![]() |
|
لماذا كانت هزيمة يونيو .. لازمة ؟!
عندما نحب أن نتقصي فترة الخط الناصري فلا يوجد طريق إلا عبر كتابات الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل ,
وهذا لسبب جوهرى ..
فهو ـ لمن لا يعلم ـ صانع الصياغة الفكرية لثورة يوليو ومؤسس الفكر الناصري ومهندس التحولات الكبري التي جرت في عهد عبد الناصر بلا منازع ,
كما أنه الصانع الحقيقي لبرنامج الثورة عبر مراحله المختلفة وهو الذى تمكن من سد النقص الهائل في الفكر بعد اكتشاف الثوار الجدد أن البلد سقطت في أيديهم كثمرة طازجة ,
فكان هو المؤلف الأصلي لكتاب ( فلسفة الثورة ) والذي تم نشره باسم جمال عبد الناصر واحتوى على بعض القوميات الحماسية التي تشرح فكر عبد الناصر , وهو الأمر الذى جذب النقد اللافت من بعض المفكرين , إذ كيف يشرح أى زعيم برنامجه علنا أمام أعدائه وأصدقائه وكأنما يدعوهم لمعرفة خطه الفكرى ويعاونهم على ذلك !
ولهذا قال توفيق الحكيم أنه في بداية الخمسينيات كانت الجهات التي تتولى توزيع كتاب ( فلسفة الثورة ) في الخارج سفارتان هما السفارة المصرية والسفارة الإسرائيلية ,
وهذه الأخيرة
كانت توزعه لتنبيه الغرب الأوربي أن زعيما جديدا من طراز هتلر قد ظهر في الشرق ! [1]
كما كان هيكل هو مؤلف وصانع ( الميثاق ) وهو بمثابة قرآن الإشتراكيين الجدد , كذلك كان هيكل هو صائغ بيان 30 مارس الذى خرج به عبد الناصر على الشعب عقب النكسة !
كذلك كان هيكل هو كاتب خطب سائر خطب الرئيس عبد الناصر , وصانع توجهاته السياسية بلا مبالغة , وأخيرا كان هو المهندس الإعلامى لشخصية عبد الناصر وصانع هالته الأسطورية في العالم
ولأستاذنا الكبير هيكل كتاب عن ثورة يوليو بعنوان ( سقوط نظام ـ لماذا كانت ثورة يوليو لازمة ) وهو الكتاب الذى تأخر عن موعده قرابة الخمسين عاما !
كتب فيه الأستاذ مبررات قيام الثورة ودمغ كتابه كعادته بالوثائق اللازمة للبحث والذي ينتهى بالقارئ إلى إدراك أوضاع مصر في تلك الفترة الحرجة التي سبقت قيام الثورة واتسمت باضطراب وعدم استقرار الحكم ,
ولا يصل الكتاب لتقييم التجربة , بل اكتفي الأستاذ هيكل بالوقوف عند نقطة البداية , وكنا نطمح منه أن نرى منه التقييم المنطقي للتجربة ونتائجها , لا سيما وأن كتابه عن النكسة وحرب السويس كان معالجة للأحداث بأكثر مما هو نقد تقييمى
والذين يكتبون عن بدايات يوليو عامة يتلاشون أخطائها أو أكبر أخطائها ويركزون على ما يعتبرونه انجازا يسمح باعتبار قيام ثورة يوليو العسكرية نقطة تحول إيجابية في حياة هذا الوطن المكدود ,
لكن فاتهم جميعا نقطتان ,
وهما كفيلتان بقلب الميزان لنصل إلى الحكم الصحيح وهو أن السلبيات طمست أى معالم تبدو للإيجابيات مهما كانت في عيون أصحابها إنجازا ,
ذلك أن النتائج السياسية والإجتماعية والإقتصادية والفكرية لنظام يوليو ـ المستمر إلى يومنا هذا بصبغة الحكم العسكري ـ تعتبر تحولات نزعت العالم العربي من موضع التأثير في العالم لتدفعه إلى موضع التأثر من طوب الأرض !
ومن ثم ..
فالذى يكتب عن أحداث ما قبل الثورة ويقف عند نقطة الإنجاز المتمثلة في إنهاء عصر الإضطراب السياسي , لا شك أن معالجته تفتقر إلى الموضوعية تماما ,
ذلك أن العبرة بالخواتيم ..
فربما صلحت البدايات .. ولكن العبرة بالنهايات ..
فطالب العلم يُحاسب على ما تضمنته ورقة إجابته من إجابات صحيحة , لا على جهده في الإستذكار طيلة العام !
ولهذا فالحديث عن تأميم القناة وبناء السد العالى والمن بهما على الأمة في مقابل سكوتها عن الآثار الفادحة التي خلفتها الثورة , يعتبر حديثا يليق بمعتنقي الخيال وعُبّاد الأشخاص لا مفكرى الشعوب
ذلك أن المقابل كان أكبر مما يحتمله أى شعب وأغلى من أى انجاز ,
ومن غريب الأمور ..
أن أستاذنا الكبير هيكل ـ على عادته ـ عند الحديث عن أنظمة ما بعد عبد الناصر يُـغفل المقارنة والصلة بين العصور المتوالية المترابطة
فقد وقف مثلا وقفة صحيحة لمحاولة منافقي العصر الحالى تصوير حرب أكتوبر على أنها كانت متمثلة في الضربة الجوية وحسب واعتبارها هى مفتاح النصر أو النصر كله لمجرد أن مبارك كان قائد الطيران في حرب أكتوبر !
وعلق هيكل بأن هذا اختزال للأحداث فضلا على أنه لا يمثل أى فضل , لأن ضربة الطيران مهما بلغت براعتها لا تعدو كونها تنفيذا محكما لأداء وظيفي !
أداء واجب وظيفي حتمى لا يُشكر مؤديه بينما يُلام المقصر فيه ,
وهذه بلا شك هى طبائع الأشياء ,
لكن الكارثة أن الأستاذ هيكل يتجاهل هذا المقياس عند تقييم الثورة والفترة الناصرية ,
فليت أنه اكتفي بعزو كل إنجاز لشخص عبد الناصر , بل إنه تكفل بإختراع بعض الإنجازات للعهد الناصري عن طريق اقتلاع وصف الإنجاز وسحبه على تصرفات كارثية مثل حرب اليمن وقوانين الإصلاح الزراعى وغيرها
أما بقية منجزات العصر..
فتأميم القناة وبناء السد العالى وحفظ حقوق مصر الإقتصادية كلها ـ وفق مقياس هيكل الأول ـ واجبات لازمة على نظام الحكم في أى مرحلة , فإن أداها على أكمل وجه فقد أدى واجبه وإن قصر فيها فليس له عذر أو اعتذار ,
وبالتالى ليس من المنطق في شيئ أبدا أن يكون الرد على انتقاد نظام يوليو مشفوعا بالمن في قناة السويس أو بناء السد العالى ,
فمصر لن تموت لو أن السد العالى لم يبن أو أن القناة لم يتم تأميمها ,
لكنها ماتت بالفعل في نكسة يونيو بضياع ثلث أراضيها وشرف جيشها العسكري , وماتت بتغيير التركيبة الإجتماعية وترسيخ حكم الفرد وقتل المعارضين في المعتقلات والسجن الحربي وتحكم زمرة لا تزيد عن العشرات في مصير البلاد والعباد
وماتت إلى اليوم إرادة التغيير والتبادل السلمى للسلطة ـ بسبب ما أرسته فترة العسكريين ـ وأصبح الحديث عن تبادل للسلطة في عصرنا الحالى ضرب من ضروب الخيال كالحديث عن الغول والعنقاء والخل الوفي !
وهذه وحدها تكفي ..
فالعبرة ـ كما قلنا ـ للحكم على أى تجربة بالفشل أو النجاح إنما يكون بالنظر إلى النهايات ,
فلن تجد أحدا في العالم يذكر هتلر ولا يستدعى إلى الذاكرة سقوط برلين في يد الحلفاء !
ولو أن ألمانيا قام بتمجيد هتلر اعتمادا على أنه غزا فرنسا فسيتهمونه بالجنون حتما لأن غزو فرنسا لم يكن نهاية المطاف بل كانت نهاية المطاف سقوط ألمانيا نفسها وتدميرها وانتحار هتلر !
كذلك لن تجد من يذكر نابليون ولا يستدعى للذاكرة معركة ووترلو ,
بينما بالعكس ,
لن تجد أحدا يستدعى للذاكرة ونستون تشرشل إلا ويذكر معه نصر بريطانيا في الحرب العالمية الثانية رغم دمارها الماحق بفعل الطيران الألمانى طيلة أعوام الحرب
ولن تجد بريطانيا ينتقد تشرشل لأن بداياته كانت بالهزيمة والانسحاب من فرنسا .. فالعبرة بالخاتمة ,
وبالمثل ..
كيف يمكن أن يُذكر عبد الناصر دون أن تذكر معه نكسة يونيو !
وكيف يمكن أن يذكر عبد الناصر دون أن يذكر معه الظروف الضاغطة التي خلفتها فترة حكمه حتى يومنا هذا ؟!
فالأمر لم يقتصر على الهزيمة العسكرية المروعة , بل كانت الهزيمة العسكرية أهون الكوارث كما سنرى ..
فالهزيمة تم ردها بنصر عسكري مؤزر ـ وللغرابة أن الناصريين يشككون فيه لمجرد أن عبد الناصر لم يشهده ـ ولكن ماذا عن بقية العوامل التي تسببت في النكسة ,
هل انتهت من البلاد ؟!
ولو لم يكن للنكسة ونظامها غير جريمة تحويل المجتمع المصري فكريا وإعادة تدوير العقول لتصبح كعقول السائمة .. لكفي
إذا تأملنا مصر اليوم في ظل تجربة يوليو ,
سنجد أن السلبية الوحيدة التي ارتفعت هى رد الأرض المحتلة باسترداد سيناء ,
وحتى هذا الإنجاز لم يتم على يد عبد الناصر أو الناصريين أو العهد الإشتراكى بل تم في عهد السادات ألد أعدائهم
لكن حكم الفرد لا زال قائما لليوم وتتحرك جموع الشعب بشتى أنواع التحرك السلمى بلا فائدة ,
ولا زالت مظهرية الأحزاب وهشاشتها تعكس واقعا سياسيا رديئا لم تفلح الأصباغ في تجميله ,
ولا زالت البلاد تحت حكم عصبة من نفر معدود لا تتجاوز نسبتهم خمسة بالمائة والباقي تحت خط الفقر
ولا زال القرار يؤخذ في غيبة المؤسسات الدستورية التي تعمل كخاتم اعتماد فقط لقرارات مسبقة ,
ولا زال هناك حزب واحد يسيطر على مقاليد الأمور دون منازعة أو أمل في منازعة ,
ولا زالت صحف الدولة تعمل كدوائر حكومية تابعة للسلطة تلف وتدور حولها .. وتتحدث عن إنجازات تبدو لنا كالفيروسات لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ,
ومصر في البيانات الحكومية الرسمية تجعل المرء يظن أنها أقوى اقتصادا من الولايات المتحدة !!
