو ولدها الذي مات أبوه وتركهم في أمانة الجماعة دون وصية كالعادة .. سيقف الكل مع حقها في البيت والوادي وسبيل الطريق ومجرى ماء المطر إلى مزرعتها .. فمن مد يده أو زهقت رجله أو لسانه .. فإن "الحق " يجري عليهم جميعاً !
شيخ القرية هو واحد مثلهم لا يتميز بأية ميزة سلطوية أو امتلاكية .. سوى أنه معروف بحب الخير والعدالة والرأي المسموع الذي لا يخالف رأي الأغلبية الصادقة والمحقة ( صغيراً أو كبيراً .. امرأة أو رجل ).. لم يكن فقيه الجماعة ولا قاضيهم أو إمامهم .. لكن لكل شخص وظيفته واختصاصه الملائم له حسب قدراته الإمكانية والتقديرية المعروفة .. مع احترام الكبير من قبل الأصغر سنا، حسب العرف القروي !
لم يعد اليوم هناك وحدة إنتاجية تجمعهم ولم يعودوا يلتقون في حوش المسجد بعد الصلاة ليناقشوا أموراً مشتركة، ولم يعد يجمعهم شاعر أو رقصة ، أو مشرب ما، أو مواشي . بقي أفراد من جيل آبائنا يرددون ما قاله شاعرهم القديم عن شباب يهزؤون بالماضي .
" يتهزا بلون الشيب والشيب يتهزا بنا "

(1) - يا عبد العزيز
حين أتصل بك هاتفياً يجيبني صوتك الأجشّ معلناً عن قسوته وكأنه صوت "الجعري "، بينما حين يقابلك الآخرون يجدون اللطف والوداعة فهل تحتمي خلف صوتك الهاتفي ؟ وهل تخشى أن يلتهمك شيء ما ؟ إنسان مثلاً أو حيوان ما، من خلال التليفون ؟

* - كلا لم تأت ببالي هذه التفصيلة التي أوردتها .. ولا تخفّيت خلف صوتي خوفاً أو طمعاً .. ربما يشبه صوت الضبع " الجعري " كما وصفه الصديق المازح دوماً " د. سعيد بن فالح " والذي ينوي به إخافة الحمير من الضباع - سامحه الله - متناسياً أن الحمير هي التي كانت تقدم عملاً عظيماً في نقل " التوار " التي تصنعها قريتهم التي تصنعها من الفخّار المحروق إلى الأسواق !

(2) - في نصوصك الغنية التي اشتغلت فيها على عالم القرية استثمـــرت الكثير من الشخصيات (كأنماط ودلالات ) وجسدت جوانب عديدة من منظومة العادات والتقاليد والقيم والمكونات الثقافية لمناخ العالم القروي، وقد أبرزت من خلاله المعنى الرمزي والأسطوري للعديد من هذه الكائنات مثل الديك ، والكلب والحمار والثور " أبو قرون " والبقرة .. إلخ
وسؤالي هنا يتفرع إلى شقين الأول :
بحكم معايشتك لعالم القرية الجنوبية ومكوناتها الثقافية فيما يخص مفهوم " الجد " الأسطوري لكل قرية.. لماذا لم تلتفت إلى هذا التكوين أو لماذا أغفلته في أعمالك؟ وهل تنوي استثماره مستقبلاً ؟
أما السؤال الثاني فهو : ما تفسيرك لتلك الفكرة " للجد " التي ما زالت تستخدم بشيء من السخرية حتى اليوم في لحظات المرح والتندر والغضب، ما بين سكان قرية وأخرى فيما يخص ذلك" الجد" ؟

* - حين أكتب الرواية عن عالم القرية في الجنوب .. فهذا لا يعني أنني "أنثروبولوجياً " ولا دارس أساطير ولا محقق أو كاتب خطاب اجتماعي بالتقارير .. مع أنني اعتقد أحياناً أن الكاتب المبدع هو كل هذا وغيره .. لكنه يصوغ الواقع وربما أعاد تركيبه حسب رؤيته الفكرية والفنية .
النقطة التي ذكرتها .. هامة وجميلة وتؤكد أن أهل القرى ، لا يزالون الوحيدين الذين يمضون في سياق الشعوب القديمة .. فمسألة الجد الأسطوري " المرمز"، موجودة لدى الشعوب القديمة في كل العالم الشعبي تقريباً .. غير أن البعض - للأسف - لديهم مفهوم السخرية .. بل راحوا ينظرون إلى مسالة تطبيع الوحدة الاجتماعية القروية أو القبيلة بطباع " الجد " الرمز .
إنها لم تغب عني .. غير أن المناسبة فقط لم تتهيأ فيما سبق من كتاباتي . ربما كان ذلك فيما يأتي .. فالتفاصيل المهمة كثيرة في حياة العالم القروي، والكاتب لا يستطيع أن يطرق كل الشئون، ولا يستطيع إلا أن يمر ببعضها مرور التلويحة باليد فقط.

• إذن ما هو الجد الذي ستختاره لقريتك محضرة بعد أن طلع العالم القروي -الذي كتبته في ملحمة القرى - من جذور حياة تلك القرية ؟

* - كتبت لكي أحافظ على الذاكرة، لا لتغييرها، لذلك أرى أنه ليس من حقي تغيير ما استقر في أعماقها بالنسبة لذلك "الجد" الذي تعرفه، فهو لنا معاً .

(3) - في بداياتك في كتابة القصة القصيرة كنت مهموماً بكتابة الرواية، وكنت تشير لي في معرض أحاديثنا آنذاك إلى رغبتك في كتابة الرواية بالاستفادة من تجربة الغربة في الدمام وحياة الصعلكة البسيطة التي كان يعيشها بعض الأصدقاء حولك، ثم كتبت جزءاً من عمل روائي أسررت لي بخطة سرديته عن رحلة يقوم بها شاب من أعلى الجزيرة حتى جنوبها عبر جبال السروات، وبعد ذلك فاجأتنا بعد عودتك من القاهرة بإنجاز عملك الأول " الوسمية " عن عالم القرية ؟
ترى هل هي الغربة وقد أحيت الحنين في قلبك ؟ هل هو عالم القاهرة، أم الوعي الذي وقف على قدميه في تلك المرحلة قد دفعك للعودة للذاكرة وتجسيد عوالم القرى ؟

* - نعم حدث هذا في فترة صدور مجموعة " موت على الماء " وهذه القصص تمثل الفترة المعيشية الثقافية التي تكونت بعد سفري من القرية إلى المدنية "الدمام"، ولعلك قد لمست البنية القروية البريئة والتي صدمت بصخب المدينة وإيقاعها مع أنها – بعد عقدين من إعادة قراءتها - وجدت أن القرية وعالمها متجذر في ذهنية القلم الذي سرد قصصها .. لكنها كانت ذهنية شاب متحمس لم يتلمس طريق خطواته الفكرية تجاه العالم والكون والإنسانية .. بحيث طغت الشكلية اللغوية "والمفردة المنحوتة " وزخرفة الصورة - حسبما جاء فعلاً في مقدمة الأستاذ " علي الدميني" وكان يسبقتي بخطوات واسعة ثقافياً وكتابياً .. طبعاً المقدمة كتبها في أول المجموعة، والحقيقة أنني قد كتبت ما سميته آنذاك بالكتابة الروائية الناقصة شكلاً ووعياً، وأذكر أن صديقاً كان يعمل معنا في جريدة " اليوم " كان متشجعاً لها " نبيه الشعار " من سوريا وكان يقرأ مقاطعها ويسجلها بصوته ( روى لي أنه كان مذيعا في الإذاعة السورية ) وهو شاعر جيد .. ولكن هذا لا يبرر أن أكتب الرواية وقتها لعدة أسباب أقولها فيما بعد زمانها .. منها : العمر . التجربة الواعية بمسئولية كتابة الرواية خاصة وأنها شهادة اجتماعية مرتبطة بموروث عالم له خصوصيته وممارساته داخل محيط مؤسسي معلوم.
الحماس المناقض للتقليدية الكتابية الصورية الشكلية للحياة الاجتماعية لا يكتب الرواية : الوعي والإدراك بوظائف الكتابة هو الذي يكتب كتابة ذات قيمة.. الذاكرة.. المعايشة.. الطفولة ..المسئولية.. الموهبة.. وعدة مقومات .. هي التي تجعلك كاتباً على مستوى الرواية .. قد ترغب في أن تكون كاتباً روائياً .. لكنك لا تملك المقومات .. فهل يعني أنك أصبحت كاتباً روائياً .. لا اعتقد أبداً ما لم تعلم جيداً أنك تحمل في صدرك قولاً كبيرا ً وطويلاً يستحق أن يوضع على الورق .
" القاهرة " أو غيرها من العواصم العربية ذات مساحة تستوعب الكاتب والكتابة والقارىء والمستقصي .. لكنها جميعاً لا تمنحك الهم الخاص الذي تكون فيه مع هويتك وانتمائك الخاص.. هي تمنحك عالماً غير منقسم في إنسانيته .. فالإنسان الكامل برجولته وأنوثته موجود. وهذا ما افتقدته في واقعنا، لذلك ربما فتحت القاهرة عيني على هذا الوجود الطبيعي للمرأة في الحياة والذي يشبه زمن الطفولة القروي لدى كل إنسان ، وربما حفزني ذلك على العودة إلى العالم الطبيعي .. العالم السوي.. حيث يقف الرجل والمرأة على قدم الإنتاج المشترك والمساواة الإنسانية في كل مناحي الحياة .

( 4) - هل يمكن لنا أن نقف عند أهم الروايات التي قرأتها وما هي العناصر المميزة فيها التي بقيت في الذاكرة والمخزون الفني لديك، وكيف استفدت من بعضها ؟

* - كأني أفهم من سؤالك أن ثمة تأثيرات قرائية للرواية .. بل لأعمال روائية معينة .. استطاعت أن تقدم لك نحتاً نمطياً على صعيدي الفن والموضوع !
اعتقد أن هذا لا يمكن أن يحدث بهذه الصورة .. إذ أن كتابة الرواية وفي عالم خاص بتاريخ صراعاته الطويلة عبر أداة إنتاجية محددة، وضمن مكانية معروفة ومن خلال معايشة منذ الطفولة، عجنت وخبزت الكاتب، وشرب من مواردها الثقافية الحياتية على هيئة فتافيت تربوية ومعيشية يومية مروراً بالتفاصيل والمناسبات والفصول .. أقول إن هذا لا يمكن أن يحدث لمجرد قراءة أعمال روائية تتماثل مع مثل خصوصية العالم القروي الذي كتبت عنه .
القراءات الروائية باختلاف صورها وعوالمها القصصية والشعرية والتراثية وكل ما يمكن أن يقال عنها.. المحصلة التي لا تنتهي عند نقطة محدودة في الحياة وآنذاك - وقت إذ بدأت بكتابة الرواية الأولى " الوسمية " في القاهرة عام 1982م ( وكنت اعتبرتها تجربة روائية ) كنت قد أعجبت بكثير من الأعمال وكانت جديدة علي منها أعمال " هنري ميللر " وشينمو انشيبي " وتراثية كـ" أحمد بن إياس " و " أبو حيان التوحيدي " وأشياء أخرى .. جميعها وسابقاتها وبعد توقف طويل - بعد إصدار مجموعتي القصصية الأولى " موت على الماء " عام 1979م .. توقفاً منلوجياً تأملياً .. رأيت أن الكتابة وقتها .. لا تحتاج إلى التغريب والبحث عن مادتها وعالمها من خارج ما يقع في الذهن من حكايا وأحاديث طويلة تكمن عند أصبع القدم وليست في جزر " الهونولولو " أو وديان " واق الواق " ، يضاف إلى هذا الشعور بالغربة القاسية والمرهونة بظرفها الذي لم أجد معه إمكانية لكسرها أو النفاذ منها بمجرد خاطر العودة .. وما سببته من حميمية إنسانية قوية تجاه عالمي القروي الأول .
لقد رأيت أن الكتابة لا يمكن أن تصيب وجدان وذهنية كاتبها - الروائية تحديداً - إلا إذا كانت تغمس سن قلمها في دم كاتبها خزينة معيشته أو تجاربه وطريق رؤيته واستراتيجية .. قل محصلته الثقافية. لقد وجدت عالماً خاصاً وجديراً جداً بالكتابة .. فكتبت وكنت كلما انجزت مشروعاً اكتشفت أن ثمة تفتحات جديدة وعالم وجزئيات لا يمكن أن تنضب أو حتى يشوب مشوبها النقصان ..و هكذا.

