قديم 10-28-2014, 11:45 PM
المشاركة 1241
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
[RIGHT][RIGHT]
والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 68- الدقلة في عراجينها البشير خريف تونس


- يعد البشير الخريف(1917-1983م) من أهم الروائيين التونسيين الذين أرسوا دعائم الرواية التونسية إلى جانب مجموعة من الروائيين الاخرين .

- ويتفرد البشير خريف عن هؤلاء الروائيين باستخدام لغة عامية خاصة ، وهي اللغة الجريدية أو لغة جنوب تونس.

- كمايتميز بكونه مؤرخا صادقا لبيئته الجريدية منذ دخول المستعمر الفرنسي إلى حين استقلال البلاد.

- هذا، وقد ترك البشير خريف مجموعة من الأعمال الإبداعيةالأدبية الشاهدة على منحاه الفني والجمالي. ومنأهم رواياته: " برق الليل"(1960م)، و" إفلاس أو حبك درباني"(1980م)، و"بلارة" (1992م)، ومجموعته القصصية: " مشموم الفل"(1971م).

- وعليه، سيظل البشير خريف من الروائيين المتميزين في تونس برؤيته الواقعية الاجتماعية،

- وسيبقى أيضا من ألمع كتاب بلده، وذلك باهتمامه الخاص بكتابة رواية الفلاحين والعمال، وتوظيفه للغة الجريدية، وتشغيل الوصف الاستقصائي التفصيلي في كثير من الأحيان، والتأنق فيه سردا وتقويما وتعقيبا.

- وكل هذا من أجل التأريخ والتوثيق التسجيلي والواقعي، وتقديم رؤية إنسانية متكاملة شاهدةعلى تطور تونس الحديثة.

- من المعروف أن السينما قد استمدت مجموعة من التقنيات من الرواية كاستفادتها من زاوية النظر التي تنبني على الرؤية السردية، وطبيعة الرؤية ،ووظائف الراوي، وطبيعة المنظور السردي ، والذي يحيل على اللقطة السينمائيةوأنواعها.

- ومن هنا، فاللقطة السينمائية ما هي في الحقيقة سوى تحوير لزاوية النظر في علم السرديات، وذلك بكل تفصلاتها الفرعية.

- ومن ثم، فنحن في حاجة إلى استعمال مصطلح اللقطات السينمائية ، وذلك لتوظيفها في ورقتناالنقدية هاته من أجل التمييز بين مجموعة من اللوحات الوصفية على ضوء المنظورالسينمائي على حد خاص.

- تعتمد اللقطة الوصفية البعيدة على التقاط المكان الموصوف من زاوية بعيدة ، وذلك لتقديم فضاءات الأحداث والشخصيات كي يتعرف عليها القارئ المتقبل، كما في هذا المقطع الروائي الذي يرصد فيه الكاتب فضاء كيفان الطين الحمراء:" كان يحث السير فجرا، وراء كيفان الطين الحمراءوهو في برنوسه الصغير يتبع المنعرجات، كأنه إجاصة تسعى، هو ذاك الطريق يلتوي صاعداإلى المواعدة حيث المرح والحنان، حيث أمه الطالق وابنة الخال ولطفها وصغرها، يتخذهالعبة، حيث العربي أخوها، الذي يستجيب له سريعا، إذا ما اعتدى عليه أحد فيالزقاق"(ص:23).

- وتحضر هذه اللقطة الوصفية ، وذلك حينما يذكر الراوي فضاءالمتلوي ، والذي كان في السابق أرضا صحراوية جدباء ، لتتحول بعد ذلك إلى أرض طافحةبالكنوز الثمينة والمعادن النفيسة، يستمتع بها المحتل الأجنبي استعماراواستغلالا.

- استرعت هذه المفازة انتباهه، وكرفت عبقريته النافذة، إن هذه الطبيعة القاحلة، المكفهرة، تضم خيرا كثيرا، فتوقف ونصب خيامه ونقب فاكتشف سمادالفوسفاط فتأسست شركة صفاقس قفصة في أواخر القرن الماضي(1886).

- وقد جاءت هذه الصورة الوصفية البصرية الراصدة عبر نظرةالكاتب البعيدة إلى الفضاء والأشياء، وذلك لتقديم إطار الأحداث

- يقصد باللقطة الوصفية العامةGénérale تصوير المكان على ضوء رؤية عامة، مع تركيز عدسة الرؤية على الشخوص الموجودة داخل هذا الفضاء ، كما هو الحال في هذا المقطع الذي ينقل فيه الكاتبمجموعة من الشخوص الروائية داخل الفضاء ، ولكن من زاوية نظر عامة وبعيدة إلى حدما.

- وهكذا، ينقل لنا الكاتب في هذه الصورة الوصفية منظرا عامايحوي الشخوص الرئيسية في الرواية

- تنقل هذه اللقطة الوصفية المتوسطةMoyenne ثلثي الجسد ، وذلك داخل إطار الرؤية الوصفية التي يستند إليها الكاتب الواصف، وهي تقابل الرؤية الشاملة التي تعتمد على تصوير الشخصية بشكل كلي.

- ومن هنا، فالكاتب يصور لنا العطراء الصغيرة، وهي تبكي على وردتها التي انتزعت منها عنوة من قبل حفصة بنت رقية.

- وينقل لنا الكاتب في هذه الصورة ثلث جسد العطراء إلى الفخذين، وذلك للتعبير عن بكائها الشديد ، وتصوير صراخها الملتهب من أجل استعادةوردتها. وتشبه هذه اللقطة المرصودة اللقطة الأمريكية، والتي تركز غالبا على نصف جسد الممثل.

- من المعلوم أن اللقطة الوصفية المقربةRapprochée أواللقطة الصدرية تنقل لنا الشخصيات من الصدر إلى الأعلى، وذلك للتركيز على الانفعالات الجسدية والنفسية سواء أكانت شعورية أم لاشعورية. ومن بين الأمثلة التي تعبر عن هذه الرؤية الصدرية المقربة اللقاء الحميمي الصادق شعوريا، والذي كان يجمع خديجة المطلقة بابنها المكي، بعد غياب أسبوعي في الزبدة مع والده وجدته الحاضنة زبيدة ، وذلك بعيدا عن والدته الحنونة الحقيقية.

- وتعبر هذه الصورة الصدرية في الحقيقة عن الصدق الأمومي،وافتقاد المكي للعطف والحنان والرأفة والشفقة ؛ وذلك بسبب غيابه الأسبوعي عن أمهالتي طلقها زوجها الزبيدي. ومنثم، فهذه اللقطة تعبير صادق عن المناحي السيكولوجية، والتي تعمل اللقطة على تجسيدهاحركة وسلوكا وتفاعلا ووجدانا.[

- ترتكز اللقطة الوصفية الكبيرةGros plan على نقل ملامح الوجه المعبرة، ورصد انطباعاته النفسية بدقة تشخيصية وتصويرية، كما في هذا المقطع الوصفي الذي يبين لنا الكاتب فيه حالة شخصية حفة بعد اختفاء العربي:" دخل حفة إلى الحوش وعلى شفتيه ابتسامة صفراء ،وقال: إنهذه نتيجة مخالفة رأيه، وانه لم يشأ أن يعطي العوض لكن قلبه رحيم، فلم يقو علىمعارضة الناس فجاراهم وعليه، فهو في حل مما يحدث.
دخلت العطراء من البويبة تنظر وتسمع فذهلت وعادت إلىالحوش اللوطاني."(ص:140).

- وترد هذه اللقطة الوصفية في موضع آخر ، وذلك لتبيان حالةعمير النفسية والثورية أثناء تأجيج نفوس العمال المضربين حقدا وغضبا:" راغ عمير مخلوع القميص مبحوح الصوت على رأسشرذمة من أولاد بويحيى وأولاد دينار والجريدية والقبائل وانتشروا في ساحة المركز،وكان يهتف ناتئ العينين أحمر الوجه في جانبي فمه رغوة وفي شفته السفلى خط أبيضجاف."(ص:249).

- هذا، وتعبر هذه الصور المقربة جدا عن الحالات النفسيةوالانفعالية الشعورية واللاشعورية ، والتي تظهر على وجوه الشخصيات بشكل جليومجسد.

- يلتجئ الكاتب إلى الاستعانة باللقطة الوصفية الكبرىZOOM / Très gros plan ، وذلك لتبئير الموصوفات والعناصر المنقولة، حيث يتم التركيز على الأشياء الدقيقة من الوجه والجسد والرجلين ، وذلك لتقريبها بشكل جيد إلى القارئ المتلقي أو الراصد المتخيل. ومن هنا، نرى الكاتب في روايته الواقعية يصف كلبا عبر هذه الرؤية ، وذلك لكي يبين شراسةالحيوان تجاه الآخرين، وشروعه في الشر للانقضاض على الصبية، بعد رجوعهم من نزهةالوادي:" اعترضهم كلب هزيل، شرير يردهم بنباحه، ويهددهمبعينيه المخضرتين المحمومتين وأنيابه المكشرة، فارتدوا إلى القنطرة ولاذت العطراءبالرجوع وظهر حمة الصالح يعدو بين النخل يتبع الريبة ويصيح على كلبه." (ص:34)

- كما يركز الكاتب بشكل مكبر جدا على يد العطراء ، وذلكللتركيز على ما تفعله الصبية بنبتة كانت بيديها، فتقطعها غضبا وحنقاوحقدا:" فقالت العطراء وهي تنظر إلى يديها وتبرم حشيشةبين أصابعها.

- وهكذا، نجد أن اللقطات الكبرى جدا في رواية البشير خريفتحدد لنا الأبعاد النفسية للشخصية الرئيسية أو الثانوية أو العابرة ، أو تعكس لنامختلف الوظائف والمسارات التصويرية لمختلف العوامل والممثلين ذهنيا ووجدانياوحركيا، وتبرز لنا أيضا ملامحها الشعورية واللاشعورية بكل وضوح وجلاء.

- يلتقط الكاتب البشير خريف العناصر الموصوفة على غرارالكتابة الإخراجية السينمائية من زوايا متنوعة، حيث يستعمل السارد اتجاهات عدة ،وذلك لالتقاط صوره الروائية الوصفية، فقد يكون اتجاه الالتقاط أفقيا أو عموديا أوسفليا أو متحركا. ويمكن توضيح ذلك من خلال الشواهد والأمثلة النصية التالية:

- تلتقط هذه الصورة الوصفية من الأسفل إلى الأعلى، ويعنيهذا أن عدسة التصوير والوصف تتجه من تحت إلى أعلى ، وذلك للتعبير عن التساميوالتحرر والاستعلاء والسيادة والتفوق، واستجلاء ماهو علوي وروحاني ، بعيدا عن عالمالبشر المحنط بالماديات كما في هذه الصورة الرمزية:" خرجت الأنثى ووقفت، وتبعها الذكر، ولبثا هنيهة،كأنهما لم يدركا ما تبدل في وضعهما، وكأنهما لم يحفلا كثيرا بما منحا من حرية، ثمأمال الذكر رأسه ونظر إلى طاقة الشباك وخفف وطار، وتبعته أنثاه وتبعتهما العطراءببصرها، فرأتهما يحلقان إلى عنان السماء، ثم يتجهان إلى سحاب أبيض سمقت إليه نخلتانمتساندتان، وأضحيا نقطتين متتاليتين، وحطا في لفافة النخل." (ص:298)
- ومن هنا، تبدو هذه اللقطة العلوية العمودية تعبير صادق عنالرغبة في التسامي، والتحرر من الكائن المادي، والتخلص من قيود الحس، وذلك نحوالفضاء العلوي المطلق.

- تعتمد اللقطة الوصفية الأفقية الثابتة على رصد الموصوفأفقيا كما في هذا الشاهد الوصفي:" حولت عينيها(العطراء) إلىزوجها(محمد الحفناوي) وقارنت، إنهما يشبهان بعضهما تماما كما تشبه البسرة الغمقة، نعم، يشبهانبعضهما، غير أن النظر لذا أذى ولذلك شفاء، ذلك له عينان وأنف وفم، وذا له عينانوأنف وفم، كل رقبته وشعره، لكن شتان بين الرخمة والطير البرني. وعادت تنظر إلى الشاب، فتخيلت أنها تغسلبصرها." (ص:305).

- وهكذا، يتسم اتجاه الإدراك في هذه الصورة الوصفية بكونهاتجاها أفقيا ثابتا يقوم على النظرة المواجهة.

- المقصود بهذه الصورة التقاط العناصر الموصوفة من عدسةتصويرية موجهة إلى الأسفل ، وغالبا ما يكون الغرض من هذه النظرة الوصفية التعبير عنالضعف والانكسار والانسحاق والانهيار، كما في هذه الصورة الخرافية التي تناجي فيهاالبنات فرعون المنكسر توسلا واستغاثة ، وذلك لمساعدتهن على إضفاء الجمال عليهن، وإنكانت هذه الصورة تحمل في طياتها مؤشرات جاهلية ووثنية قديمة العهد.

من مقال بقلم : الدكتور جميل حمداوي

قديم 11-01-2014, 02:32 PM
المشاركة 1242
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع

والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 68- الدقلة في عراجينها البشير خريف تونس

- ولد البشير خريف بنفطة، دراسته مزدوجة بالخلدونية يعمل مدرساً وهو من ألمع أدباء تونس ورائد الفن الروائي فيها، كتاباته تنوعات شتى في معنى الحرية.

- يطرح الكاتب في هذه الرواية "الدقلة في عراجينها" مسألة الأرض كينبوع للمأساة الإجتماعية ويتبعها بطابع تسجيلي انتقادي بمعنى أن عديداً من الشرائح الاجتماعية تتعرض لاستغلال الإقطاع ومن هنا جاءت الرؤية الاجتماعية لدى الكاتب رهينة مفهوم الإطار الفكري المتكيء على الانتساب الحزبي والإيديولوجي الماركسي كمعين اشتهر ذلك الوقت، لحل المعضلات وتجاوز الأزمات وتذليل العراقيل والمعوقات، كما امتزج بخليط من المؤثرات الأجنبية وتتجلى لنا ملامح هذه الرؤية معاً كلما أوغلنا في عالمها الفسيح خطوة خطوة..والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 68- الدقلة في عراجينها البشير خريف تونس.

- تمتد حدود الزمان الحدثي في الرواية على مساحة زمنية واسعة جداً تتخللها ثغرات زمنية كثيرة مما يجعل عملية متابعة الخط الزمني تقريبية، يبدو مرة ساطعاً دقيقاً محدداً ويختفي مرات أخرى فلا يكاد يبين، ثم يقفز قفزات زمنية واسعة لا تذكر فيها أية أحداث ، ليأتي فجأة على أيام قليلة فيشحنها بالأحداث والوقائع الكثيرة وهكذا دواليك.

- فأحداث الرواية تنطلق في عيد المايّو أي الرابع عشر من شهر ماي وهو عيد قومي لفرنسا"1"، ومع هذا العيد يكون عمر العطراء، ثماني سنوات "2"، وتبدأ الوقائع مع هذه الاحتفالات منتقلة إلى فصل الصيف وفصل الخريف وفصل الشتاء وفصل الربيع، تدور مع الفصول، لتصل الوقائع إلى نهاية الرواية عندما يشير الراوي أن عمر العطراء بلغ الثامنة والعشرين "3"، وقد كان عمرها ثماني سنوات، أي تضاف مدة عشرين سنة مضافاً إليها زمن تقريبي عبر عنه الراوي "وبعد أشهر" أي من رجوع العطراء من العلاج في صفاقص قام الحفناوي وتزوج امرأة ثانية، واستمرت الأمور على هذه الحال حتى وضعت له المرأة الجديدة ولداً، "وانصرف يعجب بوليد وضعته امرأته الجديدة، قالوا إنه كفلقة البدر" "5" ثم مرضت العطراء وتوفيت "6" أي حوالي سنة تقريباً بما فيها فترة الحمل وأشهر الإنتظار، وهكذا يقدر الزمن الحدثي في الرواية بواحد وعشرين سنة تقريباً، بما فيه من ثغرات زمنية كثيرة، ويلاحظ أن الراوي يذكر تاريخ الاضراب الذي قام به العمال التونسيون في معمل الفوسفاط في المتلوي وبقيادة الدبنجق قائلاً: وقع الاضراب في نوفمبر ، مما يدفع إلى الإعتقاد أن الوقائع التاريخية لهذه الأحداث جرت في هذه الفترة بين الحربين العالميتين، حيث كانت فرنسا متواجدة في المغرب العربي بما فيه تونس.

- رغم أن الرواية كتبت في الستينيات "*" فهي تعالج أحداث تاريخية ماضية مما يجعلها نظرة نقدية متأخرة للواقع الإجتماعي التونسي، تنتشر هذه الوقائع على بساط مكاني محدد في بلاد الجريد، وهي آخر نقطة في الجنوب الغربي في تونس "8" وبالضبط في نفطة التي يسكنها البطلان المكي والعطراء، ثم قرية المتلوي "9" التي تبعد بثمانين كيلومتراً شمال نفطة، وبجوارها قرية فليب طوما "10" حيث مصنع الفوسفات "11" ثم إلى السجن "12" وإلى صفاقص "13"عولجت العطراء، ثم العودة إلى نقطة في نهاية الرواية .

- يتصدر دور البطولة في رواية الدقلة في عراجينها للبشير خريف، كل من المكي بن علي الزبيدي والعطراء بنت المولدي، في إثر خلاف بين خديجة أم المكي مع زوجها بخصوص شراء خلخال ذهبي لها، لطالما وعدها به، ولكنها اكتشفت أن الخلخال كان مغشوشاً، مما أدى إلى سوء علاقتها مع زوجها، فرجعت إلى بيت أخيها المولدي وأخبرت عبد الحفيظ أخاها الأكبر، الذي كان له خلاف مع علي الزبيدي الذي جاءه ليسترد زوجته ولكنه رفض، وهكذا سارت وضعيتها إلى الطلاق حتماً رغم أن خديجة ندمت ندماً شديداً، وأرادت في مرات متتالية أن تعود إلى زوجها، لكنها منحتْ أرضها إلى أخيها "حفة" ولذلك رفض علي الزبيدي، ومع ذلك لم تيأس وظلت تحاول الرجوع رغم أن الزبيدي تزوج بامرأة أخرى، وطوال هذه المدة بقي البطل المكي يزور أمه وأخواله كل خميس وجمعة، وكان يلتقي بابنة خاله المولدي، العطراء ويلعب معها الأرجوحة، ويلعب مع العربي، لكن لم تدم الحال وبسرعة غير متوقعة مرض المولدي فتوفى، وبعده بأيام قليلة وتحت وقع هذه الصدمة تتوفى زوجته تبرْ، وتترك أبناءها لرعاية خديجة.

- وينشأ المكي مع العطراء زمناً غير قصير تنمو فيه الذكريات وتزداد أواصر المحبة وثوقاً، و لا يستمر هذا الصفا، حتى يعاود الزمن بضرباته، ويحتد النزاع بين حفّة الذي يمنع أخته خديجة من الرجوع إلى بيت زوجها علي الزبيدي، ويرفع عليه قضايا في المحكمة ويخرج له المنفذ، لاحتجاز حقوق خديجة، لكن خديجة تريد الرجوع، ويسوء حالها فتصاب بمرض خطير وتتوفى، عندها يفترق شمل هذه الأسرة فيسافر المكي والعربي ينخرط في الجيش الفرنسي، أما المكي فينتقل إلى العمل في معمل الفوسفاط، في المتلوي في صفاقص، ويناضل هناك كثيراً مع زملائه العمال وينال رضى "لاكاز" و"بواسييه" مسؤولي المصنع، كما أعجب به العمال العرب وخاصة كبيرهم الدبنجق الذي وصف المكي بأنه مخ ومفكر بالنسبة لباقي العمال خصوصاً وأنه متعلم، وهكذا قام بالتعاون مع الدبنجق وعبد الناصر وآخرين بتعليم العمال القراءة والكتابة، وتوعيتهم بحقوقهم، وتجنيدهم في الإضراب الذي استمر أسبوعاً كاملاً كما وقعت مواجهات مع الفرنسيين خلفت كثيراً من الضحايا وسجن من سجن وفرّ من فرّ.