فأين هذه المظاهر مما بشرت به الثورة من إقامة عدالة إجتماعية أو إقامة نظام ديمقراطى ؟!
وربما قال قائل أن هذه التغيرات سببها السادات وسياسته , ونحب أن نذكر القائل بهذا أن هذه المظاهر جميعا كانت بأفدح صورة في عصر عبد الناصر ,
الهوامش :
[1] ـ عودة الوعى ـ توفيق الحكيم ـ دار الشروق
بل على العكس فعصر السادات ومبارك اتسمت فيه الأجواء بكثير من الهدوء وها هى صحف المعارضة تناولت نظام الحكم بالتشريد والتجريح ومع ذلك لم يُعتقل أصحابها أو يقتلوا أو يصلبوا إلى جذوع النخل باعتبارهم من المفسدين في الأرض !
بل أين هذه المظاهر من عهد الإحتلال الإنجليزى نفسه , وعهد الملكية الذى قامت عليه ثورة يوليو ونعتته بشتى أوصاف الإحتقار باعتباره العهد البائد !
فنظرة واحدة إلى تاريخ مصر الدستورى منذ نوبار باشا ومقارنته بعهد يوليو تكشف عن كثير !
فأين هى الثورة التي جاء هيكل بعد خمسين عاما ليتحدث عن مبرر لزومها وضرورة حدوثها !
إن الأحداث التي شرحها هيكل لا تنم إلا عن نظام سياسي فاسد استوجب التغيير ,
لكن الكارثة أن التغيير لم يأت بالشعب ولم يقتصر على النظام الفاسد بل امتد التغيير إلى انقلاب شامل إلى الأسوأ ,
فبدلا من أن تعانى مصر من نظام سياسي فاسد أصبحت تعانى من نظام فاسد .. ولكن بلا أى سياسة !!
لهذا نقول أن هزيمة يونيو ـ لهذه الأسباب ـ كانت هى اللازمة , وليست ثورة يوليو ,
لأن حدوث النكسة ليس هو المفاجأة ـ كما تُصوره بعض الكتابات ـ بل على العكس كان عدم حدوثها هو المفاجأة الحقيقية , لأن ظواهر توقعها كانت بادية للعيان لولا العمى السياسي الذى فرضته أجواء الحظر ! ولولا تجريف العقول عبر جرافات الإعلام في تلك الفترة
وألم النكسة مهما كان عميقا ..
إلا أنه كان لازما لضرورة اليقظة , فالألم الحاد رغم الأوجاع التى يتسبب فيها للجسم إلا أنه يقوم بالدور الجوهرى للحفاظ على الحياة لكونه يحمل الإنذار فى الوقت المناسب كى يتخذ المريض التدابير بمعالجة نفسه قبل فوات الأوان
وربما وصل للقارئ انطباع ـ بعد حديثنا عن نهايات يوليو ـ أن البدايات كانت مشرقة ,
لكن هذا ضد المنطق أيضا وضد وقائع الأحداث ,
فالبدايات بشرت بالكثير لكن الآذان كانت مغلقة , والعيون استبدلت الرمد بالرماد !
وهيكل يغضب كثيرا لذكر النكسة ومناقشتها ويحلل ما يراه من استعادة هذه الأحداث على أنه ـ عقدة هزيمة ـ وعقدة الهزيمة ـ كما تحدث عنها هيكل ـ مرض يسعى إليه أى شعب لإيقاع الشعب العدو فيه وإسقاط أرادته
وبالتالى يعتبر هيكل أن الحديث عن النكسة الآن والألم الشديد لوقائعها واستعادتها للذاكرة هو شيئ من عقدة الهزيمة التي يجب أن ترتفع عن هذه الأمة كى تتقدم ,
وفى الواقع فقد فاتت عدة نقاط على الأستاذ الكبير نبينها فيما يلي ..
أولا : عقدة الهزيمة بالفعل مرض نفسي عضال يصيب بعض الشعوب إزاء مواجهة أعدائها المزمنين ,
وبالتالى فإن أى شعب يستسلم للهزيمة ويصاب بعقدة منها يعطى لعدوه أكبر المكاسب ,
لكن من قال أصلا إننا نعانى من عقدة الهزيمة لمجرد حديثنا عن النكسة وتحليلنا لوقائعها ؟!
إن هيكل يتعمد ـ في سبيل الحفاظ على صورة عبد الناصر ـ في الخلط بين ما يفعله الكُتاب والمحللون وبين عقدة الهزيمة التي يتحدث عنها , لأن الشعب المصري رفع هذه العقدة فعليا بانتصار أكتوبر , ولو كانت عقدة الهزيمة موجودة فظواهرها وأعراضها لا يمكن أن تكون بحديثنا عن مساوئ نظام عبد الناصر ,
بل على العكس يكون الحديث ـ عندئذ ـ من جراء العقدة التي أصابتنا حديث عن تفوق العدو وتضخم قدراته إلى الحد الذى يجعلنا نتخوف من أى مواجهة معه
فهل حدث هذا ؟!
لا يوجد كاتب واحد تحدث ـ مع ذكر النكسة ـ بتمجيد إسرائيل أو المبالغة في قدرتها بل على العكس نعانى في العالم العربي استهانة بقدرات العدو تتمثل في مطالبة الشعب ـ مع أى تطور في الأحداث ـ بالحرب العاجلة مع إسرائيل
فأين العقدة إذا ؟!
ويؤمن الشعب المصري والعربي بل ـ والإسرائيلي ـ أنه تلقي هزيمة مريرة لا يزال مصابا بعقدة منها هى هزيمته في حرب أكتوبر وتعبر عن ذلك في وضوح كتابات الإسرائيليين في ذكرى انتصار أكتوبر كل عام ؟!
فمن الذى أصابته العقدة .. نحن أم هم ؟!
ومن عجائب القوميين أنهم يقفون مع الإسرائيليين جنبا إلى جنب في إصابة كليهما بعقدة نفسية من جراء انتصار أكتوبر , أما الإسرائيليين فموقفهم مفهوم , وأما القوميين فبسبب أن القائمين على هذا النصر كانوا من نظام معاد للتوجه الناصري !
ولهذا فهيكل وحسين الشافعى وسامى شرف وغيرهم يعتبرون نصر أكتوبر نصرا مخذولا ! , وقد كتبوا بالفعل في اعتبار أكتوبر هزيمة لمصر والعرب .. هكذا بدون حياء لمجرد غياب عبد الناصر عن صورة الحدث !
ولا يستغرب هذا الإتجاه منهم وهذا الموقف من أول وآخر انتصار عربي حقيقي , لأن القوميين من الأصل يعبدون الشعارات ولا يهمهم التنفيذ , ولا يبحثون إلا عن المكاسب الإعلامية دون مقابل .. هكذا تعلموها في مدارس الستينات
ثانيا : يضرب هيكل المثل بسقوط فرنسا في الحرب العالمية الثانية , وكيف أنها لم تقع رهنا لعقدة الهزيمة ـ رغم السقوط المدوى ـ واستمرت الحرب حتى تحررت وانتهت تلك الحقبة ,
لكن هيكل هنا أغفل بندا شديد الوضوح يصنع فارقا ضخما فى المقارنة , ولهذا فهذا المثال لا يجوز القياس عليه ,
ففرنسا سقطت بعد أن أدت قيادتها وجنودها واجباتهم كاملة , ولم تنلهم الهزيمة عن ضعف أو خور أو خيانة أو تآمر ..
ولم يبشروا الشعب الفرنسي بأنهم سيفنون ألمانيا من الوجود .. ثم فروا من المواجهة كقطيع الماعز ,
بل نالتهم الهزيمة بسبب التفوق الألمانى في ميدان القتال , ونالتهم وهم حاملين لأسلحتهم ,
وهذا التفوق أمر نسبي ..
فلا توجد جيوش منتصرة على طول الخط ولا توجد أيضا جيوش منهزمة على طول الخط
فاستمرار المقاومة بفرنسا دون إعادة التذكير بما حدث من سقوط سببه أن كل فرد أدى واجبه كاملا ,
لكن عندنا في مصر وفى نكسة يونيو لم تحدث حرب أصلا .. فكيف جاءت الهزيمة ؟!
جاءت الهزيمة من أنفسنا وبمسئولية القيادة السياسية والعسكرية التي مرغت أنف الأمة في التراب , من هنا كان من اللازم والضرورى تمحيص الأسباب وتذكرها دائما أبدا .. لا سيما وبعض ظواهرها لا زال موجودا إلى اليوم ,
فهل ـ لأجل خاطر الناصريين ـ نغض الطرف عن هذه الظواهر رغم تعلقها بالماضي والحاضر ؟!
كيف يكون هناك أمل في إصلاح المستقبل إذا ؟!
وما هى فائدة مراجعة التاريخ التي لا يمل الأستاذ هيكل من ترديدها والحض عليها ؟!
وكيف نفعل ـ حتى يرضي الأستاذ ـ إذا ما جاء الدور لتذاكر النكسة ووقائعها ؟
هل نقول مثلا أننا انتصرنا أو تعادلنا في الحرب لكى لا نكون مصابين بعقدة الهزيمة ؟!
أم نقول مثلما قال هو في أيامها .. أنها نكسة عابرة وليست هزيمة !!
ثالثا : الحديث عن أى هزيمة مرحلية في حياة الشعوب لا يعنى أبدا أن هذه الأمة مصابة بعقدة هزيمة , لا سيما إن كانت الجولة الأخيرة في صالح تلك الأمة ,
وقد غفل الأستاذ هيكل أنه في إحدى مقالاته بمجلة وجهات نظر تحدث عن بعض الكتب الجديدة التي وصلت إليه مع بدايات الألفية الجديدة وكان منها كتاب لمحلل فرنسي خصصه لفترة سقوط فرنسا في يد الألمان ضمن أحداث الحرب العالمية الثانية ,
ولم يتهم هيكل هذا المؤلف أنه مصاب بعقدة الهزيمة رغم أنه يتحدث عن هزيمة فرنسية أعقبها نصر فرنسي ساحق !