( 5) - الذين يعرفونك عن قرب يلمسون اهتمامك الدقيق بهندامك والمكان الذي تعيش فيه وانشغالك الجميل بنوع الساعة والقلم والولاعة والعقال و الغترة ونوعية العطر حتى وأنت في ساعاتك العصبية مع المرض، وسيدهش الداخل إلى منزلك يا عبد العزيز بشجيرة " الكادي " وهي تحييه خضراء مبتسمة مشيرة إلى نبتاتها المتوالدة وبياض زهرة " الكادي " على تاجها رغم أنها تعيش في بيئة لم تكن معدة لها وسيدهش زائرك حين يجول ببصره على محتويات مكتبتك وستشده دقة تنسيقها وترتيب كتبها, ورغم أنك تنام في نفس المكتبة إلا أن كل شيء يبدو دائماً في قمة الإنسجام !
فما هذه القدرة على تنظيم ما يبدو عصياً على الانتظام واستنبات ما يبدو مخالفاً لمناخه؟ وماذا أفادك به هذا الذوق المميز في حياتك وكتابتك ولماذا تسلل " ريح الكادي " كعنوان لتلك الرواية ؟ وما دلالة تحوله إلى " جاردينينا " كعنوان لمجموعتك القصصية الجديدة؟ هل يعني ذلك تحولاً للذائقة الموروثة من القرية إلى الذائقة المعاصرة في المدينة ؟

* - تعلم أن نبته الكادي المميزة الرائحة والخضرة لا تزرع في قرانا الجبلية - مع إننا نحبها وتتزين بها رؤوس الصبايا - فهي نبته تهامية النشأة هي و" الحناء " والقطران " الخاص برائحته في قرب الماء وطلاء الأبواب وأشياء كثيرة ومميزة تتميز بها المنطقة التهامية الجميلة بأهلها وخصائصها ومناخها الدافئ .. لذا فريما كانت منطقة " جدة " المدينة الساحلية الحارة قريبة من مناخ تلك النباتات الواردة. نحن لا نستطيع أن نستزرع نبته الورد المشهور بذكاء لونه ورائحته وبتواجده الموسمي الربيعي في الجبال القروية بالجنوب .وهكذا وللمختصين في شأن الزراعة علم دقيق في هذا الأمر ليس ثمة سر ولا كشف إنما هو الرجوع الحميمي لتفاصيل المكان الطفولي وجماليات معيشته وذكرياته، وبرغم بعد المكان على الإنسان يبقى يحن للأشياء التي ارتبطت باندها شيته ومعيشته الأولى .. أذكر عندما كنت في إحدى الولايات في " أمريكا " وفي ظرف صحي يصعب وصفه تمنيت - وقت إذ امتنعت عن تناول أي نوع من الطعام والشراب - تمنيت كسرة خبز ناشفة من حب " البلسن " العدس البني الصافي - مع قهوة البن أو مع اللبن الحامض بالريحان، وبالمناسبة فإن اسمه في قاموس اللغة بـ" الحقين والحقينة " كما يسميه أهل القرى بالسراة والمهم أقول :
وعندما خرجــت بعد زمــن من المستشفى للفسحة دخـلت حديقة منبسطة بالخضرة العشبية " النجمة " - أيضاً هذا اسمها القاموسي في العربية - فشممت رائحة الطين الواقع بين الجبال في تلك الولاية. لقد عدت آلاف الأميال في فينة زمن لا تقدر بجزء من الثانية إلى رائحة طين القرى والأودية، و لا أظن أن المسألة مرتبطة بي أو بفلان من البشر بل بكل الناس في كل المناطق ليس في أمر كهذا فقط .. بل في اللغة ولهجاتها وأنواع الملابس والروائح والألوان وكل ما يخاطب الحواس .. يقول العلماء إن الإنسان في لحظة خطرة مباغتة .. يصرخ منفعلاً بلغته التي تعلمها في بيئة وطفولته، ولحادثة تحدث في عمر كبير وفي منطقة بعيدة جداً وغربية اللغة والحياة عن بلده .
في الحياة الاستهلاكية المدينية التي نعيشها في هذا المرحلة ببلدنا .. أصبحت الخصوصيات في طريقها المختصر السريع نحو الإلغاء والاستبدال المدني الشكلي المستعين في تفاصيل استهلاكاته على عالميه الاستيراد الورقي الخفيف - قبل العولمة - التي أخذناها في عالمنا النامي من بابها الضيق - قبل وصولها .
من ملايين الأشياء الشكلية ومن الزهور - اللازهور - المؤطرة خلف زجاج محلات بيع الزهور حيث تردنا من كل بلدان العالم وبصور وهيئات لا تمت إلى بلدنا بصلة ومنها نبته خضراء يانعة وغضة لها زهور بيضاء نقية اسمها "جاردينيا" ، في إحدى الظروف العلاجية التنويمية بمدينة " جدة " صحوت على هذه النبتة المزهرة من صديقة ما .. لكنها مع الأيام القليلة وبعدم عناية .. تحولت إلى ضمور قليل يشبه التثاؤب .. فكان منه عنوان المجموعة الأخيرة التي تدور أجواؤها في المستشفى وليس في القرية .. فكان عنوانها " جارينيا تتثاءب في النافذة "
في شأن الذائقة القروية والمدنية فالذائقة هي واحدة .. لا يمكن تجزئتها أو تقطيعها إلى مناسبات وأحوال.. إنها لا تأتي حسب ذائقيات يرغبها الآخرون مثلاً، لأن لكل بيئة ومجتمع خصوصية منشأة وذائقته التربوية التي عاشها في حضن ثقافة الموقع الأول.
كنت في الطفولة مفتونا بالنجوم وبعدها وكنت أحلم بنجم أخضر مضيء.. لم تكن الكهرباء قد وردت القرية .. فكنا نراها آنذاك عبر مسافة بعيدة في الليل - بعد صلاة المغرب - نراها في قرية مركزية أخرى، وكان من بين الأنوار نور أخضر جميل يقتحم العين والقلب.. بالطبع لا أعرف مصدره الحقيقي ولا سببه .. لكنني أعلم أن الضوء الهامس البعيد لا يظهر إلا بعد انفصال النهار عن بداية الليل .. لو سألتني لماذا أحببت اللون الأخضر ؟ لما استطعت الجواب لأسباب أقلها أنني كبرت وكبر معي وربما إلى النهاية ! .
الذائقة الفنية أيضاً - ومع علاقتها بالثقافة - لا يمكن فصلها عن زمن الطفولة والنشأة .

قديم 06-03-2012, 11:14 AM
المشاركة 796
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع الجزء الاول:
(6) - بديهي أن الكتابة الواعية التي تقصد موضوعهاالمكتمل كالمناخ الاجتماعي في المجتمعات القروية مثلاً لا يمكن أن تحيط بكل عناصرهوتفاصيله المهمة وأنها في أحسن حالاتها ستتشكل من عناصر انتقائية يتم إعادة بنائهامن منظور رؤية الكاتب.
وفي رواياتك وقصصك عن القرية لم تتطرق للعلاقات العاطفيةأو حالات الحب والعشق الحارق الذي يتأجج في أحشاء كل تجمع بشري ولا سيما في القرىالتي تتداخل حياتها بالطبيعة وبالأحلام العاشقة . فما تفسيرك لذلك ؟
ومن جهةأخرى فكما عشنا في المجتمع القروي رأينا أن ثقافته تعبر عن مذخور الثقافة الشفاهيةوالتي لم تكن تتحرج في الحديث اليومي عن استخدام المثل المسكوك والقصة العابرة التيتتعامل مع مفردات الجسد الأنثوي والرجولي وبطريقة عادية وصريحة عن كل مستوياته، فهلتعمدت إغفال تلك الخاصية الأسلوبية أم أنك تدخرها للمستقبل ؟

* - سأبدي لكما كنت تجهله فأنا لا أصنع هيكلة تفصيلية للرواية قبل كتابتها وإنما أحدد إطاراًأكتب في حدوده ولا أقول " أفقه " ينسج البناء الروائي، وعادة ما أكون قد اعتمدت علىرموز إيحائية كالمثل أو الحكمة الشيخية أو المسمى أو الذكرى المرتبطة دون تأثرمباشر بالذات وإنما بالمخزون الاجتماعي وما ألم به من ثقافات حكائية مروية ممنسبقوا زمن المعايشة، هذا ليس نفياً للذات وإنما لاستراتيجية مرجعية اجتماعية كتابيةبمنظوري العصري .
إن كثيراً جداً من الحقائق التي تحتاج إلى تفاصيل وتوظيفات لمانظر لها في كتاباتي - قصة أو رواية - وذلك لأن هذا غير ممكن على الصعيد الإبداعيالكتابي الذي أعوم فيه وإلا لكنت كاتباً منوعاً كـ" الجاحظ " مثلاً و لوضعت كل شأنفي كتاب وهكذا .
الكتابة في خصوصيات المجتمعات " إبداعاً " هي من أصعبالكتابات - في نظري - لأنك تحتاج إلى الموازنة بين انتقائيتك لزاوية الإلتقاط وبينالحرص على حقيقية الانتمائية الخاصة، وكان بداخلي رغبة كبرى في اعتبار الزمنالمرحلي هو خط سفري في الكتابة عن هذه المكاتبة الاجتماعية تحديداً .. لكنني اكتشفتأنني لست كاتباً تاريخياً لذلك وجبت علي الانتقائية فأنا محدود بزمن يتحدد فيهالعمر والقدرات الذاتية والموانع المؤسساتية والاجتماعية التقليدية وأمور أخرى. أنتتعلم أنالروائي يحمل كشفاً وتفصيلاً .. لكنك لا تستطيع أن تنفصل عنه - بأي حال - رؤيتك الخاصة وإدارتك لبناء عملك الروائي في إمكانية الواقع الذي لا يمكن تزويرهولا صبغه بما ترغب.. نعم ..
لقد سألني أحد القراء هذا السؤال تحديداً :
- أين عاطفة الحب والعشق في رواياتك ؟
لا أجد جواباً شافياً وربما كان هذا عيباًفي أعمالي القصصية والروائية عن القرية الجنوبية .. رأيت أن المزارع الذي يخبط فيطرف الخبزة ليزيح رماد " الملة " عنها .. ويسرح بعد صلاة الفجر إلى الوادي ولا يعودإلا بقدمين مبلولتين بالطين ثم يتعشى ما قسم له لينام منهكاً .. لا وقت عنده للحبوالمغازلة .. بالطبع حبه وهبه لزوجته وعائلته وأرضه .. أو ربما هكذا كان نفسياً .

* كأنك بهذا تجرد القروى من عاطفة الحب و ما نعرفه من قصص العشق وما نحفظهمن قصائد الغزل ولعل الذي يذكر أو يطلع على ما دون من شعر شعبي ل "أحمد بن جبران" و"أبو سحاب" مثلاً سيرى مرموز الحب وصريح عباراته في كل ما قالوه !
- واستطردعبدالعزيز : ربما كان ذلك صحيحاً ولكنني أتحدث عن الغالبيةً من الناس غير الشعراءويمكنني القول أيضاً بأن هذا لا يعفيني من اعتبار هذه المسألة موجودة في كل إنسانوكل المجتمعات .. فلو نظرنا لفصل في " البئر " في رواية "الوسمية " لوجدت أن سببرمي المرأةلنفسها في البئر .. كان بسبب علاقة - عاطفية - غير مشروعة وفي وقتها ..
وأنت تعلم أن مجتمعنا محافظ ونحن نحترم هذه المحافظة !
إن هذا سيسببإشكالية في مفهوم القارئ القروي والشعبي عموماً ..وقد جاء لي رد الفعل القاسي تجاهفصل في رواية " الوسمية " بعنوان " أحمد يتعلم أشياء جديدة " باعتباره فصلاً غيرملائم أو شبه ذلك ..و في مجموعة قصص " أسفار السروي " بقيت ولم يعلم أحد زمناًأعاني فيه الإحباط من أحد القراء .. اسمه " ابن السروي " ظاناً أنني قد تعمدت إسباغصفات كل أهل جبال " السراة " في شخصيته والتشهير به .
الأسماء الموجودة فيأعمالي هي أسماء تقريبية لا لشخوص الأعمال بالطبع .. أحرص على أن تكون من واقعالبيئة لكنها بعيدة عن الحدث بذاته أو شخصية بعينها.. تصور كم من صالحة بنت أحمدستسأل عن رواية " صالحة " وكم من "أبو جمعان " وكم من " مليحة " و"عزيزة " و" عطرة " وغيرهم .. نحن في واقع اجتماعي شديد المحافظة إلى درجة كبيرة وأنا أحمل على عاتقيقلماً وليس بندقية.

(7) - ما سر ولعك بالمرأة وغنى وتعدد علاقاتك بها فيحاضرك حتى لتعد من ذوي الثروة في هذه العلاقات ( ثقافية / صداقية / عاطفية ) معالمرأة سواء من داخل المملكة أو خارجها ؟
أيعود ذلك إلى فقر العلاقات العاطفيةأو انعدامها في صباك في القرية أو يعود إلى حالات العشق والتوله التي تصيب الرجلبعد الأربعين؟

* - يا سيدي .. مع أن صيغة سؤالك قد تكون مستفزة وخاصة، وربما لا تفيد أو تضر أو تهم أحداً، لكن دعني أسأل متى قد تراني قد نظرت إلى المرأة ( النساء ) كقناص يوجه سهام قوسه العربي القديم إليهن ليحظى بأكبر عدد ممكن منالغزلان والظباء .. لا يلبث أن يهبهن للسكن والنار والافتراس!
هل المرأة صيدةأو مسلاة أو مركز لذةاقتناصية ؟ دعنا .. تقول " عاطفية " لكن وفي مجتمع قام علىمفاهيم معينة تجاه المرأة .. حيث ينشأ المجتمع بكليته راكضاً خلفها في تستر ومن خلفخباء شديد الكثافة .. إنه يعتقد أن سبب شوقه العاطفي الجسدي يكمن فيها وهذا خطأبالطبع .. فالسبب موجود في مفهوم التربية غير المتوازن .. فقدان التوازن العاطفي هوالسبب في دواخل الناس .
عندما نشأنا في عالم قروي واضح الملامح لم نكن نعرف معنىالحرمان العاطفي ولا نظرنا للمرأة بعين الافتراس الجسدي .. لم نعرف الواقع غيرالمنصف إلا بعد أن كبرنا وغادرنا قرانا .. بعد أن اندثرت معــالم الخصائص القروية .. لقد كنا بالبـديهة نحيـا حيـاة حضـارية القيم وليس ( الوصاية ).. الناس وقتهاكلهم يعملون ويشتركون في جهد الحياة وألمها وفرحتها .. المرأة لم تكن كائناً غريباًوبعيداً عن التعامل والمكاشفة المعيشية اليومية .. لم يأكل الرجل المرأة ولا حدثالعكس .. كان الإنسان القروي كاملاً لا تجزئة ولا انفصال ولا تربص أو مفارقة . جاءت " المدينة " البعيدة عما يسمونه خطأ بـ" الحضارة "، فالقيم الإنسانية التي تشكلدواخل الناس وبالتالي سلوكهم بعيدة عن المفهوم الحضاري .. نعيش ونتحرك والغربة تسكندواخلنا كنفق العتمة المعبأ بالظلام والخوف والتردد .
أن الأمر لا يقتصر علىالرجل فقط فالمرأة أيضاً تعاني وبشدة من الغربة والغربة العاطفية ثمتصبح زوجة دونمعرفة أو اختيار ثم أماً محتضنة فمربية هذا إن تم لها التواؤم الزوجي .
لم أكنأعاني في صباي عاطفياً ( من يقرأ " المكاشفات " يجد الجواب ) ولا أدري إن كانللصدفة التي لم أجد خلفها دورافي المسألة بعد الأربعين ولو أفترضناه .. فهوالتعقل والمفهموم العميق لإنسانيتها ودورها الحياتي - الضروري الطبيعي - العظيم .
كثيراً ما نتخفى خلف العورات ليس أمام الآخرين فقط وإنما لعدم مواجهة أنفسنالكي لا نتواجه مع قيمنا التي أملتها علينا ثقافاتنا وذلك في نظرتنا وعلاقتنابالمرأة .. فالترسبات المتراكمة في داخل الإنسان تبقى تنزعه من إنضباطاته وتوازنهبصورة حادة .. لكنها لا تكون فالتة بحيث تصبح على نفقة الآخرين في سبيل غنيمة الذات .. ذلك يعود للدوافع الاجتماعية التي نشأت عليها تلك الترسبات.. والحقيقة ( التيأراها ) أنه لا خيانة للذات بالمفهوم الثقافي الإنساني وبالذات في مسائل العواطفالتي تتحول بصورة أو أخرى إلى الغراميات أو العشق وهذا لا يحدث إلا نادراً لكنك حينتدخل في هدأة الحوار الذاتي الخفي .. لا تجد الأمر اختيارياً بحتاً .. العشق لايصلح لأن تزنه دوماً بالعقل والحساب الرياضي وإذا ما فعلت فقد تساهم في قتل أجملمساحة في حياة وساحة قلبك .