- ثم يمرض المكي ويطول به المرض فيفصل عن العمل ويرجع إلى بلده في نفطة، يتفق مع حفّة على زواجه من العطراء ولكن يموت في مرضه، فتتزوج العطراء مع الحفناوي ابن حفة، وبعد شهرين تمرض بضرسها فيأخذها إلى صفاقص للعلاج، وعند العودة يركبان القطار لكن مؤامرة تدبر لهما فينزل الحفناوي وينطلق القطار، فيصل إلى قفصة، ويبيت الحفناوي بعيداً عن زوجته، وهنا تأتي امرأة مومس اسمها غرسة فتأخذ معها العطراء وهي امرأة لم تخرج أبداً من قريتها، ولم تسافر، وبطرق شيطانية تحتم عليها ما ترفضه وينتهك جلول عرضها وفي الصباح يرجعونها إلى المحطة، فيصل زوجها، ويأخذها إلى بلده نفطة دون أن تبوح له بشيء، وكان ذلك سبب انحلال علاقتها مع زوجها الحفناوي فيتزوج عليها وتمرض فتموت.

- تنتقد الرواية موضوع ملكية الأرض وحب الاستيلاء عليها من طرف عبد الحفيظ، الذي يملك منها مساحات معتبرة، إلا أنه ظلّ يتطلع إلى أخذ المزيد منها من أصحابها الفلاحين، وهو ما حدث فعلاً عندما جاءت سنون عجاف فاشترى أراضي الفلاحين، المعوزين بثمن بخس، واستعان في عملية الشراء بأموال أخيه المولدي، الذي كان يرسلها له من المهجر، ولكنه في النهاية قيد كل شيء باسمه، وحرم أخاه من حقوقه فأصبحت شخصية عبد الحفيظ تمثل شخصية الإقطاعي في الرواية.

- لذلك اشتد النزاع بينه وبين صهره علي الزبيدي الذي يملك أراض مجاورة له خاصة عندما وقع خلاف بين خديجة وعلي الزبيدي زوجها، لأنه وعدها أن يشتري لها خلخالاً ذهبياً، وهكذا استغل عبد الحفيظ هذا الموقف لتوسيع أراضيه أكثر، بحصوله على نصيب أخته خديجة، ورفض أن يرجعها إلى علي الزبيدي، لكن خديجة ندمت كثيراً على هذا الخلاف الذي استغله عبد الحفيظ، وحاولت طول حياتها الرجوع إلى زوجها لكن عبد الحفيظ أخذ منها أرضها، ولذلك رفض علي الزبيدي ارجاعها بدون أرض، وتزوج بامرأة ثانية وقام عبد الحفيظ بتعقيد الموقف بشكل نهائي، فرفع قضايا في المحكمة ضد علي الزبيدي باسم خديجة وهي رافضة، وتمرض خديجة مرضها الأخير وتدعو بالانتقام من عبد الحفيظ وتتوفى، ومع وفاتها ترجع حقوق الأراضي إلى علي الزبيدي بسبب أبنائها، ولا تتوقف خصومة الأرض عند مأساة خديجة مع زوجها علي الزبيدي، بل تصبح المأساة متوارثة مع إرث الأرض، فعندما يقوم بطل الرواية المكي في نهاية مشواره الذي مرض فيه بخطبة العطراء ابنة خاله المولدي، التي كان يحبها وكانت تحبه ويضغط عليه عبد الحفيظ بأن يتنازل عن خصومة الأرض مقابل زواجه بالعطراء فيوافق ولكن طرفاً آخر يجدد النزاع وهو العروسي أخوه من أبيه، الذي يرفض زواجه من العطراء، مخافة أن يتوفى وهو مريض فترث العطراء من أرضه وتصير في صف عائلة عبد الحفيظ، ويجتهد في بث المشاكل، ونشر العراقيل لأخيه المكي حتى يحول الموت بينه وبين زواجه من حبيبته.

- إن هذه النقاط المرجعية في الرواية ترتبط جميعاً بفكرة الصراع سواء من أجل الأرض وتوسيع الملكية كما يفعل عبد الحفيظ أو من أجل الحق والعدالة، حينما يدافع العمال عن حقوقهم، والمطالبة بالزيادة في الأجور والمساواة مع العمال الفرنسيين، الذين يشتغلون معهم في معمل الفوسفاط في الأجور والحقوق،

- ومهما يكن الصراع وصوره وأشكاله فهو ضد الظلم، سواء كان هذا الظلم من كبار ملاك الأراضي مثل عبد الحفيظ الذي أخذ أراضي الفلاحين المعوزين، فانتقلوا إلى معمل الفوسفاط، ليواجهوا ظلماً جديداً في عدم المساواة وهضم الحقوق والمس بالكرامة الإنسانية، فكأن الرواية أرادت أن تسوي بين كبير ملاك الأراضي والقوة الإستعمارية فكلاهما يأخذ الأرض ويمارس الظلم، ومن ثم وجب انتقادهما معاً على حد سواء، إلا أننا نلاحظ أن شخصية العربي أخا العطراء وصديق البطل المكي، يأتي من التجنيد في نهاية الرواية فيجد المكي قد توفى دون أن يتزوج بالعطراء وهي حلم حياته، فيكشف ما يسميه مكائد الشيوخ أو مذهب الشيوخ، وهكذا يحتفظ عبد الحفيظ بالعطراء لابنه الحفناوي ولا يظهر هذا الأمر إلا فجأة عندما يتوفى المكي مريضاً، لكن لا يسعد بها عندما تقوم العطراء فتنتقم لنفسها ولحبيبها وعلى طريقتها هي خلال سفرها إلى صفاقص.

-تندرج رواية "الدقلة في عراجينها" للبشير خريف ضمن الرؤية غير المحدودة، وفي نمط الرؤية التي يمتلك فيها الراوي جميع فرص القص باعتباره أكبر من الشخصية في العلم

- فالراوي يروي هنا بصيغة ضمير الغائب المفرد عن البطل المكي وباقي الشخوص الروائية، فهذه العطراء تستيقظ من النوم يروي عنها الراوي بصيغة ضمير الغائب "العطراء"، العطراء، خرجت بنية في الثامنة من عمرها، ما تزال في بذلة نومها، تُميلُ رأسها وتعشش عينيها لتبصر بابن عمتها" "26".

- ويقرأ الراوي ما يدور في نفس خديجة من تساؤلات وحيرة بعد طلاقها ومحاولتها الرجوع إلى زوجها علي الزبيدي، وخوفها من أخيها عبد الحفيظ الذي يرفض ارجاعها "بقيت تتساءل" لعل الحق معه؟ فنظره خير من نظرها، له الفضل والشكر لم تجد في نفسها أية ثقة، لو يتركها، وقد فارقها زوجها، ومات أخوها الصديق، فهل تقدر على المسك بزمام مصيرها؟ ألا تذهب حياتها أدراج الرياح؟...."27" فالراوي يسرد الأحداث بصيغة الضمير المفرد الغائب، ويقرأ ما في نفس الشخوص من تساؤلات لا تصرح بها، وهذا يمثل إحاطة الراوي الذي أصبح عالماً بما يخص الشخوص ويتعلق بها.

- يستعمل الراوي تقنية التهيئة لما سيحدث من أحداث سعيدة أو غيرها ويمهد لحصولها، فهذه العطراء تنظر إلى طائر صغير في السماء وتسأله عن حبيبها المكي الذي رحل ولم يعد، فكأنها تتنبأ بعدم رجوع حبيبها إليها، وهو ما يحدث بالفعل في باقي أحداث الرواية، تغني العطراء أغنية رائعة في ذلك الزمان.

- ومعلوم أن العطراء لا تلتقي بعد ذلك بحبيبها المكي إلا خفية في الليل عندما يتسلق جدار ممنزلها وتقدم له السلم للنزول، لأن عبد الحفيظ كان يرفض أي لقاء بينهما رغم أن المكي خطبها من أخيها العربي، ووظف الراوي التلميح لما سيحدث إلى جانب التنبؤ عندما توفى المولدي وتبر، وتركا أبناءهما العطراء ، والعربي في رعاية خديجة إلى جانب ولدها المكي.

- تهدد خديجة ولدها الوحيد المكي أنها ستموت إن تمادى في احتكارها على حساب العطراء وبالفعل لا تعيش هذه الشخصية أحداثاً كثيرة إذ قارب دورها على النهاية، حتى تمرض فجأة وتموت "وهددته إن هو تمادى على احتكارها، تموت هي أيضاً فتلتحق بالمولدي وتبر هناك في الصورة فيبقى حقيقة بلا أم.... فلقد رأت الموت يعمل وجاش قلبها إشفاقاً وحناناً."29"

- كما اتخذ السرد وسيلة جديدة للتلميح لما سيحدث من وقائع في الرواية، وهي الدعاء فبعد وفاة المكي وزواج العطراء من الحفناوي تدعو الله أن يمكنها من زيارة المدينة والتفرج عليها وعلى العباد فيها "ناجت ربها، ربّ يقولون إنك على كل شيء قدير، وأنا نؤمن بهذا، رب انظر لمخلوقتك العطراء نطلب المستحيل وما هو ما فش المستحيل في حقك، رب مخلوقتك العطراء، ع نطلبك تطلب مشية للمدينة أيه مشية هكاكه نشوف ونتفرج على العباد وعلى الدنيا... فقد استمع الله إليها."30".

- ويتخذ السرد شكل التقرير، حيث يقرر الراوي معلومات لا تناقش بخصوص مسألة ما، يقرر الراوي الصفة التي تكون عليها علاقة المرأة بالرجل فيقول: "والمرأة من ناحيتها تعيش مع زوجها عيشة الريبة وعدم الإطمئنان، عيشة عدو مغلوب، فلاتدع فرصة إلا سرقته ولا غفلة إلا سحرته، ولا مناسبة إلا أضعفته لكي لا يتخذ عليها ضرة"31" وأورد الراوي تقنية الحلم في السرد ليضفي عليه جانباً مأساوياً وليلمح لما سيقع من أحداث، ينام المكي فيرى أمه خديجة في الحلم تبتسم له وتصلح بينه وبين العطراء، رغم أن خاله حفّة طرده من البيت، "وضع رأسه على حجر ونام. رأى أمه كأحسن ماعرفها صحة وابتساماً وطيبة، تصلح بينه وبين العطراء، وجد نفسه يشكو وهي تهدهده وتضحك من جزعه حتى فهم أن المسألة لا تستدعي كل هذا فاستحى مما به، انتبه فسقط في واقعه"32". واستخدم الراوي تقنية استبدال القص أو التواتر في القص بحيث يحكي عن موضوعين بالتناوب، وهكذا يحكي عن وقائع ليلة العطراء"33" ثم يوقف القص ويحكي عن وقائع أخرى هي زواج الحفناوي بامرأة أخرى "34"، ثم يرجع إلى إكمال تفاصيل ليلة العطراء "35" وهكذا.

- يلاحظ قلة مساحات الحوار بالنسبة لمساحات السرد الطويلة، التي طغت على معظم أجزاء الرواية، وحتى في فقرات الحوار القليلة تحاصرها التعاليق وتعقبها التفاسير المطولة، فأثناء الإضراب الذي يقوم به العمال في معمل الفوسفاط، تجري تساؤلات عن الجحشة التي قاطعت الاضراب يقول الراوي: أصبحت القرية في موكب مشطور خرج العملة للأخبار مهتاجي العواطف متوتري الأعصاب، السوق حافل كأنه الموسم، الأخير

- طرق الأنفاق خالية، والقطار الذي ينقل العملة إلى الوصيف ينفخ وحده " "36"، فالحوار يجري بين أشخاص مجهولة من العمال ، وهو موجه إلى السامع، ولا يتوقف السرد عن أن يكون خلفية أساسية، يبنى عليها الحوار، ليكون هو الغالب في مساحة الرواية برمتها، وتأتي فقرات الحوار ثانوية فيها، ويأتي الراوي عنصراً ثالثاً في الحوار بما يقدمه من شروح وتعاليق.

- وهناك الحوار الداخلي أي المونولوج الذي يجريه البطل المكي مع نفسه بعد عشائه عند "لادت عبد القادر " وحديثه المطول مع خضراء وكانت متحجبة فإذا المكي يحاور نفسه، ويقارن بين الخضراء والعطراء وأرليت الإيطالية يقول مخاطباً نفسه: "الحمد لله هذا الوجه الذي تقتصدين في ابدائه، فعليك الأمان لو تبدين عارية من رأسك إلى أخمص رجليك، فإن لي دونك منشعلاً، تعلمين بعضه فما قولك في العطراء؟ تلك في البلد وأما هنا يا ليتك ترين أرليت، إذن فلا تتوهمين أن شفتك المرفوعة خطراً علي."37".

- وزين الراوي الحوار بأبيات من الشعر الشعبي باللسان الدارج، فعندما يسهر العمال في الكوخ يصيح سليمان أن هذه الليلة مبروكة وهم كلهم يتراقصون، "-أو الله ليلة مبروكة هذه: نظر إليهم الدبنجق وطرشق تصفيقة وركز قدمه ورفع رأسه وترنم.
خرج القوم غناء وتصفيقاً ورقصاً على رجل واحدة كمثل الرقص الروسي..

- يسجل أن الراوي استعمل اللغة الدارجة كما لاحظنا وعلى نطاق واسع مما ترك آثار المحلية وطابع البيئة الواقعي واضحاً، وجاء الحوار في عمومه موجهاً إلى السامع وليس إلى المشاهد.

- يسجل أن الراوي استخدم أنواع من الوصف منها الإيحاء عن طريق الوصف التشبيهي، فيصف شيئاً ثم يشير إلى وصف وقائع تشبهه، حيث يصف الراوي علاقة ثنائي من الحمام يتبادلان الحب ثم يصف المكي والعطراء يتحدثان منفردين بينما المكي يصفف لها شعرها"

- فكأن الراوي يوحي لنا بأن زوج الحمام يتساقى الحب، مثلما يفعل البطل المكي مع العطراء إذ يرتب لها شعرها ويحادثها، فتعدت علاقة الوصف من رسم لوحات فنية ومشاهد مثيرة إلى تشبيه لوحة بلوحة ومشهد بمشهد عن طريق الإيحاء والتلميح.

- ويقدم لنا الوصف للأشياء لوحات جميلة إنه وصف للمدرسة الفرنسية، وما توحيه هذه اللوحة من مؤثرات أجنبية وشدة انضباط وجمال المدرسة بمرافقها، وكان المكي تعلم القرآن في الجامع حتى أصبح قادراً على إقامة صلاة التراويح بالمصلين في رمضان، وها هو يدخل الآن هذه المدرسة الفرنسية يقول الراوي:"أرض ساحة الكوليج حصباء دقيقة، وجدرانها نظيفة البناء، مستقيمة الأركان، ملساء يكسوها نبات متسلق، تعج بالتلاميذ، وفي وسط الساحة السادة المعلمون يحيطون بالمسيو لافو مدير المكتب"40"

- ولما دخل المكي القسم الدراسي انبهر به وأحب اللغة الفرنسية، وأصبح غالب كلامه بها" أراه مقعداً، فجلس وكتّف يديه، ينظر إلى النوافذ والصور التي بينها ويتصور نفسه في المتلوي، بلد الحضارة، ولما عاد منه، يومه الأول صاح من السقيفة:" مانج لادات، أي أكل التمر، وأصبح غالباً كلامه بالفرنسية "41" فالمدرسة الفرنسية ضمنت جمالها ودقة بنائها ونظامها في اللوحة الفنية، كما ضمنت تأثيرها المتغلغل في النفوس حيث أصبح المكي يدير غالب كلامه باللغة الفرنسية بعد رجوعه إلى بلدته نفطة.

- يقدم لنا الراوي وصفاً دقيقاً لعمليات تصفية معدن الفوسفاط وإعداده للصناعة، يتفرج عليها المكي والعربي بعد أن سمح لهم مسؤول المصنع بذلك، يتفرجان على معدن الفوسفاط وهو يصل إلى المصنع وكيف يعالج "يؤتى به في عربات على السكة بعد اقتلاعه من الجبل مخلوطاً بالتربة والحجارة، فينكب في قمعٍ واسع يسميه العملة "الدريبة " ثم تحمله سلسلة من القواديس تصبه قليلاً قليلاً بين عجلتين تسحقانه وتسلمانه ناعماً إلى البساط الساري، فيحمله ويسكبه في غربال هناك يبخ عليه من فوهتين تيار ماء فيغسله، فينزل الوسخ والحصال إلى أسفل، ويدفع بالفوسفاط صافياً في ثقب الغربال فيقع في البساط فينزل به إلى حيث تقطر عليه عقاقير كيميائية، كمثل القطران ويخضه لولب حتى يختلط بالسواء وتستمر رحلته إلى برمة في حجم أربع قاطرات يسمونها" الحماصة" يتقد في جوفها أتون تبلغ حرارته ثمانمائة درجة قد أبيض جمره الحجري وتراقصت فيه زيقات تأخذ بالبصر، فيجف، ثم يصعد به البساط إلى مستودع فيتكوم جبلاً سحابي اللون ناعماً وتمر من تحته العربات فارغة"42".ويسجل أن الوصف الذي اختلط مع السرد رسم لوحات رائعة، زينت ثنايا الرواية، وأعطتها نكهة خاصة ومذاقاً عذباً، ينقل الواقع بكل فعالياته وطبيعته، ونقل لنا الوصف المؤثرات الغربية على البيئة العربية التونسية وما خلفته من "كوليج" أي مدرسة ومعمل عصري للفوسفاط تتبع الوصف عمليات تحويل المعدن فيه.

قديم 11-01-2014, 05:32 PM
المشاركة 1243
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وإلان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 69- النخاس صلاح الدين بوجاه تونس

- صدرت عن دار الحوار في اللاذقية الطبعة الأولى من روايةالنخاس للكاتب التونسي صلاح الدين بوجاه وهي تتألف من مجموعة فصول وتقع في 220 صفحة من القطع المتوسط.

- في روايته الجديدة يجمع بوجاه صور الحلم، من خلال الانفتاح على الاساليب السردية الروائيةالقادمة من التراث العربي ،و لاسيما تراث الف ليلة وليلة.

- ففي الرواية الواحدة تتداخل الاحداث والحكايات لتطرح اسئلة وافرة وذكية ومثيرة يمكن ادراجها كموقف حياتي وجمالي وثقافي، يساعد على الاستمرار في الحياة الراهنة رغم كل الغربة والمرارة والانكسارالذي يلف الواقع اليومي المصاب بلعنة الحروب المتواصلة والمتفتجرة دون مبالاة.

- جاء في الكلمة المنشورة على الصفحة الاخيرة: ليست النخاسة في هذه الرواية بيع الرقيق،بل ولوج حياة الآخرين، وشرح صدورهم والنظر في دخيلة امرهم ومكنون صمتهم، ثم رتق وجودهم الغبي الصامت المنكفيء على مافيه.

- والنخاسة ايضاً كما تجلوها هذه الرواية هي،تجارة اسرار وفيض خوارق حكايات واحداث مما ترك إلاولون، وقائع واوهام، وبالتالي فالنخاس هو الرحالة الذي لايستقر ،والشاعر نخاس وهم وهو يرسل الظاهر على الباطن والباطن على الظاهر ويدرك الجهر بالسر،و النحات نخاس صخر وطين،والنخاس ايضاً هو كل من اقبل ذهنه او يده على تحويل الشيء من حالة الى اخرى.

-بهذا المفهوم ينسج الكاتب الحكايات التي ترسم حيوات واحداث سفر المسافرين في السفينة من تونس الى ايطاليا،حيث تشتبك اسئلة الشمال والجنوب ،ووعي الذات والعالم، والطبيعة والروح والجسد والكتابة.

- وحيث يتلاقى فن التوريق (الارابيسك) والتاريخ والتراث السردي، كما تتلامح الف ليلة وليلة في مغامرة جديدة وفاتنة من مغامرات صلاح الدين بوجاه الابداعية.‏

- تدور الأحداث فى رواية " النخّاس " على ظهر السفينة الايطالية " الكابو – بلا " حيث يسافر الكاتب الأديب " تاج الدين فرحات " سندباد القيروان وأديبها، والحالم بأوراق العمر، والعاشق لرائحة الورق والحبر والجلد، والباحث عن الحقيقة المضنية، والذى يعالج الكتابة ويعشق الخلوة ويطيل السهر ويمنى نفسه بجائزة حياته الأدبية . يسافر من مدينته القيروان إلى جنوا آملا الحصول على مبتغاه .

- وفى الطريق تبدو السفينة وكأنها مثقلة بالأسرار وحافلة بالغرائب ومليئة بشخوص وإن بدت قليلة على ظهر السفينة إلا إن وجودها وسط هذه البحر الغامض المتلاطم رمز إلى الحياة باستيهاماتها ومواطن الضعف فيها والقوة .