كذلك لم يعب عليه هيكل تأثره وتخصيصه الكتاب لتلك الفترة وحدها ـ دون أى ذكر لفترة النصر ـ رغم مرور ستين عاما على تلك الهزيمة , !
فلماذا يعيب هيكل الحديث عن النكسة وقد أعقبها إنتصار أكتوبر ؟!
ولماذا يعيب هيكل هذا الحديث رغم أن النكسة لم يمض عليها إلا أقل من أربعين عاما ؟!
والأهم من ذلك :
فالكاتب الفرنسي كان يتحدث عن هزيمة انتهت أسبابها من أرض الواقع الفرنسي نهائيا منذ ستين عاما , بينما نعانى نحن في عالمنا اليوم من آثار النكسة ونظام يوليو
ومع ذلك فلم يعب عليه هيكل , وعاب على من ينبه ويستقصي ,
رابعا : غفل هيكل عن أهم مبرر يدفعنا للحض الدائم للبحث في تاريخنا المعاصر , لا سيما تاريخ الإنهزامية , ليس فقط لأننا نعانى في واقعنا الحالى من آثاره وحسب ,
بل للسبب الأكثر أهمية ,
وهو أن هيكل نفسه ـ مع الأسف الشديد ــ وبقية كُتّاب العهد الناصري صاغوا التاريخ وقدموه مشفوعا بتحليلات جعل للمصائب والكوارث غلاف من السكر يدارى مرارتها ,
ويطلب من الأجيال الحالية أن تبتلع هذا التاريخ الـمُـعلب لمجرد أنه اقترن باسم عبد الناصر ,
وفى المقابل جاء كُتاب النظام الساداتى ففعلوا نفس الشيئ فجمّلوا وبرروا ..
وهكذا ورثنا ـ نحن الأجيال المعاصرة ـ تاريخا عجيبا بين وقائع تاريخ الأمم , تجد فيه الرأى ونقيضه عند كُتاب نفس الجيل , وليس هذا على سبيل الإستثناء مثلا ,, بل كان هذا هو الأصل ,
فلا يوجد على الساحة ـ حتى يومنا هذا , كتاب واحد تعرض لمعالجة التاريخ المعاصر بتجرد وحيادية وقدم الحقائق للتاريخ , بل شملت الكتابات جميعا آفة الهوى والتحليل
فصار لزاما على هذا الجيل المعاصر ـ هذا الجيل البائس الذى ورث النكبات وحُرم الجوائز ـ أن يستقصي لنفسه ويعيد كتابة التاريخ المعاصر بتحليلات حيادية بعيدا عن الإنتماءات الفردية لعبد الناصر أو للسادات أو غيرهما
ومن العجائب أن هيكل يتباكى على جيلنا ـ كما قال في مقدمة كتابه بين الصحافة والسياسة ـ لأن الحقائق تضيع عن هذا الجيل بسبب أنهم لم يكونوا في قلب الحدث ويروا بأنفسهم ليكتشفوا تزوير الأحداث !!
سبحان الله .. هذا كلام هيكل !
والذي لولا وجوده في فترة العهد الناصري لما خفت الحقائق عن الشعب العربي كله , ولما سلم هذا الشعب المقهور نفسه إلى أيدى الحواة المهرة الذين أقنعوه بالأمجاد الوهمية في كذب مفضوح , ولما سرقوا منه عقيدته وإيمانه وأسلموه للإلحاد !
ولقد اكتشفنا الأكاذيب واكتشفنا كيف كان عبد الناصر يحكم مصر والعرب , من خلال كلام هيكل نفسه وليس من كلام أعدائه , غير أننا عندما قرأنا هيكل كنا نقرؤه ونحن نرتل المعوذتين حتى نكتشف من خلال السطور ما يحاول تجميله !
وعدنا ـ في نفس الوقت ـ إلى أرشيف جريدة الأهرام وطالعنا العناوين التي كانت تخرج على الناس طيلة 15 عاما تبشرهم بأن مصر أقوى ضاربة في الشرق الأوسط وأن تقدمنا أذهل العالم ! , وتبشر الناس بالأسلحة والصواريخ الفتاكة التي تمتلكها مصر , ويعلن أحد العناوين قبيل النكسة بشهور قائلا عن فترة حكم الثورة ( 14 عاما مجيدة ) !!
بخلاف العناوين في أيام 5 و6 يونيو التي خرجت تضلل الناس وتوهمهم بالقتال المستعر في جميع الجبهات , وبالتقدم العربي , وبهجوم بريطانيا وأمريكا مع إسرائيل بجيوشهما !
إن كان هيكل نسي دوره في كل هذا التضليل فنحن لن ننساه
خامسا : يتناسي هيكل أنه وبقية القوميين ـ بعد هذا الذى أورثوه للأمة ـ لا زالوا يخرجون من كهوفهم بنفس الأفكار العقيمة وبنفس الإصرار الغريب على تدمير العلاقة بين المسلمين والإسلام والوقوف بشكل عدائي في وجه أى محاولة يقظة تنبه الناس لجوهر دينهم الحقيقي بعيدا عمن يستغلون الدين للظهور .. وبعيدا عمن يريدون إبعاد الدين عن الصورة ,
فماذا يفعل مفكرو الإسلام إلا أن يُذكروا الأمة بمخازى عهد القومية وآثار تجربتها حتى ينتبه الناس في عالم لا يقرأ .. وحتى لا تتكرر المأساة فيجيئ الإصلاح على دبابة بانقلاب عسكري لتدخل مصر الدائرة الجهنمية مرة أخرى !
لا سبيل إلا تذاكر النكسة وأحداثها للرد على دعاوى القوميين التي أصبحت بحق تثير حيرة الحليم , وكأن بينهم وبين الإسلام ثأرا يفوق ثأر اليهود ,
ونحن نجدهم في كتاباتهم يعادون الإسلام الأصيل بالذات , فلا يقفون هذا الموقف من سائر الملل الزائغة مثلا , بل بالعكس يدافعون باستماتة عن الإتجاهات المنحرفة كالتشيع والصوفية الطرقية في نفس الوقت الذى يسنون الرماح على أى دعوة حقيقية للفكر الإسلامى الأصيل
سادسا : ومن الغريب والعجيب أن الأستاذ هيكل لم يطبق على نفسه هذا الأمر عندما أفرد كتابا من جزءين للحديث عن حرب 48 م ..
ولست أدرى ما الذى يميز حرب 67 لكى يحيطها بخصوصية التحذير من ذكرها ؟!
وربما كان حديث الأستاذ هيكل يبدو متدثرا بشيئ من المنطق لو كان عبد الناصر قد حارب بشرف وانهزم في معركته أمام تفوق العدو أو استعانته بالقوى العظمى ,
عندئذ ما كان لنا ولا لغيرنا أن يعيبه بهذه الهزيمة لأنه قاتل وبذل جهده ؟
فهل فعل عبد الناصر ذلك في عام النكسة ؟!
هل كان أمينا مع الشعب المصري والعربي وهو يطمئنهم إلى قوة جيشه بينما هو في الواقع جيش بلا عسكرية !
هل كان أمينا في سياسته وهو يضفي الحماية العنترية على أقطار الوطن العربي ثم يعجز عن حماية حدود بلاده ولو لساعات معدودة أو ينسحب بهزيمة مشرفة ؟!
هل كان أمينا مع أمته وهو يقامر بمستقبل أمة ويعلن الحرب ـ وهو يعلم يقينا أنه غير مستعد لها ـ في سبيل الحفاظ على صورته في الشارع العربي وحتى لا يتهمه الناس بالجبن ؟!
هل كان أمينا مع أمته وهو يتوغل بالجيش في الحرب تلو الحرب خارج الحدود وأمامه العدو الرئيسي بلا أى دفاع في مواجهته وبلا أى تخطيط لهذه المواجهة ؟!
هل كان أمينا مع أمته وهو يولى أهل الثقة مقاليد الأمور في الجيش والبلاد ويسكت عن كل ذلك فلا يتنحى عن سلطته ما دام غير قادر على الحكم ولا يقوم بتنحية العناصر الفاسدة لو كان قادرا عليها ؟!
ومن يتحمل مسئولية عشرين ألف شهيد لم يفتك بهم طيران العدو بل فتك بهم الانسحاب المزرى الذى صدرت به الأوامر تحت رحمة طيران العدو بلا أى دفاع جوى !
وكيف غامر عبد الناصر أصلا بالدخول في مواجهة مع عدو يعتمد على تفوقه الجوى بصفة أساسية بدون أن يمتلك حائطا للصواريخ ؟!!
وهل كان لزاما للنكسة أن تحدث حتى يفيق عبد الناصر فيبدأ ببناء حائط الصواريخ الذى دمرت إسرائيل مراحله الأولى عند الشروع في بنائه وتجاوزت الخسائر 1500 فرد من عمال البناء والعسكريين , وهم يعملون دون غطاء جوى تحت رحمة طيران العدو حتى تم البناء بتضحيات رهيبة
وأخيرا ..
كيف نحكم نحن بحكم التاريخ على قائدٍ .. هذا تاريخه .. وهذا فعله ؟!
وهل يمكن أن يقبل عاقل مبرر حسن النية أو الترصد الخارجى كصك براءة لعبد الناصر كما يفعل القوميون ؟!
وكم تبلغ نسبة الدور الخارجى في خروج سيناريو النكسة على النحو الذى خرجت به ؟!
وبالمقابل كم تبلغ نسبة سياسة عبد الناصر في هذا السيناريو ؟!
ويتباكى القوميون اليوم على القدس .. فمن أضاعها مع سيناء والجولان يا قوم ؟!
وكيف يعيبون على من فشل في استردادها ويغضون الطرف عمن فتح الطريق لاحتلالها من الأصل !
فعبد الناصر الذى تسبب في ضياع سيناء والقدس والجولان والضفة .. نبي من أنبياء القومية ,
بينما السادات الذى قاد على الأقل إحدى معارك النصر .. خائن لأنه اكتفي بإعادة سيناء وحدها ؟!
فالقوميون يشبهون مدمنى المخدرات في هذه الناحية , حيث أنهم يعشقون من يخدرهم ويغيبهم عن الوعى في نفس الوقت الذى يكرهون فيه من يجاهد لعلاجهم ويمنع عنهم المخدر !
ورحم الله الإمام علىّ زين العابدين بن الحسين الذى نجا من وقعة كربلاء بعد أن فتك الشيعة العراقيون بالبيت النبوى ثم جاءوا يتباكون على الحسين , فقال للناس ..
( إن هؤلاء يبكون علينا .. فمن قتلنا غيرهم؟! )[1]
فالخلاصة ..