دعني ..
فأنا لا أحب أن يوصف وجه الحبيببالقمر أو الشمس أو حتى الشمعة ولا أن يكون الحبيب مصدراً للسهر والهيام والعذابفهذا لا يختلف كثيراً عن طريقة حفر القلب أو رسمه بالطبشور كنصف تفاحة مفرغةيخترقها سهم !!

(8) - هناك تجربة حب رائعة ومعقدة تجلت في روايتك " في عشقحتى " التي تعد واحدة من الروايات المتميزة محلياً وعربياً، وسؤالنا يتجاوز الروايةإلى بطلة الرواية .. حول ما الذي يميز هذه البطلة لتأخذ موقعها الحارق في الرواية ( هل هو الجمال / الثقافة / الحنان / الشخصية .. إلخ ) ولماذا لم تستحضر جزءاً أوبعضاً من تجاربك الوجدانية هنا لتكتب نصها المحلي ؟

* - رواية ( في عشق " حتى " ) هي حكاية مختصرة لامرأة عشت ولا أزال - بعيداً - هائماً في عشقها مع تعددالتجارب وأشكالها .. لقد تعذبت بها ولم تتعذب بي لكنني على ما يبدو وقعت فيما قالعنه الكاتب الفيلسوفشو " عندما تجد نفسك في مسار ضد مصلحتك تجاه امرأة ما .. فأعلم أنك تحبها " أنا شخصياً لا أستطيع أن أحيا بلا امرأة - حبيبة - تحديدا ولمأسأل ذاتي إن كان هذا مطلب خاطئ أو مصيب .. لا اتخذها كملهمة .. ولا أوظفها كتابياًبالضرورة .. لكنها حاجة ضرورية إنسانية ودافع حي جميل للإبداعوالحياة .. قد تظنونأنني رجل بشوارب وعقلانية لكنني لا أنبذ عني صفة الجنون .. وأقل ما فيها العاطفيةالمحرقة والبساطة والألفة تجاه كل الناس.. إنني أحزن لقتل بعوضة أو ذباب .. بالرغممن أذيتهما .. وفي ذات الحال أنا شديد الصعوبة تجاه الحق الذي أؤمن فيه وبه إنني معالحياة والفرح والأمل، و" حتي " قد لا تكون رواية محددة بكل عواطفها عن " حتى " ذاتها والتي أحيا ما حييت أحبها .. لقد كانت رواية دون قصد مبيت .. تدخل بصورة أوبأخرى في عالم القرية وما يحكمها من .. استشهاداتها .. الخ كانت قروية لأننياستيقنت ذلك من حب صبياني قروي .. إينما أذهب يظل مرجعيتي في الذاكرة : غير أنالوعي الرجولي في سن ما أعتقد أنواعاً أخرى وصياغات أخرى .
" وحتى " كما تعلمكلمة عذبت " الأصمعي " والنحويين لدرجة أن دارساً قضى وقتاً لنيل درجة " الدكتوراه " في " حتى " !.. أنا لا أحب المواقف الانهزامية على ألا تكون على حساب الغير .


( 9 ) - تميزت شخصيتك في سنوات الطفولة والصبا وحتى السنوات الأولىالتي قضيتها معنا في الدمام بالتأمل والأناقة مع ميل للانطواء،ولم تكن ترتاح أوتشارك في الأحاديث التي تخوضها مجموعة كبيرة من الأصدقاء، فاتخذت شخصيتك ملامحهاالجادة المبكرة والزاهدة في الآخرين، وفجأة وجدناك تحيل كل شيء إلى سخرية مرة أوهازلة،ثم ما لبث هذا التحول أن تغلغل داخل تكوينك الكتابي واليومي فأفدت منهالكثير في حياتك وأعمالك الكتابية حتى أصبح الحديث معك متعة خاصة يتعشقها الكثيرونوالكثيرات .
هل يمكن أن تضع أيدينا على جذور ذلك التحول الهائل في تكوينك منالانطواء إلى الهزل وإلى السخرية وحب الدعابة ؟

* - جزاك الله خيراً .. ربما نشأت على أن استمع أكثر مما اعتدت على يد جدي المرحوم .. لكنني أرى أننيثرثاراً أحياناً وطويل الحكاية والتفاصيل المملة .. لقد لاحظت هذا في أحايين كثيرةولم أجد لي - ربما نوعاً من المجاملة أو الاحترام .. لا أدري - ! .
ثم لماذا لايكون صمتي نوعاً من الخجل أو عدم القدرة على المشاركة في أمور لا أرغب الخوض فيها . أما السخرية فأنا لا أسخر من الآخرين بل أحملهم في عمق قلبي .. و ..
- يا عبدالعزيز .. الله يوفقك ويزوجك واحدة ما تسمع ! .. لذلك أرجو أن تجيبني على هذهالتفريعات بشأن السخرية المقصودة هنا.. هي روح النكتة والمفارقة والدعابة وليسالمقصود بها السخرية من الآخرين،فأنا أعرف أنك تمقتها ولكنني أسألك عن السخريةالتي تحول المأساة إلى ملهاة لتستطيع التغلب على قسوتها .
هل كانت النكتةتستهويك وأنت طفل ؟
* - أنت تعلم أن الثقافة القروية العامة مشبعة بروح التهكموالمفارقة لكنني كنت استمتع بها كمستمع ولم أكن أشارك آنذاك في إنتاجها .
- هلكنت ترويها للآخرين في طفولتك ؟
* - نعم ولكنها لم تكن أحد مشاغلي الرئيسية .
- اذن كيف حدث هذا التحول في تكوين التعبير عن شخصيتك وعن آرائك عبر استخدامآلية السخرية ؟
* - ربما اسميه تطوراً وليس تحولاًً فالبذور الأولى التيتستمتع بالنكتة والمفارقة موجودة ولكنني بعد أن تزودت ببعض المعرفة ومارست الكتابةوأصبحت لدي اسئلتي المقلقة حيال العالم الخاص والعام وجدتني مدفوعاً لهذه الطريقةالتي رأيتها تساعد الإنسان على التخفيف من المرارة في كافة ظروف الحياة .. ثم أضفإلى ذلك القراءات الهامة التي عشقتها للجاحظ وابي حيان التوحيدي الذي كان يهتم " بالملح " وكذلك في قراءاتي لابن إياس .. هذه القراءات جعلتني أتلمس فعالية الكتابةالساخرة أو المفارقة وقدرتها على التأثير الهائل في القارئ . ولذا يمكن القول بأننيحاولت استخدام هذا الأسلوب - أحياناً - لإيصال الرسالة الفنية لكتاباتي عبر الدعابةالتي أتوقع أن يستقبلها القارئ بنفس روح الدعابة والمرح فتقيم بيننا جسوراً منالتواصل وقبول بعضننا البعض .

قديم 06-03-2012, 11:16 AM
المشاركة 797
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الجزء الثاني من الحوار
( 10) - كرست في كل أعمالك العديد من القيم الإنسانية النبيلة التي تتجلى في جوانب من حياة المجتمعات القروية ( التعاون ، البساطة ، الارتباط بالأرض ، الوقوف في وجه الظلم ) وكان من ضمنها وأهمها انتصارك للمرأة في كل هذه الأعمال، ولكن القرية الآن قد تحولت إلى شبه مدينة في مرتكزاتها الاقتصادية وفي أنماط حياتها الاجتماعية وقد قال والدك الشيخ صالح بن مشري في حوار نشر بجريدة البلاد " لم يعد في كل القرية ديك واحد " كدلالة على عمق التغير الذي طال حياة القرى.. لقد أسدلت الستائر الرمادية الآن على فعل ووجود المرأة الاقتصادي والاجتماعي في القرى كما أسدل على أختها في المدينة فمتى نجد امرأة القرية وزميلتها المدينية في إبداعاتك القادمة ؟

* - نعم هذا صحيح فالتحول الاقتصادي الطفراوي في كافة مناطق الوطن "السعودية " قد خلق أنماطاً مغايرة لطبيعتها الإنتاجية - السلوكية - التراثية - وكذلك في العلاقات والروابط وفي شكل الحياة وضد بنيتها المعيشية. لقد أصبحت "البلاد " وهي البقع الزراعية المحدودة والتي عرفت لدى الفلاح بأحلى الأسماء .. فتلك " عيون الحمام " والأخرى " خيره " والثالثة " سعادة " وغيرها مما أختير كأجمل الأسماء والكنيات باعتبارها وبصورة متوارثة منذ القدم مزارع يبذر فيها "الذرو" ويبقي لينمو ويشد ساقه ثم يثري تحت عين وقلب مالكها الفلاح .. إلى موسم الحصاد .. لقد أصبحت بعد انفراط الإيقاع الإنتاجي - الفلاحة اليوم - مكاناً مناسباً دون أدنى تردد إلى مكان ممهد لبناء بيت من الاسمنت ! .
سأذكرك .. هناك وعلى حافة المكان الذي يزرع " العثري " – وهو مصطلح عربي جيد لبقعة الأرض التي تعتمد في مائها على أمطار الموسم سواء كان قمحاً أو ذرة أو غيره .. هذه القطع المعروفة عند الفلاح بمحدودية محصولها .. تقع في العادة إلى جانب سفح صغير غير مزروع لعدم صلاحيته وربما كانت إلى جانب صفح كبير ( المساحة المنحدرة نسبياً يسمى بـ" الوسيفة " أو " السفح " بتحويل السين إلى صاد ) وقد تكون بلا حدود .. فتكون أكبر مساحة إلى وسط أو قمة الجبل .. باعتبار أن المنطقة جبلية وعلى جنباتها مدرجات متعاقبة للزراعة، فأصبحت اليوم في مكانتها المعنوية والواقعية الإيقاعية الكاسحة .. أغلى قيمة من الأراضي الزراعية " المسقوي " التي تساق بالماء من البئر بالسواني حيث كانت أكثر حصاداً وأينع رواءً!!.
القروي اليوم في هذه المرحلة الاقتصادية المعيشية .. لم يعد بقروي والحياة المصلحية العامة أصبحت فردية انتهازية .. لا مكان للأب أو الابن ولا للأخ والعم وبالتالي لا للجار والجماعة والقرية أو العشيرة والقبيلة، وعليه فإن الوسيلة الإنتاجية التي كانت تصيغ للقرويين نمطاً محترماً ونافعاً بحكم الضرورة المتبادلة وفي مناخ اجتماعي واحد .. قد تغيرت ألا تتغير معها المرأة ؟ .
بالطبع ودون إرادة أو تكلف أو عدم تكلف وهذا دليل على عدم صحة النظرة التي تفرق بين المرأة والرجل كإنسانين متكاملين .. لا يمكن أن يحيا أحدهما دون الحاجة إلى الآخر ( سنة الله في خلقه(.
الوثبات الرهيبة والذهول " الفانتازي " الذي صبغ أنماط الحياة وشخصياتها وانتمائها بألوان مغامرة لم يكن على الرجل دون المرأة ولا على الطفل دون العجوز ولا على القروي دون البدوي أو أهل الساحل أو الحارة في المدينة القديمة .. لقد أصبح وبصورة ترفع وسامات التقدم الإنساني وتعود إلى التخلف الاجتماعي مئات الخطوات بل آلافها إلى الخلف دون وعي بالحياة .. تحولت الإنسانية في المجتمع بشتى صنوف معيشتها إلى تخلف خطير وتاريخي بحيث أصبح الإنسان بلا فاعلية ولا مرجعية ولا مستقبلية .. فقط إنما هو استهلاكي زمني ومعيشي جاهز عديم النشاط يعد أيام عمره الباقية ويصارعه في المعايشة النفسية والجسدية و.. " الله يحسن الخاتمة "!.
الحياة لا تقف عند نمط معيشي معين .. لكن هل علم أهل القرى لماذا ؟ لماذا انتقلنا فجأة بقفزة غير استيعابية من " الثور ، والحمارة " إلى الطائرة والسيارة والأوتوماتيك ولم يتم إعدادنا اجتماعياً لهذا الاستيعاب بصورة مرحلية ؟ ! .
هذا ما يشغلني ويعذب قلمي .. ليس في القرية فقط .. و إنما في المدينة التي تكونت من حارات ونزل معروفة ومحددة .. إلى مدينة ثلاثة أرباع سكانها من القرى والهجر والبوادي ولا يجمعهم شيء .. الجامع فقط هو ما تملك .
لكن هل هذا المستضاف الاستهلاكي المدني – وليس الحضاري – استطاع أن يقتلع الآدميين من جذورهم ؟
لا .. إن في المدن الكثير ممن سكنوها بعاداتهم وشعبيات مجتمعاتهم وربما حتى شكليتهم أو شكلياتهم في الملابس واللهجات !.
أتسالني عن المرأة الأم والزوجة الأخت والحبيبة وكيف أن الستائر الرمادية أسدلت عليها وعلى أختها في المدينة ؟!.
إن الستائر الآن أصبحت بنية داكنة .. لم يظلمها المولى الكريم ولا الرسالة الإسلامية الحنفية وإنما ظلمناها نحن بمفاهيمنا الجديدة والمتخلفة .. بحيث نظرنا إلى الطير .. إنه يطير بجناح واحد في الفضاء .. لقد فرضت علينا المفاهيم دون حوار ونظرنا إلى المرأة نظرة أخرى .
لقد ولدت – قبل أن أكون كاتباً – مسلماً وتربيت في بيت ومجتمع قروي مسلم وأموت مسلماً انكح مسلماً وأذري مسلماً .. اعيش أحب السلام وأنبذ الاستسلام وقد أوصانا رسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم باحترام ومعايشة الأم والأخت وذات القربى والحميلة والجارة وكل المؤمنات .. بالخير والإيمان والرعاية والوصاية الحميدة وكامل التعامل الإنساني.
لقد سئلت عن العنصر الإنساني المغيب في واقعنا وكيف أن هذا يقف كحد واضح المعالم في عدم كتابة الرواية المحلية ؟ .. غير أن هذا السبب الحيوي الهام لم يكن مغيباً في رواياتي المكتوبة عن عالم القرية .. المرأة موجودة في حياة الفلاح جنباً إلى جنب في البيت والمزرعة .. ترى من كان يحصد و" يدرس " المحصول ويحضر الماء من البئر ويصنع الخبز ويشارك في " طينة " سقف البيت ويطبخ للمناسبات ويحلب البقرة ويجني الثمار و .. و .. إلخ .. أليست المرأة بل وتحمل وتنجب – بحكم طبيعتها – وتربي الطفل وتحمله في (" الميزب "/ المهد ) وتأخذه معها إلى المزرعة ثم تلقمه نهدها لينام حتى تتفرغ للعمل .
اعتقد أن غياب المرأة لا يؤثر على الكتابة الروائية تحديداً وإنما هو الغياب الإنساني في الحياة والنهوض بها .. ألم يقل رسول الأمة عليه الصلاة والسلام لابنته " فاطمة " وهو يخاطبها " نعم يا أم أبيك " .. أية إنسانية عظيمة هذه .. " خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء " يعني " عائشة " رضي الله عنها .. يجب ألا نخلط في حقائق الأشياء.. المرأة هي عين الإنسان الأولى ويده وكليته وأذنه وكل شيء في حياته وليس فقط معاونه الأساسي في الحياة ! .
كلنا لم نأت من الفراغ ولا من بطون الرجال .. لذلك أنا لم أخترع المرأة في الرواية التي أكتبها .. لقد كتبت من الواقع .
لا تظن يا مسائلي .. بأنني متعصب أو متغاف بجهالة .. للمرأة في كتاباتي حقيقة وجودها ومعايشتها وقبل كل هذا إنسانيتها لكنني أبتليت بالكتابة القصصية الروائية الكاشفة لحقيقة الواقع الإنساني كما هو .
إنني أكتب بدمي ومشاعري وكياني .. ولم أقل كل ما في الحياة القروية والمدينية بإنصاف، المستقبل آت والناس معلقة في رقبة قلبي ولن أكتب إلا بمفهومي ونظرتي وقناعتي ولست كل الكتاب ولا كل الأقلام .. لكنني شاهد بقدر الأمانة الإنسانية في هذا الشأن وغيره .