- ويتجول تاج الدين داخل هذا العالم الملغز العائم فوق المتوسط باحثا ومنقبا، فيصطدم أول ما يصطدم بالمرأة حين دخل المرقص وجدها أمامه عفية باهرة : " لبث برهة منجذبا مثل مريد فى الحضرة، ثم أخذ يدنو من المرقص .

- رآها .. أنثى سمراء رائقة تهتز، تسطو على لهفة الرجال المتوثبين، تثير صلف النساء، تدعو، ترتد إلى ذاتها، وعيناها جمرتان " (7) .

- ولأن لعبة المعرفة كانت لعبته المفضلة فقد إنجذب ناحيتها، وبدأ فى قراءتها قراءة متأنية عله يصل من خلالها إلى ما يشفى غليله أو يرضى بواعث فضوله : " لعبة المعرفة والألم تغويه، تثير فطنته وغباءه وتشحذ جنونه، وهذه الراقصة يعرفها، هل صادفها فى بعض مغاور الرهبان فى جبال كريت، أم سقته لبنا أبيض فى بعض مغاور مضارب الرحل فى الصحراء الليبية، أم أمسكت يوما بذراعه فى صلف رومانى وقادته إلى والدها ليبارك بعض انتصاراتهما المتبادلة فوق هذه الأرض أو تلك ! " (8) .

- وللمرأة مع تاج الدين فرحات جولات وصولات، فالذى علمته " النخّاسة " كانت امرأة اسبانيولية من بائعات الحرير و " الدنتيل " ومشابك الصدف، تعرف عليها فداورته وتركته تائها فى خضم الحياة بعد أن ألجمته معنى النخّاسة وبواطن أمورها، كما سبق له أن تعرف على امرأة فى صباه كانت تسكن بيتا واطئا من بيوت نهج خلف الجامع الكبير، علمته فنون الغنج والمداورة، وكانت تهتف له قائلة وهى تتثنى راقصة فى " : أطوار حياتنا هذه، ألا ترى الدنيا بيتا مرصودا كالمتاهة داخله مفقود والخارج منه مولود ؟ ". (9) .

- إن هذه المتاهة التى حدثتها عنه هذه المرأة تشبه إلى حد كبير " متاهة بورخيس " حيث تتوالد حكاياتها وتتناسل خرافاتها وأوهامها وملاحمها وكأن بينها وبين " نخّاس " النص تماثلا وتقابلا فى المعنى والمبنى، وكان للنساء فى نفسه مكانة لا تبارى جاء ذلك من خلال وصفه للفتاة " لورا " أبنة القبطان " غابريللو " ضمن الذين وصفوا فتنتها وجمالها، عندما مرت أمامهم لتنزل القارب إلى الماء ولعل ذلك كان هو المعبر عما يجيش به صدره نحو هذه الفاتنة اللعوب ونحو كل النساء اللائى على شاكلتها : " ليس الخبر مثل العيان ! صغيرتى بيضاء حبيبة رائقة مثل مرجان الخرافة، شعرها من ذهب الحكايات القديمة، وعيناها مثل يمامتين على حافة الجدول . ليس الخبر مثل العيان ! خدّاها مرسلان فى زعفران المدى ولبن الأنهار المعبقة، حبيبتى صغيرة لدنة مطواع، وليس الخبر مثل العيان ! فاذا ما وضعت أفضل ثيابها وهى تتهيأ للخروج مساء فى العاصفة والنوء، مضى عطرها يفوح كالسيف، فالعاصفة تجعله أقوى وأكثر نفاذا، والعاصفة تشحذ غلمة الأنف، وليس الخبر كالعيان ! " (10) .

- ويبدأ الصدام الحتمى بين " النخّاس " تاج الدين فرحات وبقية شخوص النص على ظهر السفينة خاصة القبطان " غابريلو كافينالى " هذا الرجل العجائبى المخاتل الذى ترك مهنة طب الأسنان وتعلم فنون البحر والمخاتلة والسحر والشعوذة ، وأبنته لورا الفتاة اللعوب التى تحاول بشتى الطرق فك الألغاز التى تحيط بالسفينة خاصة ما كان يخبئه أبيها فى غرفة القيادة وغرفة المومياء المحنطة والغرف السبعة الأخرى المغلقة على أسرارها، وعبدون القبايلى تاجر الحرير، والأمير عبد الله الغريب، وشريفة الزواغى القيروانية التى هى فى الأصل الجارة " زينب " التى كانت تجاور أبو محمد عبد الوهاب والتى نبشت تابوت المومياء وأغوت خدم المطبخ داخل السفينة، والتى كان يحوم حولها الأمير عبد الله الغريب، كذلك جرجس القبطى، والناصر التيجانى جزار السفينة، والراقصة لولا الفاسية التى ولدت بفاس وعاشت فى باريس وتزوجت قبرصيا من الإسكندرية .

- وتتوالى الفصول والحكايات مع نسيج النص وكأننا مع شهرزاد فى ألف ليلة وليلة تعمل فينا عملها الحكائى المثير للدهشة والأبهار . فى لغة لها من قوة المفردات وتأثيرها التراثى الفعال ما يعّول على قوة الشكل السردى مما يجعل أصالة المعنى يمتزج بنسيج حداثة الفن الروائى ليكّونا لنا كما قال الشاعر منصف الوهايبى فى مقدمة الرواية نصا معقدا معنى ومبنى : " هذا النص متراكبا مبنى ومعنى ومغنى يصنعه صاحبه، مؤلفا وساردا . وقد يتلاشى الصنيعان حتى ليستعصى تمييز الفروق الدقيقة بينهما ... أو إظهار ثوابت فعل كل منهما " (11) .

- فما يكاد الفصل يثير فينا غريزة البحث والإثارة والترقب حتى ننتقل إلى فصل جديد يبدأ بحكاية أخرى تاركة أيانا مع الفصل الأول فى حيرة من أمرنا، لا نكاد نفرغ من الأثارة والتشويق فى موضع من النص حتى نفاجأ بمعالم جديدة وشخوص أخرى غريبة، ونسيج سردى يحمل داخله أمرا جديدا محيرا .

- وهى سمات البنية التراثية التى تواجدت فى العديد من النصوص القديمة ذات الأبعاد الشعبية والصوفية والتى استحضرها الكاتب ليضئ بها معالم الطريق السردى داخل هذا النص .

- وهو فى حكاياته المتواترة يعتمد على العديد من الفصول المهيئة لتحميلها بحكايات الشخوص والمواقف والصعاب والأهوال التى قابلتها شخصيات النص عبر مواقفها المختلفة واللعنات التى صاحبت شخصيات تاج الدين فرحات والقبطان ولورا وارتطامهم ببعض فى أكثر من موقف ، وموقف البحر وعواصفه وسمك القرش الذى كان مصاحبا للسفينة فى سيرها مما كان يثير الكثير من التساؤلات الغريبة، وطير النوء ودلالات تواجدها فى محيط المكان دائما وسيرها تجاه وجهة السفينة ، والفهرست الأول الموضوع لأخبار النخاسين من المحدثين والغابرين ممن عرفوا طريق الماء والبحر، ومواقف تاج الدين المتلصصة وسرقة أدواته ومخطوطاته منه ثم عثوره عليها مرة أخرى، وكثير من المواقف التى تعرضت لها الشخصيات ، وقد لخص الكاتب فى نهاية النص هذه المطاردات التى مرت بكل الشخصيات فى مواقفها مع نفسها وتجاه الآخرين معبرا بذلك عن مضمون النص ومعادله الموضوعى : " مطاردات جمة تنشأ داخل المركب وخارجه : " لورا " تطارد والدها التائه المقبل على الهلاك، تاج الدين يطارد مخطوطات رواياته وكشاكيله ومسودات فهارسه التى اختلسها غابريال يوم كان مولعا بأخبار الوهم وحكايات الغابرين، المسافرون يطاردون تاج الدين بحثا عما تحويه مصنفاته من حكمة يمكن أن تنير سبيل الضارب هذا الماء المعتق فى متاهة ضياع ليس لها قاع، طير البحر يطارد القرش، والقرش يطارد سمك " الاربيان " الصغيرة اللامعة ! الكواكب السيارة بعضها يطارد البعض، وقليلها يغوى كثيرها، وشرها يكافئ خيرها، ومخالبها تنشب فى اطرافها، وقديمها يدرك محدثها ... ! " (12) .

- لقد كان واحد من هذه الشخصيات المطاردة والمطارده يحاول أن يجلو موقف أو يثير فضول شئ ما هو مغرم به وهو معنى قريب من معنى " النخّاسة " إن لم تكن هى النخّاسة الحقيقة فى هذا النص الذى اعتمد على الغرائبية فى المضمون والبطولة فى اللغة والتجريب فى الشكل الحداثى للرواية .

- ولا شك أن البناء الفنى للنص والمتحلق حول اللغة التى استخدمها الكاتب يكاد يتكأ
69- النخاس صلاح الدين بوجاه تونس مجنون معرفة ، إنها تلك المعرفة التى تطوحنى بعيدا فى ذهن الآخرين أو فى أجسادهم .

-ولعل " الغرفة السابعة " التى جاء ذكرها فى الرواية كانت هى الكتب والنساء والشواطئ البعيدة والنزل الخالية التى شاءت الحكاية القديمة أن تتركها موصدة .. لأحكام الغواية ولمزيد من الإغراء لحدوث التوقف والصبوة والمعرفة (15)أساسا على معطيات الأشياء المسرودة داخل المعالم التراثية الموجودة فى إطار المدونات والمخطوطات المحتفى بها فى نسيج النص، وهى سمة طبعت النص بخصوصية تناثر الأشياء فى كل مكان .

-ولا جرم أن احتفاء الكاتب بهذه الخصيصة نابع من اهتمامه المستمر على مدار النص والنصوص الإبداعية الأخرى فى عالمه الروائى والقصصى بل والنقدى أيضا بهذا الموضوع وكأنه مغرم بجمع الأشياء وترتيبها فى قاموس عبثى خاص يحمل داخله معانى ودلالات الواقع الذى يعبر عنه فى نصه الإبداعى، ودلالة ذلك هو أن اطروحته النقدية التى سبق ان نشرت فى كتابين تحت عنوان الواقعية الروائية ، وقد حددها الكاتب عن دراسة الأشياء فى بعض أعمال الرائد التونسى على الدوعاجى ونجيب محفوظ وصبرى موسى والطيب صالح ، وكان عنوان الكتاب الأول " الشئ بين الوظيفة والرمز " وعنوان الكتاب الثانى " الشئ بين الجوهر والعرض " وهو فى ذلك يقول فى مقدمة أطروحته : "

- يكاد لا يخلو نص روائى خلوا تماما من الأشياء . وإنما يكون حظ هذا أو ذاك منها بحسب التقاليد الأدبية السائدة والدوافع الفردية والجماعية الكامنة فى صلب شخصية الكاتب والموجهة لأختياراته الواعية واللاواعية . فالرواية نوع أدبى يقوم عامة على محاكاة الواقع المرجعى . وبما أن الإنسان يعيش بين الأشياء ومعها وفيها فمن المنتظر بداهة أن يتجلى ذلك عبر البناء الفنى المفرز للواقع الروائى الداخلى . ولقد عبر عن ذلك الكاتب الفرنسى آلان روب جرييه وهو أحد الوجوه البارزة إبداعا وتنظيرا ضمن مدرسة الرواية الجديدة فى فرنسا ، ملاحظا : إنه الطبيعى ألا توجد فى كتبى إلا الأشياء ، وإن ذلك لشأنها فى حياتى : أثاث غرفتى ، الكلام الذى أستمع اليه ، أو المرأة التى أحب " (13) .

-لذلك نجد أن صلاح الدين بوجاه فى رواية " النخّاس " يحتفى بتواجد الأشياء قدر إحتفائه بلغة هذه الأشياء ، ففى كل موضع من فصول النص نجد أن كثيرا من الأشياء تتناثر على الورق وكأنها لوحة سيريالية معبرة تحوى العديد من أشياء قد تكون متناسقة وقد تكون متنافرة ولكنها تشكل أبعادا وخطوطا تخدم الموقف وتحيط الشخصيات بسمات خاصة من هذا التشئ يعبر عن واقعها وسيكولوجيتها فى نفس الوقت ، والنص يحتوى على كثير من هذه التجمعات الوصفية للأشياء التى استخدمها الكاتب فى تأطير العديد من الجوانب الدلالية فيه : " أما الزوايا والكوى والرفوف ومقاصير الغرفة الداخلية فملأى بالمشارط المنسية وأحزمة المطاط وقطع الزجاج الحادة المشحوذة وبشتى أنواع الأوانى من خزف وزنك ورصاص وقصدير وخشب مطلى، فضلا على العلب الملونة وحقق العاج المنقوش ولفافات الكتان والحرير والبردى والتبغ ومجففات ورق العنب والتوت و " الكافيا – فو " اليابانية ذات الشذى العنبرى الرصين، وشتات من قطع الصندل والفلين وكرات غبرة " التلك " البيضاء والمعادن والأسنان وشظايا عظام الفك ومربعات اللادن وبقع الدم المتجمد وأصناف المحنطات وضروب شتى من الحناجر وقنانى العطور القديمة حيث تكاد لا تلحظ غير ثمالة عطر قد جفت أسفل الزجاج واتخذت لون الصفرة الداكنة وفاحت منها رائحة الصمغ اللزج ورطوبة المحلات الموصدة التى لا يدخلها الهواء ولا تنفذ إليها الشمس ولا يهذبها حضور البشر .. " (14) .

- ولعل تكرار هذه التجمعات الشيئية فى أكثر من موضع من نسيج النص قد قدم لنا ثراء تأويليا لما يريد أن يجسده الكاتب فى هذا المناخ الغرائبى الذى يبدو سيراليا فى بعض المواقف . كما الأضافة الملموسة فى هذا النص هو تواجد العديد من سمات الحداثة داخل النص وهو ما يمثل تناصا فى بعض المواقع والمواقف مثل توظيف بعض المقاطع من الأغانى الشعبية التونسية، والتعبير المجازى لنصوص رامبو وبودلير بلغتها الأصلية دون ترجمة ، وبعض المقاطع التقريرية التى احتفى بها الكاتب بهذه الطريقة مثل التقرير الفنى الذى كتبه كبير مهندسى السفينة " الكابو – بلا " أثناء إصلاحها .

- وفى حوار خاص تم مع صلاح الدين بوجاه حول عالمه الروائى ليس فى رواية " النخّاس " فحسب، بل وفى باقى إبداعاته القصصية والروائية .. يقول صلاح الدين بو جاه : " إن الكتابة باب مشرع على الهاوية ! لذلك يحلو لى أن امعن تيها فى القيروان القديمة، فى مقام " سيدى فرحات " فى اضرحة الأولياء وخلواتهم .. لو عشت فى زمن آخر منذ قرن أو قرنين مثلا لكنت من دراويش الحضرة وقتئذ، لهذا لا أميز كثيرا بين المجذوب والشاعر والكاتب والمحلل النفسانى، لا أميز كثيرا بين تلك التخوم الغامضة المحببة إلى نفسى والقريبة منى .. تلك التى تقول غربتى وغربة شخوصى . فشخوصى ليست أنا، إنها كائنات من لغة وتخاييل، لكنها تعبر عن دهشتى وخوفى وجنونى !

- وبناء عليه فأنا مسكون " بالمعرفة " فى أوسع معانيها وأضربها سهما فى الواقعى والغرائبى أيضا ، لهذا تكون المدن القديمة والنساء وغرف النزل البعيدة والشواطئ الخالية من اروع المراقى إلى الخلوة التى تحملنى إليها موجدتى ويؤدى بى غليها وجدى ويغرينى بها وجدانى !

- و " النخًاس " يختزل هذه المدارات بالنسبة لى، لقد أردته : " سرّاق صور وتخاييل ورؤى " ، وأردته تائها باحثا منقبا ، لقد أردته أن يكون مجنون معرفة ، إنها تلك المعرفة التى تطوحنى بعيدا فى ذهن الآخرين أو فى أجسادهم . ولعل " الغرفة السابعة " التى جاء ذكرها فى الرواية كانت هى الكتب والنساء والشواطئ البعيدة والنزل الخالية التى شاءت الحكاية القديمة أن تتركها موصدة .. لأحكام الغواية ولمزيد من الإغراء لحدوث التوقف والصبوة والمعرفة (15)

قديم 11-01-2014, 05:40 PM
المشاركة 1244
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع ..
وإلان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 69- النخاس صلاح الدين بوجاه تونس

- تعد رواية " النخاس " للروائي التونسي المتميز صلاح الدين بوجاه، واحدة من الروايات التي وصلت إلى ذروة الاغتراف من التراث السردي القديم، ومحاولة إعادة تشكيله في ضوء معطيات جمالية وأسلوبية ودلالية تعبر عن التراسل بين الماضي والحاضر، من خلال صهر فنيات السرد القديم بجماليات الإبداع الروائي المعاصر، بحيث لم ينبت الوعي الروائي الحديث عن شجرة نسبه البكر الكامن في أوليات الحكي لدى القدماء، حين تراسلت لديهم فنون الشعر والمشهد الحواري، إلى جوار صناعة الخبر و المقامة، لتكون هذه الفنون في كليتها العميقة نزعة إنسانية تصب في مجر أوسع يعبر عن مبدأ راسخ يشير إلى أهمية السرد.

- ومن هذا المنطلق الذي يصل بين الماضي والحاضر، بواسطة استرفاد الجوانب الحية في تجربة السردية العربية القديمة، نبتت أفكار بوجاه التي تصوغ وعياً جديداً لسرد مغاير، يستلهم قصص العرب ورواياتهم وأخبارهم وأيامهم وخيالاتهم وبطولاتهم لينسج من جملتها مدونته الرواية، ويصوغ من خلالها مفاهيمه الروائية الخاصة حول الرواية اللغوية أو رواية الواقعة اللغوية، والتي تستند إلى وعى عميق بمكونات الماضي القادرة على الحضور وإعادة التوظيف.

- وإذا كان التشديد على التمازج بين فن السرد القديم والرواية الحديثة على هذا النحو من البروز في تجربة صلاح الدين بوجاه الروائية على الصعيدين النظري والإبداعي فلن تكون مغادرة هذا الملمح أو تجاهلها من قبل مرايا النقد الروائي، ومن هنا وجهت الكتابة النظرية والإبداعية الخطاب النقدي الدارس له نحو العصب المركزي الذي تصب فيه البؤرة المركزية لخلاصة تجربته الروائية، ولعل تتبع مرايا النقد العاكسة لعناصر رؤيته كما تبدت في ذراها من خلال رواية " النخاس " ما يكشف عن تقارب الفضاءات النقدية وتقاطعها إزاء عناصر محددة تمثل نقاط إجماع بين نقاده على أهميتها في تشكيل هذا التقارب مع التراث السردي إن العودة إلى تقديم منصف الوهايبي للرواية ودراسة د. عبد الله أبو هيف عن استلهام التراث السردي في روايات بوجاه، بجانب دراسة د. صبري حافظ عن الرواية والتي بعنوان (متاهة اللغة، مرآة الرواية) ، جميعاً تكشف عن تجاوب بين أفق التوقعات النقدي، وتقارب في توصيف العناصر المكونة لضفيرة السرد في " النخاس "، وتغرينا عمليات التلاقي بين هؤلاء النقاد في التقاط الملامح المائزه للرواية بتتبعها لدي كل ناقد منهم.

- في تقديمه " النخاس " يلمح منصف الوهايبي صلة الرواية بشجرة نسبها العريقة التي تنبع من تربة التراث الإبداعي العربي الثرية، وفنونه البواحه دائماً بعبق الماضي فما تتدثر الرواية به من سمات التفريغ من الأصول و التعريج عن الفروع وإدراك التشعيب غايته، يمثل وشيجة عجيبة تقربها إلى فن " التوريق العربي " أو ما اصطلح عليه مؤرخو الفن الأوربي بلفظة الأرابيسك، ففي (النخاس) أشتات من الأمشاج والصور المستمدة من التاريخ وسيره، تتقاطع مع سيرة بوجاه ذاته، ومن ثم يفجر السرد الروائي مكنونات الشكل القديم ويطلق روحه الحبيسة ليكشف خباياها، فى مزيج غرائبي يكتظ بالشخوص والعوالم العجيبة، تضرب فى أرض الواقع بسهم وتشارف الحلم والرؤيا من خلال التركيز على صورة البحر الأبيض المتوسط، وبنية الترحال التي تجمع فى مسيرتها أشتات الأمم والحضارات المتاخمة له ماضيا وحاضرا : فإلى جوار العرب نرى الترك والبربر والأسبان والقبط والفرنسيين والطليان والزنج.