أن الحكم على نظام يوليو إنما ينبع من خلال تتبع تحقيقها لأهدافها المعلنة التى التزمت بها , وتتبع النهايات والإلتزامات ومن خلال استقراء الإنجازات والأفعال نستطيع الحكم بجلاء ووضوح بعيدا عن الطبول الزاعقة ..
فقد أعلنت الثورة لنفسها أهدافا ستة تتمثل فى القضاء على الإستعمار والإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم , وإقامة جيش وطنى قوى وإقامة حياة ديمقراطية سليمة وإقامة عدالة إجتماعية ,
وبالنظر إلى النتائج نجد ما يلي ,
أولا : تم إخراج الإنجليز ولكن فى مقابل صفقة خسرت مصر بسببها السودان لأول مرة فى تاريخها الحديث منذ عهد محمد على , ومصر وهى تحت الإحتلال الإنجليزى لم يتمكن الإنجليز من انتزاع السودان كدولة مستقلة وظل العرش يضم مصر والسودان فى مملكة واحدة ,
ليس هذا فقط , بل انتهت التجربة وثلث مساحة مصر تحت الإحتلال الإسرائيلي .. والطريق مفتوح أمام العدو إلى القاهرة مباشرة لا يمنعه شيئ إلا اكتفاؤه بما حقق !
ثانيا : تم القضاء على الإقطاع الظاهر وظهر الإقطاع الباطن حيث تم فرض المصادرة العشوائية وتجريف ثروات العائلات شريفها ووضيعها وتركيز هذا كله فى يد زمرة ضيقة من أهل الحكم ,
ثالثا : تم القضاء على السوق الحر وإنشاء المذهب الإشتراكى الذى أوصل مصر إلى مهاوى سحيقة من الفقر لكون الإشتراكية تقتل رغبة الربح ورغبة العمل الحر فصار القطاع العام أشبه بالتكية المجانية ويحتوى على عشرات الآلاف من الموظفين لا هم إلا قبض مرتباتهم بغض النظر عن الإنتاج وهو الطبع الذى عبرت عنه الدراسات الإقتصادية باسم ( البطالة المقنعة ) فضلا على انتشار الروتين الإدارى بشكل ساحق تسبب في معاناة المواهب ونزوحها من بلادها في بلاد لا تعترف بالتفوق العلمى إلا إذا كان مقرونا بالأقدمية !
وأصبح المثل الشائع ( اربط الحمار في المكان الذى يريده صاحبه ) هو التعبير الشعبي عن حال الروتين الحكومى في طلباته غير المنطقية واهتمام الدوائر الإدارية بالإجراءات الشكلية على حساب الجوهر ,
وقد عبر الشعب المصري بالنكات عن هذه الظاهرة فروى أحد الظرفاء أن ثلاثة موظفين في هيئة المواسير كانت وظيفة أحدهم حفر مكان الماسورة في الأرض والثانى مهمته وضع الماسورة والثالث مهمته ردم التراب على الماسورة ,
وذات يوم غاب العامل الذى يضع الماسورة في الحفرة فلم يلتفت زميلاه واستمر أحدهما يحفر والثانى يردم !!
رابعا : تكلفت مصر المليارات من ميزانيتها لإنشاء جيش حديث وذهبت هذه الأسلحة هباء مرتين متتاليتين ,
أولهما عام 56 ـ التي يعتبرها هيكل أكبر وأكمل انتصار في التاريخ الحديث !! ـ حيث تم تدمير الطيران المصري وانسحب الجيش من سيناء تاركا أسلحته الثقيلة وبضع مئات من الشهداء , والمرة الثانية صورة طبق الأصل من عام 56 , تدمير الطيران المصري كله وفقد الأسلحة بنسبة ثمانين في المائة ومعها عشرون ألف قتيل فى سيناء بخلاف عدد مماثل فى حرب اليمن فضلا على خسارة اقتصادية ركّعت الإقتصاد المصري فى يونيو 67
خامسا : باعتراف رجال الثورة ومفكريها دمرت الثورة فرصة الديمقراطية ومشاركة الشعب فى قرارات حكومته تدميرا تاما , وحتى لو سلمنا بوجهة نظر هيكل أن الديمقراطية قبل الثورة كانت صورية ومضغوطة بالإحتلال والملك , فعلى الأقل كانت هذه الصورة شيئا ملموسا أفضل من العدم الذى أفضت إليه أوتوقراطية الثورة
سادسا : أما العدالة الإجتماعية فقد كان هناك شبه تكافل اجتماعى فى مصر قبل الثورة , وكانت هناك طبقة متوسطة عريضة جدا تحمل أصحاب التجارات الصغيرة والحرف وهى الطبقة التى تم محوها من الوجود المصري بعد الثورة بفضل قرارات التأميم العشوائية التى لم تدع ملكية فردية إلا نهبتها , وبفضل سياسة الإشتراكية التى أغلقت الأسواق أمام أصحاب الحرف والتجارات فاندحرت عشرات العائلات من جراء ذلك لم يكن لها مصدر رزق إلا التجارة البسيطة
بهذه النتائج المبنية على نهايات التجربة الناصرية .. كيف يمكننا تقييمها يا ترى ؟!
الهوامش :
[1] ـ البداية والنهاية ـ بن كثير ـ دار الفجر للتراث
علامات القيامة ..
إذا دهمت الساعة جماهير الخلق في آخر الزمان بغتة , فليس لهم إلا أن يلوموا أنفسهم إذ أن الله عز وجل أنزل مع الساعة أشراطها وعلاماتها الصغري والكبري وجاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مبشرة بذلك بشكل قطعى محدود ,
فلم تترك عذرا لمعتذر ,
وإذا جاز لنا أن نتساءل في حيرة عن سبب حدوث المفاجأة لجماهير الناس عند قيامها رغم أن العلامات الكبري مذكورة بالتحديد وفى عشرات الأحاديث النبوية ,
إذا جاز لنا ذلك ,
جاز لنا أن نتساءل أيضا عن سبب الاندفاع الذى شهدته بدايات الثورة من بعض المفكرين نتيجة لقيامها , رغم أن الثورة ومنذ أيامها الأولى أظهرت معدنها بعدة تصرفات لا شك أنها لا تغيب عن اللبيب ,
ولكن أين هو اللبيب ؟!
وإن وُجد .. فمن سيسمعه .. ومن سيعطيه الفرصة ليتكلم ؟!
إن جماهير آخر الزمان التي ستفاجئ بقيام يوم القيامة رغم وجود علاماتها في عشرات الآلاف من الكتب إنما هم فى الواقع آخر أحفاد القوميين ومن شاكلهم , من هؤلاء الذين اعتبروا القرآن والسنة من قبيل الموروثات التي ينبغي الثورة عليها بالتجديد كما تنبغي الثورة على الإستعمار والملكية !
فكيف يمكن الثقة بالخير في زمرة تعتمد هذه المبادئ كنظام حياة لشعب عاش متدينا بالفطرة ؟!
وكيف تمكن القمع والإعلام الموجه من قتل أصول الإرث العظيم من الإسلام فكرا وعقيدة والذي ترسخ منذ عشرات القرون في قلوب الشعب المصري والعربي ؟!
كان الأمر على ما يبدو غيبة جماعية للوعى ..
ساعد عليها ومهد لها تربص النظام العسكري الجديد بأى صوت معارض واستمرار نظام غسيل المخ بسرعة وإتقان , ولأن العصر كان بطبيعته عصر الإعلام المنغلق , فقد تكرست غيبة الوعى على نحو ما عبر عنها توفيق الحكيم [1]
وقد تكرست غيبة الوعى من بدايات قام الثورة ومن أيامها الأولى ـ وهذا هو داعى الدهشة ـ إذ أن هناك عددا من الظواهر اللافتة التى كان ينبغي أن تضعها الزمرة المثقفة فى الحسبان لتتبصر بها أى مستقبل ينتظر الأمة بالضبط !
من هذه الظواهر :
أولا : خرج علينا نظام يوليو وهو يحمل فى واجهته ثلاثة عشر ضابطا فى ريعان الشباب , لم يتعد عمر أكبرهم خمسة وثلاثين عاما , وليس من بينهم من له خبرة أو دراية بالسياسة وأحوالها من أى نوع ,
بل كانوا جميعا من ضباط الجيش بعيدا عن السياسة وحياتهم لا تعرف إلا الأوامر العسكرية ومنتهى طموحهم الترقي فى حدود وظائفهم ,
ولثقتهم فى أنهم لا يمثلون أى قيمة أو ثقة سياسية تجمع الشعب حول حركتهم , قاموا باختيار اللواء محمد نجيب كواجهة يحركونها من خلف ستار حتى تثق الناس وتشجع الحركة , فى سبيل تنفيذ مطالب متواضعة جدا تتعلق بإصلاح الجيش لا أكثر ولا أقل
غير أن الصورة الحقيقية لم تستغرق طويلا للظهور , عندما اكتشف مجلس قيادة الثورة أنه فى إمكانه الإستيلاء بسهولة على السلطة وأن العرش يتهاوى بالفعل دون أن يمسه أحد
عند هذا الحد ..
بدأت الألاعيب الصبيانية التى تشي بمستوى تفكير مجلس الثورة عندما كانوا يأخذون القرار ونقيضه فى بحر ساعات , ولا شك أن هذه الظاهرة وحدها كانت دليلا كافيا على طبيعة الحركة وطبيعة القائمين بها
فكيف قامت الثورة لتغيير حكومات تتغير كل بضعة أشهر لتضع بدلا منها ملوكا يتغيرون كل ساعة !
ففي البداية كان مطلبهم إصلاح الجيش ثم تنحى الملك عن العرش , وتم هذا فعلا وتم اعتماد ابنه الطفل أحمد فؤاد ملكا بوصاية مجلس للعرش اختاره مجلس قيادة الثورة ,
وبعدها بأيام تم التخلص من رشاد مهنا أحد الضباط المشاركين فى الثورة وأعلاهم رتبة وأحد أوصياء العرش ثم اقتصرت الوصاية على شخص واحد ,
ثم انقلب القرار مرة أخرى إلى طرد الملك وإعلان قيام الجمهورية !
ثم أعلنوا فى البداية فترة انتقالية لمدة ثلاثة شهور تنتهى بإجراء انتخابات تشريعية ويعود الضباط إلى ثكناتهم , ثم تطورت الفترة من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات !
ثم فجأة صدر القرار بإلغاء الأحزاب أصلا وإلغاء الألقاب وتم تعيين محمد نجيب رئيسا للجمهورية ,
ولم يلبث الرجل فى مقعده شهورا ..