(11) - نعرف أن طبيعة التكوين الثقافي لأي مجتمع مرتبطة بطبيعة النشاط الاقتصادي والذي يزاوله أفراده ولذا فإن للبيئة القروية ثقافتها المرتبطة بنشاطها الحياتي، وكما نعلم فإن تلك الثقافة تكرست لمئات السنين، وحين دخلت المدينة في عجلة التطور المادي والتقني كان لا بد أن يطال التطور / التغير حياة البشر في المدينة والقرية ويؤثر على منظومة الأفكار والقيم لينتقل المجتمع من تشكيلة اجتماعية / اقتصادية إلى أخرى أو هكذا لا بد أن تمضي الأمور .
سؤالنا هو : لماذا يبدي الكثيرون من أبطال أعمالك موقفاً مضاداً للأخذ بأسباب التطور ( الموقف من " ماطور " الماء الذي قتل صاحبه، صالحة ترفض هدم منزلها رغم التعويض من أجل إيصال الاسفلت للقرية، السخرية من " سلام " راكب السيارة " الونيت " على الجالسين أمام منازلهم بزمار السيارة ) .. إلخ.
هل كل ما قامت عليه القرية من عادات وقيم يمثل الخير كله بحيث تقف المدينة "كمرموز " شقي ضده ؟
وهل يفسر هذا إغفالك أو عم اشتغالك إلى الآن عل عالم المدينة في سردياتك ؟

* - نعم التكوين الثقافي الاجتماعي المرتبط بوسيلة الانتاج ( نستثني الحرفة) لأنها لا تشكل صيغة اجتماعية ذات ملامح ملتحمة بأداة الإنتاج في القرى .. كأن نرى " الجزار " الصانع " وغيرهم وهم في العادة يكونون تحت إدارة أب العائلة ولا يملكون في العادة أراض زراعية بحيث يستطيعون العيش منها، لذلك فهم مرتبطون بثقافة القرية من نافذة الالتئام الاجتماعي، أقول هذا باعتبار أن أهل القرى مثلهم مثل كل المجتمعات الإنسانية في المعمورة .. ليسوا ملائكة ولا يجوز الأخذ بخيرهم دون أخطائهم .. لكنهم في مفهومي من أفضل القلائد الاجتماعية التي تحافظ على منظومة كبيرة وحضارية في قوانينها وعاداتها وتماسكها .. مما نحتاج إليه في عدد من فروع العدل والتعامل فعندما نرى كيفية توزيع مياه العيون ومسايل المياه في مواسمها أو مقاطعة من شذ عن الاحتكام للجماعة – وهذا صعب جداً – أو طريقة توزيع لحم الماشية – سواء كانت للبيع أو لما يسمونه بـ" الصدقة " حيث ينال الكل حسب البيوت والعائلات قطعة من كل عنصر ولحمة من الذبيحة بما فيها أطراف البهيمة وكرشها .. وعندما يكون هناك حاجة لمساعدة الجماعة في أي شأن لـ" طينة البيت " أو وقوع أمر مشين على أحد منهم أو وقوع أحد المواشي في البئر أو تجميع مقدار من كل فرد في وقت الحصاد وبذله للفقير وعادة ما يكون لمن لا أرض زراعية كافية لمعيشته .. أو لا يملكها البتة كالحرفي وعندما بدأت معطيات الحضارة الآلية كالسيارة وموتور الماء وغيره .. لم يكونوا ضدها فهم بيد واحدة يشقون طريقاً للسيارة لكي ترد القرية ( الوسمية ) ويتناقلون مضخة الماء ايجاراً أو مساهمة " صالحة " .
المسالة لا تعني أنهم ضد المعطيات الجديدة .. إنما هم فقط يجهلون التعامل معها وفي الغالب عدم قدرة على امتلاكها فأنت ترى في رواية " الوسمية " كيف أن "أحمد بن صالح " كان يهون عليه أي أمر صعب .. سوى أن يمر طريق السيارة الذي يمهده كل الجماعة للوصول إلى عمق القرية من أرضه الزراعية .. لكنه في آخر الأمر وافق بعد أن رأى أن الخير للجميع وأن رأيه شاذ ولو أن موافقته على المرور من أرضه الزراعية سيعتمد عليها موافقة آخرين قادمين في امتداد الخط .
إنهم صعبون في التنازل عما ثقفوه في بيئتهم خاصة ما يتعلق بمواطن معيشتهم .. مضخة الماء التي تنزع الماء من عمق البئر تعمل بـ" البانزين " وتنفث غيوماً في داخل البئر العميقة من الكربون وعادة ما تكون هذه " الماكينة " قريبة من موقع الماء .. حافته في القاع فكان النازل، بالسلالم الحبالية إليها لإسكاتها بعد عملها، كثيراً ما يتعرض لكمية الدخان وبالتالي الاختناق فالموت.. كانوا يخافونها .. و بالتالي توالد الكره لها .. القروي والإنسان الذي لم يتعرض لأي تلوث .. يصاب بالدوار والغثيان أثناء اضطراره للتعامل معه .. لعلك تتذكر كيف كنا نتأثر لمجرد ركوبنا السيارات وهي قليلة جداً في ورودها للقرية .
قبلاً وفي المعنى السابق لحرص الفلاح على بقرته ومزرعته .. فليس غريباً أن تكون " صالحة " في آخر الرواية " صالحة " .. شديدة التمسك والإصرار على عدم هدم بيتها " الحجر طيني " لقضية طريق " الإسفلت " برغم التعويض المالي الذي ستناله !.
موقف هذه المرأة – مع معرفة شخصها قبل نهاية الرواية - .. هو موقف إنساني تلقائي حميمي معيشي تاريخي أولاً ؟ وليس موقفا ضديا من حداثة التطورات وإلا لقالت يبقى ولدي بقربي ولا يذهب إلى المدرسة ليعمل ، وهي أشد حاجة له ) وهي لا تؤاخذ في هذه الحالة لأنها محصلة ظروف اجتماعية اقتصادية وثقافية معيشيه يومية ضمن حياة القرية .. وهي لا يمكن أن تنظر إلى التعويض المالي مقابل ثقافتها الاجتماعية القروية المعيشية والحميمية في البيت الذي آواها زوجها معها قبل وفاته ..( لايجب أن ننظر إلى البيت كمجموعة مترابطة من الحجر والطين .. بل كملجأ ومسكن إنساني له جدران وباب تستطيع أن تأمن إليه وتقفله على نفسها وفرخها . سيكولوجياً وتاريخياً وتربية متوارثة طويلة .. قامت على نظم العلاقة التلقائية بين الإنسان وأنسنة الأشياء التي يمنحها جمالية ألفته وحميميته ولا نستطيع أن نعتبر الحجر والطين وصخور الجبال واختلاف الشجر بأنواع شوكه و .. و .. إلخ لا نستطيع أن نعتبرها خارج ضلوعه وحناياها الدافئة .
أنا لا اعتقد أن المسألة " مادية " كما تفضلت في سؤالك – اقتصادية – بحتة بقدر ما هي ارتباط حميمي نفسي متراكم.. لعلك تعلم أنهم يعيبون جداً على من يفكر في بيع أراضيه الزراعية .. أعني شيئاً منها .
أذكر وأنا طفل – بحكم الواقع المعاش – أن المرحوم جدي عيرني بكلام جارح – لا أنساه – حين طلبت بإلحاح وبكاء حبتين من التمر – بالطبع ليس هناك شيٌ حلوٌ لإرضاء الأطفال سواه – قال رادعاً – لعدم وفرتها :
" أخاف بكرة .. إذا كبرت تبيع البلاد من أجل تمرة ". لاحظ أمر الطفل وقتها لم يستوعب القول .. لكنني أذكرها اليوم للمرة الأولى وبكامل الوعي .
الدم والرقبة تمنح مسافة شبر واحد بين جارين في الأرض الزراعية وهذه الاستعدادية متأهبة جماعياً ضد أي طارئ على القرية ككل .
عن جوابي الاستراتيجي الكتابي في مسالة وقوفي فيما سبق وكتبت عند منطقة الرفض للجديد عندهم أو كما يبدو في سؤالكم .. فإن قلمي وقف – تقريباً – في نقطة مهمة وخطيرة تجاه هذا العالم الذي احتاج لسفر طويل من السنين حتى أعطيه بعض حقه الكتابي مما أحمل وأفهم عنه .. تلك مرحلة أو نقطة " القبض على القرص " التمثال الإغريقي القديم فبعد أن التقطته في يدي ودخلت في مرحلة التهيئة لقذفه فعلي أن أرصد هذه المرحلة تحديداً وهي مرحلة الوقوع القروي في منطقة التحول – اللااستيعابي – الذي جعلهم يثبون دون تدرج مرحلي من الزراعة كنمط إنتاجي معرفي متراكم .. إلى منطقة المفاجآت الاقتصادية المغرية والتي لا خيار دونها ولا معنى فيها لأي أمر له ارتباط بالواقع المتوارث البتة، لأنها أتت فمحت خصوصية السحنة الاجتماعية دون استيعاب أو حتى ذكرى أو تقدير لما مضى .
ليس أمام ذلك الإنسان وربما ليس أمامي – ككاتب – استقراءً لوجه معلوم ويمكن السعي نحوه مستقبلاً بحيث نحس بالانتمائية الاجتماعية ..إنه منزلق خطير وذو هم كتابي استراتيجي كبير في هذا الشأن .