- ويؤكد الوهايبى أنه بواسطة هذا التمازج العجيب بين شكلين : قديم وجديد يداور أحدهما الآخر، أي العربي القديم والجديد الذي طورته الرواية الأوربية، يخدم الشكل الروائي فى محصلته النهائية متخيلا ينبني على التعدد والتداخل بين الأجناس وتحقيق قدر كبير من الكثافة، فهي تسمى الأشياء وتعددها في اللحظة ذاتها، غيرأن هذا الاحتشاد ينطلق من وعي الكاتب بلعبته الروائية التي يؤدها ببراعة، فلا نجد صوتاً نشازاً أو لحناً ناتئاً بين أمشاج النصوص والأصداء (فالمجردات والمحسوسات جميعاً لا تتدافع ولا تتزاحم قدر ما يفتح بعضها على بعض وينهض بعضها لبعض)، فلا قداسة مزعومة للغة الفصحى، وإنما تداخل لغوي يجمع بين عربية رصينة وأخرى عامية، إلى جوار نسيج مصنوع بحرفية من برج من اللغات فرنسية وإيطالية وسواهما… على أن المبني لا ينفصل عن المعني فهذا التعدد يقود إلى حركة لا تبتغي التوقف ولا تقبل السكونية، تعطي طرفاً من القول وتفتح باباً واسعاً لتعدد لا يحد في تنوع معاينة التي لا تقبل الاختزال.

- وفي دراسته التي تحمل عنوان استلهام التراث السردي في الرواية العربية والتي تتخذ من روايات صلاح الدين بوجاه نموذجاً، يؤكد د. عبد الله أبو هيف على أهمية رواية " النخاس " في مجال استنباش التراث السردي العربي القديم، وهذا ما يظهر جلياً منذ عتبات النص ومداخله.

- إن تصدير الرواية بمقولة ابن سينا المأخوذة ( من الإشارات والتنبيهات) تنقلها إلى كمال الوهم وأقصي أمداء التخييل من خلال عالم أشبه بمغامرة شائقة سردياً ولغوياً، بداية من عتباتها (العنوان ، الإهداء ، الكلمات المفتاحية، التذييل المسمي أطراف النص) عنوان الرواية لا يحمل في طياته كما يذكر أبو هيف تلك المعاني التي أسندها إليه بوجاه، فالنخاس يشير إلى بائع الدواب ويتسع المعني ليشير إلى بائع الرقيق، لكن بوجاه أضاف للكلمة معان جديدة يدخل فيها (ولوج جراح الآخرين وشرح صدورهم والنظر في دخيلة أمرهم)، ويدخل فيها أيضاً المقايضة جليلها وحقيرها وضروب المداورة والتجوال، ويتحول النخاس بحركة هذه المعاني إلى حلزون تائه يزحف في دنيا الناس يكشف الخطايا في أسواقهم وبهذا المعني ينقطع معني النخاس عن مراده اللغوي المباشر المذموم ليعبر عن معان إيجابية دالة على الرحالة الذي يدرك بواطن الأشياء.

- ولا تتخلق رواية " النخاس " في بنائها الروائي إلا وهي تضع نفسها في خضم أثير تحوم فيه داخل متاهات السرد وغوايته الغامضة والتي تكشف عن توق إلى الدخول في لعبة الكشف عما يحدث في الأبعاد العيانية الظاهرة أو الداخلية فيما وراء الأنفس، ولعل استخدام فعل (تداوره) الملتصق دوماً بحالة السفر نحو استلام الجائزة، والذي يكشف أبو هيف عن دوره بدقة تتبعه لوروده المتواتر على طول الرواية، ما يدل على توغل الرواية صوب التعدد وصراع التأويلات ويدخلها في تضافر الأشكال السردية يقول د. أبو هيف " إن فعل المداورة يغني معانيه وتأويلاته مثال لبناء الرواية التي تنوع أشكال سردها من الخبر إلى الحكاية إلى السيرة إلى المقال إلى النزوع إلى الشعر، فتضافر الأشكال جميعها في ذلك التشكيل الفريد لانهيارات السرد وضبطه في الوقت نفسه" وعلى مستوى علاقة السرد الروائي المتخيل بالأبعاد المرجعية نجد أن بوجاه في " النخاس " مثلما يناهضه لمرجع بالتخييل فإنه كذلك يناهضه التخييل بالإيهام حينا وبالمبالغة في المحاكاة أحياناً أخر، وهو ما يظهر في عناوين فصول الرواية، كما يتجلى كذلك في التداخل المقنن بين المبني الواقعي والأستعاري ، فالوحدات القصصية لها طبيعة منطقية ذات ترتيب واع، بالإضافة إلى وجود نسق من التنضيد داخل الخطاب الروائي تفصح عنه فاعليات التناص مع نصوص وإشارات ثقافية،إلى جوار تحول الكتابة إلى فضاء فنتازي بواسطة انصهار اللغة والمخادعة السردية والمرجعية وإظهار الراوي في بؤرة.

- ويعرج بنا الناقد المصري صبري حافظ على اهتمام الرواية العربية الحديثة بإدارة حوار مع التراث ويعرج بنا الناقد المصري صبري حافظ على اهتمام الرواية العربية الحديثة بإدارة حوار مع التراث النثري العربي، مما يرهف قدرتها على التعامل مع متغيرات العصر وتبدلات الحساسية الأدبية، ويطرح في اللحظة نفسها بنية روائية جديدة تكتسب بها الرواية العربية خصوصيتها وفي هذا الأفق جاءت رواية " النخاس " لبوجاه لتجسد على صعيد أولي طموح كاتبها لتطوير أداته الروائية بعد روايته الأولي (مدونة الاعترافات والأسرار)، كذلك لتؤكد على مذهبه الذي أصطلح على تسميته بالواقعة اللغوية" وهي واقعية ذات مستويات ثلاث كما يؤكد د. صبري حافظ ، أول هذه المستويات.

- تصوير مباشر للواقع العربي الأعجف الخارجي قديمه وحديثه

- بناء واقع روائي داخلي صرف يحيل على ذاته، ملتمساً جل عناصره من بناه الداخلية بل ورموزه التي لا فك لسننها إلا صدوراً عنها وعودة إليها.

- إقامة واقع لغوي محض يعبر عن واقع لغتنا التي نهوى ونعشق، هذه التي تسكننا ألماً جميلاً ونسغاً حلالاً، يروي كرمة غدنا غوصاً من تربة ماضينا.

- ولقد ظل هذا الطموح يداور بوجاه حيناً ويغدو عصياً في بعض الأحيان إلى أن تحولت مراوداته لهذا الطموح إلي واقع في روايته " النخاس"

- وتتسم ( النخاس ) بقدرة روائية تمزج بين الوهم بالتسجيل، والواقع بالخيال وأشكال السرد التراثية القديمة ببنية السرد المعاصر، كل ذلك يقيم قواعد اللعبة النصية المخاتلة، عبر متاهة نصية ممتعة يستحيل معها تلخيص الرواية، فالرواية لا تعتمد في رأي د. صبري حافظ على مسار الحدث على الرغم من مسيرته الشيقة ولا ثراء الشخصيات على الرغم من خصوبتهما، بل على التراكب والتناسخ وتراسل الدلالات.

- مبدأ التناسخ ذات الأصول الهندية والذي يري أن كل صورة ما هي إلا تجل لصور سابقة، هو مبدأ عمل الأحداث والشخصيات في عالم الرواية فالرواية تؤكد على أن لكل شئ بعده التاريخي، وأن تراكم طبقات الخبرات والمعارف يمكنا من استيعاب الأشياء والجزئيات والشخصيات والتصورات.
ويتوقف د. صبري عند دلالة التصديرين الاستلهلاليين، والذي يتقاطع فيهما بوجاه مع قول لابن النديم من كتاب "الفهرست" وآخر لابن سينا من "الإشارات والتنبيهات" وهما يمثلان مفتاح قراءة للرواية، وهذا ما يتضح في دلالاتهما على شمول التجربة وإلى تحول جميع الأمم والأزمنة، بالإضافة إلى منهج التجاور الذي يسفر عن نفسه في بنية العبارة المقطعة، حيث تتجاور الأخبار والأنساب والأماكن والمناقب والمثالب مما يؤدى إلى توليد علاقات جديدة وتفجير العلاقات التقليدية كذلك الولع بالتركيز والاقتصاد، والمبدأ الجمالي الذي يعي أهمية الكمال كمصدر الكمال وأن مصدر هذا الجمال هو كمال الوهم.

- ويلتفت الناقد أيضاً إلى دور عناوين الفصول في تقديم بعد إرشادي للقراءة، يوهم ويذكر بعناوين النصوص القصصية التراثية القديمة، وتنهض هذه العناوين بعدة وظائف أولها إجهاض التوقع واستباق الحدث، بجانب التقليل من التشويق دون الإجهاز عليه، وثالثها إرهاف من حدة الجدل التناصي مع النصوص القديمة، وأخرها دورها في الإيحاء باستقلالية كل فصل.

- والحكي ينطوي كما يري د. صبري حافظ على مبدأ الغواية الجاذبة نحو السفر والترحال والوهم الذي يباطنه ظن بالحصول على جائزة، الرواية تقص رحلة الكاتب تاج الدين فرحات البحرية على سفينة " الكابو – بلا " السوداء إلى جنوه، حيث تلقي دعوة من هيئة جائزة (مينالدو) الأدبية لزيارة البلاد الإيطالية، ولكنه مدعو إلى لحضور حفل الإعلان عن الفائز بالجائزة لا حصوله هو عليها، (فثمة تعلق بوهم وتعلة، منذ بداية الدعوة، إذ إن غايتها ملفعة بالأسرار والترجي وإن كان مقصدها الجغرافي واضحاً وهو جنوه).

- على أن هذه الرحلة المجسدة داخل الرواية من خلال ارتباطها بدلالات السفينة والمؤلف/ البطل، تشير إلى أبد الرحلة ولانهائيتها كما يقول د. صبري، فالسفينة تشكل استعادة دالة على كوكبنا الأرض، وربما تشير أيضاً إلى قارتنا الأفريقية؟ أو إلى المؤلف – صلاح الدين بوجاه نفسه؟ وحيرة هذه الأسئلة التي تتنازع فيما بينها في تشكيل دلالة الرواية تخلق قدراً من الالتباس لتوسع أفق دلالات الرحلة. (فالرحلة في هذه الرواية هي الرحلة الأفقية والرأسية معاً، أي رحلة الغوص في البحر وتكبد مشاق عباب الغمر، ورحلة الغوص في قيعان النفس البشرية وطبقات التواريخ المطمورة ومستويات اللغة المتراكبة في آن واحد"

- إن السفينة في الرواية تمثل صورة مصغرة للعالم الخارجي ونجح بوجاه في أن يجعل منها نواة مركزية للعالم الروائي، بواسطة تجسيده خصوصية السفينة وعموميتها معاً بتلك الطريقة الشاعرية، التي تنسج خيوطاً محكمة لشبكة من العلاقات والأحداث.

- إن تتبع مسارات الآراء النقدية السابقة, لهؤلاء النقاد الثلاث, على الرغم من اختلاف المنطلقات النظرية لكل منهم, ليكشف عن وجود عناصر أساسية وسمات تعبيرية, لا يمكن أن تتجاوزها العين الناقدة الخبيرة لفن السرد العربي الحديث, فمن خلال تحاور الرؤى حول "النخاس" تبرز أهمية العنوان الروائي والعناوين الداخلية للفصول ونبية العبارة السردية المخاتلة واستخدام الموروث السردي القديم فى بعد إشاري مغاير, كل ذلك يسهم فى صناعة فصل روائي متعدد الدلالات والرؤى, يغوص فى الأوجاع الفردية ويجعل منهما تجربة إنسانية لها صفة الشمول.

- ولا شك أن هذه القراءات الثلاث لتكشف كذلك على قدرة الإبداع الأدبي أن يحرك استجابات جمالية متعددة بحسب المنطلق المحرك للتلقي, لكن هذا التعدد لا يعبر عن الخلاف الجذري, بقدر ما يولد أفق جامع وفضاء مشترك للقراءة, إن كل أدب يتسم بالاستمرار والديمومة لا شك يوكل فى كل منا إحساس ما ويستدعى تجربة ماضية لنا خاصة بكل فرد, لكنه كذلك يستطيع أن يجعلنا جميعا نتقارب فى أبعاد معينة, من خلال نقطة التقاء مشتركة, ومن هنا كان الدرس النقدي حول "النخاس" معبرا عن قدرتها على مزج الخاص بالعام, والفردي بالجماعي, ككل إبداع عظيم, يرجى له فى لحظة ما بالدوام, وبالكشف المستمر عن خبايا التجربة الإنسانية.

- دراسة جديدة حول الروائى القيرواني صلاح الدين بوجاه نشرها كاتبها مصطفى عبدالله بالعدد الأخير من الأسبوعية الإماراتية الصدى. يقول فيها :

- أجد أن مناقشة رواية ( النخاس ) هنا في الإسكندرية ، داخل قصر الكلمة ، في حضور مؤلفها الروائي العربي الكبير صلاح الدين بوجاه بين مبدعي الثغر ، و كبار نقاده فرصة لتبني مشروع إبداعي ضخم حول روايات البحر المتوسط .. هذا الحوض المائي الكبير الذي شهد ميلاد الحضارات في فلسطين و مصر و اليونان و نهضتها في إيطاليا و فرنسا و تميزها في الشمال الإفريقي و الأندلس . و ربما يكون هذا المشروع نواة لحوار من نوع جديد ، لنا مع الآخر ، الذي نشاركه هذه المرة شريان الحياة المائي ، و نهر الإبداع الروائي .

- و قد أغرتني هذه الرواية بإعادة قراءتها و تقديمها في طبعتها الشعبية في مصر لعدة أسباب ، أولها أنها تنتمي إلى كاتب قيرواني استطاع أن يضع بصمة واضحة في تاريخ الرواية العربية في تونس ، حتى أنه أصبح ثاني الأسماء التي تقفز إلى الذهن عندما يرد الحديث عن الرواية التونسية بعد الرائد الكبير محمود المسعدي ، الذي قدمه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للمشرق كله عندما نشرت روايته الشهيرة (السد) ، و كذا لكونها رواية مربكة مريبة ، تأخذ بقارئها في بعض مساربها ، فإذا ما اطمأن و أسلس القياد طوحت به بعيدا حتى يضيع منه المعني فيدخل بيداء الغموض .

- وهذا هو الانطباع الأول الذي يقابل قارئ ( النخاس ) ، هذه الرواية المداورة ، فيزج به في منطق اللهاث و التقصى .. اللهاث خلف أحداثها المتعاقبة الشيقة ، و تقصى مضامينها التي تغوص في تربة الأسئلة الوجودية الكبرى من ناحية، و في استفهامات العالم اليوم من ناحية ثانية .

-و ربما يكمن هنا ثراء هذا النص الذي يثير قضايا الموت و الميلاد و المتعة و الألم و البداية و النهاية إثارته للصراع الغريب المتقد بين الحضارات ، حتى يتحول البحر في الرواية من بؤرة صدام بين الشرق و الغرب و الشمال و الجنوب ، فيكون الأداة و الرمز في آن واحد .

- و لأن حوض المتوسط ملتقى لحضارات و ثقافات عدة ،فإن ( النخاس ) تستدرج أجناسا و شعوبا ، منها الإيطالي و الإسباني و الفرنسي و التركي و اليوناني والمصري : القبطي و المسلم ،فضلا عن التونسي طبعا ، فتستدرج بذلك مناخات متعددة تغني الرواية ، و تمدها بثراء فريد ، و تتخطى بنا أحادية الأسلوب و الأغراض للخوض في حوار حول جنس الرواية ذاتها .

- و لعل هذه الوجهة في الفهم هي التي أغرت الناقد الدكتور صبري حافظ بالإشارة إلى أن روايات صلاح الدين بوجاه قد أنشأت حوارا جديدا مع الرواية في المشرق العربي .

- و ضمن هذه الوجهة نضع ( النخاس ) التي تدعونا إلى قراءات متجددة كثيرة للوقوف على خفايا بنيتها ، و مجاهل قضاياها .. و متعة أسلوبها ، و هي وجهات في الفهم و التأويل يلخصها الشاعر التونسي منصف الوهايبي بقوله : "تبدو الرواية على وشيجة عجيبة بفن الترويق العربي ، أو ما اصطفى له مؤرخو الفن الأوروبي لفظة " أرابيسك " ، حيث يسم التفريع الأصول ،كما يسم التعريج الفروع ، و يدرك التشعيب غايته .. قبل أن تنكفئ الحكايات على ذاتها مثلما في (ألف ليلة و ليلة)" .

- لهذا نكرر على أننا إزاء أسلوب ساحر ، ونص سردي مريب ، و إثارة عجيبة للمعاني و الأغراض .. تدفعنا جميعها إلى التوقف عند نص نزعم أنه من النصوص المؤسسة لمرحلة جديدة في الإبداع الروائي العربي .

- لهذا فإننا لا ندعو إلى قراءة هذه الرواية فحسب ، إنما تأملها ، و مقاربتها المقاربة النقدية الضرورية ، و مقارنتها بالجديد المصري و العربي.. و وضعها ضمن مسارات إبداعن الروائي الحديث . هكذا تدرك استفهامات الرواية الكثيرة أفقها الفعلي ، و هي الساعية إلى تجاوز الواقع التونسي أو المغاربي بصفة عامة إلى إثارة مسائل إقليمية حارقة ، هي " قضايا البحر المتوسط " على وجه الحقيقة ، وعلى وجه الإطلاق قضايا تونس و مصر وغيرهما من البلدان العربية .


- تاج الدين فرحات، غابريللو كافينالي ، لورا ، الراقصة ليلى ، وجرجس .. جميعها شخصيات يمكن أن نقول في شأنها ما قال الكاتب في (النخاس ) : " تاج الدين نخاس كاتب أبدا ، حلزون تائه زاحف في دنيا الناس كاشف خفاياهم شارح صدروهم ، حلزون يحمل قوقعة عذابه فوق ظهره ، صدره كونه من الشموس و النار و الثلج و الخوف و الخامات النفيسة و قصور الحكام و فحش آخر الليل ، و الحياء و العفة ، و المخطوطات النادرة و أولياء الله الصالحين . هذا كله شجعني في هذا التمهيد على استجماع عناصر حيرتي و أنا أقرأ رواية أعجبتني كثيرا في مراوغاتها الممتعة ، و دعتني إلى الإسهام في التفكير الكوني الذي يثار الآن حول مسألة الحوار العالمي ، و إسهام العرب في الجدل الحضاري القائم ، و سالف إسهاماتهم في حضارة الأمس و اليوم .


- و كم احتلت هذه الرواية حيزا من مناقشاتي مع بوجاه كلما التقينا هناك في تونس أوهنا في مصر ، و قد أكد لي أن شخصيات النخاس لا ظل لها على أرض الواقع ، و إنما هي تجسيد لحضارات متبانية ، بل و متصارعة فيما مضي في حوض هذا البحر. ولكنها تتجسد في سفينة تبحر من تونس إلى إيطالية ،و كأنها تعلة للانعطاف على لعبة كبرى ..

- و من يبحث عن القيروان مجسدة داخل ( النخاس ) سيرهقه البحث ، فصلاح الدين بوجاه يؤكد أن المدينة لا تعدو أن تكون مجرد خلفية مكانية و زمانية ، و هو حتى عندما يقرر أن يكتب عن القيروان أو يدونها في رواية أخرى مثل ( السيرك ) مثلا فإنه يقدمها كمحصلة لقراءته في المدينة العربية بشكل عام .

- فهل ننعطف في الختام على موقف الناقد العراقي ماجد السامرائي الذي أكد :" حين تسأل الروائي صلاح الدين بوجاه أن يقص عليك رحلته مع الكتابة تجده يبدأ مع "الراوي عن نفسه" ليخبرك بأن الرغبة في الكتابة ولدت عنده منذ طفولته الأولى ؟ أم ندعى إلى أن نهتف مع بوجاه نفسه : ماذا يفعل الكاتب في النهاية غير محاولة تشويش المثل و الحقائق قصد إعادة تنظيمها ؟!" .