حتى دبروا عليه انقلابا ونحوه عن السلطة بل وتم اعتقاله بالمرج وإهانته بشتى أنواع الإهانات التى تطفح بها مذكراته , ثم تم تعيين مجلس الثورة بديلا لرئيس الجمهورية وأصبحت القيادة جماعية ,
وقد اختاروا نجيب من البداية لكونه قبل شروطهم فى أن يصبح قائدا فى الظاهر فقط , بينما رفض هذا الأمر اللواء محمد صادق الذى اشترط عليهم قيادتهم فعليا .. مما يشي بأنهم كانوا يصنعون مجدا شخصيا لا وطنيا
ثم بدأت التصفيات الداخلية وأكل الثوار بعضهم بعضا فمنهم من خرج إلى المعتقل ومنهم من اعتزل أو حوكم على جرائم وهمية ,
ثم انتهى مجلس الثورة أخيرا وتم تعيين عبد الناصر رئيسا للجمهورية ,
كل هذا التذبذب كان واضحا شديد الوضوح ومعبرا عن كنه هؤلاء الشبان المغامرين الذين يعبثون بمقدرات بلد فى حجم مصر , ورغم ذلك لم يتحرك أحد أو ينتبه !
ثانيا : كان من البداية واضحا أن هؤلاء الشباب لا يريدون وجه الله بفعلهم ولم تحركهم الوطنية أو الفساد بقدر ما حركتهم الأغراض , ولا شك أنه كان من بينهم من هو مخلص لقضية وطنه ومقتنع بها ,
لكن قائدها الفعلى ـ جمال عبد الناصر ـ لم يكن كذلك لأن نيته كانت من البداية هى البحث عن السلطة والزعامة والصدارة
وليس هذا كلامنا ـ بل هو اعتراف هيكل نفسه ـ فقد روى هذا الأخير فى إحدى حلقاته ببرنامجه ( مع هيكل ) وقد أوضح فيه مدى تشوّف عبد الناصر للزعامة الجماهيرية والتمس له العذر فيها باعتباره طموحا مشروعا وأن هذا الأمر من ضروريات الضعف الإنسانى , وأنه من المبالغة اعتقاد خلو شخص منه , رغم مبالغة عبد الناصر فى استجداء الجماهير كى تهتف له بقوله فى إحدى خطبه المبكرة جدا ..
( أنا لن أستجدى هتافا أو تصفيقا ) !!
ويعلق هيكل بأن الرجل كان حزينا لأن الجماهير لا تعرفه وليست له شعبية نجيب رغم أنه القائد الفعلى للثورة
وفات هيكل الكثير بهذا التعليق ..
فاته أن استجداء عبد الناصر للهتاف والتصفيق ومبالغته فى وصف دور البطولة , لدرجة أنه وقف يهتف ـ أثناء حادث المنشية ـ أن يثبت كل الرجال فى أماكنهم وأنه إن مات فهو يقبل الموت لأنه علمهم العزة وعلمهم الكرامة !!
هذه المبالغة الفاضحة فى استجداء دور البطولة لدرجة أن يقصر العزة والكرامة المصرية علي شخصه باعتباره المؤسس لهما , معناها أنه لم يخطط ولم يقم بإنشاء تنظيم الضباط الأحرار إلا فى سبيل مجده الشخصي
ويؤكد ذلك كثرة ترداده لاسمه فى خطبه وحديثه عن نفسه بضمير الغائب مثل قوله فى خطاب النكسة ـ والذى كان من المفروض أن يكون أبعد الناس فيه عن الزهو الظاهر أو المبطن ـ قال فيه مثلا
( إن قوى الإستعمار تظن أن جمال عبد الناصر هو عدوها !! )
فهل هذا هو وقت الزهو بترصد الإستعمار لك ؟!!
الهوامش :
[1]ـ عودة الوعى ـ توفيق الحكيم ـ دار الشروق
بل وتؤكد هذه القضية شهادة أقرانه من الناصريين الذين لا غبار على ناصريتهم , مثل عبد الحكيم عامر رفيق دربه الحميم والذى قال لمراد غالب ـ السفير المصري بموسكو ـ فى معرض تعليق له قبل النكسة ..
( ماذا نفعل وهذا الرجل فى مصر لا يرضي
إلا عندما يري صوره وأخباره فى الصحف كل يوم ؟! ) [1]
وشهادة رفاق كفاحه مثل عبد اللطيف البغدادى وكمال الدين حسين وعلوى حافظ وجمال حماد وغيرهم كثير
فالرجل من البداية كان واضحا أنه يعمل لنفسه لا لمصر , حتى انتهت هذه السياسة للنهاية المفجعة باضطراره إلى المزايدة السياسية لتغطية موقفه فى الشارع العربي وتحريك الحشود إلى سيناء فى مظاهرة عسكرية للتهويش , وهى الأمور التى اتخذتها إسرائيل كذريعة ممتازة لتدمر الجيش المصري عن بكرة أبيه !
ثالثا : يحتج هيكل فى تبرير هذه الذات المتضخمة باعتبار أنها من عوامل الضعف الإنسانى !!
وأنه ضد المنطق من يتصور إمكانية شخص يتمكن من تحييد نفسه فى إطار دوره بقضية عامة ,
ومن الغريب أن مفكرنا الكبير مخطئ فى الحالتين ..
ففي الحالة الأولى .. فما عند عبد الناصر لم يكن من قبيل نقطة الضعف الإنسانى التى يمكن قبول تجاوزها , بل كانت ذاته نقطة محورية فى الأحداث ومحرك رئيسي لها ,
والدليل من كتابات هيكل نفسه , حيث أن عبد الناصر صرح قبل النكسة أنه لا يملك خطة لتحرير القدس فثارت الجماهير وجاءت الوفود تطلب سحب تصريحه الواقعى ـ رغم واقعيته ـ فى سبيل تهدئة الجماهير ,
فاستجاب وسحب التصريح !
وفى سبيل صورته كما قدمنا بادر إلى اليمن والكونغو وسيناء وهو يعلم تمام العلم بحدود قدرت الجيش وأحواله !
وفى سبيل السلطة سكت عن جبروت عبد الحكيم عامر , وقًبِل ـ وهو الزعيم ـ أن يكون تحت ضرس الجيش بدلا من أن يكون الجيش تحت قيادته , وكل هذا فى سبيل التخوف من قوة عبد الحكيم عامر !
فكيف يقول هيكل بعد ذلك أن هذه الذات المتضخمة ذات تأثير محدود يمكن قبوله فى إطار الضعف الإنسانى ؟!
وفى الحالة الثانية .. يقول هيكل ما معناه أن تصورنا لإمكانية وجود شخص يتمكن من تحييد ذاته فى قضية عامة أمر فوق المنطق ,
فهذا أمر مما يُؤسف له .. وبشدة ,
فهيكل واحد من أعرق المثقفين فى عصره , ويبدو غريبا جدا على ثقافته ألا تتسع لبعض مبادئ الدين الإسلامى التى يحفظها أطفال الكتاتيب عن ظهر قلب ,
وأولها إخلاص النية لله فى كل قول وعمل ,
والقرآن الكريم والسنة النبوية حافلة بعقوبة الرياء أو تزكية النفس لدرجة اعتبارهما من الشرك المحرم , والشرك هو المعصية الوحيدة التى لا يغفر الله لفاعلها ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ,
يقول تعالى :
[إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] {النساء:48}
والسنة النبوية حافلة بالتحذير من الرياء حتى لو كان بعمل فى سبيل الله ..
ففي الحديث ( تُسعّر ـ أى توقد ـ النار بعالم وشهيد )
أما العالم فقد طلب رياء الناس بعلمه ولم يطلب وجه الله وأما الشهيد فقد قاتل وقتل للسمعة .. فكانت النتيجة أن تم اعتبار عملهما شركا يستوجب أن تستفتح النار حطبها بهم ,
فلهذه الدرجة جاء الإسلام محذرا من داء النفس وفارضا لفضيلة الإخلاص التام الذى لا تشوبه شائبة , وهو الأمر الذى شهدناه فى آلاف التجارب التاريخية لعظماء الإسلام من العلماء والمجاهدين ,
فمعظم هؤلاء النجوم كانوا بعصرهم من آحاد الناس لا يتكلفون أحدا ولا يدعون إلى زعامة ولا يمنون بأفعالهم على أحد , والأجيال التى تلتهم هى التى حفظت سيرتهم وعظمت أفعالهم وجعلت من تلك الأساطير التى نقرأ عنها فى الكتب ,
ليس هذا فقط ..
بل كان هؤلاء العظماء الذين كانت حياتهم لأجل الأمة , ينكرون على الناس أشد الإنكار إذا امتدحهم أحد , ويفرون من المدح كما يفر المرء فى عصرنا هذا من الذم والفضائح ,
وكان أحمد بن حنبل ـ أتقي أهل زمانه ـ يقول :
( وددت لو أن ما معى من العلم وصل للناس ولا يذكرنى أحد بشيئ ! )
فالرجل كان يتمنى من أعماقه أن يفيد الناس بعلمه وأن ينسوا أنه صاحب الفضل فيه ؟!
وهم فى هذا يتتبعون سيرة معلمهم الأول النبي عليه الصلاة والسلام , ولا غرابة ..
إنما الغرابة من قول هيكل أن المطالبة بالإخلاص التام فى أى قضية بعيدا عن مدح الذات أمر ضد المنطق !
عن أى منطق تتحدث يرحمك الله ؟!
وأين غابت عنك هذه الـمُـثل ؟!
رابعا : كان من الظواهر الكاشفة لحقيقة الثوار الجدد , بعض الممارسات التى تسربت للجماهير والإعلام وانتشرت على نطاق واسع تبشر بما يمكن أن ينال مصر على أيديهم ..
فكيف سكتت أو أسكتت الجماهير عن تصرفات صلاح سالم أحد أبرز قادة الثورة بعد أن تسبب هو ومجلسه فى ضياع السودان من مصر فى سبيل التخلص من محمد نجيب !
وكيف غاب عن الجماهير جزاء سنمار الذى نال اللواء نجيب ؟!
وكيف غاب عنهم إجراء مثل ترقية عبد الحكيم عامر من رتبة صاغ ( رائد ) إلى رتبة ( لواء ) دفعة واحدة بشكل غير مسبوق حتى فى الشرطة المدرسية !
وكل هذا ليكون لعبد الناصر قدم ثقة فى قيادة الجيش تمكنه من السيطرة بعد ذلك ؟!