قديم 06-03-2012, 11:17 AM
المشاركة 798
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع الجزء الثاني من الحوار مع عبد العزيز مشري
(12) - تقوم التقنية الكتابية لمعظم أعمالك السردية على دور الكاتب العليم بكل شيء فتحاول إخفاء شخصيتك ككاتب لتعطي الإنطباع بالحيادية لكننا كقراء نستطيع أن نبصر دهاءك الفني ونراك في هذه الشخصية أو تلك.. لماذا اخترت هذا الأسلوب ولم تجعل بطل النص راوياً إلا في بعض أجزاء الغيوم ومنابت الشجر " ؟
وفي " ريح الكادي " التي تعد من أعمالك المتميزة يبرز الصراع الدرامي في القرية بين ثلاثة أجيال تتعرض حياتهم لعملية التغيير.. ترى لماذا نراك تختفي خلف الشايب " عطية " وأي دلالة عميقة تود أن تطرحها بهدوء من خلال ذلك الموقف ؟

* - لا أعرف كيف يقرأ القارئ أعمالي لكنني أواجه بمثل هذا السؤال وغالباً ما يكون عن شخصية الكاتب وأين هو طفلاً وصبياً ورجلاً ؟!
إن مسألة البطل الفرد لا تحظى باهتمامي ولا عنايتي في كتاباتي عموماً، ثم إن الكاتب هنا هو جزء من كيانات متآلفة وتحمل صفات المجتمعات البشرية في خيرها وشرها والكاتب يتفاعل مع شخصية أولى وشخصية ثانية وهكذا .. غير أن شخصية الكاتب لا تدير النسيج السردي حسبماً تريد مما لا يتعامل مع الواقع أو يجعل الشخوص أبواقاً مدجنة تنفخ بما يملؤها به الكاتب ..لقد حاذرت دائماً على ألا تأتي هذه الشخصية – الكتابية – كأنا مثقفة تدير من أعلى الجبل الناس والبهائم والأشياء المؤنسنة حسب رغبتها أو ميولها الشخصية المزاجية.. لا شك أبداً ودن أدنى التبريرات أن الكاتب لا يكتب خارج وعيه وبالتالي فإنه قد يكون في مناطق الصيد و الإلتقاط، وليس بالضرورة أن يكون مجمعاً في شخص بعينه في النص .
أما عن " عطية " أو " عاطي " .. فقد كان يحتل الرمز القروي في كتاباتي القصصية الأولى وما لبث الكاتب أن أكتشف أن هذا الرمز يمكن أن يتوفر في أغلب الشخصيات المُعَانيَة الوفية الكاملة بكل صدقها العفوي مع عالمها ومعايشتها له ودون أن يكون ثمة ميزة محددة، وهذا هو الغالب وإلا فكيف تأتي برواية تحشد فيها كل أهل القرية .. أنت في حالة شبه انتقائية لعدد من الشخصيات المتوافقة مع درامية العمل ومتناغمة حسب الضرورة مع" بانوراما" ذلك العالم الذي تكتب عنه في إطار خصوصيته الاجتماعية و المكانية .

** ** **

كان الوقت يجلدنا والكلام يأخذ منا مآخذ المجابهة منتصف الليل وقلت : يا عبد العزيز سأذكرك بطرفة من طرائف الحوادث التي تحدث في القرى : روى آباؤنا أن مجموعة منهم ذهبت إلى قرية أخرى لتطلب منهم المساعدة في جمع " دية " شخص غريب قتل خطأ في نواحيها، وحين التقوا بشيخ تلك القرية وبعض وجهائها لاحظوا عدم حماسهم للمساهمة، فقام أحد أفراد المجموعة وحلف على أهل القرية الأخرى بأن يخرجوا إلى ساحة الدار للتشاور في أمرهم، (لأن التشاور سينبثق عنه شيء وإن كان قليلاً، كمساهمة مالية من قيمة الدية المطلوبة وقد نجحت الفكرة( !
الوقت الآن منتصف الليل يا عبد العزيز ألا تأكل ؟
قال : لم آكل ولن .. فهذه اعتبرها فترات مائية.. أنا آكل الماء فقط ! قلت له وقد بلغ العناء مني ومن بعض الأصدقاء المرافقين مبلغه: حلفت عليك أن تتشاور مع "أخوك " أحمد في أمرنا !
تشاورا همساً .. وخرج أحمد من صالة اللقاء وأخذتنا الأحاديث الجانبية ثم عاد أحمد بإبريق الشاي وبعدد من السندويتشات .
قلت لأحمد : كنت اختلس السمع لثغاء الشاة أو التيس تحت حد السكين ؟ فضحك أحمد وقال الله يرحم أيامها ، قال زميلي : نحن نعذركم فإذا لم يتوفر الخروف فليس أقل من " ديك الشيبة " الذي تحدث عنه " الصاحب " في رواية الحصون .
أجابه أحمد : أنت في جدة يا صاحبي ولست في قرى الجبال .
تشاوروا فينا يا عبدا لعزيز!!
ضحك وقال لقد بلغت المشورة سندويتش الجبنة .. فهنيئاً مريئاً ما تأكلون !

( 13) - للأمكنة كمين كما تقول فوزية أبو خالد ، وهذه الأمكنة تتغلغل فينا حباً وكرهاً ..شجناً وأسى ، وأنت قد تنقلت من قريتك في منطقة الباحة إلى الدمام وأقمت بها لسنوات طويلة ورحلت إلى القاهرة وقضيت أوقاتٍ متباعدة في الرياض ثم استقر بك ريح " الجاردينيا " في جدة .
حدثنا عن رائحة المدن وعن المناخ الذي اندمجت به اختياراً أو قسراً وما هو انطباعك الثقافي والاجتماعي عن هذه الأمكنة .

* - المكان كما تقول الشاعرة " فوزية أبو خالد " كمين .. لكنه ليس كمين يبث في الداخل رائحته وإنما يترك أيضاً نوعاً من الحوار يخاطب فيها جميع جوارح الإنسان .
لو افترضنا تجريد المكان من هذه الخاصية الإنسانية الكبيرة والمنظومة من عدة تراكيب دقيقة وجزئيات .. فإنه لن يختلف عن أي موقع للحياة أو المصادفة .. بحراً أو صحراء أو صندوقاً من الخشب لا مكان له .. ستصبح الحالة أشبه بزمن " مكتسب " ففيه عمر يقضى بأية صورة بلا حس حتى تنتهي .
قد لا أتحدث هنا عن إيجابية المكان – كمحور ارتكازي – في العمل الإبداعي بقدر ما أعنى منطقية ضرورية في حياة الإنسان برغم الرضى والمصالحة معه من عدمها .
عندما كنت أعيش في القرية إلى سن أول العشرين .. لم أكن لأعرف العالم بمحيطاته وأناسه واختلاطات إيقاعاته وسهوله و جباله .. سوى بحدود طلوع الشمس من مشرقها خلف الجبل الكبير المقابل للبيت من بعيد، وللحصن القديم الذي تلتف حوله برتقاله الشمس النحاسية في الغروب .. هذه حدودي التي التقطت في تفاصيلها عالمي الأليف والحبيب والشقي أيضاً بآلامه وحرمانه، لكنه كان حميمياً ومتغلغلاً في انسجتي وخلايا ذاكرتي وجوارحي .. للحجر – مثلاً – معنى واحد ملتصق بقساوته وصخريته الصلبة وهندسته ووزنه الذي يعني لك تفصيله شبه مدركة الثقل والنوع واللون، لكنه يبقى صخراً في ثنايا ذاكرتك أينما ذهبت ما لم تضف إلى معرفتك معارف إضافية جديدة .. تختلف باختلاف درجات استيعابها ومكانها وزمانها .
دخلت المدينة فرأيت الصخر غير الصخر والحجر يأخذ خاماً آخر تعرف مكوناته ولا تعرف حميميته المجهولة التي ارتبطت بها في ثقافتك القروية الأولى .. رأيت حجراً يستخدم للبناء من الأسمنت والرمل المقولب ومساكن تقام في عز الصحاري والبحار .. دفعة واحدة انتقلت من آخر حدود الجنوب الغربي إلى آخر حدود الشمال الشرقي .. من الجبل إلى البحر ومن الوديان إلى الصحاري بالطبع كان عليك أن تتعايش مع بيئات جديدة .. كذلك مهما جاهدت في تلوين وتغيير الحجارة .. لن تستطيع أن تغير ما في داخلي.. لقد أخذت الصخر الذي تقطع منه الحجارة في النشأة الأولى معنى محدداً تلمسه وتحسه بكامل قنواتك المعرفية ولكنك تكتشف أن الحجارة ليست سواء .. هذا صحيح تجاه كل الجوانب الحياتية الأخرى التي تقابل الشخص باختلاف المكان، وفي مدينة " الدمام " على بحر الخليج العربي بشمال شرق المملكة .. كنا نبحث عن شكل الصخر أو الجبل أو الحجر .. يقولون ثمة جبل في المنطقة الشرقية اسمه " جبل الظهران " وسمعنا عنه من آبائنا الذين التحقوا عمالاً أميين بشركة الزيت .. منذ قبل مجيئنا للحياة رأينا حيزاً صخرياً تشقه عدة طرقات للسيارات ثم ما لبث بعد أن التصقنا به .. أن انطمس .. فُـتك به حتى ُسوي به الأرض.. فكنا في مواسم الصيوف نقطع آلاف الأميال بالسيارة إلى الجنوب وأول ما يبهجنا نحو الجنوب منظر الجبال وأشجار الطلح و"القرض " والسدر ورائحة الفضاء الواسع النقي .
بالطبع أنا لا أعني أن الأمكنة يجب أن تساير مطالبي .. لكنني وجدت قلمي يسعى لإعادة تراكيب الأشياء بحكم مرجعية ذائقية ودون الوعي بهندسة الأمكنة الجديدة وملابسات ضرورياتها وبيئات أنسانها. في " القاهرة " حيث البعد الشديد اجتماعياً وبيئة ومعيشة وفي عمق الليالي الموغلة في الغربة ولأسباب غير اختيارية .. كتبت رواية " الوسمية " بحميمية ومرجعية معيشية دقيقة لكنه يبقى المكان "القاهرة" كمين آخر له مواصفاته ونماء ثقافته وأناسه و.. إلخ .
في " لندن " الضبابية .. عرفت طعماً آخر للضباب الذي عرفته في الجبال السروية وبطبيعة الحال والمكان والزمان .. رأيت ضباباً يعايش الإنسان ويختلط بيئته وشارعه ومكان عمله وملبسه ومأكله ومشربه وكان الضباب يعني لي دائماً – يعود للمرجعية البيئة القروية – وجود البرد والعواصف والمطر وانتظار تصريح الأهل بعدم الذهاب إلى المدرسة .. جميل هذا وقبيح في مكانه وزمانه البعيدين .. فقد اتخذ لغة أخرى وسلوكاً آخر .. بمعنى صورة وذائقة أخرى وبقيت له صفة المكان لكل معانيه وأشكاله .. وهكذا .
وفي ولاية " فلوريدا بأمريكا .. عشت أياماً بالغة القسوة ألقيت بكل حديث حضاري عن أمريكا .. هناك خلف سواحل الأطلسي لقد رأيت الخضرة والجبال كأنما صنعها الإنسان بمادة بلاستيكية لكنه لم يستطيع أو لم يفكر في تغيير رائحة الطين الذي كنت أنزل إليه في الحدائق كعصفور ينحت بمنقاره بحثاً عن ألفة عظيمة مفقودة .
ما لمسته هنا أو هناك تجاه الأمكنة .. لا يعتمد عليه كقانون، فهذا قانوني أنا أو تلقائيتي الشخصية مرتبطة بحالتي وظروفي وذائقتي وإنسانيتي .. لكنني لا أستطيع أن أجعل من المكان رداءاً أخلعه متى شئت وكيفما أتفق .
هل المكان هو الجغرافيا أم أنه شيء آخر ؟
بالطبع يا صديقي .. المكان ليس مجرداً عن التقائك في الحياة المعاشية أو النفسية مع الآخرين .. المكان يتأنسن بعلاقتك مع الإنسان الذي يشغل ويغير ويؤثر في هذا المكان.
لذلك تأخذ الأمكنة حميمية الإلتصاق بالنفس والذائقة والذاكرة .
لم أفكر ذات لحظة في العيش خارج مدينة " الدمام " فقد ألفتها إلى درجة العشق.. احببتها حباً إنسانياً تفصيلياً.. فيها تعرفت على الأصدقاء ..على الانفتاح نحو ثقافة جديدة .. الثقافة المعرفية بالذات وصياغات التعامل الذاتي مع الحياة والأشياء.. المعرفة الحقيقية لمعنى التجربة الانتقالية من براءة القرية إلى ترس الطاحون المدني .. كنت أمام امتحان يومي في كفاءة الذات وفي كيفية التعامل مع العالم القريب والبعيد .. مع الغذاء والماء ونوع الخبز ومعايشة الدواء، و إقامة سلوك جديد مع وسيلة جديدة اسمها " قيادة السيارة " والعمل اليومي حسب اشتراطات الوظيفة .. لم أكن اعتمد على جرس الساعة ولم أخل بالتزام مع الآخر .. كنت دقيق الالتزام وفي مرحلة عنفوانية فكراً وممارسة ولم تكن مآسي الحياة مرة كما هي كسباً ثقافياً ودروساً .
فجأة أخذتني أقدار الصحة إلى " الرياض " .. فكنت أهرب من المستشفى في السابعة مساءاً لكي أعود إلى بيتي في مدينة " الدمام " اقضي نصف الوقت في الطريق ( 3-4 ) ساعات وأعود إلى غرفتي بالمستشفى قبل السابعة صباحاً ..لا تقل إنني كنت مجنوناً .. لقد كان هذا يحدث وفي حالة إغماء فالظرف الصحي كان صعباً. عرض علي الأصدقاء بـ" الرياض " رعاية صحية وعملاً ملائماً بالصحافة مثلاً ومسكناً .. لم أوافق.. كان اليوم يمضي كشهر .. أرغب في النفاذ بأية صفة إلى " الدمام "
الأطباء يتعاملون مع المريض كحالة جسدية فقط فيسقطون ضلعين من مثلث الصحة النفسية والاجتماعية.. لم أعد من الرياض بنتائج إيجابية .. برغم العناية .. عدت مريضاً – كجورب محموم إلى الدمام .. لكنني كنت سعيداً ودخلت في تصالح جديد مع الحالة وهنئت قليلاً قليلاً .
هل يمكن اعتبار المكان " الدمام " معطفاً تلقيه عن كتفك لمجرد دخول موسم الصيف .. لا اعتقد أبداً ولكنك أيضاً لست مخلوقاً لموسم واحد بصفاته وحواشيه في الحياة ! فجأة .. أيضاً وبصورة غير متوقعة أبداً رأيت أن المعيشة في الساحل الغربي بمدينة " جدة " .. تتصالح مع الظرف الصحي المكتسب تجربة، فقد أحسست بتحسن ملحوظ وبأصدقاء جدد وبألفة قديمة مفقودة تجاه شجرة " الحناء " وبقرب المدينة من الجبال السروية.. أما المسألة الصعبة حقيقة .. فقد كانت تقليدية التعامل – خاصة الأقرباء – لقد كانت امتحانا جديداً مراً .. كانت ضريبته كبيرة في أوائل الأمر .. ربما وبحكم العذر الصحي الذي استخدمه بإيغال شديد أحياناً .. استطعت أن أتأقلم أو يتأقلمون مع " هذا المريض " المسكين .. اسكنهم الله واسكن المسلمين واسع جناته .. آمين .