قديم 11-02-2014, 10:46 AM
المشاركة 1245
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

تابع..
مع الروائي صلاح الدين بوجاه

كتبهاكمال الرياحي ، في 2 سبتمبر 2006 الساعة: 13:57 م

المصدر : المدونة الرسمية للكاتب التونسي كمال الرياحي :

حِــكاية نخّاس الحكايا أو قصة الكاتب صلاح الدين بو جاه
الذي يركب الرواية والقصة القصيرة ويرتكب النقد ويداور السياسة
حاوره : كمال الرياحي
تجدّف بك سفينة إبداعه نحو عوالم التراث السردي فتشتمّ منها عبق المخطوطات وكتب التراجم و أدب الرحلة.وتجنّح بك السّفينة لتحملك في طبق طائر وتقذف بك في مجرّات مظلمة من العبث والسريالية فتتقلّب في مناخات كابوسية تذكّرك بعوالم كافكا وترمي بك أمواج السرد أحيانا في عجائبية غريبة تبقى عندها مشدوها هل أنت عند ماركيز أم أنت في جراب السندباد تشاركه رحلاته أم أنت بطلا من أبطال المخيال الشّعبي , وتنحرف بك السفينة مرة نحو عوالم اللاّمعقول فتدخل بك "مقاصير" السحر والشعوذة والطفولة الملتبسة لتكرع من نهر الأسرار وعوالم الغيب وتأسرك مرّة كتابة الجسد وكتابة الأشياء ولغة الكتابة .من هو ؟ هو بكل سخف الأسماء واختزاليتها المميتة :صلاح الدين بو جاه من أهمّ الأصوات الروائية في تونس , لفت إليه أنظار النقّاد والباحثين منذ نصّه البكر "مدوّنة الاعترافات"1985 فنزل هذا النصّ ضيفا على بحوث جامعيّة كثيرة في تونس وخارجها ومازال إلى اليوم يغري النقّاد والقرّاء معا لما توفّر فيه من صنعة روائية غير مسبوقة استفادت من الأشكال السردية التراثية . لم يتوقّف بو جاه عند هذا النّص بل ظلّ يباغتنا كلّ حين بنص جديد رغم مشاريعه الجامعية ونشاطاته السياسية التي نحسب أنّها أكلت من وقته الإبداعي الكثير .
ولد بالقيروان سنة 1956 ليكون كاتبا تونسيا متميّزا يسهم في الحركة الثقافية العربية منذ السبعينات .عرف في المشرق العربي بإسهاماته النقدية والقصصية والروائية .صدرت أعماله في كل من تونس وبيروت والقاهرة ودمشق .عضو باتحاد الكتاب التونسيين واتحاد الكتاب العرب .انتمى إلى الجامعة التونسية منذ منتصف الثمانينات .شغل خطة عميد كلية الآداب بالقيروان .عضو الجمعية المغربية للآداب المكتوبة بالفرنسية وعضو هيئة تحرير مجلة الحياة الثقافية .قدم عديد البرامج في الإذاعة والتلفزة حصل على الجائزة الوطنية للآداب سنة 2003 وناقش أطروحة دكتوراه دولة في الأدب المقارن حول الرواية التونسية المكتوبة باللسانين العربي والفرنسي .من أعماله المنشورة في المجال النقدي :
الأسطورة في الرواية الواقعية ’بيروت ’1990
الجوهر والعرض في الرواية الواقعية’بيروت’1992
مقالة في الروائية’بيروت’1994
كيف أثبت هذا الكلام؟ تونس ’2004
وصدر له في المجال الإبداعي :
مدونة الاعترافات ’تونس ’1985
التاج والخنجر والجسد ’القاهرة ’1992
النخاس,تونس 1995
السيرك’بيروت 1997
سهل الغرباء ,تونس 1999 ,القاهرة 2000
لا شيء يحدث الآن,تونس 2000 ,القاهرة 2003
من مخطوطاته:
وجوه ,بورتريهات
حمام الزغبار ,رواية
هذا الحوار يسلّط الضوء على تجربة الرجل القصصية والروائية ويحفر عميقا في ملامح بوجاه بحثا عن حقيقة الطفل الذي يحمله , وعن المناخات التي أثّرت فيه فدفعت به إلى ارتكاب الكتابة ,في اللقاء سياحة مختلفة في فضاءات السحري والعجائبي والكابوسي والسياسي .
- قرأنا لك حديثا عن روايتك البكر "مدوّنة الاعترافات والأسرار" تقول فيه : "العمل الأول يختزل تجربة صاحبه إذ يكون بمثابة البذرة التي تختزل حلم الشجرة"، الآن وقد مرّ على روايتك البكر ما يناهز العشرين سنة أما تزال ترى فيها البذرة التي قام عليها مشروعك الرّوائي أم أنّ هذا المشروع قد اتّخذ مسارات مغايرة وطَرَق سُبُلا لم تكن في ذهنك إبّان فراغك من الرواية نطفة المشروع ؟
oo "البذرة التي تختزل حلم الشجرة"، هذا تعبير قديم يُفيد أنّ المشاريع تكون مختزنة في كلمة أحيانا، أو فكرة، أو ما دونها، والحق أنني اليوم، بعد مرور سنوات طويلة عن بداياتي الأولى أعود لتأكيد هـذه الفكرة ! فكرت أولا في قول العكس، كأن أقول أن مشروع الكتابة عندي قد اتّخذ مسارات كثيرة جديدة بحيث بدا مختلفا عن استهلالاته، ثم استقر الأمر عندي دون عناد أو مناكفة للجزم بأن "مشروع الكتابة"، إن كان لي مشروع كتابة حقا – قد انطلق مع بداية السبعينات حين أقبلتُ على عرض قصصي القصيرة الأولى على مجلات تونسية وعربية.
وأجدك تعيدني إلى بداية الثمانينات، وبالتحديد إلى المقدّمة التي شفعتُ بها "نصّي" الأول. فعلا طال الحديث بعد ذلك، فهناك من قال إنه لا جدوى من أن يُرفق النص الأول بمقدمة، وهنالك من رأى أنها غير مناسبة لنص قصير، فادعاءاتُها كثيرة متنوعة، ومُنجزه محدود قليل !!
موقفي لم يتغيّر ! لا أجدني اليوم مدفوعا إلى تبرير أي شيء أو الاعتذار عن أي شيء ! كل ما هنالك أنني أعلن الآن أنّ تصاريف الحياة والتجارب، وتنوع الاطّلاع الثقافي العام والروائي الخاص قد أدّت بي إلى تغيير ملامح أسلوبي، بحيثُ بدا مختلفا عن البدايات. وهذا طبيعيّ، فليس هنالك من يُحافظ على السمات الأسلوبية نفسها، وعلى معالجة القضايا ذاتها. لهذا أعود لتأكيد الجملة التي افتتحنا بها هذه الكلمة "البذرة التي تختزل حلم الشجرة". هذا لا ينفي أن "المشروع" قد اتّخذ مسارات مغايرة وطرق سبلا جديدة لم تكن في ذهني إبّان الفراغ من الرواية النطفة. ولا أخفي هنا أنّ أسعد لحظات حياتي كانت تلك التي قال فيها الأستاذ توفيق بكار والناشر الأستاذ محمد المصمودي، في دار الجنوب بتونس، بعد أن دفعتُ إليهما بعملي الموالي لرواية "النخّاس" : "فعلا… هذا أيضا موسومٌ بأسلوب بوجاه / C’est du Bougeh !". في ذلك الوقت علمتُ أنّني قد تمكّنتُ من ابتداع أسلوب خاص بي، والأسلوب هنا لا يتعلّق بظاهرة اللغة فقط، إنّما يتّصل بحيثيّات السرد، والمضامين أيضا ! وقصارى ما هنالك أن "مدوّنة الاعترافات والأسرار" كانت تتضمّن اهتماما بـ"المفارقة" و"تعريضا بالمستقر" و"اختيارا للألفاظ النقيّة" في الغالب الأعم و"ميلا إلى الحلم والفنطازيا والعبث"… وهذه هي ذاتها السماتُ التي تطبع أعمالي الموالية حتى اليوم. كل ما هنالك أنها قد اتّخذت ألوانا جديدة، وأضيفت إليها ظلال أخرى مستحدثة، وخاصة في مجال التخفّف من "صفوية اللغة" واسلاس القياد نحو استعمال العربية قريب من اليومي… أو قُل "إنّه يميل إلى أن يكون قريبا من الجملة العربية العادية اليوم". والحق أنّ الأمر عندي ليس من باب التألّق، إذ التعلق القديم بالفصحى هو الذي يعيدني إلى طفولتي، وإلى كتب الوالد، وإلى المدوّنة التراثية التي نهلتُ منها.
n انشغلت روايتك البكر في نزعتها التجريبية بالهاجس اللغوي أو "الواقع اللغوي" كما عبّرت عنه فكانت اللغة تجهد لتتماسّ مع الأعجاز بما طفحت به من شاعريّة، و ما توفرت عليه من ترميز وما انبنت عليه من تكثيف، أهو الإيمان بأن المشروع الرّوائي هو مشروع لغوي أوّلا وأخيرا أم أنّه الانتصار للغة بوصفها إحدى المكوّنات الهامة والركائز القويّة لحضارة من الحضارات ؟
oo النزعة التجريبية، والهاجس اللغوي، والرمز، والأبعاد الحضارية… كانت الركائز التي انطلقتُ منها. كنّا في منتصف السبعينات نستند إلى نصوص متباينة : مدونة كرم ملحم كرم، "الإنسان الصقر" لعز الدين المدني، "حدّث أبو هريرة قال" للمسعدي… فضلا على نماذج كثيرة من النشر العربي القديم التي استهواني الاطلاع عليها، والاستناد إليها، بالإضافة إلى التراث الغربي متمثلا خاصة في مزيج من كافكا، وجان بول سارتر والشعر الحديث، على يد أعلامه المعدودين مثل بودلير ورامبُو وفرلين ! هذا هو المزيج غير المتجانس الذي استند إليه، فإذا أضفتَ إليه القرآن الكريم، والأناجيل، انتبهت إلى أنه أمشاج شتّى من الغرب والشرق تمازجت بالشائع من أدب الستينات والسبعينات. بيد أن محاولاتي الأولى، مثل كتابتي الراهنة، لم تنتهج درب "الأدب المناضل" أو "الواقعيّة الاجتماعية"، كتابتي ردة فعل على هذا التيّار، باختياراته الأسلوبية والمنهجية ومواضيعه وأغراضه.
بالنسبة إليّ لا قيمة لدراسة الأبعاد الاجتماعية إلا في كنف التعامل مع الأغراض الوجودية الكبرى، مثل الحياة والموت، والولادة واللذة والألم والبداية وخوف النهاية. ليس الأدب فعلا سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا… إلا في نهاية المطاف ! إنه فعل عميق جاد يرقى إلى مستوى النصوص الكبرى، الشعر، المسرح اليوناني، الكتب السماوية. لهذا أتشبّثُ بسعي النص النثري العربي إلى الشاعرية، أو قُل تشبّث النثر بأفق الشعر يمتح منه أساليبه ويعالج قضاياه.
ليس الأدب سعيا سياسيا أو اجتماعيا، وليس الأديب رجل صحافة، أو رجل ضرب من الأحزاب. الأديب أرفع من هذا ! أو فلنقل أنه مختلف مغاير، وكفى ! لكل مهمّته ووظيفته. لهذا نجزم بأن الأديب ليس مترجما، كما أنه ليس رجل معارضة ! الأديب "معارض" بالمعنى العميق، بل العميق جدا. الأديب ليس معارضا سياسيا، إنه "معارض" للمجتمع، معارض للخيارات الإنسانية الكبرى… من حيث هو مسهم في الجدل الأصيل حول الإنسان، وتجربته الروحية العميقة. بهذا المعنى ندرك أنّ الأديب محرّك للوجود، ومُثَوِّرٌ للمستقرّ، ومُسهم في معارضة التفسيرات القاصرة المحدودة، ومُشجّع على تبنّي التوازن الروحي في وجود لا يكاد يؤمن إلاّ بالظاهر المادي المحسوس. على هذا الأساس ينبغي أن ينهل الأدب من التجارب الصوفية، ويكون فنطازيا سرياليا في بعض توهّجاته الكبرى !
n لامك بعض النقّاد على التوطئة النقدية التي أردفتها بروايتك "مدوّنة الأسرار" ورأوا فيها إسقاطا كان يجمُلُ بالكاتب تركه للنقاد والاكتفاء بتقديم عمله الإبداعي، تاركا إياه يتحدّث عن نفسه دون أن يسطّر له التأويلات الممكنة أو يشرح له ما أشكل أو يساعد القارئ على فتح مغالقه فيظلّ النص بذلك ببهائه ورونقه، وقد لاحظنا عزوفك عن هذه المسألة /التوطئة في أعمالك اللاّحقة، أكان ذلك من باب تطييب خاطر النقاد أم أنه اقتناع فعلي بأن ما تطلّبته باكورة أعمالك الرّوائية من توضيح – بوصفها العمل البكر – لا تحتاجه بقية رواياتك ؟
oo فعلا، العمل الأول يختلف دائما عن الأعمال اللاحقة، وقد سلف أن أكدتُ أنه "مثل صندوق الأم يحوي "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". إنه يحوي المتناقضات المتنوّعة الكثيرة، لذلك يحسن أن يُشفع بمقدمة تدعمه وتفسر مغاليقه وتُسنده. والحق أن وضع مقدمات بين يدي الأعمال ليس بالبدعة، خاصة بالنسبة إلى الأعمال الأولى… سواء من قبل الكتاب أنفسهم أو من قبل بعض أصحابهم. انظر على سبيل المثال سلسلة "عيون المعاصرة" تجدها تضم أفضل المقدمات التي أنشأها كتاب، أو نقاد، يتناولون العمل المنشور بالنظر الأدبي الرفيق، فيضيفون إلى فهم القرّاء ويمهّدون الطريق أمامهم.
ولعلّ الحرج الذي قابل به النقاد مقدّمة العمل الأول "مدوّنة الاعترافات والأسرار" يعود إلى أنها كانت فعل بين "المقدمة" و"البيان"، أو لعلها كانت إلى البيان أقرب. فعلا كانت بيانا مشفوعا بأنموذج مما يدّعي صاحب البيان. وكان من الطبيعي أن ينشأ تفاوتٌ بين النظري والتطبيقي، فضلا على أن الناس لا يستطيبون بيانا يصدر عن كاتب لم يُنشئ حتى ذلك الحين إلا بعض القصص القصيرة المنشورة في عدد من المجلات. لعلّهم كانوا ينتظرون بيانا ممّن ترسخت قدمهم في عالم الكتابة القصصية. لهذا نشأ عندهم حرج واسع بين قبول "المقدمة-البيان" أو رفضها، ورفض العمل الإبداعي الذي يصحبها.
n جاءت لغة روايتك "مدوّنة الاعترافات" مع قوّتها ومتانتها لغة شفافة ومتألقة، كثيرة الرواء، مفعمة بالشاعرية. أكان ذلك راجع إلى كثافة حضور الذات في الرواية بوصفها العمل البكر أم هو الحنين يشدّك إلى التجربة الشعرية أم هو الاعتقاد في أن الطابع الشعري ضروري لتقع الرّواية من الأنفس المتلقية موقعا حسنا ؟
oo أجنَحُ إلى الإقرار بالعفوية. لهذا أقول هنا : تلك هي الطريقة التي كنت أحسن استعمالها. فعلا، ذلك هو الأسلوب الذي ورثتُ عن الأغاني، ونشوار المحاضرة والكامل، والعقد الفريد، والمقامات، والأدب الكبير، فضلا على مطالعاتي الغربية التي تحتفظ منها "المدوّنة" خاصة بعمل شهير، سلف أن توهّتُ به، هو "التحوّل" فرانز كافكا. كنت في ذلك الوقت قد قرأتُ "التحوّل" فراقتني كثيرا، لم أكن قد اطّلعتُ بعد على ما نشأ حولها من نقد، بل ما تراكم من آلاف الصفحات حول الكتابة عند فرانز كافكا، وحول تمثيله لمرحلة مهمّة في تاريخ الرّواية الغربية. لقد شعرت بقيمة الكتاب، وأغوتني بنية كتب أخرى لكافكا، مثلا "المحاكمة" أو "القضية، فانتبهتُ إلى أننا إزاء مشكلة وجودية أصيلة، فضلا على الإحساس بالحصر الذي يخصص عصر كافكا. في ذلك المجال من العبث، والإحساس بضيق الكائن، تحرّكت رغبات الكتابة عندي، فألفيتني في عملي الأول أحن إلى بهاء الأسلوب [فيما ورثتُ عن قراءاتي العربية] وإلى أشكال البنية وتداخلها، وتعقد المعاني. لهذا كانت "المدونة عملا مثيرا للاستفهام خاصة ببنية الحاشية والمتن، التي استعارها للمرّة الأولى في تاريخ الرواية التونسية المعاصرة.





قديم 11-02-2014, 02:20 PM
المشاركة 1246
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وإلان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 69- النخاس صلاح الدين بوجاه تونس

المصدر : المدونة الرسمية للكاتب التونسي كمال الرياحي :

- تجدّف بك سفينة إبداعه نحو عوالم التراث السردي فتشتمّ منها عبق المخطوطات وكتب التراجم و أدب الرحلة.

- وتجنّح بك السّفينة لتحملك في طبق طائر وتقذف بك في مجرّات مظلمة من العبث والسريالية فتتقلّب في مناخات كابوسية تذكّرك بعوالم كافكا وترمي بك أمواج السرد أحيانا في عجائبية غريبة تبقى عندها مشدوها هل أنت عند ماركيز أم أنت في جراب السندباد تشاركه رحلاته أم أنت بطلا من أبطال المخيال الشّعبي ,

- وتنحرف بك السفينة مرة نحو عوالم اللاّمعقول فتدخل بك "مقاصير" السحر والشعوذة والطفولة الملتبسة لتكرع من نهر الأسرار وعوالم الغيب وتأسرك مرّة كتابة الجسد وكتابة الأشياء ولغة الكتابة .

- هو صلاح الدين بو جاه من أهمّ الأصوات الروائية في تونس , لفت إليه أنظار النقّاد والباحثين منذ نصّه البكر "مدوّنة الاعترافات"1985 فنزل هذا النصّ ضيفا على بحوث جامعيّة كثيرة في تونس وخارجها ومازال إلى اليوم يغري النقّاد والقرّاء معا لما توفّر فيه من صنعة روائية غير مسبوقة استفادت من الأشكال السردية التراثية .

- لم يتوقّف بو جاه عند هذا النّص بل ظلّ يباغتنا كلّ حين بنص جديد رغم مشاريعه الجامعية ونشاطاته السياسية التي نحسب أنّها أكلت من وقته الإبداعي الكثير .

.
- أنني أعلن الآن أنّ تصاريف الحياة والتجارب، وتنوع الاطّلاع الثقافي العام والروائي الخاص قد أدّت بي إلى تغيير ملامح أسلوبي، بحيثُ بدا مختلفا عن البدايات. وهذا طبيعيّ، فليس هنالك من يُحافظ على السمات الأسلوبية نفسها، وعلى معالجة القضايا ذاتها. لهذا أعود لتأكيد الجملة التي افتتحنا بها هذه الكلمة "البذرة التي تختزل حلم الشجرة".

- هذا لا ينفي أن "المشروع" قد اتّخذ مسارات مغايرة وطرق سبلا جديدة لم تكن في ذهني إبّان الفراغ من الرواية النطفة. ولا أخفي هنا أنّ أسعد لحظات حياتي كانت تلك التي قال فيها الأستاذ توفيق بكار والناشر الأستاذ محمد المصمودي، في دار الجنوب بتونس، بعد أن دفعتُ إليهما بعملي الموالي لرواية "النخّاس" : "فعلا… هذا أيضا موسومٌ بأسلوب بوجاه / C’est du Bougeh !". في ذلك الوقت علمتُ أنّني قد تمكّنتُ من ابتداع أسلوب خاص بي،

- والأسلوب هنا لا يتعلّق بظاهرة اللغة فقط، إنّما يتّصل بحيثيّات السرد، والمضامين أيضا ! وقصارى ما هنالك أن "مدوّنة الاعترافات والأسرار" كانت تتضمّن اهتماما بـ"المفارقة" و"تعريضا بالمستقر" و"اختيارا للألفاظ النقيّة" في الغالب الأعم و"ميلا إلى الحلم والفنطازيا والعبث"… وهذه هي ذاتها السماتُ التي تطبع أعمالي الموالية حتى اليوم.