وهذه الترقية الفضيحة كانت أحد أهم أسباب الكوارث الكبري فيما بعد حيث تم تعيين قائد برتبة رائد يقود أقوى جيوش المنطقة رغم أن علمه العسكري توقف عند رتبته الأصلية !
ثم جاء القرار العنترى بإخراج جميع الرتب العليا من القوات المسلحة للتقاعد , فخرج من الجيش كل من كان فى رتبة لواء ليفقد الجيش المصري قادته فى ضربة واحدة , تحت زعم ولائهم للملك رغم أن قيادات الثورة نفسها كانت تتلمس خطى بعض لواءات الجيش وتتعلم من وطنيتهم !
هذا بخلاف الصراع الدامى على السلطة بين أسلحة الجيش والذى دب بين سلاح الفرسان وبقية الأسلحة عندما ثارت أزمة محمد نجيب فى قصة مروعة تحكيها مذكرات خالد محيي الدين ومحمد نجيب وغيرهم ! [2]
خامسا : إهمال الحياة النيابية تماما وفرض العزل السياسي على سائر السياسيين فى عهد ما قبل الثورة دون النظر لوطنيتهم حتى وضعوا زعيم الأمة النحاس باشا رهن الإعتقال فى منزله ! وتم حل جميع الأحزاب ,
أى أنهم فرغوا الجيش من قادته وفرغوا الساحة السياسية من قادتها وأنشئوا هم قيادات جديدة تتشكل منهم كمكافآت على القيام بالثورة والتى أصبحت هى الغاية والنهاية بعد أن كانت وسيلة لتحقيق حياة ديمقراطية ,
فتم إنشاء تنظيم وحيد هو هيئة التحرير والذى تطور فيما بعد للاتحاد القومى ثم الإشتراكى وهلم جرا !
وفى الجيش تم اعتماد سياسة الولاء المطلق كشرط لتولى أماكن القيادة بغض النظر عن الكفاءة فجاء شمس بدران وعلى شفيق وهم من خريجى دفعة 1948 م عام النكبة , وحديثي الرتب جدا ليتولوا هم أمور وزارة الحربية حتى تحققت النكبة الجديدة على أيديهم عام 1967 م !
أما الضباط المحترفون ـ حتى من رجال الثورة أنفسهم ـ فقد تم إخراجهم من الجيش للوظائف المدنية رغم أنهم استمروا فى حيازة الدرجات العلمية فى أرقي المعاهد السوفياتية العسكرية , وبدلا من أن يأتى هؤلاء كقادة لفرق الجيش خرجوا من الخدمة لمناصب تنفيذية مدنية وتولى بدلا منهم القادة المرضيون منعدمى الكفاءة ,
وهذا الملف العامر تحدث عنه طويلا اللواء جمال حماد والذى كان هو بنفسه كاتب البيان الأول للثورة وأحد القادة المؤهلين الذين تم إبعادهم لصالح دفعة شمس بدران التى تولت القيادة فى كافة أفرع القوات المسلحة !![3]
لهذا كان أول إجراء لعبد الناصر ـ بعد النكسة وسقوط عبد الحكم عامر ـ هو إخراج دفعة شمس بدران جميعا من الجيش وإحالتهم للمحاكمة أو التقاعد !
فأين كان هذا الإجراء منذ فضيحة 1956 م والتى أفصحت عن مستوى هؤلاء القادة ؟! .. لا أحد يدرى
سادسا : نظرة واحدة من أى متأمل إلى طبيعة الصراع بين مجلس قيادة الثورة وبين محمد نجيب , ومن زاوية محددة , كان كفيلا يأن يُظهر النية الحقيقية لهذه المجموعة من الضباط ,
وأعنى بالزاوية المحددة موضوع السودان ,
فقد كان كاشفا وموضحا بجلاء سلوك مجلس القيادة الذى رفع فيما بعد شعار الوحدة العربية أن يكون أول أفعاله هو اتخاذ القرار الذى لم يجرؤ سياسي مصري على اتخاذه منذ عام 1923 م , وهو الموافقة على فصل السودان عن مصر ,
بل إن الوحدة العربية ـ التي كانت أحلاما في ذلك الوقت .. وقد ظلت كذلك على أية حال ـ لم يكن لها على أرض الواقع تجربة إلا ما للسودان من ارتباط حقيقي وفاعل بمصر ولا يحتاج إنشاء ,
بل كانت ضمن الإنتماءات الجارفة التي يعرفها ويفهمها السياسيون المصريون ولذلك فشلت جميع المفاوضات مع بريطانيا قبل الثورة بسبب إصرار المفاوضين على التمسك بالقطر السودانى ,
وجاء محمد نجيب ذو الشعبية الهائلة بين أهل السودان , ليصبح الطريق مفروشا بالورود أمام وحدة وادى النيل كما كان تسميها أدبيات تلك الأيام ,
حتى أن محمد نجيب نفسه في مذكراته عن مرحلة حرب 1948 م ,
يذكر لنا واقعة تكشف لنا مدى الإرتباط الذى كان يشعر به الجيش المصري وجماهير الشعب مع السودان باعتباره العمق الإستراتيجى المصري , حيث أن نجيبا أصيب في الحرب ثلاث مرات , وكان منها إصابة فادحة أيقن معها بالموت , فطلب كتابة وصيته , وكان من بين سطورها بالحرف :
( تذكروا يا أبنائي أن أباكم مات بشرف وكانت رغبته الأخيرة أن ينتقم من الهزيمة , ويجاهد لوحدة وادى النيل )
وبعد الثورة ..
ومع التواصل الفعال بين تحالف الأحزاب السودانى بقيادة الأزهرى وبين محمد نجيب كانت الخطى تسرع حثيثة لاستقلال الجمهورية المصرية وجنوبها الطبيعي ,
ثم جاءت واقعة تسليم ملف السودان لأكثر أعضاء مجلس القيادة تطرفا وهوائية وهو صلاح سالم والذي حاول أن يتألف القبائل في السودان عن طريق المال ! فضلا على معاملته الدونية لهم بشكل جلب عليه وعلى مصر غضب السودانيين بشكل حتمى نظرا لاعتزازهم الجنوبي المعهود ,
وجاءت الضربة القاصمة عندما أقيل محمد نجيب وتمت إهانته ـ حتى على مستوى الإعلام ـ بواسطة صلاح سالم وآخرين واتهامه في ذمته المالية واعتقاله في فيلا المرج لتصبح هذه الأحداث هى نقطة الفصل الحقيقية بين مصر والسودان ,
فلم يكن السودان على استعداد للثقة بهؤلاء الشبان بعد ما رأوا جزاء قائدهم أمامهم , وإذا كان هؤلاء الشباب فعلوا هذه الأفاعيل بقائدهم الذى لولاه لما انطلقت الجماهير واثقة خلف الحركة , فما هو المتوقع للسودان في ظل حكمهم ؟!
وبالتالى رفض إسماعيل الأزهرى الإنضمام بعد إسقاط نجيب
وأصبح السودان قطرا منفصلا !! [4]
فكيف غابت هذه الأمثلة وهذه الممارسات الكاشفة عن توغل عميق لمرض السلطة في نفوس هؤلاء الشبان ؟!
وكيف غابت الحكمة العربية القائلة ( وما في الظلم .. مثل تحكم الضعفاء )
والمقصود منها أن الضعيف ـ لضعف بدنه أو قوته ـ عندما يكون تواقا للسلطة وللقوة ولا يجدها فإنه إذا امتلكها بتغير الظروف يصبح أشد ظلما من الفراعنة , وهذا أمر نفسي طبيعى لعقدة الضعف عنده ,
وقد وجد هؤلاء الشباب أنفسهم بين يوم وليلة يملكون البلاد ,
فكيف يمكن أن يستجيبوا لنداء العودة للثكنات ـ بعد أن أدوا واجبهم المفترض ـ ويسلموا حكم البلاد لغيرهم ؟!
بل بلغت بهم الدرجة أثناء الخلاف مع محمد نجيب أن اقترح جمال سالم قتل محمد نجيب والخلاص من صداعه !
فأى دليل أعظم من هذه الظواهر كى تدل على شهوة الحكم المتأصلة في نفوسهم
الهوامش :
[1]ـ مذكرات مراد غالب ـ دراسة بعنوان ( مذكرات اليسار فى عصر اليمين ) ـ محمد الجوادى ـ الهيئة المصرية للكتاب
[2] ـ ملفات ثورة يوليو بشهادة صانعيها ـ محاورات لطارق حبيب ـ مطبوع ـ مركز الأهرام للترجمة والنشر
[3]ـ شهادة جمال حماد عن العصر ـ قناة الجزيرة
[4]ـ مذكرات محمد نجيب ( كنت رئيسا لمصر ) ـ ومذكرات خالد محيي الدين ( والآن أتكلم ) ـ مع شهادة جمال حماد على العصر
سابعا : كان من المفروض أن الحركة قامت في الأصل لأجل تطهير الجيش ! وهذا هو الهدف الرئيسي الذى أعلنته قيادتها بصوت أنور السادات , عن طريق إجبار الملك على الإستماع لطلبات الضباط بتولية الضباط الوطنيين للمسئولية ,
وبمجرد نجاح الحركة ,
انقلب مطلب التطهير الوظيفي إلى تطهير ولائي , وانقلبت مطالب الإصلاح إلى تواطؤ مكشوف على الجيش بأكمله !
فبعد أن تصاعدت نبرة الإحتجاجات العنيفة بين مختلف ضباط الجيش نظرا للممارسات المستفزة لأعضاء مجلس قيادة الثورة من ترقية الأقرباء ومجاملتهم بالتنقلات الإستثنائية والبدلات وغيرها ,
قام عبد الناصر عن طريق عبد الحكيم عامر ومجموعته بتطهير الجيش تماما ـ ليس من اللواءات هذه المرة ـ بل من الثوار أنفسهم ومن بقية ضباط الجيش الذين بدرت منهم اعتراضات على ممارسات رجال الثورة المهينة للتقاليد العسكرية ! فتم إبعاد 800 ضابط من المشاة والبحرية والطيران وأحيل بعضهم إلى المحاكمات الثورية والبعض الآخر إلى الاستيداع [1]
كما أبعدوا كافة الضباط الموالين لمحمد نجيب , وظهرت على السطح بعض الممارسات التي لا تمت للأخلاق بصلة فضلا عن العسكرية والإنضباط العسكري ,
فقد روى نجيب في مذكراته عن صلاح سالم أنه ضرب أحد ضباط الجيش واسمه محمد وصفي بالحذاء على وجهه في اجتماع عام أثناء التحقيق معه , ثم تكفل التعذيب بالقضاء على الضابط الشاب تماما !
