(القصة الواقعية لقصيدة الغزل الأولى)
يحبُّ الناس معرفة البدايات البسيطة دائما، ربما ليقتبسوا منها أملا صغيرا يؤنسون به طريقهم الموحشة، أو لمجرّد التسليّة حين يعيشون حياة الآخرين وهم متكّئون على أريكة مريحة دون أن يغادروا غرفة نومهم الدافئة.
لم أعرف الشعر في سن مبكرة كما يدّعي أغلب الشعراء ليبدووا مدهشين منذ الولادة، ولم أكن لأفرّق بينه وبين النثر إلا حين درسته في المدرسة، فعرفتُ أوزانه وقوافيه والكتابة العروضية المملّة التي تجعل استنتاج بحر القصيدة أصعب من حل معادلة رياضية بمجهولين، وعرفتُ وقتذاك شابةً جميلة، أو لنقل طفلة بمصطلح أكثر تحديدا، فقد كنتُ طفلا أنا الآخر، طفلا بقلب كهلٍ ينبض بتسارعٍ حين تمرّ أمامه سيدة المقام التي حدثتكم عنها، وكان اسمها.. دعونا من الاسم فليس مهمّا لهذه الدرجة، لها عيون عسليّة واسعة وهذا ما يهمّ فعلا، ولأني أحب التحديات الكبرى فقد قررتُ أن أصبح شاعرا لأطوّقها بقصائدي العصماء وأسحرها بقصائدي التي يبدأ كل بيتٍ منها بحرف من اسمها، وقد قرأت لاحقا أنّ ابن زيدون كان يفعل هذا لمحبوبته، لكنني لم أكن ابن زيدون أبدا، كنت ذلك الشاب الخجول الذي يدسّ الرسالة المكتوبة بخطٍّ رديء في درج طاولتها ويخرج سريعا كي لا يُمسك بالجرم المشهود فيصبح أضحوكة عصره رغم أن جميع التلاميذ يفعلون هذا دون أن يصرّح أحدهم لأقرب المقربين منه، ولم أكن أفصح عن اسمي، كنتُ أجد متعة كبيرة في إثارة فضولها لمعرفة مرسل الرسائل الغرامية المشفّرة، وكانت أغلب الظن تجد متعتها في إطلاع زميلاتها على الرسالة لتثير غيرتهنّ ولتبدو معشوقة الشاعر الغامض الذي يحتلّ كرسيها وقت الاستراحة مستدلا عليه بقلبه.. أقصد بدخوله كل حصة ليبحث عن كرسيّ شاغر أو قلم سبورة لأستاذة التاريخ التي لا تكتب على السبورة إطلاقا.
كنتُ أكتب شعرا رديئا، أغلبه اقتباسات من القصائد المشهورة للشعراء العذريين، مع كسور عروضية لا تنتهي، فأنت لا تهتدي للشعر فيها إلا من خلال الرويّ الذي أحاول أن أحافظ على حركته الإعرابية على حساب دروس النحو المعقدة التي لم أكن أفقه فيها حرفا، لكنني كنت أكتب مشاعر صادقةً على الأرجح، أكتب عما أحسه دون تكلُّف ولا محاولة تجميلٍ لواقع لم يكن يوما جميلا.. أكتب بقلم رديء على ورقة مقتصّة من دفتر الدروس، عن مشاعر لا أفهم منها سوى أنها تسبب لي الأرق كل ليلة.
كان لها شعرٌ طويل كذيل حصانٍ بربريٍّ يسابق الريح في ركضه، لذلك أكتب لها على البحر الطويل، وحين أعجز عن إيجاد قافية مناسبة أبدأ في البحث عن أية كلمة تنتهي بحرف الروي الذي استعملته وإن لم تكن لها علاقة بالكلام الذي سبقها، فقد كنت أحسب أن الوزن هو جوهر الشعر، وأنه سيجعل تلك الطلاسم تتوّجني ملكا على قلبها.
درستُ عاما واحدا بالثانوية تلك، وبعدها افتتحوا ثانوية قريبة من البيت فنُقلتُ إليها، وبسبب هذا النقل الاضطراري كان عليّ أن أبحث عن ملهمة أخرى أكتب لها الشعر، وكان شرطي الوحيد أن يكون لون عينيها عسليا، وشعرها طويلا وأسود كذيل حصان بربريٍّ يسابق الريح، ليس لأنها صفاتُ الأنثى التي أبحث عنها في أحلام يقظتي، إنما لأستطيع أن أدس في درج طاولتها رسائلي القديمة، دون أن أكون مضطرا للكتابة لها من جديد.