- كل ما هنالك أنها قد اتّخذت ألوانا جديدة، وأضيفت إليها ظلال أخرى مستحدثة، وخاصة في مجال التخفّف من "صفوية اللغة" واسلاس القياد نحو استعمال العربية قريب من اليومي… أو قُل "إنّه يميل إلى أن يكون قريبا من الجملة العربية العادية اليوم". والحق أنّ الأمر عندي ليس من باب التألّق، إذ التعلق القديم بالفصحى هو الذي يعيدني إلى طفولتي، وإلى كتب الوالد، وإلى المدوّنة التراثية التي نهلتُ منها.

- يقول عن كتاباته : النزعة التجريبية، والهاجس اللغوي، والرمز، والأبعاد الحضارية… كانت الركائز التي انطلقتُ منها. كنّا في منتصف السبعينات نستند إلى نصوص متباينة : مدونة كرم ملحم كرم، "الإنسان الصقر" لعز الدين المدني، "حدّث أبو هريرة قال" للمسعدي… فضلا على نماذج كثيرة من النشر العربي القديم التي استهواني الاطلاع عليها، والاستناد إليها، بالإضافة إلى التراث الغربي متمثلا خاصة في مزيج من كافكا، وجان بول سارتر والشعر الحديث، على يد أعلامه المعدودين مثل بودلير ورامبُو وفرلين ! هذا هو المزيج غير المتجانس الذي استند إليه، فإذا أضفتَ إليه القرآن الكريم، والأناجيل، انتبهت إلى أنه أمشاج شتّى من الغرب والشرق تمازجت بالشائع من أدب الستينات والسبعينات. بيد أن محاولاتي الأولى، مثل كتابتي الراهنة، لم تنتهج درب "الأدب المناضل" أو "الواقعيّة الاجتماعية"، كتابتي ردة فعل على هذا التيّار، باختياراته الأسلوبية والمنهجية ومواضيعه وأغراضه.

- بالنسبة إليّ لا قيمة لدراسة الأبعاد الاجتماعية إلا في كنف التعامل مع الأغراض الوجودية الكبرى، مثل الحياة والموت، والولادة واللذة والألم والبداية وخوف النهاية. ليس الأدب فعلا سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا… إلا في نهاية المطاف ! إنه فعل عميق جاد يرقى إلى مستوى النصوص الكبرى، الشعر، المسرح اليوناني، الكتب السماوية. لهذا أتشبّثُ بسعي النص النثري العربي إلى الشاعرية، أو قُل تشبّث النثر بأفق الشعر يمتح منه أساليبه ويعالج قضاياه.

- ليس الأدب سعيا سياسيا أو اجتماعيا، وليس الأديب رجل صحافة، أو رجل ضرب من الأحزاب. الأديب أرفع من هذا ! أو فلنقل أنه مختلف مغاير، وكفى ! لكل مهمّته ووظيفته. لهذا نجزم بأن الأديب ليس مترجما، كما أنه ليس رجل معارضة ! الأديب "معارض" بالمعنى العميق، بل العميق جدا. الأديب ليس معارضا سياسيا، إنه "معارض" للمجتمع، معارض للخيارات الإنسانية الكبرى… من حيث هو مسهم في الجدل الأصيل حول الإنسان، وتجربته الروحية العميقة. بهذا المعنى ندرك أنّ الأديب محرّك للوجود، ومُثَوِّرٌ للمستقرّ، ومُسهم في معارضة التفسيرات القاصرة المحدودة، ومُشجّع على تبنّي التوازن الروحي في وجود لا يكاد يؤمن إلاّ بالظاهر المادي المحسوس. على هذا الأساس ينبغي أن ينهل الأدب من التجارب الصوفية، ويكون فنطازيا سرياليا في بعض توهّجاته الكبرى !

- فعلا، العمل الأول يختلف دائما عن الأعمال اللاحقة، وقد سلف أن أكدتُ أنه "مثل صندوق الأم يحوي "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". إنه يحوي المتناقضات المتنوّعة الكثيرة، لذلك يحسن أن يُشفع بمقدمة تدعمه وتفسر مغاليقه وتُسنده. والحق أن وضع مقدمات بين يدي الأعمال ليس بالبدعة، خاصة بالنسبة إلى الأعمال الأولى… سواء من قبل الكتاب أنفسهم أو من قبل بعض أصحابهم. انظر على سبيل المثال سلسلة "عيون المعاصرة" تجدها تضم أفضل المقدمات التي أنشأها كتاب، أو نقاد، يتناولون العمل المنشور بالنظر الأدبي الرفيق، فيضيفون إلى فهم القرّاء ويمهّدون الطريق أمامهم.

- ولعلّ الحرج الذي قابل به النقاد مقدّمة العمل الأول "مدوّنة الاعترافات والأسرار" يعود إلى أنها كانت فعل بين "المقدمة" و"البيان"، أو لعلها كانت إلى البيان أقرب. فعلا كانت بيانا مشفوعا بأنموذج مما يدّعي صاحب البيان. وكان من الطبيعي أن ينشأ تفاوتٌ بين النظري والتطبيقي، فضلا على أن الناس لا يستطيبون بيانا يصدر عن كاتب لم يُنشئ حتى ذلك الحين إلا بعض القصص القصيرة المنشورة في عدد من المجلات. لعلّهم كانوا ينتظرون بيانا ممّن ترسخت قدمهم في عالم الكتابة القصصية. لهذا نشأ عندهم حرج واسع بين قبول "المقدمة-البيان" أو رفضها، ورفض العمل الإبداعي الذي يصحبها.

- أجنَحُ إلى الإقرار بالعفوية. لهذا أقول هنا : تلك هي الطريقة التي كنت أحسن استعمالها. فعلا، ذلك هو الأسلوب الذي ورثتُ عن الأغاني، ونشوار المحاضرة والكامل، والعقد الفريد، والمقامات، والأدب الكبير، فضلا على مطالعاتي الغربية التي تحتفظ منها "المدوّنة" خاصة بعمل شهير، سلف أن توهّتُ به، هو "التحوّل" فرانز كافكا. كنت في ذلك الوقت قد قرأتُ "التحوّل" فراقتني كثيرا، لم أكن قد اطّلعتُ بعد على ما نشأ حولها من نقد، بل ما تراكم من آلاف الصفحات حول الكتابة عند فرانز كافكا، وحول تمثيله لمرحلة مهمّة في تاريخ الرّواية الغربية. لقد شعرت بقيمة الكتاب، وأغوتني بنية كتب أخرى لكافكا، مثلا "المحاكمة" أو "القضية، فانتبهتُ إلى أننا إزاء مشكلة وجودية أصيلة، فضلا على الإحساس بالحصر الذي يخصص عصر كافكا. في ذلك المجال من العبث، والإحساس بضيق الكائن، تحرّكت رغبات الكتابة عندي، فألفيتني في عملي الأول أحن إلى بهاء الأسلوب [فيما ورثتُ عن قراءاتي العربية] وإلى أشكال البنية وتداخلها، وتعقد المعاني. لهذا كانت "المدونة عملا مثيرا للاستفهام خاصة ببنية الحاشية والمتن، التي استعارها للمرّة الأولى في تاريخ الرواية التونسية المعاصرة.

قديم 11-04-2014, 09:48 AM
المشاركة 1247
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
n راهَنَتْ رواياتك إجمالا ورواياتك البكر تحديدا على التراث اللغوي تنهل من منابعه وتستلذّ ثماره المعتّقة وتنثر عنه غبار الزمن باعثة فيه روحا جديدة تستجيب لإشكاليات المرحلة. فهل ترى أنّ الاستفادة من الموروث هي إحدى الإمكانات المتاحة للمبدع وهو ينسج نصّه أم أن استلهام الموروث وهضمه وتجاوزه هو شرط إمكان كتابة تتميّز بالخصوصية وبطرق قضايا الراهن ؟‍!!
oo أحتفظ بقولك "إن استلهام التراث، وتجاوزه، هو شرط إمكان كتابة تتميّز بالخصوصية وبطرق قضايا الراهن". أضع استلهام التراث عند ركن الزاوية. فعلا، فهو حجر الأساس بالنسبة إلى كل بناء جادّ ينشد البقاء. ليس في إمكاننا بناء معلم باق إلاّ باستلهام التراث، والانطلاق منه والنسج على منواله. لكنّ شرط التجاوز من الشروط الأساسية في هذا البناء. انظر الهندسة المعمارية مثلا، تجدها تطبّق هذه المقولة تطبيقا رصينا أصيلا كاملا. لهذا فإنني أعتقد أن النصوص الجيّدة تبنى لا محالة على مزيج من النصوص القديمة المستقرّة، أما البناء من عدم، أو قل "ادّعاء البناء من عدم" فأمر مردود لا يكون أصلا.
وقد يكون من الطريف أن ألاحظ هنا أنّ تجارب الكتابة عندي قد نشأت، أول نشأتها، تراثية صرفا، وليس في ذلك أية غرابة، إن كنت تحت تأثير الكتب التراثية الكثيرة التي طالعتُ في مكتبة والدي، فانبثقت كتاباتي الأولى من قبيل المحاكاة، فـ"الأدب" بالنسبة إليّ هو ذاك ! بالإضافة إلى أنّ والدي الزيتوني لم يكن يعرف مفهوما مغايرا للأدب. أودّ هَهُنا أن توقف بعض الوقت للإلحاح على دور والدي في تكويني، خاصة في المرحلة الأولى، لقد كان معلما فعليا بالنسبة إليّ، معلما في الصرف والنحو، بل في الرياضيات والعلوم الطبيعيّة… قل إنه المعلم الشامل، وكفى. جعلت شخصيّته بقية شخصيات المدرسين في الابتدائي والثانوي تمضي غير ذات قيمة، إلا فيما ندر ! وقديما كان النقّاد حين يكتبون ترجمة أديب أو شاعر يشيرون إلى شيوخه. شيخ شيوخي كان والدي، بتكوينه التقليدي الذي كان يميل إلى النثر، ولا يحفظ من الشعر إلا شواهد قليلة دالة، بالإضافة إلى إشاراته المتكرّرة إلى المعلّقات.
في هذا الباب يمكن أن أقول إن تجربتي في الكتابة تستند إلى طبقات، بل هي طبقات متراكمة : الطبقة التقليدية التي ورثت الأدب عن بداية القرن العشرين [أو قل آخر التاسع عشر] مع جبران خليل جبران وكرم ملحم كرم خاصة، ثم عقبتها طبقات شتّى متنوّعة بدخول الفرنسية في تكويني، وإضافة عوالمها الشيّقة جدا، خاصة عالم السريالية الذي بقي عالما شيّقا جدا، إذ أتاح التعبير عن العقلاني، والتخييلي الاستيهامي في وقت واحد ! في طفولتي كنتُ أسأل نفسي كيف أعبّر عن خيالات الصبا الأول بكيفية رصينة متوازنة، ثم حدث انشطار عندي فصرتُ أميّز بين العالمين… حتى كان كافكا من ناحية، والسريالية الفرنسية من ناحية أخرى، فتمكّنتُ من قول الهجنة التي تسكنني. لذلك تعثر في كتاباتي اليوم [في تناولي لقضايا الحياة والموت والبداية والنهاية والمتعة والألم] عن مزيج غير متجانس بينها جميعا !
n قال بعضهم إنّ بنية نصّك "مدوّنة الاعترافات…" يعتريها شيء من التفكّك على ما في النص من طرافة فكرة وسلاسة لغة وثراء خطاب، بهذا المدى الفاصل بين زمن كتابة الرّواية وزمن قراءتك لها اليوم. هل ترى فيها هذا الرأي أم ترى أن كفاءة التلقّي ما تزال تنفر من الجديد الصادم وتأنس بالقديم المألوف ؟ ألا ترى معي أن الذائقة الرّوائية والإبداعية عموما تكشف عن ملامح الذهنية العربية الشرقية وعن آليات اشتغالها ؟
oo ليس القارئ مجبرا على "رأب الصدع" في البداية كنت أحمله ما لا يحتمل، فأقول إنه ينبغي أن يُسهم في كتابة الرّواية برأب الصدع، أو تصوّر النقائص وملئها. والحق أنني أميل اليوم للإلحاح على أن العمل الأول "مدوّنة الاعترافات والأسرار" كان فعلا "عملا أول"، بما يتضمّنه ذلك من إشارات إلى البكارة والبداية واكتناز التجربة… لكنه أيضا كان عملا أول من حيث النقائص الكثيرة التي يتضمّنها. كنتُ أوحيتُ فيما سبق أنّ الاستناد إلى التراث بالنسبة إليّ يعود إلى سببين : أوّلهما تكويني وأثر والدي، وثانيهما اختيارٌ معقلن يقضي بوجوب الاستناد إلى التراث. حدث ذلك بإيجابياته وسلبياته. وهنالك مسألة يمكن أن تكون دالة هنا، وهي الاختلاف بين الثقيل المشرقي والتونسي. لقد نشرتُ في القاهرة رواية ومجموعتين قصصيّتين، ويمكن أن أقول أن القارئ المصري، أو قل المتأدب المصري، مطّلع على ما أكتب ويقبله قبولا عاديا، أمّا القارئ التونسي فيميّز بين التراثي في "المدوّنة" خاصة و"غير التراثي" مثلما ظهر في الأعمال اللاحقة.
إلى جانب خياراتي الأسلوبية أحيل على "أفق التقبّل"، أفق التقبّل في مصر – وفي المشرق عموما – يختلف عن أفق التقبل في تونس، خاصة أن أعمالي الأولى ظهرت مباشرة بعد انتشار "الأدب النضالي" الذي لا يعني بالنسبة إليّ أيّ شيء، بنضاليته الفجّة وانغماسه المبالغ فيه في الواقع اليومي المعيش.
n لنبقى مع اللاّئمين، فنذكر لك ما عابه عليك الدكتور مصطفى الكيلاني – بعدما أطنب في الإعجاب بالرّواية – من تجريد فيقول في مؤلّفه : "صلاح الدين بوجاه قد أعاد في هذه المحاولة الروائية طرح إشكالية اللغة الإبداعية في المجال الروائي والمسألة الحضارية معا في زمن نحتاج فيه إلى مثل هذا الطرح بغية إنشاء رواية عربية أصيلة حديثة، ولكنّنا نعيب على هذا الطرح طابعه التجريدي".
هل كنت قصدت ذلك التجريد حتى يكون عملك الإبداعي أفّاقا ومتحرّرا من حمولات الواقع وما يرشح به من إسفاف، أم أنّك كنت تسير في طريق كان قد بدأ تعبيدها المسعدي بأعماله الشهيرة ؟
oo هو بين هذا وذاك في الوقت نفسه. فقد سبق أن قلت إنّ ثقافتي الأولى تقليدية، مما جعل أمامي أفقا تقليديا لقول ما أريد أن أقول. قد يكون الأمر ناتجا عن توازن بين تلك الثقافة الأولى، وسعي إلى التحرر من القضايا اليومية التي تثقل الكائن. أما اليوم فأنا أميل إلى التعبير عن أوسع الرموز وأهمها وأبعدها غورا بأحداث إنسانية بسيطة تطبع الكائن. حياة الكائن مثقلة بها يُتيح الإحالة على الأبعد وأكثر ثراء والأعمق دلالة. في أدب محمود المسعدي نعثر أيضا على هذا الجوار الدال بين ما هو قريب وما هو بعيد، في أدبه يحدث وفاق عجيب بين بسائط الأمور وعظائمها. لهذا نعلن هاهنا أنه مرحلة هامة جدّا في تطوّر الأدب العربي عموما، رغم أنه لم يلقَ الشهرة العربية التي هو بها جدير. المسعدي مشهور جدا من حيث الأسهم، لكن القرّاء في المشرق قلّما اطّلعوا على أعماله. بعض النقّاد طالعوا نتفا من "السد" أو "حدّث أبو هريرة قال" والحق أنه ينبغي اليوم أن نعود إلى أدبه بالكثير من التمعّن على اعتباره مرحلة هامة جدا من مراحل تطور الأدب والفكر.
n يقول عز الدين المدني في كتابه التأسيسي "الأدب التجريبي" : "وما الأدب التجريبي إلاّ مرحلة مؤقّتة وانتقالية ستفضي إلى الأدب الكامل بعد اجتيازها". لماذا طالت هذه "المرحلة المؤقّتة" وطال انتظار هذا "الأدب الكامل "؟ وهل يمكن أن نتحدّث عن جمالية وفنية في العمل الإبداعي خارج سؤال التجريب وألعاب الإطاحة بالسائد ؟
oo مع احترامي للأديب الصديق عز الدين المدني لا أعتقد أنّ هنالك أدبا كاملا. الأدب تجريبي أبدا، أما الأدب الكامل فنسعى إليه ونتوق إليه دون أن يكون وجودا فعليا. "موريس بلانشو" يعبّر عن هذه الفكرة الرائعة للجزم بأن الأدب هو "ما نُقبل دوما على ابتداعه"، الأدب في حركته وتبدله وتطوره وتغيره. من قبيل التبسيط القول بوجود مرحلتين : مرحلة تجريبية مؤقتة، ومرحلة أخرى نهائية ودائمة. على العكس المرحلة التجريبية هي الدائمة عبر ترافد حلقاتها الكثيرة المتعاقبة. ولا أشكّ في أنّ أفضل نص ابتدعه عز الدين المدني هو قصة "الإنسان الصفر"، بمراحلها القديمة والجديدة المنشورة في "كتاب الأسئلة" لخالد النجار. لقد كانت هذه القصة القصيرة قصة رَحِمِيَّةً مكّنت الكثير من النصوص من أن تكون. لهذا أجد لها أثرا فيما أكتب وفيما يكتب إبراهيم الدرغوثي خاصة.
لقد سعت إلى تجريد الأشياء من قداستها، وإلى قول ما يعسر أن يُقال، أو قوله بطريقة أخرى مغايرة، فمثّلت منطلقا حقيقيا للكثير من عيون الأدب اللاحق، حتى "دار الباشا" لحسن نصر تتضمّن فصولا تذكّر بـ"الإنسان الصفر" لعز الدين المدني.
n وضعت عبارة "رواية تجريبية" عتبة تلقّي في "مدوّنة الاعترافات…" وغابت هذه العتبة عن بقية أعمالك الرّوائية رغم أن هاجس التجريب ظلّ يرافق النصوص. هل يعني هذا أنّ التجريب في النص الأوّل كان سؤالا مركزيا بينما تحوّل في النصوص اللاحقة إلى استراتيجية لطرح أسئلة أخرى قد تكون مضمونية ؟!!
oo إشارتك هذه ذكية جدا، إذ تلتقط سمات التجريب وتميّز الموجود منها في النص الأول لمقارنته ببقية النصوص الموالية. مثلما أشرت التجريب جزء من الاستراتيجيا المركزية في صلب النصوص الموالية، إنما لم يعد القضية الأساسية. أما الأسئلة الجديدة فمضمونية. لهذا يُمكن أن أقول إن العمل الأول أعلن إجمالا عن خيارات أسلوبية معيّنة، ثم تأتي الأعمال الموالية لتأكيدها مع تقديم فسحات غرضية مغايرة. فكأنّ الأعمال اللاحقة من قبيل دعم الأصل بإضافات جديدة. لهذا، ومن هذا المنظور أساسا، أقول أنها تنويعات جديدة تدعم الأصل وتُغنيه. أما الأسئلة الجديدة التي تتضمنها فقد سلف أن عبّر عنها محمد الغزّي إذ أعلن أنها أسئلة وجودية، في المعنى العام الواسع.
الأدب الذي يُثير المسائل الأساسية كالموت والحياة واللذة والألم هو الأدب الذي ينغرس في بنية الكائن للتعبير عن حرقته إزاء الاندهاش الأصيل الذي صاحب نزولنا من الجنّة. الطفولة هي جنّتنا الأولى، لهذا تبقى أعمالنا معبّرة عن فترة نزولنا من الطفولة نحو الكهولة والشيخوخة وتركنا ذلك العالم الأول الأثير الرائع العذب. هذا ما قاله الشابي وهذا، وهذا ما قاله المسعدي، والبشير خريف وعلي الدوعاجي… حتى لا نتحدث إلا عن تونس.
n يتواتر سؤال السبيل في روايات صلاح الدين بوجاه، هل يعيش المؤلّف أزمة الاتّجاه في زمن اندثرت فيه معالم الطريق أم هو سؤال المثقف في كل الأزمنة باعتباره توأم الاغتراب ونزيل غربة دائما وتلك ضريبة "الوعي الشقيّ" ؟!
oo أقول هو "سؤال الإنسان"، فعلا لا أميل إلى التمييز بين المثقّف وغير المثقّف، إنما أريد أن أجزم هاهنا بأنّ كلاّ منهما يعبّر عن المأساة الفعلية الأصيلة بكيفيته الخاصة. منذ النصوص القديمة التي التقطناها، منذ الكتب السماوية الأولى، وآثار الفراعنة، ومدوّنات السلالات البائدة… لم يقل الإنسان إلا فكرة واحدة في كل ما كتب : لقد فغرَ فاهُ ليصرخ : آهٍ كم هو رائع هذا الوجود، أه كم هو مروّح الموت، أي لماذا تأتي النهاية بسرعة ! تلك هي الجملة الواحدة التي كتبت فيها الآلاف المؤلفة من الصفحات، وأقبل كل أديب، وكل شاعر، وكل نحّات، وكل رسّام، وكل موسيقار للتعبير عن عمقها الكاوي بطريقته الخاصة. أما غير هذه الجملة فخواء لا يُسمنُ ولا يُغني من جوع ! لذلك تجد الأدب الجيد مجرّد تنويع على هذا الأصل الواحد الذي يُعبر عن دهشة الكائن الفرد المعزول الأعزل إزاء الحقائق الكبرى في الوجود.
فجأة ننتبه إلا أننا لا نريد أن نقول شيئا، ولا نريد أن نعبّر عن شيء، قصارانا أن نعلن خيباتنا، وحدود أفعالنا، وسعة الفضاء الكوني الذي يشملنا !
n قرأنا في روايتك "السيرك" عن ظاهرة أكل لحم الكلب أو "غزال السطح" التي تنتشر في إحدى مناطق الجنوب التونسي والتي يُنكرها أهلها، رغم أن التيجاني سبق إلى تدوينها منذ قرون في رحلته الشهيرة. هل في ما ارتكبته شيء من نيّة فضح المسكوت عنه وما يجري في المناطق الخلفية لوجاهة الإنسان المتمدّن وما يعيشه من وحشية ونزعة إلى ارتكاب الممنوع والمحرّم ؟!
oo هي نزعة أثيرة عندي. أهدف إلى كشف المستور وإزاحة القداسة عن الواجهات الهشة التي كثيرا ما تخفي ممارسات شتى خفية، وعادة أكل الكلب من قبل الأفّاقين والمجرمين والسكارى عادة منتشرة في أكثر من جهة، لكن الناس يتستّرون عليها، على أنها من العادات المكروهة. وكم من عادات مكروهة تخفي الباقات المنشّاة والأفعال الموزونة. عادة أكل الكلب يشيع أنها كانت منتشرة في حي "الرحبة" في مدينة القيروان. وهذا الحي قد جمع الأفّاقين وباعة الحشيش والخمر منذ عصور… حتى أصبح أنموذجا واسعا للمسكوت عنه بكل أنواعه. المسكوت عنه، الجنسي والديني والسياسي أيضا من المسائل التي أصبو إلى الكشف عنها ويهتك أستارها. من هذا المنظور يبدو الروائي دارسا أنثروبولوجيا كاشفا منقّبا يُعرّي العورة ويهنك السرّ ويُفضي إلى النقيصة.
الكشف عن النقائص أيضا هدف أسمى يسعى إليه الكاتب، لأنّ وضع الإنسان إزاء ذاته، إزاء حقائقه الأولى البسيطة، هو من أهداف الرّوائي التي ينبغي أن يحتفظ بها ويقدّمها. هذه هي الأهداف التي أتشبّث بها ويعنيني أن أواصل العناية بها بكيفيات مختلفة فيما أكتب. الكتابة في ذاتها تنبع من نزعة نحو إتيان المحرّم، نزعة قصية في أعماق الكائن البشري عموما ! وهل أعتى من الكتابة في مجتمعاتنا هذه التي تعتبرها نسيا منسيا، بل عادة سرية مرذولة مكروهة !
n قرأنا في "السيرك" إصرارا على إقحام العامية التونسية من خلال مجموعة من الأسماء والأفعال عمدت إلى تفسيرها في ملحق/ذيل، هل كنت تختبر لغة المتداول اليومي أم كنت تريد الإيهام بالواقعيّة أم كان دافعك البحث عن تلك الأسلبة التي أعلنها باختين في تناوله للخطاب الرّوائي ؟!!
oo تلك هي الرّواية التي هتف بعد قراءتها الأستاذ بكار : "هذا أسلوب بوجاه !". أقول هذا لأنني فعلا سعيت إلى ترصيعها بألفاظ عامية لخدمة وظائفها السردية أولا، ولاستحضار معجم واقعي تونسي يتماشى خاصة ومعمار الرّواية. الرّواية تُبنى عبر الزقاق والسقيفة والمجالس والمقاصير والمستراقات، وهي جميعا تحيل على المعمار العربي القديم في البيوت القيروانية، وبيوت تونس بصورة عامة، وقد رغبت في اعتماد الكثير من "الأشياء" في تسمياتها العامية الدارجة بيننا تماديا في تصوير الواقع اليومي. ورغم ذلك انتبه "عُتاةُ القرّاء" إلى الأسلوب الخاص بي الكامن في تجاويفها والنابع من بنيتها السردية والملابس لأحداثها. أما مسألة إدراج ثبت يُفسّر العامية فمن اقتراح الأستاذ بكار. ذلك أن النص كان سيصدر ضمن سلسلة "عيون المعاصرة" مثل نص "النخّاس"، ووضع مقدمة له الأستاذ الصحبي العلاني، وطلب الأستاذ بكار بوضع "معجم" في آخره يشرح الألفاظ التونسية للقرّاء في المشرق العربي. لكن ظروف النشر شاءت بعد ذلك أن يصدر النص ضمن "منشورات دار الأدب" ببيروت، قبل أن أعيد نشره – على كاهل المؤلف – سنة 2002.
n لاحظنا غلبة الجمل الاسمية في روايتك "السيرك" والتي تفيد عادة السكون وانحسار الحركة وهو ما يتناقض مع دلالة العنوان الذي يحملنا إلى عوالم الحركة بامتياز. هل هذه المفارقة بين اللغة والمتخيّل من ناحية وبين العنوان والمتن من جهة أخرى من قبيل المراوغة أم المصادفة ؟
oo غلبة الجمل الاسمية… مجرّد صدفة غير مقصودة، إلى حدّ اللحظة لم أعد إلى النص للقيام بإحصاء غلبة هذا النوع أو ذاك من الجمل عليه. والحق أنني لا أحفل كثيرا بمثل هذه الملاحظات الأسلوبية أو أن الكتابة، لأنها مما يُرهق الرّوائي ويضع الأغلال في أقدامه. قد يكون من مهام النقاد أن ينتبهوا إلى مثل هذا، لكن حركة النص، ودلالات الشخصيات داخله، وأبعاده المعنوية تبقى حرة متحركة بعيدة عن هذا أو ذاك من التفسيرات التي تبقى مجرّد تأويلات.
n تمرّ بنا فصول روايتك من خلال عناوينها من الزقاق إلى السقيفة الأولى فالثانية ثم وسط الدار فالمجلس الكبير ثم المستراق مرورا بالمقصورة لتخرجنا من الخوخة. في هذه العنونة مبرّرات كثيرة لقراءات مختلفة ففيها إشارة إلى وعي الرّوائي بشعرية العنونة، وفيها معنى الاستضافة : استضافة القارئ، وفيها ما يحيل على جمالية المكان، فكأنك تؤثّث فصول الرّواية كما يؤثّث بيت عتيق، فأيّ هذه الدلالات كانت حاضرة في ذهن بوجاه وهو يضع عناوين الفصول ؟
oo الدلالة الأولى نابعة من إعجابي بـ"الدقلة في عراجينها" للبشير خريف. كنتُ أعتقدُ – ولا أزال – أنه قد تمكّن من ابتداع بنية رائعة بتقسيم روايته إلى شماريخ وعراجين، فرغبتُ في محاكاته بكيفية أخرى إذ عملتُ على استحضار بنية "البيت العربي" القديم بمختلف عناصر عمارته. وأعتقد أنني قد نجحت في لفت انتباه القارئ التونسي والمشرقي. فكثيرون هم الأصدقاء الذين لاحظوا ذلك وتساءلوا عن دلالاته ! لهذا أجزم معك أنها غاية جمالية تلك التي دفعتني إلى استحضار المعمار القديم المساوق للمضامين.