بخلاف واقعته الشهيرة مع الأميرة فوزية ومطاردته المسفة لها واستيلائه على فيلا بجوار قصرها لتستنجد الأميرة السابقة باللواء نجيب كى ينقذها من ممارسات الضابط الثائر !
بخلاف انتشار النهب والسلب لمحتويات القصور الملكية وعلى رءوس الأشهاد بلا حسيب أو رقيب !
ثم كانت الطامة الكبري عندما أنشئوا محكمة استثنائية باسم محكمة الثورة ورأسها أعضاء من المجلس الميمون نفسه لتصدر أحكاما عشوائية على مجموعة كبيرة جدا من ضباط الجيش بتهمة التمرد والإنقلاب العسكري , وهى القضية المعروفة باسم قضية المدفعية ,
فضلا على محاكمة عشوائية مماثلة وبأحكام جنائية ثقيلة تراوحت بين الإعدام وبين الأشغال الشاقة المؤبدة لقيادات الحياة السياسية قبل الثورة ! وللأعضاء البارزين في جماعة الإخوان المسلمين بل وحتى للعمال والفلاحين الذين قامت الثورة ـ كما هو مفترض ـ من أجلهم فتم إعدام خميس والبقري صاحبي قضية عمال غزل المحلة الشهيرة والذين اعتصموا بمصنعهم وقاموا بمظاهرات مناهضة , فكان جزاؤهم الإعدام وهو ما لم يتم حتى في عهد الإحتلال الإنجليزى !
وكل هذه المحاكمات تمت في غيبة القانون والقضاء الطبيعى , وغياب أى تأهيل عن أعضاء المحكمة التي ترأسها أمثال صلاح سالم وحسين الشافعى وغيرهم من قيادات الحركة !
ولنا أن نستدعى من الذاكرة قضية (محاكمة دنشواى ) والتى وفر فيها الإحتلال الإنجليزى ضمانات قانونية واضحة للمتهمين ـ ورغم مظهريتها ـ إلا أنها كانت أكثر حبكة
وقام بها رجال قانون محترفون مثل بطرس غالى باشا والهلباوى بك أشهر المحامين في زمانه وممثل الإدعاء في القضية وغيرهم , وقد أقام مصطفي كامل الدنيا ولم يقعدها في أوربا تشنيعا على الأحكام التي صدرت بإعدام بعض المتهمين ونجحت حملته الصحفية في صدور القرار بإقالة اللورد كرومر المندوب السامى في مصر !
بينما لم يستطع رجال الإعلام في مصر أن يفتحوا فمهم بكلمة في مواجهة هذه الممارسات وهذه المحاكمات !
ومن أغرب الغرائب أن أحكام الإعدام تم تنفيذها في فرادى أبناء الشعب وعلى تهم باطلة , بينما تدخل جمال عبد الناصر بحسم عندما اقترح بعض زملائه محاكمة الملك فاروق نفسه وإعدامه , وأصر على طرده سالما !
فإذا كان هذا جزاء أس الفساد في البلاد فكيف ـ وعلى أى أساس ـ تمت محاكمة بقية السياسيين وهم مجرد منفذين لسياسته ؟!
ثامنا : بدأت ظاهرة تسلسل رفاهيات المجتمع المدنى للعسكرية منذ وقت مبكر ,
فعندما جرفت القيادات الشابة سائر الكفاءات من جميع المجالات , قفز الضباط وأصهارهم وأقربائهم إلى المواقع المدنية حتى اصطبغت البلاد باللون الكاكى ـ على حد تعبير محمد نجيب ـ ثم زاد عبد الحكيم عامر من سطوته فتدخل ليتولى الجيش اختصاصات مدنية بحتة مثل الإعتقالات والتحقيق مع العناصر غير الموالية للثورة وأصبح جهاز الشرطة مجرد جهاز تنفيذى للبوليس الحربي ــ والذي كان اختصاصه مقصور على جرائم العسكريين وحدهم ! ـ فانقلب إلى شرطة مدنية !
ثم أعطى جمال عبد الناصر لرفيق عمره عامر باقي الصلاحيات المتبقية مثل لجان تصفية الإقطاع وتعيين الوظائف المدنية الشاغرة ورياسة شركات قطاع الأعمال العام بل حتى الإشراف على الرياضة ككرة القدم ورياسة النوادى الكبري كالأهلى والزمالك والتى ترأسها ضباط جيش أيضا !
فبدا الأمر من اللحظة الأولى أن الثوار الجدد لم يأتوا ثوارا على الوضع القائم بل أتوا لاستبدال طبقة الحكام فحسب , فبدلا من أن يكون الملك والأحزاب هم الصفوة أصبح الضباط الشبان هم أساس الحكم في البلاد وبدلا من فاروق واحد كان يكفي البلاد فسادا أتى مكانه 13 فاروق آخر على حد تعبير أحد ضباط يوليو أنفسهم
الكارثة أن هذا الأمر لم يقتصر على مجرد نظرة الثوار الجدد لمصر على أنها مكافأة وإقطاعية كبري يستحقونها ما داموا قبلوا مخاطرة الثورة , بل تعدى الأمر إلى ترسيخ مكانة العسكريين على قمة الشرائح الإجتماعية , فلم تعد الوظيفة العسكرية وظيفة ملتزمة بدور محدد في المجتمع ,
بل أصبحت هى الطبقة الراقية الجديدة بديلا لأهل الفكر والعلم والسياسة وتم بث عشرات الأفلام السينمائية والأعمال الفنية التي تروج لهذه النظرية الإجتماعية ,
فأصبح فتى الأحلام وفارس الميدان هو ضابط الجيش وحده , وأصبحت أكبر المكافآت المعنوية لأى بطل رياضي أن يتم منحه رتبة شرفية في الجيش المصري !
وتمت مصادرة القصور والفيلات والشقق الفاخرة التي كانت ملكا لطبقات ما قبل الثورة ليتسلمها الجيش ويوزعها على الضباط المقربين وذوى الحظوة !
باختصار ..
اهتمت القيادة الجديدة بالجيش في كل شيئ , عدا التدريب الجدى أو التسليح الفعال !
مما استدعى عبد الناصر عقب النكسة أن يولى الفريق فوزى بالذات قيادة الجيش ـ بسبب قسوته وغلظته ـ لتكون مهمته قاصرة فقط على إعادة الإنضباط العسكري المفقود ورد الجيش إلى ثكناته وإعادة القيادة للقواد المحترفين !!
وحق لهذا الوطن أن يتألم ويسخر من نفسه قبل أن يسخر منه الآخرون ,
فقد أصبح قدرا أن تعتبر الواجبات الجوهرية للوظائف العامة هى من قبيل المن على الأوطان والشعوب , فيكون لازما على الشعب التسبيح ليلا ونهارا بإنجازات القواد كما لو كانت هبة أو تضحية !
فأصبحت مهمة الثوار الجدد بعد إتمام الثورة أن يجلسوا للحكم والغنيمة , باعتبار أن المشاركة في هذه الثورة هى المؤهل النهائي وختم الوطنية الذى يجب أن يحصل فاعله على المقابل طيلة عمره ,
بل أصبحت المؤهلات الرسمية المعترف بها للتعيين في الوظائف الكبري هى مجرد الإنتماء للتنظيم الثورى , ولهذا اعترض حسين الشافعى على تولية السادات باعتبار أنه يسبق الأخير في عضوية مجلس الثورة !
والسادات نفسه تم تعيينه نائبا لرئيس الجمهورية بناء على هذا العامل وحده , وهو أنه لم يحصل على حقه كالآخرين !..
والأمر يبدو كما لو أنهم قد اعتبروا القيام بالثورة كنزول الدعوة الإسلامية , فالسابقون الأولون من الثوار والأحرار هم أولى بالأمة من نفسها , وحق الأفضلية يعتبر مقرونا بسابقة الإنضمام للرسالة الجديدة !
لهذا ..
تضخمت ذواتهم بطريقة بشعة , ورأوا أنهم بثورتهم هذى فاقوا الأقدمين والآخرين , ونظرة واحدة إلى مذكرات الضباط الأحرار تنبئك عن كثير ,
والطريف أنهم كانوا يستلهمون ثقافة التقديس الإسلامى فيضفونها على أنفسهم , فجمال منصور ـ أحد أعضاء الثورة البارزين ـ فى مذكراته يصف رفاقه عند ذكرهم بلفظ ( الصحابة ) فيقول ( اتفقت والصحابة على كذا أو قررت والصحابة قول كذا )
بينما يعرف كل طالب فى المدرسة الإبتدائية أن هذا المصطلح مقصور على وصف أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ولا يجوز استخدامه لغيرهم , تماما كمصطلح ( القرآن ) فهو فى اللغة كل شيئ مقروء ولكن ليس مقبولا من مسلم أن يطلق على ديوانه الشعري مثلا اسم قرآنى الخاص !
وبعد النكسة عندما اتفق عبد الناصر وعبد الحكيم عامر على التنحى وتعيين شمس بدران , ثم خالف عبد الناصر الإتفاق ورشح زكريا محيي الدين , هاج عبد الحكيم للخدعة وسماها ( خدعة أبي موسي الأشعري )
وهى إشارة إلى واقعة شهيرة فى التاريخ الإسلامى هى واقعة التحكيم بين على ومعاوية رضي الله عنهما , وتقول الرواية أن الحكمين أبي موسي وعمرو بن العاص اتفقا على تنحية على ومعاوية وتولية غيرهما على الأمة , غير أن عمرو بن العاص غدر بالإتفاق وأعلن أنهما اتفقا على معاوية !!
وهى رواية مكذوبة وباطلة ولم يحدث منها شيئ قط وأثبت المؤرخون كذبها وتلفيقها ـ رغم انتشارها ـ لكن ثوار الإشتراكية لا يميزون صحيحا من سقيما حتى فى مجرد الإستشهاد بشيئ من التاريخ الإسلامى [2]
وانتهت ثقافة السياسة المصرية التي كانت تعامل الحكومات بعامل المحاسبة , ولا يأتى السياسي لمنصبه التنفيذى إلا لإثبات استحقاقه لهذا المنصب الذى يُلام من قصر فيه , ولا يُشكر من أدى واجبه ,
ولم يسأل ضابط واحد من هؤلاء ـ عدا علوى حافظ [3] ـ نفسه سؤالا وحدا ..
لماذا قاموا بالثورة أصلا ؟! هل لتعديل أوضاع فاسدة أم لترسيخ أوضاع أشد عنفوانا من الممارسات أى ملكية على وجه الأرض ؟!