اطلَّ أحمد من الباب وقال : تفضلوا حياكم الله .
انتقلنا إلى غرفة أخرى وكان تراث الأجداد يعلن عن حضوره، حيث أعلن رأس الخروف المفتوح بلسان مائل إلى اليمين عن وليمة تليق بتراث العائلة . إنهمكنا في الأكل ونسيت عبد العزيز ولكنني فوجئت به يشمر عن أكمامه ويستبدل أكل الماء بالمائدة الدسمة ، تبادلنا الأحاديث القصيرة ولكن عبدا لعزيز كان يأكل بلذة ما ألفتها منه بل أنه لم يشاركنا التعليقات العابرة .
- هل تظن الخروف ماء يا آكل الماء ؟
أجاب باقتضاب: هذا خروف ما بعد الحداثة والخدماتية والاستهلاكية .
- لكنه لذيذ وسريع والتجهيز .
صحتين على قلبك
فرغنا من الأكل وخرجنا إلى الحديقة الصغيرة بجوار الكادي وحوض الريحان وبين ارتشافات كاسات الشاي وصوت قرقرة الأرجلية أردت استعادة حيوية الحوار فسألت عبد العزيز :
لماذا تأثرت باللهجة الشامية التي تستخدمها في سياق حديثك أكثر من تأثرك باللهجة المصرية التي كانت هي لهجة زوجتك الأولى والأخيرة والتي كانت تناديك "عب عزيز"..؟
تنحنح قليلاً وقال : أولاً ..فال الله ولا فالك .. وثانياً .. الله يمسيها بالخير .. وتاسعاً شو بدك في هالسيره ..
- كيف قفزت من ثانياً إلى تاسعاً
أمرك سيدي .. والسبب في رأينا يعود إلى أن الأمور متشابهة أو متماثلة أو بليدة فالأول والآخر سواء أما بالنسبة لاستخدامي اللهجة الشامية أكثر من المصرية فيعود إلى ذوق شخصي بحت أرى أن الشامية تعطيك المعنى بصيغة أكثر حضوراً أو تجديدية، أما المصرية فإنها تستخدم نفس الكلام لمئات الحالات.
كانت الطائرات تحط في مطار الملك عبد العزيز وكأنما وضعت علامة على بيت عبد العزيز ابن مشري لتبدأ إنزال العجلات فوق سطحه فانقطع الكلام مراراً . وحين أردت معاودة طرح الأسئلة كان صاحبنا قد ملّ الحديث واستلم للخدر الذي يعقب الأكلة الدسمة. وسألته هل تريد مواصلة الحوار قال بحدة: اشغلتني يا ولد بهذي الأسئلة " ما معك ضيعة ولا بيعة تشغلك عني ! "
أدركت أن الوقت قد أسلم مقاليده للتوقف وأعطيته ما تبقى من أسئلة ليجيب عليها بطريقته .


قديم 06-03-2012, 11:17 AM
المشاركة 799
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الجزء الثالث من الحوار
( 10) - كرست في كل أعمالك العديد من القيم الإنسانية النبيلة التي تتجلى في جوانب من حياة المجتمعات القروية ( التعاون ، البساطة ، الارتباط بالأرض ، الوقوف في وجه الظلم ) وكان من ضمنها وأهمها انتصارك للمرأة في كل هذه الأعمال، ولكن القرية الآن قد تحولت إلى شبه مدينة في مرتكزاتها الاقتصادية وفي أنماط حياتها الاجتماعية وقد قال والدك الشيخ صالح بن مشري في حوار نشر بجريدة البلاد " لم يعد في كل القرية ديك واحد " كدلالة على عمق التغير الذي طال حياة القرى.. لقد أسدلت الستائر الرمادية الآن على فعل ووجود المرأة الاقتصادي والاجتماعي في القرى كما أسدل على أختها في المدينة فمتى نجد امرأة القرية وزميلتها المدينية في إبداعاتك القادمة ؟

* - نعم هذا صحيح فالتحول الاقتصادي الطفراوي في كافة مناطق الوطن "السعودية " قد خلق أنماطاً مغايرة لطبيعتها الإنتاجية - السلوكية - التراثية - وكذلك في العلاقات والروابط وفي شكل الحياة وضد بنيتها المعيشية. لقد أصبحت "البلاد " وهي البقع الزراعية المحدودة والتي عرفت لدى الفلاح بأحلى الأسماء .. فتلك " عيون الحمام " والأخرى " خيره " والثالثة " سعادة " وغيرها مما أختير كأجمل الأسماء والكنيات باعتبارها وبصورة متوارثة منذ القدم مزارع يبذر فيها "الذرو" ويبقي لينمو ويشد ساقه ثم يثري تحت عين وقلب مالكها الفلاح .. إلى موسم الحصاد .. لقد أصبحت بعد انفراط الإيقاع الإنتاجي - الفلاحة اليوم - مكاناً مناسباً دون أدنى تردد إلى مكان ممهد لبناء بيت من الاسمنت ! .
سأذكرك .. هناك وعلى حافة المكان الذي يزرع " العثري " – وهو مصطلح عربي جيد لبقعة الأرض التي تعتمد في مائها على أمطار الموسم سواء كان قمحاً أو ذرة أو غيره .. هذه القطع المعروفة عند الفلاح بمحدودية محصولها .. تقع في العادة إلى جانب سفح صغير غير مزروع لعدم صلاحيته وربما كانت إلى جانب صفح كبير ( المساحة المنحدرة نسبياً يسمى بـ" الوسيفة " أو " السفح " بتحويل السين إلى صاد ) وقد تكون بلا حدود .. فتكون أكبر مساحة إلى وسط أو قمة الجبل .. باعتبار أن المنطقة جبلية وعلى جنباتها مدرجات متعاقبة للزراعة، فأصبحت اليوم في مكانتها المعنوية والواقعية الإيقاعية الكاسحة .. أغلى قيمة من الأراضي الزراعية " المسقوي " التي تساق بالماء من البئر بالسواني حيث كانت أكثر حصاداً وأينع رواءً!!.
القروي اليوم في هذه المرحلة الاقتصادية المعيشية .. لم يعد بقروي والحياة المصلحية العامة أصبحت فردية انتهازية .. لا مكان للأب أو الابن ولا للأخ والعم وبالتالي لا للجار والجماعة والقرية أو العشيرة والقبيلة، وعليه فإن الوسيلة الإنتاجية التي كانت تصيغ للقرويين نمطاً محترماً ونافعاً بحكم الضرورة المتبادلة وفي مناخ اجتماعي واحد .. قد تغيرت ألا تتغير معها المرأة ؟ .
بالطبع ودون إرادة أو تكلف أو عدم تكلف وهذا دليل على عدم صحة النظرة التي تفرق بين المرأة والرجل كإنسانين متكاملين .. لا يمكن أن يحيا أحدهما دون الحاجة إلى الآخر ( سنة الله في خلقه(.
الوثبات الرهيبة والذهول " الفانتازي " الذي صبغ أنماط الحياة وشخصياتها وانتمائها بألوان مغامرة لم يكن على الرجل دون المرأة ولا على الطفل دون العجوز ولا على القروي دون البدوي أو أهل الساحل أو الحارة في المدينة القديمة .. لقد أصبح وبصورة ترفع وسامات التقدم الإنساني وتعود إلى التخلف الاجتماعي مئات الخطوات بل آلافها إلى الخلف دون وعي بالحياة .. تحولت الإنسانية في المجتمع بشتى صنوف معيشتها إلى تخلف خطير وتاريخي بحيث أصبح الإنسان بلا فاعلية ولا مرجعية ولا مستقبلية .. فقط إنما هو استهلاكي زمني ومعيشي جاهز عديم النشاط يعد أيام عمره الباقية ويصارعه في المعايشة النفسية والجسدية و.. " الله يحسن الخاتمة "!.
الحياة لا تقف عند نمط معيشي معين .. لكن هل علم أهل القرى لماذا ؟ لماذا انتقلنا فجأة بقفزة غير استيعابية من " الثور ، والحمارة " إلى الطائرة والسيارة والأوتوماتيك ولم يتم إعدادنا اجتماعياً لهذا الاستيعاب بصورة مرحلية ؟ ! .
هذا ما يشغلني ويعذب قلمي .. ليس في القرية فقط .. و إنما في المدينة التي تكونت من حارات ونزل معروفة ومحددة .. إلى مدينة ثلاثة أرباع سكانها من القرى والهجر والبوادي ولا يجمعهم شيء .. الجامع فقط هو ما تملك .
لكن هل هذا المستضاف الاستهلاكي المدني – وليس الحضاري – استطاع أن يقتلع الآدميين من جذورهم ؟
لا .. إن في المدن الكثير ممن سكنوها بعاداتهم وشعبيات مجتمعاتهم وربما حتى شكليتهم أو شكلياتهم في الملابس واللهجات !.
أتسالني عن المرأة الأم والزوجة الأخت والحبيبة وكيف أن الستائر الرمادية أسدلت عليها وعلى أختها في المدينة ؟!.
إن الستائر الآن أصبحت بنية داكنة .. لم يظلمها المولى الكريم ولا الرسالة الإسلامية الحنفية وإنما ظلمناها نحن بمفاهيمنا الجديدة والمتخلفة .. بحيث نظرنا إلى الطير .. إنه يطير بجناح واحد في الفضاء .. لقد فرضت علينا المفاهيم دون حوار ونظرنا إلى المرأة نظرة أخرى .
لقد ولدت – قبل أن أكون كاتباً – مسلماً وتربيت في بيت ومجتمع قروي مسلم وأموت مسلماً انكح مسلماً وأذري مسلماً .. اعيش أحب السلام وأنبذ الاستسلام وقد أوصانا رسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم باحترام ومعايشة الأم والأخت وذات القربى والحميلة والجارة وكل المؤمنات .. بالخير والإيمان والرعاية والوصاية الحميدة وكامل التعامل الإنساني.
لقد سئلت عن العنصر الإنساني المغيب في واقعنا وكيف أن هذا يقف كحد واضح المعالم في عدم كتابة الرواية المحلية ؟ .. غير أن هذا السبب الحيوي الهام لم يكن مغيباً في رواياتي المكتوبة عن عالم القرية .. المرأة موجودة في حياة الفلاح جنباً إلى جنب في البيت والمزرعة .. ترى من كان يحصد و" يدرس " المحصول ويحضر الماء من البئر ويصنع الخبز ويشارك في " طينة " سقف البيت ويطبخ للمناسبات ويحلب البقرة ويجني الثمار و .. و .. إلخ .. أليست المرأة بل وتحمل وتنجب – بحكم طبيعتها – وتربي الطفل وتحمله في (" الميزب "/ المهد ) وتأخذه معها إلى المزرعة ثم تلقمه نهدها لينام حتى تتفرغ للعمل .
اعتقد أن غياب المرأة لا يؤثر على الكتابة الروائية تحديداً وإنما هو الغياب الإنساني في الحياة والنهوض بها .. ألم يقل رسول الأمة عليه الصلاة والسلام لابنته " فاطمة " وهو يخاطبها " نعم يا أم أبيك " .. أية إنسانية عظيمة هذه .. " خذوا نصف دينكم من هذه الحميراء " يعني " عائشة " رضي الله عنها .. يجب ألا نخلط في حقائق الأشياء.. المرأة هي عين الإنسان الأولى ويده وكليته وأذنه وكل شيء في حياته وليس فقط معاونه الأساسي في الحياة ! .
كلنا لم نأت من الفراغ ولا من بطون الرجال .. لذلك أنا لم أخترع المرأة في الرواية التي أكتبها .. لقد كتبت من الواقع .
لا تظن يا مسائلي .. بأنني متعصب أو متغاف بجهالة .. للمرأة في كتاباتي حقيقة وجودها ومعايشتها وقبل كل هذا إنسانيتها لكنني أبتليت بالكتابة القصصية الروائية الكاشفة لحقيقة الواقع الإنساني كما هو .
إنني أكتب بدمي ومشاعري وكياني .. ولم أقل كل ما في الحياة القروية والمدينية بإنصاف، المستقبل آت والناس معلقة في رقبة قلبي ولن أكتب إلا بمفهومي ونظرتي وقناعتي ولست كل الكتاب ولا كل الأقلام .. لكنني شاهد بقدر الأمانة الإنسانية في هذا الشأن وغيره .