قديم 11-04-2014, 09:53 AM
المشاركة 1248
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
n تصرّ في خاتمة رواياتك أن تقحم إمضاءك فتغتال الرّاوي في عملك، هل كنت أنت المؤلف الذي يروي دائما أم أنّه يحزّ في نفسك أن تترك تلك العوالم الرّوائيّة لشخصيّة ورقيّة ؟
oo فعلا ملاحظتك طريفة جدا، والحق أنّ هذا التقليد حاضر في "المدوّنة" و"النخّاس" و"السيرك" و"التاج والخنجر والجسد". أستحضر اسمي مباشرة، أو بعض ألقابي الظاهرة أو الخفية، كأن أقول "أبو يُسر" وهي كبرى بناتي، أو "تاج الدين فرحات" تنويعا على "صلاح الدين بن فرحات" وهي لقبي الأصلي… إلى غير ذلك من "الرموز" المفضوحة الواضحة التي تصبو إلى الإحالة على المرجع الخارجي، وجعل النص "نسبيا" أي نسبيّ الانغلاق، أو الإحالة على ذاته. والأمر نابع من تصوّري للعلاقة بين النص والمرجع، فليس في كتابتي "سيرة ذاتية" بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن فيها يقينا نابعا من الجوار الدال. بين النص المكتوب والمرجع المحكي، حتى لأكنهما واحد. في ذلك تصور للفن الروائي الساعي إلى الانبثاق من الحياة والعائد إليها، ينبثق منها بإثارة أسئلتها الوجودية الكبرى، ويعود إليها للإلحاح على استفهاماتها الأصلية.
… ثمّ انتبهتُ بعد ذلك إلى أن الشاعر الزّاجل في قصائدنا العامية يُضمن اسمه للتباهي في نهاية "القسيم"، فاستطرفتُ ذلك حقّا !!
n لاحظنا في آخر أعمالك وفي "السرك" تحديدا أنّك تنزع إلى الوصف مستعملا لغة واقعيّة محايدة خلافا لعملك البكر الذي جاء مثقّلا بحضور كثيف للذات جعلها تقف منظّرة ملقية بحكمها ورؤاها. هل انحسار هذه الذّات الوجودية وانفجار الواقع ليعبّر عن نفسه في علاقة بانهيار الإيديولوجيّات والفلسفات اليوم ؟
oo قد أوافقك على "انهيار الأيديولوجيا وانحسار الواقع"، لكنّني أولا وآخرا أعيد الأمر إلى "العمل الأول" الذي افتتح به هذا الحديث. فالعمل الأول يقتضي منا أن نقول كل شيء، فكأنه يختزل، ويختزن، جميع الأعمال التي تعقبه، أما الأعمال الموالية فأقل ادّعاء، لذلك تكون أكثر صمتا، وأميل إلى الإيحاء دون جلبة أو ضجيج. فلنقل إن التفسير مزدوج إذن، هذا وذاك في الوقت نفسه، لكنّني أعود لأكرر الإشارة إلى أنّ الكاتب إذ يكتب لا يقصد إلى هذا الأمر أو ذاك، إنما من مهام الناقد فيما بعد أن يُعمل أدوات التأويل فيما بين يديه.
n تحدّث سعيد يقطين في حوار أجريناه معه عمّا سمّاه بـ"الرّواية التفاعليّة" التي استفادت من الثورة المعلوماتيّة. هل يعتقد بوجاه أنّ هذة الاستفادة كفيلة بأن تضمن للرّواية حداثتها، أم أنّ هذا التوظيف لا يعدو أن يكون صرعة فنيّة سرعان ما يعود بعدها الرّوائي إلى سحر المخطوط وجماليات البصري العتيق ؟
oo أنا من القائلين بأنّ "الإنسان بصدد التغير والتبدّل"، فعلا، الإنسان إذ يبتدع أدوات جديدة يدخل علاقات مغايرة، وبالتالي يُغيّر من ذاته، لهذا لا يمكنني اليوم أن أجزم بأن البقاء للمخطوط. إنّما يعنيني أن ألاحظ أن المسألة بالنسبة إليّ تعود إلى الاحتفاظ بالمكتوب، أما بالنسبة إلى غيري فمن يدري. أنا ممن يؤمنون بالقدرة التحريرية للكتابة الروائية التي تحتفظ لنفسها بمجالات الهدوء والصمت والتأمل والرويّة وإعمال العقل. هذه الجوانب هي الكفيلة بالإسهام في تحرير الإنسان، أما الجلبة فلا تغني ولا تسمن من جوع !
n شخصيّة "تاج الدين" – سيد الورق في روايتك "النخّاس" – فيها الكثير من صلاح الدين بوجاه. هل كنت تراوغ الرّوائي بالذاتي وتضفر الرّواية بالسيرة والمتخيّل بالواقعي في مؤلّفِك ؟!!
oo هي هباءات متمازجة، وفي الإمكان أن تعثر على إجابة على هذا السؤال طيّ الصفحات السابقة، تاج الدين فرحات هو صلاح الدين بوجاه، وهو جيل بكامله من أصحاب صلاح الدين بوجاه، لكنه مخلوق روائيّ نصيّ قد قُدَّ من كلمات. لذلك لا أميل إلى التأكيدات الخاوية الجازمة النهائية، إنما تستهويني الأجوبة المفتوحة غير المكتملة. ولا أعتقد أنّ "النخّاس" رواية سيرذاتية، رغم رغبة الرّاوي في الإيحاء بذلك. إنما هي تبنى – مثلما أسلفْتُ- على حوار أخّاذ بين الواقعي المرجعي والنصّي الصرف، لذلك تتردّد بين هذا وذاك. والحق أنّ ما يُنبئ فيها بالسيرذاتي يوجد في غيرها من رواياتي، بل من مجاميعي القصصيّة، لذلك أميل إلى تأكيد ما يمكن تأكيده بالنسبة إلى غيرها… فيها مزيج من نتفٍ وهباءات قد تذكّر بسيرتي لكنها تتجاوز سيرتي لتضرب بسهم في سيرة جيل بكامله، مدوّنة الاعترافات والأسرار كذلك، وبطلها الذي يختفي منذ الصفحة الأولى.
وكنتُ قُلتُ في ذلك الحين، إنه قد غاب، أو غُيِّبَ. وأعلن هاهنا أيضا أنّ "تاج الدين" في "النخّاس" هو أبو عمران سعيد في "المدوّنة" وهو الرّاوي في "التاج والخنجر والجسد"… وهو جميع هؤلاء الذين سيترددون على محاولاتي الرّوائية القادمة، له سماتهم وعلى لسانه شذراتٌ مما يقول، وفي ملامحه أيضا !!
n نواصل الحديث في هذه المسألة : "نصوصي تشبهني، فهي لا تحتيا في كنف العافية، إنما تقوم على مطلق الانشطار والخفّة… والبحث عن الجديد البعدي المبهج".
هذا الكلام لك، ومع ذلك تستدرك سريعا لتقول أنّك لم تقصد كتابة سيرتك ولا سيرة جيلك، وإن كانت الوجوه التي عرضتها في نصوصك تشبهك أو تشبههم.
هل فعلا يقدر الكاتب أن يحسم في ذلك الشبه أم أن المتلقّي هو الذي قد يعثر على ذلك الشبه بينك وبين تاج الدين مثلا لأن الكاتب قد يكتب تحت ثقل اللاوعي فتنسرب من بين أنامله حيواته وخلاياه وجيناتـه وهـو لا يعلم ؟!
هل تكتب وأنت على عرش وعيك أم أنه يحدث أن تراجع نصّا كنت قد كتبته فتغيب عنك دوافع ارتكابه ؟!!
oo فعلا، أنا لم أقصد إلى كتابة سيرة جيلي قصدا، لكن تلك السيرة تظهر من تجاويف الرّواية، تمدّ رأسها لتنظر من خلال شقوقها. وأجزم مجدّدا أنّ نصوصي تشبهني، وأنها مثلي لا تحيا في كنف العافية، إنما تتصادم ولا تترافد ! أقول إنّ هذا ينبع من بنيتها، وبنيات شخصياتها، لهذا فهي "لا تقول هذا" لكنّها "توحي به"، هذا هو لبّ المسألة. وأنا معك في أنّ الأمر يُترك ليحسم في شأنه المتلقّي بما يريد. وقصارى ما أقول هنا لا يعدو أن يكون تفسيرا واحدا من بين تفسيرات شتّى كثيرة يمكن أن تصيب، كما يمكن ألاّ تصيب ! وأشير هاهنا إلى أنّني أكتب نصوصي دفعة واحدة، ولا أعود إليها.
النص الوحيد الذي كتبتُه على مرحلتين، الأولى تفصلها على الثانية سنة كاملة، ثم عدتُ إليه لأتناوله بالكتابة مجددا… حتى تجلّى ذلك في بنيته وترجيعاته… هو "التاج والخنجر والجسد" أما بقية الأعمال فكتبت مرة واحدة، بل دفعة واحدة !
n تقول في الشهادة الأردنية (عمان عدد 101) إنّك اكتشفت أخيرا أنك لا تتوق إلى قول شيء بعينه. وإنّه كل همّك الآن هو معالجة فوضاك ومخاتلته زمنك وقرنت ذلك الشعور بمسألة الكتابة والخوف والحرية ؟
أولا : هل يعني هذا أنّ مقولة رسالة الكاتب (الحضارية) مقولة بائدة وليس عليه أن يكون لا مصلحا ولا مساهما في ثورة أو تحوّلات اجتماعية وكل ما عليه أن يلتفت إلى وجهة ؟!
ثانيا : لنتوسّع في الحديث عن الخوف والحريّة، ألا يحتاج الكاتب أحيانا ذلك الشعور بالخوف ليكتب كتابة مختلفة. ألا ترى في الخوف أو القمع منافع أدبية جمّة فبحضوره يمكن للكاتب أن يخلق أدوات جديدة فتحمله بعيدا عن المباشرة الفجّة التي قد توقعه فيها الحريّة ؟!
oo قلتُ ذلك الكلام لأن الكاتب في بداية تجربته يسعى إلى أن يُعلن عن مواقف، أما حين تتقدّم به السنوات فيُصبح أقلّ وثوقا، وأكثر تواضعًا… حتى أنه يكاد أن يعتبر الصمت أفضل من النطق ! لهذا أقول إنّ منتهى ما أصبو إليه هو أن أخاتل زمني وأعالج فوضاي. أما الخوف الذي أشرتُ إليه فخوف فعلي في بداية حياتي، نابع من مجاورة "الجان" في اعتقادات الطفولة ومجاورة الموتى في فناء الولي الصالح، حيث كان الأجداد قد اتّخذوا الفضاء مقبرة يدفنون فيها موتاهم. أمّا بعد تقدّم السن، فلقد أصبح الخوف سبيلا إلى الحرية. في هذا المستوى أوافقك على اعتبار أنّ الكاتب فعلا يحتاج ذلك الخوف لكتابة روايات أكثر إيحاء، وأقدر على الاستشراف. خشية الانفضاح تجوّد أدوات الكتابة عندنا، وتندرج ضمن المستقبل. استشراف المستقبل هو الضامن لوجود كتابة تحترم ذاتها. لكن الكتابة الأجدى تبقى – رغم كل هذا – جهادا ضدّ الضغط والظلم والخوف… جهادا في سبيل الحرية.
n يمثّل الفنتاستيكي رافدا من روافد تجربتك، فهل هو ناتج عن انغماسك في المدوّنة التراثية أم عن قراءاتك لأدب أمريكا اللاتينية… أم هي طفولتك القرويّة القيروانية بين الزوايا وأحاديث الجان والعفاريت، أم كل هذا مجتمعا. نريد قليلا من البوح والتجلّي في علاقتك بالسحري والعجائبي واللامعقول ؟
oo أجواء باهرة هذه التي يحيل عليها سؤالك، تفتح مجالا رحبا لتمثل "الأدب". وهل "الأدب" بصفة عامة إلا ذلك الانغماس المبهج في "ألف ليلة وليلة" التي على إيقاعها تمضي طفولة الفتى في مدننا القديمة، وعلى إيقاع ما نُسج على غرارها من "صور متحركة" و"ألبومات مصورة" تمضي طفولة الفتيان شرقا وغربا. لهذا ليس من العسير اليوم أن نهتف أن "الأدب" هو ذلك البراح الفاتن الذي عليه تنفتح ألف كوّة من كوى الطفولة والشباب. الأدب الفنتاستيكي أوسع من أن يُضبط في رواية أمريكا اللاتينية، أو أجواء الزوايا وأحاديث الجان والعفاريت.
علاقتي بالسحري واللامعقول تعود إلى أغوار خفية في تركيبة طفولتي، إلى أشياء صغيرة جدا تواريها أمي في حقق من العاج والمعدن والخشب، بعضها معلوم وأكثرها غير معلوم، إلى اعتقادها أنّ كائنات عجيبة تشاركنا حياتنا وتملأ أركان غرفنا ومقاصيرنا، إلى حكايات العمة الوافدة من أعماق القص الشرقي، إلى ليالي الشتاء الطويلة الصامتة تلف خيالنا بألف ملاءة من بيارق ملوّنة وبخور لذيذ، إلى "زيارة" أولياء الله الصالحين تفعمها الشموع… إلى رائحة الدم في أضاحي المساء البعيدة، حيث تولد الحكايات من كمّ فرحنا وخوفنا وتوقنا إلى الجديد الرائق.
هل أقول يا أخي كمال إنّ الأصل هو العجيب، وإنّ كل ما عداه ثانوي واستثنائي وطارئ. أوَدُّ ههُنا أن أجزم بأن الذائقة الغالبة على إدراكنا للرواية اليوم هي الذائقة "الفرنسية المدرسية" التي قنّنت الرّواية وضبطتها وجعلت منها ما يُعرف بين جمهور النقّاد بأنموذج "القص الكلاسيكي"، كأنما جاء وقت قد تمحّضت فيه نواميس بعينها للتعبير عن جنس بعينه واضح الملامح، جليّ العلامات، والحقّ أن هذه القوانين الكلاسيكية لا تعدو أن تكون رافدا من روافد القصّ موصولة بمحور بعينه من محاور الرّواية في العالم. وفي إمكاننا أن نشير على وجه الدقّة والتحديد إلى أنّ الرّواية الفرنسية هي التي أورثت العالم هذا الإدراك بتمحيضها رافدا بعينه من روافدها واعتباره الأصل والمحور، واعتبار كل ما عداه فرعيا طارئا غير أصيل. والواقع أن توسيع دائرة الإدراك سرعان ما يُنبئنا عن فضاءات روائيّة أخرى كثيرة منها الرّواية الإسبانية خاصّة، والرّواية الألمانية، وقد لبثتا منفتحتين على مستنداتهما المشرقية انفتاحا ذكيا جدا، ومنها المستندات العربية، والفارسية والهندية والإفريقية.
ولقد عملت على تطوير ذلك الموروث الثري وإعادة تأمّله فتيسر لها الكثير من الغِنى والطرافة وتوطّدت قدرتها على استدراج آليّات مشرقيّة بالغة الأهمية، منها خاصة آلية الشعر الصوفي، وما يُتيحه من عروج على مقامات بهيّة غير معلومة.
عن الرّواية الإسبانية أو أكاد أقول الإسبانية/العربية القديمة) تولّدت الرّواية الأمريكية الجنوبية، بمختلف نماذجها، هذه التي أضحت اليوم دُرجة أدبية في العالم. والحق أنّني قد اطّلعتُ عليها اطّلاعا واسعا في السنوات العشر الأخيرة، إذ كنتُ قد لبثتُ أسير النظرة الطاغية القديمة… رغم إيماني الثابت بوجوب تطعيمها بموروثنا الشخصي الأمومي الدراويشي التراثي القريب قصد تطويرها وإغنائها بالجديد. لهذا أذكر مجدّدا "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" و"المسخ" لكافكا و"ذئب البراري" لهرمان هسه… قبل أن أذكر أيّة رواية أخرى !
n وصف الأستاذ محمد الغزّي روايتك "النخاس" بأنّها "بالأدب الملحمي أوثق صلة"، هل يعني هذا أنّ الرواية انعطفت على سابقتها "الملحمة" لتتشرّب منها ؟ هل يعني هذا أن الرواية تُقبل على إحياء الملحمة التي كانت المتهم الأول في إراقة دمها ؟!
oo لقد غدا مقرّرا الآن أنّ الرّواية جنس "أَكُول"، يتغذّى على الأجناس الأخرى، فيقتات من الشعر، والملحمة والقصة القصيرة والموّال والعروبي والخرافة والأسطورة، يستحوذ على فضاءاتها، حتى يكون – مثلما أثْبَتُّ يوما ما – مثل النواسخ التي تدخل على المبتدإ فيكون اسمها وعلى الخبر فيكون خبرها. الرواية بهذا الفهم تُحدث تشويشا في النظام القائم، نظام الوجود، لتعويضه بنظامها المبتدع.
على هذه الشاكلة فهمتُ الكتابة الرّوائيّة، وأمارسها اليوم، وضمن هذا الإدراك أفهم قول الصديق الشاعر محمد الغزّي "إنّ النخّاس بالأدب الملحمي أوثق رحما". والواقع أنني لم أكتبها لغاية معيّنة أو ضمْن هدف بعينه… إنّما كان قصارى ما رغبتُ في إنشائه لا يعدو أن يكون نصّا يستلهم التراث العربي والرواية الحديثة في الوقت نفسه. المأزق الحقيقي الذي انبثقت منه كتابتي يكمن في برزخ اللقاء بين الوهم والحقيقة. كل ما حولي في طفولتي يعلن عن نفسي العقل، خاصة في رحاب الولي الصالح سيدي فرحات ورحاب الصحابي الجليل أبي زمعة البلوي، بينما الدُرجة العربية في السبعينات خاصة كانت تتمثّل في التشبّث بالعقل لدى النخب المثقفة على الأقل.
مع مدونة "كافكا" انتبهتُ إلى إمكان التعبير عن المتناقضات، قول العقول والحدس والعجيب في الوقت نفسه، هذا هو اليقين الذي نحن في حاجة إليه الآن، أن نكون في مكانين في وقت واحد، أو قل أن نكون في المكان وخارج المكان، هذا هو إيقاع العصر، وليس في إمكان الرّواية العربية إحداث إضافتها الكونية اليوم إلاّ بتجاوز المنطق الأحادي، والجد المبالغ فيه وارتياد مجاهل الوهم والعجيب واللامعقول. ليس لدينا مدوّنة فلسفية نستند إليها، كل ما هنالك نُبذٌ من شتات غير واضح من الرؤى التي يمتزج فيها الكياني الأصيل بالسياسي المتغير السريع غير الثابت لا سلاح لنا اليوم غير التناقض، والتهكّم، والعجيب. بهذا قد نتمكّن من رصد واقع عربي متناقض عجيب غير معقول، واقع لا نملك فيه شيئا، ولا نتحكّم فيه.
الرّواية التقليدية تتصوّر أنّ الكاتب ذات قوة فاعلة قادرة على التغيير، والحقّ أنّ قصارى ما تتوق الرّواية إلى تسجيله لا يعدو أن يكون تأكيد عجزها وعجز شخصياتها، وعجز الرّوائي عن الفعل.
المنفذ الوحيد للنجاة اليوم من مخلب الواقع المرير يكمن في السخرية منه، فلا مستندات فلسفية عربية واضحة اليوم، ولا مستندات فلسفية غريبة يُمكن أن تعبر عن الواقع العربي العجيب. لهذا فإنّنا نعلن أنّ رواية قائمة على التناقض هي الأقدر على التعبير على همومنا الكثيرة الطاغية. ضمن هذا الأفق ندرك قولة الغزي أنّ الرواية لدى بوجاه تتوق إلى الملحمة !