فهل عرفنا الآن لماذا كانت هزيمة يونيو لازمة ؟!
الهوامش :
[1]ـ مذكرات محمد نجيب ـ مصدر سابق
[2] ـ لمراجعة حقيقة الرواية يرجى مطالعة ( العواصم من القواصم ) للقاضي أبو بكر بن العربي ـ دار الإعتصام
[3]ـ المنصة ـ علوى حافظ ـ طبعة غير معروفة المصدر
صناعة الفرعون
فى ظنى أن الفراعنة القدماء تعرضوا لظلم وتشويه كبير , عندما استخدمهم المصريون المعاصرون للتدليل على أن الشعب المصري ينزع إلى تشجيع قادته على التسلط وإصابتهم بما يُطلق عليه داء الفرعون !
فالشاهد الواضح يوحى لنا أن ممارسات قدماء المصريين فى إعلاء ( الأنا ) لدى الحكام وتأليههم , هى مجرد ممارسات ـ رغم فداحتها ـ قاصرة عن إدراك منهج صناعة الفرعون الذى تم استخدامه فى العصر القومى !
فما قام به الجهاز الإعلامى لعصر عبد الناصر تتقاصر أمامه أفاعيل الكهنة , بل وأفاعيل هامان نفسه مع فرعون موسي !
فكان من اللازم رد الإعتبار إلى عصر الفراعنة واعتبارهم تلاميذ لمدرسة العهد الناصري التى علّمت الشعوب بحق , كيف يكون تأليه الحكام !
وربما اعتبر البعض هذا الكلام من قبيل المبالغة لكن الشعور بالمبالغة سينتفي إذا تأملنا النقاط الفارقة بين الأسلوب الإعلامى فى كلا العصرين ,
فإعلام المرحلة الفرعونية لم يكن ليقنع الشعب بألوهية الحاكم الفعلية , فكان الشعب ينطق بها أمام الفرعون دون تصديق أو إقرار بل ويكتم فى نفسه الإحتقار الشديد للفرعون ويحتفظ بالإيمان الخالص لله عز وجل ,
ولهذا ألقي السحرة ساجدين عندما ظهرت لهم نبوة موسي ورفعوا صوت المعارضة ونبذوا الفرعون فى وجهه ,
بينما شياطين الإعلام فى العصر الناصري عن طريق الخطب الحماسية والتركيز الإعلامى المتكرر , والأغانى الحماسية التى قام بها نخبة النخبة من أهل الفن والموسيقا , تمكنوا من غرس داء العبودية للفرعون فى قلب الشعب المصري بل والعربي بشكل كامل !!
ويدل على هذا مدى صدق العاطفة فى أغنيات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وشادية وصباح وفريد الأطرش وعبد الوهاب وغيرهم من هؤلاء الأساطير الذين ألهبوا حماس الجماهير لتلتف حول التجربة الناصرية !
وبهذا نجح هؤلاء فيما فشل فيه هامان ورفاقه !!
وإلا فليبحثوا لنا عن تبرير منطقي واحد لهذه الجماهير والجحافل التى كانت تلتف حول عبد الناصر لمجرد الخطابة ! بينما فى مقياس الأفعال لم يترك للجماهير شيئا إيجابيا واحدا وعد بتحقيقه ونفذه ؟!
وتكفي كارثة خروج الجماهير باكية لتنحى عبد الناصر وهى التي ما دمعت للنكسة بعد !
كذلك فإن الشعب المصري أيام الفراعنة ما كان مقتنعا بأن حاكمه إله مقدس أو يملك من أمر نفسه شيئا أو يستطيع عمل المعجزات , ويدل على ذلك قول كبير سحرة فرعون لأحد رفاقه ( لا يغير طبائع الأشياء إلا صانع الأشياء ) وذلك فى معرض الدلالة عن ظنهم بأن موسي مجرد ساحر ولو كان يغير الحبل إلى ثعبان فعليا لكان رسولا ونبيا حتما ,
وماشطة بنت فرعون عندما سقط منها المشط , قالت فى تعبير تلقائي ( بسم الله )
فعقبت ابنة فرعون قائلة ( تقصدين أبي ؟! )
فقالت الماشطة ( بل أعنى الله خالقى وخالق أبيك )
فى نفس الوقت الذى نجد فيه سدنة مفكرى الناصرية يستخدمون ألفاظا موحية عند الحديث عن عبد الناصر وتجربته ويكثرون من هذه الألفاظ حتى انتشرت بين الجماهير , ومن تلك الألفاظ تعبيرات مثل ( الإيمان بعبد الناصر ) و ( الإيمان بالتجربة الناصرية ) و ( العقيدة الإجتماعية والإشتراكية ) ثم ختمها نزار قبانى عندما قال فى رثائه :
( قتلوك يا آخر الأنبياء ! )
ونسأل الله ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا !
وهو الأمر الذى بثه الإعلام الناصري ونجح فى غرسه بين الجماهير فعليا , ولهذا التفت الجماهير حول شخص عبد الناصر راضية به وموقنة بأنها فى أمان بجواره فى نفس الوقت الذى ضاعت فيه الأرض ومعها الكرامة بسبب السياسة الناصرية ,
لكن الجماهير الملقنة لا تلتفت ولا تهتم ,
فالمهم هو بقاء عبد الناصر بغض النظر عن أى إنجازات أو كوارث , فكأنى بهم جعلوا من بقاء عبد الناصر صمام أمان لهذه الأمة , وهو ما عبر عنه سامى شرف وغيره عندما قالوا أن عبد الناصر لم يمت وكلنا جمال عبد الناصر !
وعلى حد علمى أن حديث النبي عليه الصلاة والسلام عن صمامات أمان الأمة لم يشمل جمال عبد الناصر !!
فالحديث يقول :
( النجوم أمنة السماء .. فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعد .. وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون .. وأصحابي أمنة لأمتى فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما يوعدون )
وإذا كانت الأمة لم تلتف بكاملها حول الصحابة وشذ عن الأمة فرق الشيعة والمعتزلة والعصرانيين ممن يسفهون الصحابة ولا يوقرون لهم مكانا , رغم وضوح الأحاديث والآيات فى فضائلهم وفى اعتبارهم صمام أمان الأمة ,
فكيف نجح الإعلام الناصري فى إقناع هذه الآلاف بأن جمال عبد الناصر هو أمنة العرب فإذا ذهب عبد الناصر أتى الأمة العربية ما توعد .. لست أدرى ,
وكيف اقتنعت الجماهير بهذا فى ظل ما فعلته السياسة الناصرية من تحقيق لأعلى مكاسب اليهود والغرب , لست أدرى ؟!
وربما نعثر على المبرر المنطقي عندما نتناول بعض الأغنيات التى روجت للتجربة الناصرية ,
وقد فاق عدد هذه الأغانى كل ما غنته أمم الأرض لأوطانها , على نحو يرشح اسم ( شعب المليون أغنية ) ليكون لقبا رسميا للشعب المصري في تلك الفترة !
ولهذا فسنلقي الضوء على مجرد أمثلة لا تعدو كونها واحد فى الألف من طبيعة تأثير ورسائل هذه الأغنيات التى كانت تغزو عقول العامة والدهماء ليلا ونهارا ,
ولا توجد أمة لها موطئ قدم فى رقعة الحضارة فعلت بنفسها ما فعلته السياسة الإعلامية بجماهيرها فى العصر الناصري , على نحو يجعل أى غريب يسمع بهذه الأغانى يظن أن عبد الناصر حتما حقق لهذه الأمة ما لم يتحقق لها على الأرض منذ فجر التاريخ وإلا كيف يمكن أن يرفعوه إلى مثل هذه الدرجة !
والأغانى الوطنية فى العصر الناصري لم تكن ـ كما فى أى أمة تحترم نفسها ـ متناسبة مع حجم العمل أو حتى قاصرة عنه بعض الشيئ بل أصبحت هذه الأغانى هى ما تبقي من منجزات هذا العصر ,
وسيذكر التاريخ لعبد الناصر هذه النهضة الغنائية في الزمن الجميل , لا سيما أن عبد الناصر أيضا كان هو الذى بين القطبين اللدودين أم كلثوم وعبد الوهاب بعد أن ظلا يرفضان التعاون معا طيلة عشرين عاما , إلى أن طلب عبد الناصر وأصر فتم تنفيذ رغبة الزعيم وقامت أم كلثوم بغناء ( إنت عمرى ) من ألحان عبد الوهاب فيما عُرف باسم لقاء السحاب !!
أما من ناحية كمية الأغنيات .. فحدث ولا حرج , بعد أن أصبحت تلك الأغانى حرفة ينال بها المطرب والملحن والمؤلف صك الوطنية!
ولا يمكن بأى حال من الأحوال قبول هذه الأغنيات على أنها مبالغات الشعراء أو المطربين , لأنها لم تكن وسيلة بل كانت هذه الأغنيات غاية فى حد ذاتها , تتم برعاية على أعلى مستويات الدولة
ولنا أن نضع بذهننا ـ ونحن نطالع أغانى الناصرية ـ ما حض عليه الإسلام من التحذير والوعيد الشديد من النفاق والمنافقين حتى أن الله عز وجل جعلهم فى الدرك الأسفل من النار ,
كذلك نستدعى للذاكرة الوعيد والنهى المتمثل فى الإسلام عن المدح فى المطلق وعن أى نوع من الإطراء , فقد جاء الإسلام محرما لكل المبالغات فى هذا الشأن ولو كانت بحق النبي عليه الصلاة والسلام نفسه , فقال عليه الصلاة والسلام
( لا تطرونى كما أطرت النصاري عيسي بن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله )
كما نهى عن المدح والتفخيم كأصل من الأصول له استثناء وذلك فى قوله عليه الصلاة والسلام لرجل بالغ فى مدح صاحبه :
( قطعت عنق صاحبك مرارا ـ أى أهلكته بهذا المدح ـ فمن كان منكم مادحا لأخيه لا محالة ـ أى للاضطرار ـ فليقل أحسب فلانا كذا والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدا )
وهذا الفكر الإسلامى الرشيد هو الذى بلغ بالأمة مبلغ العظمة , فحكم الإسلام العالم , ودانت له أقطار الأرض , ذلك أن المدح والرياء هى قاصمة الظهر لأى إنجاز
فما بالنا إن كانت هذه الأغانى ـ بكثافتها الهائلة هذى ـ تمت بلا إنجازات !
كيف يكون الحكم يا ترى ..
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
هوامش على دفتر النكسة / الشاعر نزار قباني | هند طاهر | منبر مختارات من الشتات. | 2 | 07-10-2021 12:33 AM |