قديم اليوم, 01:02 PM
المشاركة 431
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
كم للحياة من أطوار متقلبة، وكم لمن يسير على مناكبها من حال يموج ويمور، فلا يكاد يثبت على قرار، ولا يستقر على حال. فهي دول بين إقبال وإدبار، وتقلبات بين صفاء وكدر، وذلك هو المعنى الأصح والأدق حين نتأمل مسيرتها بعين البصيرة لا بسطحية العابرين.


نطوي صفحات أيامنا، فإذا بين سطورها من يسفح سواد حبره على ناصع بياضها، فيلطخ الجمال، ويشوّه المعنى، ويكدر صفو الرحلة. وليس ذلك إلا صدى قلوب اختبأ في سويدائها حقد دفين، فتفرعت منه شعب الحسد، وتشعبت عنه مسالك الغدر، واستفحلت فيه نوازع الأذى. والعجيب أن هذا الأذى قد يصدر ممن لا معرفة تجمعنا بهم، ولا عشرة سابقة تصلنا إليهم، سوى لقاء عابر أو تواصل عابر، ومع ذلك يتولد التنافر، ويشتد التناحر، من غير علة يقبلها العقل أو يبررها المنطق.



وقد يحاول المرء أن يقارب ويهادن ويساير، أملا في احتواء البوادر قبل استفحالها، فيمضي عمره يتلقى القواصم، حتى تتآكل في داخله معاني الإخلاص، وتبهت القيم، ويثقل عليه حمل الحلم، فيغدو الصبر حملا لا فضيلة. وفي المقابل، ثمة من يبتر الخبال من جذوره، ويختار السلام، وينجو بنفسه من استنزاف لا طائل منه، مؤثرا العافية على دوام الخصام، ومقدما صفاء الروح على جدل لا ينتهي.



وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل للصبر حد يقف عنده، ومنتهى ينتهي إليه؟ فالصبر فضيلة إذا كان وعيا، ورذيلة إذا صار استكانة، وهو خلق محمود إذا كان ضبطا للنفس، ومذلة إذا تحول إلى تعطيل للذات. والحكمة أن يُعرف للصبر موضعه، وأن يُضبط بميزان الكرامة، فلا يُجعل ستارا للظلم، ولا مبررا لإهدار النفس.



تمر بنا محطات الحياة ونحن نعلم يقينا أنها جبلت على اللقاء والفراق، فهذا مولود، وذاك مفقود، وبهذا التوازن تمضي الأيام. ومع ذلك نخاصم وننازع، ونحمل في كواهلنا أثقال العداء، كأننا نجهل أن السلام أهون كلفة، وأن الوئام أقرب سبيلا، وأن الصراع لا يورث إلا الإنهاك.



والصبر، وإن كان شحيح الحملة، كثير الفاقدين، يبقى من أعظم الصفات إذا وُضع في موضعه، إذ اقترن وعده بالفرج، وربطت عاقبته بحسن المنال. غير أن للصبر وجوها تتباين، في لونه وطعمه وريحه ومنتهاه، فهو ليس احتمالا أعمى، بل بصيرة نافذة، ومعرفة بحدوده، وإدراك لمخبوئه. وقد دعا إليه كتاب الله، وجعل له منزلة، ورصد له أجرا، لكنه لم يدع إلى صبر يهدر الكرامة أو يقتل المعنى.



وللصبر لذة لا يعرفها إلا من ذاقها بوعي، فهو يصقل الذات، ويهذب النفس، ويكشف المكنون، حتى تهفو الأرواح لمعانقة السكينة. وبه تروض النفس الجامحة، ويستقر العفو في القلوب، لا عن ضعف، بل عن قوة، ولا عن قهر، بل عن سمو.



وفي المقابل، ثمة من جعل الحسد وقود حياته، يتغذى على عثرات الآخرين، ويقتات من كبواتهم، وهو واقف على باب النجاح، لا يدخله، لأن مفاتيحه ليست في يده. وتبقى الدوافع في جوهرها واحدة، هي الأنا المتضخمة، التي لا تحتمل رؤية من ينافسها، ولو كانت مثقلة بالتقصير.


والناس في هذا الباب صنفان لا ثالث لهما: صنف يرفع أناه فوق كل اعتبار، فيقصر عطاؤه على ما يعود عليه بالنفع، ويغلق قلبه دون حاجات القريب والبعيد، ماضيا في دربه لا يلتفت لصوت الضمير. وصنف آخر يقصي نفسه ليدني غيره، فيواسي، ويعطي، ويبذر الأمل في قلوب أنهكها الألم، لا يبخل بجهد، ولا يضن بابتسامة، لأنه فهم أن العطاء بقاء، وأن الإيثار حياة.



وشَتّان بين هذين الصنفين، فالفارق بينهما سحيق، والمسافة بينهما بعيدة. وليس المقصود بالصبر الخضوع للمهانة، ولا القبول بمعاملة لا تليق بالإنسان، وإنما المقصود ألا يُقطع حبل الوصل ابتداء، وأن يُمنح التدرج فرصته، وتُسلك طرق الإصلاح بما لا ينفر ولا يؤذي.



وتلك هي فلسفة العاقل الذي خبر الحياة، فعلم أنها لا تملك وجها واحدا، بل تتقابل فيها الأضداد؛ فالخير يجاور الشر، والصدق يجاور الكذب، والوفاء يجاور الخيانة. واللبيب من يتكيف مع هذه السنن، ويجعل لنفسه متنفسا يتنفس به الحياة، دون أن يحبس روحه في زنازين الألم.