قديم 11-04-2014, 10:03 AM
المشاركة 1249
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين

- "من جبل تبدو نابلس كانون نار، والمصابيح تتألف كحبات الدق، لكن العتمة والآهات ونداءات الشباب. وحسام المصادر أين ينام؟ يجئ مع شقشقات الفجر وآذان الصبح ينقر شباك العلية ويقول وهو ما زال خلف القواطع: "صباح الخير عمتي". يسعد صباحك ويطلق جناحك ويجعل نهارك نور وسرور. فوق يا عمتي فوق، فوق خدلك غفوة". وتقوم من فراشها فيندس فيه، وينام حتى قبل الظهر. وذات مرة جاءها برفيق له، وكان جائعين كالقطط الضالة، فأكلا الخبزات واستقرضت المزيد. وبعدها بأيام جاءها بالرفيق نفسه وفي صدره صلية دمدم. ومات الشاب بين يديها وحسام يبكي في العتمة وقف على السطح وصفر، فجاءوا كالجن من الليل حملوه ودفنوه في لحظات دون أن تعلم أمه، وحين حملت لها الخبر المشؤوم صاحت بجنون: ابني لحالي؟ ابني وابنك، أنت سحبتيه! وتذكرت. بلى والله، فهي من قصت سرته، وهي من تلقت بشارته، وهي من حملته يوم طهوره، واليوم، هي من تسمح دمعته الأخيرة، وتذكرة عينيه الغائمتين ورائحة عرقه، مات وهو يحلم بحمام ساخن، ودفنوه بعرقه ورائحة الأصطيل والتبن العالق في شعره. صامت الولادة فهرعت إليها. وأطل الرأس ثم غاب فنامت وبرد الطلق وتراجع وخافت أن يبرد أكثر، فصاحت فيها تصيحها: عيني ولدك يا مستورة، عيني ولدك!" من واقع معاناة شعب فلسطين ومن جراحهم المذبحة بالدماء، تلتقط سحر خليفة صور روايتها هذه "باب الساحة" لتروي للعرب وبأسلوبها المعبر البسيط مشاهد تحدث كل يوم خلف هذا الباب الكبير الذي هو صورة لأبواب أخرى تخفي خلفها نفس المعاناة في فلسطين. في حي من أحياء نابلس شرح الكاتبة بقلمها لتلتقط صورها من كل البيوت، ولترسم وعبر شخصية "الداية زكية" وبيراعها ما يحدث من تخريب في بيوت نابلس وحرق ودمار على يد أصحاب العلم ذا اللونين الأزرق والأبيض وهي بما ترسم لم تنسى التوقف عند واقع المرأة الفلسطينية المتدهور محاولة المقارنة بين حالها اليوم بعد الانتفاضة وحالها قبل ذلك أيام العز حيث لم يكن للدمعة في عيونها طريق ولا للخوف في ملامحها تعبير.


- "وناولها ثاني قصيدة، فتحتها، قرأتها، وطوتها ثم ابتسمت. سألها بخوف: ألا تعجبك؟ قالت: لا بأس، أحسن من الأولى، ولكن بعد؟ "بعد، وماذا بعد؟" قالت: "بعد صغيرة؟" من هي الأولى أم الثانية؟ قالت بعتاب: "بل الفكرة. يا ابني يا شاطر في الأولى أنا كنت الأم، والآن، أنا كنت الأرض، وغداً، طبعاً، أكون الرمز، اصح يا شاطر، أنا لست الأم، ولست الأرض ولست الرمز، أنا إنسانة. آكل أشرب أحلم أخطئ أضيع أموج وأتعذب وأناجي الريح. أنا لست الرمز، أنا المرأة." قال بإحساس: "بل أنت سحاب." ضحكت بكل نواجذها وهمست بجبين مرفوع: وأنت المشتاق للآفاق".

- وبدأ يلاحقها كالمسعور. يذهب يوميا إلى المكتبة، يقرأ، يحلم، يصغ، وينام، ويقرأ ثانية ويفكر. وتمر الأيام ولا تحضر. ثم تحضر فجأة. بدون نظام. ومعظم المرات تجيء بعد انصراف المدارس عند الظهر. ويلمحها من وراء الزجاج تتقمز بالكعب العالي واللبس الأنيق. القوام الممشوق كالخيزران والتنانير الضيقة والواسعة، وسترات صيفية تعطيها مظهرها الرياضي الأنيق. تقف على "الكاونتر" لتعيد الكتب ثم تمشي وتطقطق فوق البلاط وتغيب طويلا بين الرفوف.

- وبدأ يتجسس عليها. الاسم، التخصص، مكان الدراسة، اسم الوالد واسم العائلة. أبوها نجار "مستور،" أخوتها ما زالوا صغارا، فهي الكبرى، تدرس العلوم والأحياء، تخرجت من الجامعة الأميركية في بيروت بعد أن نالت منحة. كانت من العشرة الأوائل. فهي أذن ذات عقل وفهم. الجامعة الأميركية والأحياء؟ يا رب السماء! فليقرأ أذن كتب العالم.
وماذا تقرأ؟ أدب، فلسفة وسياسة، علوم تاريخ وسياسة، اقتصاد، شعر وسياسة، سياسة، سياسة. فليقرأ إذن كل هذا وذاك، وليسمع ويناقش ويتسيّس.
الآن وهو يذكر أصل السياسة في ماضيه البعيد، يقر بالاعتراف الخطير، فلولاها ما عرف السياسة بهذا العمق. لكان تذوقها ككل الناس: مجرد واقع، واحتلال وبؤس وثورة تجيء من الطرف الآخر عبر الأردن.
حين سمع صوتها أول مرة كان قد كبر كثيرا. مرت سنتان أو أكثر وهو يتابعها في الأحلام والكتب المستعارة والمكتبة. كان قد اجتاز التوجيهي وقدم أوراقه "للنجاح" (*). وحينذاك اعتقل صدفة. سجن إداري ككل الشباب، ومن بعدها انكسر الخوف. ما عاد يخاف من سلطة أبيه. ما عاد يقف بالصف على الدرج ويقول بذل حزين: "مسا الخير يابا." ما عاد يخجل من النظر مباشرة في عين البنات. ما عاد يشعر أن النظر خيانة. وأهم من هذا وذاك، ما عاد مقتنعا بهذا الحب، الحب من طرف واحد، حب الأحلام، حب يجيء من الصفحات والرغبة المكبوتة في الأعماق، والعقل الواعي صمام الأمان. بدأت قراءاته تجدي. الآن يفهم ما يقرأ، ويحلل ويعلل ويتأمل. وقل المكوث على السطح بين "الروبابيكيا" والأجراس. وكثرت زياراته لباب الساحة وخان التجار. وانتمى لأول تنظيم ثم اعتقل. ثلاثة أشهر ثم "النجاح." ثم التنظيم الثاني، ثم سنة وصف خرج بعدها وقد اشتد عودا، يفهم ويعرف ماذا يريد، ويريد أبدا أن يعرف.
ورآها في معرض للكتب. اللباس الأنيق نفسه والكعب العالي والقد الملفوف. ما زالت حلما، والقلب يخفق بهدوء مشوب. اقترب من الطاولة حيث تقف وهي تقلب كتابا جديدا. قال بتحد: "أي بلد هذه؟ خمس سنوات أو أكثر وأنا أعرفك ولا أعرفك."
التفتت بسرعة واضطرت لرفع عينيها. كان قد بات طويلا، أطول منها. التقت عيناها بعينيه. همست بصوت عريض أبح بطيء: "ما عدت تدمع." قال بهدوء موقوت: "كبرت." هزت رأسها وابتسمت بفهم "واضح. واضح."
أي عنف هذا؟ هذا هو الحب الأول، بل أول حب وآخر حب. في حبها اختلط الحنان بقدح الرأس ورعش البدن. الشمس أصفى مما هي، والأرض أغنى مما هي، والبلد القديمة كالأحلام. يسير في حي القصبة، يهوم بين الأبنية القديمة والأقواس والكليل العريض ورائحة السيرج والجفت الحار والخبز الساخن وشي الكباب وقزحة وسماق ومناقيش زعتر وقينر وحلاوة طحينية وجوزة الطيب. بهارات العالم في شوالات، وبصيص النور في كوات، ونجوم مذهبة في المسجد، وسقف الخان وفوق القباب.
والآن ما عاد يستمتع بمواجهة أبيه. ما أن يرى السيارة مدبرة في الطريق حتى يقفز السور ويدفع الباب ويدخل، ويجلس في إحدى الشرفات الزجاجية ويمد ساقيه ويسرح. ومن خلال الزجاج تتسلل شمس الخريف حاملة دفء العالم وإشراقه.
من أين لهذه المدينة كل هذا السنى؟ وامتداد الأفق الغربي يملأ الضباب. وفي الأمسيات البعيدة يغدو الغروب أثيرا يحلحل عقد المفاصل. ويقف منتشيا على سطح الدار يشم الشذى ورائحة الأرض ويحلم بالوصول إلى ابعد نقطة، حيث الخلود وأسواق الروح القصوى، والحب الشامل الوجود كله.
تلال زواتا وقمة روبين وانحدار البطاح لقرص الشمس وحب فتاة عيناها أجنحة الشفق وريش السنونو وذهب السنابل. كانت المرأة صورة، وما زالت، كرمز الأرض. أو أن الأرض هي المرأة. لكن الأرض ما عادت حلم الأحلام. الآن وقد دفع الثمن الغالي يعرف كيف يموت المرء على صخرة أو جحر مهجور كابن آوى. ولولا الروح وإيمان القلب لكفر، وكفر بكل الناس. لكن الناس هم المعبد، هم القبلة، وهم اللازمة لكل صلاة. فبدونهم ما طعم الأرض؟ ما طعم الروح ومعنى الوطن؟


مقطع من رواية باب الساحة لسحر خليفة.
الناشر دار الآداب، لبنان (1999). الطبعة الثانية. ص 53-56=

قديم 11-04-2014, 11:42 AM
المشاركة 1250
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع ,,,,,والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 70- باب الساحة سحر خليفة فلسطين

- نشرت الروائية سحر خليفة روايتها باب الساحة عام 1990 وأعادت طباعتها للمرة الثانية عام 1999م .

-في هذه الرواية المتوسطة الحجم ، أطلقت الروائية العنان لمخيلتها فخلقت مجموعة من النساء تتظافر العوامل فتجمعهن في بيت واحد، وعلى اختلاف أولئك النسوة وتمايز كل واحدة في تفكيرها ومستواها الثقافي إلا أنهن ينجحن في إزالة سياج شائك مترس بالإسمنت بطريقة ذكية طالعتنا عليها الروائية .

- تدور أحداث الرواية في منطقة ( باب الساحة ) في نابلس إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتتعرض بكل جرأة لما أصاب المجتمع الفلسطيني من عدم الثقة بالآخر إلى أن وصل الأمر حد إعدام إحدى نساء باب الساحة للاشتباه بتعاملها مع العدو وجفاء جميع سكان الساحة لابنتها " نزهة " ليس لشيء بل لاعتقادهم بالمثل :" طب الجرة على ثمها بتطلع البنت لإمها "

- ولا تتوانى نزهة في هذه الرواية عن إكالة الشتائم لفلسطين إلى حد أني خفت على كاتبتها من أشباه النقاد فيصبح مصيرها عند البعض مشبوهاً فتغدو كوليمة حيدر حيدر !!

- تطالعنا الكاتبة في صفحة 211عمّا قد يقوله إنسان ما في لحظة ضعف وتخلي الجميع عنه ما جاء على لسان الشخصية الأكثر حضوراً وغموضاً في الرواية " نزهة " المشبوهة من قبل الجميع ...:

- الحقيقة إن سحر خليفة في روايتها قد نجحت في رسم معالم المجتمع الفلسطيني إبان الانتفاضة الأولى متمثلاً بالضعف الإنساني ، والخوف من كلام الناس ، وسطوة الأب ، والذكورية المفرطة لهذا المجتمع .


-في عملها الروائي تعبر سحر خليفة عن إيمانها العميق بأن وعي المرأة النسوي هو جزء لا يتجزأ من وعيها السياسي،

-وهي ترينا في رواياتها، وبأسلوب فني مقنع، أن نضال المرأة الفلسطينية والمحن التي تمر بها هي جزء من النضال السياسي الفلسطيني العام من أجل التحرير.

- أسلوبها الروائي حساس
- ومقتصد
- وشفاف؛

- ورغم أنها تكتب بالعربية الفصيحة، فإن لها قدرة عجيبة على استعارة العامية الفلسطينية وتعبيراتها الدارجة عندما يقتضي حال الحوار في الرواية.




مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 46 ( الأعضاء 0 والزوار 46)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية.
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أعظم 50 عبقري عبر التاريخ : ما سر هذه العبقرية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 62 05-16-2021 01:36 PM
هل تولد الحياة من رحم الموت؟؟؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 2483 09-23-2019 02:12 PM
ما سر "الروعة" في افضل مائة رواية عالمية؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 523 09-09-2018 03:59 PM
اعظم 100 كتاب في التاريخ: ما سر هذه العظمة؟- دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 413 12-09-2015 01:15 PM
القديسون واليتم: ما نسبة الايتام من بين القديسين؟ دراسة بحثية ايوب صابر منبر الدراسات الأدبية والنقدية والبلاغية . 18 08-22-2012 12:25 PM

الساعة الآن 02:03 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.