(11) - نعرف أن طبيعة التكوين الثقافي لأي مجتمع مرتبطة بطبيعة النشاط الاقتصادي والذي يزاوله أفراده ولذا فإن للبيئة القروية ثقافتها المرتبطة بنشاطها الحياتي، وكما نعلم فإن تلك الثقافة تكرست لمئات السنين، وحين دخلت المدينة في عجلة التطور المادي والتقني كان لا بد أن يطال التطور / التغير حياة البشر في المدينة والقرية ويؤثر على منظومة الأفكار والقيم لينتقل المجتمع من تشكيلة اجتماعية / اقتصادية إلى أخرى أو هكذا لا بد أن تمضي الأمور .
سؤالنا هو : لماذا يبدي الكثيرون من أبطال أعمالك موقفاً مضاداً للأخذ بأسباب التطور ( الموقف من " ماطور " الماء الذي قتل صاحبه، صالحة ترفض هدم منزلها رغم التعويض من أجل إيصال الاسفلت للقرية، السخرية من " سلام " راكب السيارة " الونيت " على الجالسين أمام منازلهم بزمار السيارة ) .. إلخ.
هل كل ما قامت عليه القرية من عادات وقيم يمثل الخير كله بحيث تقف المدينة "كمرموز " شقي ضده ؟
وهل يفسر هذا إغفالك أو عم اشتغالك إلى الآن عل عالم المدينة في سردياتك ؟

* - نعم التكوين الثقافي الاجتماعي المرتبط بوسيلة الانتاج ( نستثني الحرفة) لأنها لا تشكل صيغة اجتماعية ذات ملامح ملتحمة بأداة الإنتاج في القرى .. كأن نرى " الجزار " الصانع " وغيرهم وهم في العادة يكونون تحت إدارة أب العائلة ولا يملكون في العادة أراض زراعية بحيث يستطيعون العيش منها، لذلك فهم مرتبطون بثقافة القرية من نافذة الالتئام الاجتماعي، أقول هذا باعتبار أن أهل القرى مثلهم مثل كل المجتمعات الإنسانية في المعمورة .. ليسوا ملائكة ولا يجوز الأخذ بخيرهم دون أخطائهم .. لكنهم في مفهومي من أفضل القلائد الاجتماعية التي تحافظ على منظومة كبيرة وحضارية في قوانينها وعاداتها وتماسكها .. مما نحتاج إليه في عدد من فروع العدل والتعامل فعندما نرى كيفية توزيع مياه العيون ومسايل المياه في مواسمها أو مقاطعة من شذ عن الاحتكام للجماعة – وهذا صعب جداً – أو طريقة توزيع لحم الماشية – سواء كانت للبيع أو لما يسمونه بـ" الصدقة " حيث ينال الكل حسب البيوت والعائلات قطعة من كل عنصر ولحمة من الذبيحة بما فيها أطراف البهيمة وكرشها .. وعندما يكون هناك حاجة لمساعدة الجماعة في أي شأن لـ" طينة البيت " أو وقوع أمر مشين على أحد منهم أو وقوع أحد المواشي في البئر أو تجميع مقدار من كل فرد في وقت الحصاد وبذله للفقير وعادة ما يكون لمن لا أرض زراعية كافية لمعيشته .. أو لا يملكها البتة كالحرفي وعندما بدأت معطيات الحضارة الآلية كالسيارة وموتور الماء وغيره .. لم يكونوا ضدها فهم بيد واحدة يشقون طريقاً للسيارة لكي ترد القرية ( الوسمية ) ويتناقلون مضخة الماء ايجاراً أو مساهمة " صالحة " .
المسالة لا تعني أنهم ضد المعطيات الجديدة .. إنما هم فقط يجهلون التعامل معها وفي الغالب عدم قدرة على امتلاكها فأنت ترى في رواية " الوسمية " كيف أن "أحمد بن صالح " كان يهون عليه أي أمر صعب .. سوى أن يمر طريق السيارة الذي يمهده كل الجماعة للوصول إلى عمق القرية من أرضه الزراعية .. لكنه في آخر الأمر وافق بعد أن رأى أن الخير للجميع وأن رأيه شاذ ولو أن موافقته على المرور من أرضه الزراعية سيعتمد عليها موافقة آخرين قادمين في امتداد الخط .
إنهم صعبون في التنازل عما ثقفوه في بيئتهم خاصة ما يتعلق بمواطن معيشتهم .. مضخة الماء التي تنزع الماء من عمق البئر تعمل بـ" البانزين " وتنفث غيوماً في داخل البئر العميقة من الكربون وعادة ما تكون هذه " الماكينة " قريبة من موقع الماء .. حافته في القاع فكان النازل، بالسلالم الحبالية إليها لإسكاتها بعد عملها، كثيراً ما يتعرض لكمية الدخان وبالتالي الاختناق فالموت.. كانوا يخافونها .. و بالتالي توالد الكره لها .. القروي والإنسان الذي لم يتعرض لأي تلوث .. يصاب بالدوار والغثيان أثناء اضطراره للتعامل معه .. لعلك تتذكر كيف كنا نتأثر لمجرد ركوبنا السيارات وهي قليلة جداً في ورودها للقرية .
قبلاً وفي المعنى السابق لحرص الفلاح على بقرته ومزرعته .. فليس غريباً أن تكون " صالحة " في آخر الرواية " صالحة " .. شديدة التمسك والإصرار على عدم هدم بيتها " الحجر طيني " لقضية طريق " الإسفلت " برغم التعويض المالي الذي ستناله !.
موقف هذه المرأة – مع معرفة شخصها قبل نهاية الرواية - .. هو موقف إنساني تلقائي حميمي معيشي تاريخي أولاً ؟ وليس موقفا ضديا من حداثة التطورات وإلا لقالت يبقى ولدي بقربي ولا يذهب إلى المدرسة ليعمل ، وهي أشد حاجة له ) وهي لا تؤاخذ في هذه الحالة لأنها محصلة ظروف اجتماعية اقتصادية وثقافية معيشيه يومية ضمن حياة القرية .. وهي لا يمكن أن تنظر إلى التعويض المالي مقابل ثقافتها الاجتماعية القروية المعيشية والحميمية في البيت الذي آواها زوجها معها قبل وفاته ..( لايجب أن ننظر إلى البيت كمجموعة مترابطة من الحجر والطين .. بل كملجأ ومسكن إنساني له جدران وباب تستطيع أن تأمن إليه وتقفله على نفسها وفرخها . سيكولوجياً وتاريخياً وتربية متوارثة طويلة .. قامت على نظم العلاقة التلقائية بين الإنسان وأنسنة الأشياء التي يمنحها جمالية ألفته وحميميته ولا نستطيع أن نعتبر الحجر والطين وصخور الجبال واختلاف الشجر بأنواع شوكه و .. و .. إلخ لا نستطيع أن نعتبرها خارج ضلوعه وحناياها الدافئة .
أنا لا اعتقد أن المسألة " مادية " كما تفضلت في سؤالك – اقتصادية – بحتة بقدر ما هي ارتباط حميمي نفسي متراكم.. لعلك تعلم أنهم يعيبون جداً على من يفكر في بيع أراضيه الزراعية .. أعني شيئاً منها .
أذكر وأنا طفل – بحكم الواقع المعاش – أن المرحوم جدي عيرني بكلام جارح – لا أنساه – حين طلبت بإلحاح وبكاء حبتين من التمر – بالطبع ليس هناك شيٌ حلوٌ لإرضاء الأطفال سواه – قال رادعاً – لعدم وفرتها :
" أخاف بكرة .. إذا كبرت تبيع البلاد من أجل تمرة ". لاحظ أمر الطفل وقتها لم يستوعب القول .. لكنني أذكرها اليوم للمرة الأولى وبكامل الوعي .
الدم والرقبة تمنح مسافة شبر واحد بين جارين في الأرض الزراعية وهذه الاستعدادية متأهبة جماعياً ضد أي طارئ على القرية ككل .
عن جوابي الاستراتيجي الكتابي في مسالة وقوفي فيما سبق وكتبت عند منطقة الرفض للجديد عندهم أو كما يبدو في سؤالكم .. فإن قلمي وقف – تقريباً – في نقطة مهمة وخطيرة تجاه هذا العالم الذي احتاج لسفر طويل من السنين حتى أعطيه بعض حقه الكتابي مما أحمل وأفهم عنه .. تلك مرحلة أو نقطة " القبض على القرص " التمثال الإغريقي القديم فبعد أن التقطته في يدي ودخلت في مرحلة التهيئة لقذفه فعلي أن أرصد هذه المرحلة تحديداً وهي مرحلة الوقوع القروي في منطقة التحول – اللااستيعابي – الذي جعلهم يثبون دون تدرج مرحلي من الزراعة كنمط إنتاجي معرفي متراكم .. إلى منطقة المفاجآت الاقتصادية المغرية والتي لا خيار دونها ولا معنى فيها لأي أمر له ارتباط بالواقع المتوارث البتة، لأنها أتت فمحت خصوصية السحنة الاجتماعية دون استيعاب أو حتى ذكرى أو تقدير لما مضى .
ليس أمام ذلك الإنسان وربما ليس أمامي – ككاتب – استقراءً لوجه معلوم ويمكن السعي نحوه مستقبلاً بحيث نحس بالانتمائية الاجتماعية ..إنه منزلق خطير وذو هم كتابي استراتيجي كبير في هذا الشأن .

(12) - تقوم التقنية الكتابية لمعظم أعمالك السردية على دور الكاتب العليم بكل شيء فتحاول إخفاء شخصيتك ككاتب لتعطي الإنطباع بالحيادية لكننا كقراء نستطيع أن نبصر دهاءك الفني ونراك في هذه الشخصية أو تلك.. لماذا اخترت هذا الأسلوب ولم تجعل بطل النص راوياً إلا في بعض أجزاء الغيوم ومنابت الشجر " ؟
وفي " ريح الكادي " التي تعد من أعمالك المتميزة يبرز الصراع الدرامي في القرية بين ثلاثة أجيال تتعرض حياتهم لعملية التغيير.. ترى لماذا نراك تختفي خلف الشايب " عطية " وأي دلالة عميقة تود أن تطرحها بهدوء من خلال ذلك الموقف ؟

* - لا أعرف كيف يقرأ القارئ أعمالي لكنني أواجه بمثل هذا السؤال وغالباً ما يكون عن شخصية الكاتب وأين هو طفلاً وصبياً ورجلاً ؟!
إن مسألة البطل الفرد لا تحظى باهتمامي ولا عنايتي في كتاباتي عموماً، ثم إن الكاتب هنا هو جزء من كيانات متآلفة وتحمل صفات المجتمعات البشرية في خيرها وشرها والكاتب يتفاعل مع شخصية أولى وشخصية ثانية وهكذا .. غير أن شخصية الكاتب لا تدير النسيج السردي حسبماً تريد مما لا يتعامل مع الواقع أو يجعل الشخوص أبواقاً مدجنة تنفخ بما يملؤها به الكاتب ..لقد حاذرت دائماً على ألا تأتي هذه الشخصية – الكتابية – كأنا مثقفة تدير من أعلى الجبل الناس والبهائم والأشياء المؤنسنة حسب رغبتها أو ميولها الشخصية المزاجية.. لا شك أبداً ودن أدنى التبريرات أن الكاتب لا يكتب خارج وعيه وبالتالي فإنه قد يكون في مناطق الصيد و الإلتقاط، وليس بالضرورة أن يكون مجمعاً في شخص بعينه في النص .
أما عن " عطية " أو " عاطي " .. فقد كان يحتل الرمز القروي في كتاباتي القصصية الأولى وما لبث الكاتب أن أكتشف أن هذا الرمز يمكن أن يتوفر في أغلب الشخصيات المُعَانيَة الوفية الكاملة بكل صدقها العفوي مع عالمها ومعايشتها له ودون أن يكون ثمة ميزة محددة، وهذا هو الغالب وإلا فكيف تأتي برواية تحشد فيها كل أهل القرية .. أنت في حالة شبه انتقائية لعدد من الشخصيات المتوافقة مع درامية العمل ومتناغمة حسب الضرورة مع" بانوراما" ذلك العالم الذي تكتب عنه في إطار خصوصيته الاجتماعية و المكانية .



قديم 06-03-2012, 11:18 AM
المشاركة 800
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
كان الوقت يجلدنا والكلام يأخذ منا مآخذ المجابهة منتصف الليل وقلت : ياعبد العزيز سأذكرك بطرفة من طرائف الحوادث التي تحدث في القرى : روى آباؤنا أنمجموعة منهم ذهبت إلى قرية أخرى لتطلب منهم المساعدة في جمع " دية " شخص غريب قتلخطأ في نواحيها، وحين التقوا بشيخ تلك القرية وبعض وجهائها لاحظوا عدم حماسهمللمساهمة، فقام أحد أفراد المجموعة وحلف على أهل القرية الأخرى بأن يخرجوا إلى ساحةالدار للتشاور في أمرهم، (لأن التشاور سينبثق عنه شيء وإن كان قليلاً، كمساهمةمالية من قيمة الدية المطلوبة وقد نجحت الفكرة( !
الوقت الآن منتصف الليل ياعبد العزيز ألا تأكل ؟
قال : لم آكل ولن .. فهذه اعتبرها فترات مائية.. أنا آكلالماء فقط ! قلت له وقد بلغ العناء مني ومن بعض الأصدقاء المرافقين مبلغه: حلفتعليك أن تتشاور مع "أخوك " أحمد في أمرنا !
تشاورا همساً .. وخرج أحمد من صالةاللقاء وأخذتنا الأحاديث الجانبية ثم عاد أحمد بإبريق الشاي وبعدد من السندويتشات .
قلت لأحمد : كنت اختلس السمع لثغاء الشاة أو التيس تحت حد السكين ؟ فضحك أحمدوقال الله يرحم أيامها ، قال زميلي : نحن نعذركم فإذا لم يتوفر الخروف فليس أقل من " ديك الشيبة " الذي تحدث عنه " الصاحب " في رواية الحصون .
أجابه أحمد : أنتفي جدة يا صاحبي ولست في قرى الجبال .
تشاوروا فينا يا عبدا لعزيز!!
ضحك وقاللقد بلغت المشورة سندويتش الجبنة .. فهنيئاً مريئاً ما تأكلون !