وخلاصة القول أن الصبر، وإن كان مر المذاق، فإنه يحلو بعاقبته، إذا اقترن بالحكمة، وسندته البصيرة، وحُرس بكرامة النفس. فبه يسمو الإنسان، وبه ينجو، وبه يبلغ غاية السلام، فيرتقي، ويكون من الضافرين.

قديم اليوم, 01:12 PM
المشاركة 432
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
كم للحياة من أطوار متقلبة، ولمن يمشي على مناكبها يموج ويمور بين تقلب الحال والأحوال، لا يكاد يثبت على حال، فذاك هو المعنى الأصح والأدق. نطوي صفحات أيامنا، بين سطورها من يسكبون سواد حبرهم على ناصع صفحاتها، مختبئين في سويداء القلوب، بين حقد دفين يتفرع منه الحسد والغدر، وبين عوالم الخير والمودة والوفاء.



العجيب أن ذلك قد يصدر من أناس لانعرفهم، وقد يجمعنا لقاء عابر، أو تصافح بحروف على عديد المواقع، ومع هذا يكون التنافر والتناحر، دون سبب يُفسره العقل، فيبقى الإنسان مذهولًا، متسائلًا عن سر تلك القلوب، عن ما يُغذي ضغائنها، وعن حدود الصبر التي قد تُستنزف قبل أن يرف له جفن.
فالإنسان الواعي يُقارب ويهادن ويساير، متأملاً الخروج من بوادر الخلاف، فيصقل الصبر في داخله، وينتظر أن تثمر الحكمة، بينما يبقى الآخر، ضعيف الحول، صامتًا أمام سياط التجريح، غير قادر على تجاوز العناد، متشبثًا بالأنا، مشغولًا بالذات، متناسيًا قيمة الإخلاص، مغلقًا قلبه عن أي شعور بالضمير، ومحرومًا من بهجة العطاء.



أما الإنسان الذي يتحلى بالوعي، فيقصي ذاته ليقرب غيره، يفتح الأبواب للخير، يملأ القلوب بالسعادة، يواسي الهموم، ويبعثر ورود الأمل، فلا مكان للغضب أو الحقد في قلبه، فيرتقي فوق الصغائر، ويعلو فوق الأنانية، فيصبح صوته نبرة رحمة، وكلماته منارة، وعطاؤه نورًا يُضيء الظلمات، ويحول القسوة إلى عطاء، والغل إلى تسامح، والانتقام إلى صدق في النية، وحسن تعامل مع الآخر.



الصبر هو الملاك الخفي، وهو مفتاح الفرج، وهو الجسر بين الكدر والصفاء، بين الحيرة واليقين، بين السقوط والارتقاء، ومن يقدره، يرفع مقامه، ويصقل ذاته، ويهذب أخلاقه، ويعلو بقيمه، فيصبح العطاء مستمرًا، والإبداع متألقًا، والتجارب دروسًا متجددة، والقلوب مفتوحة على الخير والصفح والرحمة.
النقد البنّاء هو ربيع الفكر، يفتح أبواب الإدراك، ويغرس الحكمة في النفوس، ويوقظ العزيمة، ويحوّل السقوط إلى درس، والفشل إلى تجربة، ويشعل شعلة السعي نحو الكمال، ويمنح الإنسان القدرة على تجاوز كل عائق، ليصبح كالشمعة، تنير دروب الآخرين دون أن تفنى، كالنهر الجاري، ينساب بين الصخور متجاوزًا كل عائق، مغذيًا الأرض من خيره، وموصلًا العطاء إلى كل محتاج.



أما النقد الهدام فهو الريح العاتية، يقلب المعاني، ويعمي الأبصار، ويشل المبادرات، ويقتل روح الإبداع، ويترك أثرًا مدمرًا في النفوس، فيصبح الإنسان رهين الخوف والقلق، مترددًا بين التراجع والانكسار، محاصرًا بسياط التجريح، فاقدًا لمعنى العطاء، ومقيدًا بإرادة الآخرين، ضائعًا بين الظنون والاتهامات، متخبطًا في دهاليز الحيرة.



لذلك، فإن التمييز بين النقد البنّاء والنقد الهدام هو علم وفن ومهارة، من عرفه أفلح، ومن لم يعرفه انغمس في تيه الانكسار. النقد البنّاء هو الذي يصقل الروح ويقوي العزيمة، ويعطي القلب نورًا، ويغرس في العقل بذور الفهم، ويهذب النفس، ويخرج الإنسان من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، ومن حيرة العجز إلى ثقة الأداء، ومن ضيق الأفق إلى اتساع المدارك، فيصبح الإنسان قادرًا على تحويل كل تجربة إلى منارة، وكل موقف إلى درس، وكل كبوة إلى فرصة، وكل لحظة فشل إلى عودة أقوى.




بهذا يكون الإنسان قد بلغ حكمة التعامل مع نفسه ومع الآخرين، وقد أصبح متنبهًا لقيمة العطاء، واعيًا بحدود الصبر، متفردًا بالوعي، متناغمًا مع الحياة في تقلباتها، ورافعًا راية التفوق، مزهرًا الخير، باحثًا عن الحقيقة، صانعًا من كل موقف درسًا، ومن كل كلمة أثرًا، ومن كل تصرف جسرًا يصلح النفوس، ويغذي العقول، ويشعل جذوة الإبداع، ويزرع في القلوب الأمل، فيصبح الإنسان نموذجًا حيًا للتميز، ومثالًا للوعي، ومرجعًا للفكر، وموسوعة للحكمة، وقيمة تتوهج في كل زمان ومكان.


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1985 ( الأعضاء 1 والزوار 1984)
مُهاجر

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:27 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.