( 13) -
للأمكنة كمين كما تقول فوزية أبو خالد ، وهذه الأمكنة تتغلغل فينا حباً وكرهاً ..شجناً وأسى ، وأنت قد تنقلت من قريتك في منطقة الباحة إلى الدمام وأقمت بهالسنوات طويلة ورحلت إلى القاهرة وقضيت أوقاتٍ متباعدة في الرياض ثم استقر بك ريح " الجاردينيا " في جدة .
حدثنا عن رائحة المدن وعن المناخ الذي اندمجت بهاختياراً أو قسراً وما هو انطباعك الثقافي والاجتماعي عن هذه الأمكنة .

* -
المكان كما تقول الشاعرة " فوزية أبو خالد " كمين .. لكنه ليس كمين يبث في الداخلرائحته وإنما يترك أيضاً نوعاً من الحوار يخاطب فيها جميع جوارح الإنسان .
لوافترضنا تجريد المكان من هذه الخاصية الإنسانية الكبيرة والمنظومة من عدة تراكيبدقيقة وجزئيات .. فإنه لن يختلف عن أي موقع للحياة أو المصادفة .. بحراً أو صحراءأو صندوقاً من الخشب لا مكان له .. ستصبح الحالة أشبه بزمن " مكتسب " ففيه عمر يقضىبأية صورة بلا حس حتى تنتهي .
قد لا أتحدث هنا عن إيجابية المكان – كمحورارتكازي – في العمل الإبداعي بقدر ما أعنى منطقية ضرورية في حياة الإنسان برغمالرضى والمصالحة معه من عدمها .
عندما كنت أعيش في القرية إلى سن أول العشرين .. لم أكن لأعرف العالم بمحيطاته وأناسه واختلاطات إيقاعاته وسهوله و جباله .. سوىبحدود طلوع الشمس من مشرقها خلف الجبل الكبير المقابل للبيت من بعيد،وللحصنالقديم الذي تلتف حوله برتقاله الشمس النحاسية في الغروب .. هذه حدودي التي التقطتفي تفاصيلها عالمي الأليف والحبيب والشقي أيضاً بآلامه وحرمانه، لكنه كان حميمياًومتغلغلاً في انسجتي وخلايا ذاكرتي وجوارحي .. للحجر – مثلاً – معنى واحد ملتصقبقساوته وصخريته الصلبة وهندسته ووزنه الذي يعني لك تفصيله شبه مدركة الثقل والنوعواللون، لكنه يبقى صخراً في ثنايا ذاكرتك أينما ذهبت ما لم تضف إلى معرفتك معارفإضافية جديدة .. تختلف باختلاف درجات استيعابها ومكانها وزمانها .
دخلت المدينةفرأيت الصخر غير الصخر والحجر يأخذ خاماً آخر تعرف مكوناته ولا تعرف حميميتهالمجهولة التي ارتبطت بها في ثقافتك القروية الأولى .. رأيت حجراً يستخدم للبناء منالأسمنت والرمل المقولب ومساكن تقام في عز الصحاري والبحار .. دفعة واحدة انتقلت منآخر حدود الجنوب الغربي إلى آخر حدود الشمال الشرقي .. من الجبل إلى البحر ومنالوديان إلى الصحاري بالطبع كان عليك أن تتعايش مع بيئات جديدة .. كذلك مهما جاهدتفي تلوين وتغيير الحجارة .. لن تستطيع أن تغير ما في داخلي.. لقد أخذت الصخر الذيتقطع منه الحجارة في النشأة الأولى معنى محدداً تلمسه وتحسه بكامل قنواتك المعرفيةولكنك تكتشف أن الحجارة ليست سواء .. هذا صحيح تجاه كل الجوانب الحياتية الأخرىالتي تقابل الشخص باختلاف المكان،وفي مدينة " الدمام " على بحر الخليج العربيبشمال شرق المملكة .. كنا نبحث عن شكل الصخر أو الجبل أو الحجر .. يقولون ثمة جبلفي المنطقة الشرقية اسمه " جبل الظهران " وسمعنا عنه من آبائنا الذين التحقواعمالاً أميين بشركة الزيت .. منذ قبل مجيئنا للحياة رأينا حيزاً صخرياً تشقه عدةطرقات للسيارات ثم ما لبث بعد أن التصقنا به .. أن انطمس .. فُـتك به حتى ُسوي بهالأرض.. فكنا في مواسم الصيوف نقطع آلاف الأميال بالسيارة إلى الجنوب وأول مايبهجنا نحو الجنوب منظر الجبال وأشجار الطلح و"القرض " والسدر ورائحة الفضاء الواسعالنقي .
بالطبع أنا لا أعني أن الأمكنة يجب أن تساير مطالبي .. لكنني وجدت قلمييسعى لإعادة تراكيب الأشياء بحكم مرجعية ذائقية ودون الوعي بهندسة الأمكنة الجديدةوملابسات ضرورياتها وبيئات أنسانها. في " القاهرة " حيثالبعد الشديد اجتماعياًوبيئة ومعيشة وفي عمق الليالي الموغلة في الغربة ولأسباب غير اختيارية .. كتبترواية " الوسمية " بحميمية ومرجعية معيشية دقيقة لكنه يبقى المكان "القاهرة" كمينآخر له مواصفاته ونماء ثقافته وأناسه و.. إلخ .
في " لندن " الضبابية .. عرفتطعماً آخر للضباب الذي عرفته في الجبال السروية وبطبيعة الحال والمكان والزمان .. رأيت ضباباً يعايش الإنسان ويختلط بيئته وشارعه ومكان عمله وملبسه ومأكله ومشربهوكان الضباب يعني لي دائماً – يعود للمرجعية البيئة القروية – وجود البرد والعواصفوالمطر وانتظار تصريح الأهل بعدم الذهاب إلى المدرسة .. جميل هذا وقبيح في مكانهوزمانه البعيدين .. فقد اتخذ لغة أخرى وسلوكاً آخر .. بمعنى صورة وذائقة أخرى وبقيتله صفة المكان لكل معانيه وأشكاله .. وهكذا .
وفي ولاية " فلوريدا بأمريكا .. عشت أياماً بالغة القسوة ألقيت بكل حديث حضاري عن أمريكا .. هناك خلف سواحل الأطلسيلقد رأيت الخضرة والجبال كأنما صنعها الإنسان بمادة بلاستيكية لكنه لم يستطيع أو لميفكر في تغيير رائحة الطين الذي كنت أنزل إليه في الحدائق كعصفور ينحت بمنقارهبحثاً عن ألفة عظيمة مفقودة .
ما لمسته هنا أو هناك تجاه الأمكنة .. لا يعتمدعليه كقانون،فهذا قانوني أنا أو تلقائيتي الشخصية مرتبطة بحالتي وظروفي وذائقتيوإنسانيتي .. لكنني لا أستطيع أن أجعل من المكان رداءاً أخلعه متى شئت وكيفما أتفق .
هل المكان هو الجغرافيا أم أنه شيء آخر ؟
بالطبع يا صديقي .. المكان ليسمجرداً عن التقائك في الحياة المعاشية أو النفسية مع الآخرين .. المكان يتأنسنبعلاقتك مع الإنسان الذي يشغل ويغير ويؤثر في هذا المكان.
لذلك تأخذ الأمكنةحميمية الإلتصاق بالنفس والذائقة والذاكرة .
لم أفكر ذات لحظة في العيش خارجمدينة " الدمام " فقد ألفتها إلى درجة العشق.. احببتها حباً إنسانياً تفصيلياً.. فيها تعرفت على الأصدقاء ..على الانفتاح نحو ثقافة جديدة .. الثقافة المعرفيةبالذات وصياغات التعامل الذاتي مع الحياة والأشياء.. المعرفة الحقيقية لمعنىالتجربة الانتقالية من براءة القرية إلى ترس الطاحون المدني .. كنت أمام امتحانيومي في كفاءة الذات وفي كيفية التعامل مع العالم القريب والبعيد .. مع الغذاءوالماء ونوع الخبز ومعايشة الدواء، و إقامة سلوك جديد مع وسيلة جديدة اسمها " قيادةالسيارة " والعمل اليومي حسب اشتراطات الوظيفة .. لم أكن اعتمد على جرس الساعة ولمأخل بالتزام مع الآخر .. كنت دقيق الالتزام وفي مرحلة عنفوانية فكراً وممارسة ولمتكن مآسي الحياة مرة كما هي كسباً ثقافياً ودروساً .
فجأة أخذتني أقدار الصحةإلى " الرياض " .. فكنت أهرب من المستشفى في السابعة مساءاً لكي أعود إلى بيتي فيمدينة " الدمام " اقضي نصف الوقت في الطريق ( 3-4 ) ساعاتوأعود إلى غرفتيبالمستشفى قبل السابعة صباحاً ..لا تقل إنني كنت مجنوناً .. لقد كان هذا يحدث وفيحالة إغماء فالظرف الصحي كان صعباً. عرض علي الأصدقاء بـ" الرياض " رعاية صحيةوعملاً ملائماً بالصحافة مثلاً ومسكناً .. لم أوافق.. كان اليوم يمضي كشهر .. أرغبفي النفاذ بأية صفة إلى " الدمام "
الأطباء يتعاملون مع المريض كحالة جسدية فقطفيسقطون ضلعين من مثلث الصحة النفسية والاجتماعية.. لم أعد من الرياض بنتائجإيجابية .. برغم العناية .. عدت مريضاً – كجورب محموم إلى الدمام .. لكنني كنتسعيداً ودخلت في تصالح جديد مع الحالة وهنئت قليلاً قليلاً .
هل يمكن اعتبارالمكان " الدمام " معطفاً تلقيه عن كتفك لمجرد دخول موسم الصيف .. لا اعتقد أبداًولكنك أيضاً لست مخلوقاً لموسم واحد بصفاته وحواشيه في الحياة ! فجأة .. أيضاًوبصورة غير متوقعة أبداً رأيت أن المعيشة في الساحل الغربي بمدينة " جدة " .. تتصالح مع الظرف الصحي المكتسب تجربة، فقد أحسست بتحسن ملحوظ وبأصدقاء جدد وبألفةقديمة مفقودة تجاه شجرة " الحناء " وبقرب المدينة من الجبال السروية.. أما المسألةالصعبة حقيقة .. فقد كانت تقليدية التعامل – خاصة الأقرباء – لقد كانت امتحاناجديداً مراً .. كانت ضريبته كبيرة في أوائل الأمر .. ربما وبحكم العذر الصحي الذياستخدمه بإيغال شديد أحياناً .. استطعت أن أتأقلم أو يتأقلمون مع " هذا المريض " المسكين .. اسكنهم الله واسكن المسلمين واسع جناته .. آمين .

اطلَّ أحمد منالباب وقال : تفضلوا حياكم الله .
انتقلنا إلى غرفة أخرى وكان تراث الأجداديعلن عن حضوره، حيث أعلن رأس الخروف المفتوح بلسان مائل إلى اليمين عن وليمة تليقبتراث العائلة . إنهمكنا في الأكل ونسيت عبد العزيز ولكنني فوجئت به يشمر عن أكمامهويستبدل أكل الماءبالمائدة الدسمة ،تبادلنا الأحاديث القصيرة ولكن عبدا لعزيزكان يأكل بلذة ما ألفتها منه بل أنه لم يشاركنا التعليقات العابرة .
-
هل تظنالخروف ماء يا آكل الماء ؟
أجاب باقتضاب: هذا خروف ما بعد الحداثة والخدماتيةوالاستهلاكية .
-
لكنه لذيذ وسريع والتجهيز .
صحتين على قلبك
فرغنا منالأكل وخرجنا إلى الحديقة الصغيرة بجوار الكادي وحوض الريحان وبين ارتشافات كاساتالشاي وصوت قرقرة الأرجلية أردت استعادة حيوية الحوارفسألت عبد العزيز :
لماذا تأثرت باللهجة الشامية التي تستخدمها في سياق حديثك أكثر من تأثركباللهجة المصرية التي كانت هي لهجة زوجتك الأولى والأخيرة والتي كانت تناديك "عبعزيز"..؟
تنحنح قليلاً وقال : أولاً ..فال الله ولا فالك .. وثانياً .. اللهيمسيها بالخير .. وتاسعاً شو بدك في هالسيره ..
-
كيف قفزت من ثانياً إلىتاسعاً
أمرك سيدي .. والسبب في رأينا يعود إلى أن الأمور متشابهة أو متماثلة أوبليدة فالأول والآخر سواء أما بالنسبة لاستخدامي اللهجة الشامية أكثر من المصريةفيعود إلى ذوق شخصي بحت أرى أن الشامية تعطيك المعنى بصيغة أكثر حضوراً أو تجديدية،أما المصرية فإنها تستخدم نفس الكلام لمئات الحالات.
كانت الطائرات تحط في مطارالملك عبد العزيز وكأنما وضعت علامة على بيت عبد العزيز ابن مشري لتبدأ إنزالالعجلات فوق سطحه فانقطع الكلام مراراً . وحين أردت معاودة طرح الأسئلة كان صاحبناقد ملّ الحديث واستلم للخدر الذي يعقب الأكلة الدسمة. وسألته هل تريد مواصلة الحوارقال بحدة: اشغلتني يا ولد بهذي الأسئلة " ما معك ضيعة ولا بيعة تشغلك عني ! "
أدركت أن الوقت قد أسلم مقاليده للتوقف وأعطيته ما تبقى من أسئلة ليجيب عليهابطريقته .




مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 41 ( الأعضاء 0 والزوار 41)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية.
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أعظم 50 عبقري عبر التاريخ : ما سر هذه العبقرية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 62 05-16-2021 01:36 PM
هل تولد الحياة من رحم الموت؟؟؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2483 09-23-2019 02:12 PM
ما سر "الروعة" في افضل مائة رواية عالمية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 523 09-09-2018 03:59 PM
اعظم 100 كتاب في التاريخ: ما سر هذه العظمة؟- دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 413 12-09-2015 01:15 PM
القديسون واليتم: ما نسبة الايتام من بين القديسين؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 18 08-22-2012 12:25 PM

الساعة الآن 02:39 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.