أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.
كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
تحقق المنتوجات أعلى الأرقام في أسواق المهجر قاطبة و تتهافت كبريات الأسواق الممتازة على الزعفران و عسل الزعتر و بعض المعلبات الغذائية من اللوز والجوز و زيوت الأركان ، فتجوب صالحة القرى و المداشر محفزة التعاونيات على مزيد من الإنتاج و تلح كثيرا على النظافة و الثمار الجيدة ، و تحذر من الغش والتزييف ، وما إن عبرت دفعتها الثانية الحدود حتى جاءها التحذير من شركة صديقتيها أن دراسة أجريت للدفعات الأولى تناهت أن بعض الشوائب تحول دون إعطاء المنتوج درجة الجودة العالية ، كما جاءتها رسالة من مركز مراقبة المواد الغذائية تدعوها للحضور فورا ، هناك وجدت أناسا مختصين خلصوا أن شروط الصناعة الغذائية تقتضي حفظ المنتوجات الأولية في أماكن خاصة وفق درجة حرارية معينة لكل منتوج ، و عملية عصر زيوت الأركان يجب أن تتم بواسطة الآلات العصرية حتى لا تشوبها زوائد تؤثر على جودتها . بدأت الأسئلة تلف في ذهنها ، أنتم لا تعدمون أعذارا لكبح إنتاجية شعوب الجنوب ، أنتم تختلقون دوما عراقيل لإذلال المنتوجات الأجنبية ، فنشر الدراسة في الإعلام حرب فاضحة ، يواصل المختصون اقتراحاتهم الجديدة ، حفاظا على المعايير المعتمدة ، نصحوها باقتناء آلات لتجويد المنتوج والاستفادة من خبرات تقنيين سيسهرون على مراقبة سلسلة الإنتاج من مهدها إلى أن تصل إلى السوق ، وهناك طلب موجه في الموضوع للوزارة المختصة لتسهيل تلك العمليات وفق اتفاقيات الشراكة . تيقنت أنهم يراقبون كل كبيرة وصغيرة هناك ، يحدون من الغزو الخارجي ، ويستغلون كل فرصة لتسويق آلياتهم . رأت نفسها دخلت متاهة كبرى ، شروط الرأسمالية العالمية ، و العلاقات (شمال ـ جنوب) أي مجازفة هنا تعني الخسارة . يجب الرضوخ لمطالبهم ، فهم أهل البلد ، و لو تركوا أبوابها مشرعة لاكتسحهم القمل و البق.
رجعت وهي تحاول اقناع التعاونيات على شراء الآلات الجديدة وتحديث التصنيع التقليدي ، هي تعلم أنهم لن يعدموا حيلة أخرى مستقبلا من تلك الحيل المكشوفة قصد فرملة الإنتاج ، فهم يقبلون بالاستيراد لكن بنسب ضئيلة لا تؤثر على الميزان التجاري . ماذا بعد ذلك ؟ تيقنت أن عليها مواصلة البحث عن مواطن المال ، يجب أن لا تعتمد على موطن واحد لاستقطاب العملة ، يجب أن تقتحم كل المجالات ، لكن كيف ؟ البرصة فيها سماسرة أقوياء و أشداء قد يرشدونها ، معها قسط من المال لا يفي بالغرض لإعلان حربها ، كما هي مؤمنة بعدم المقامرة بما تملك ، عليها أن تلعب لعبتها بأموال الآخرين .
خمسة أشهر مضت على ولوجها عالم الأعمال ،البرصة ستعطيها فرصا كبيرة للنجاح ، أولى الجلسات ستكون قريبا جدا ، وكيلها يوصيها بالمشاركة في التداول ، هناك أسهم ستطرح قريبا من شركة عملاقة ، ستكون بأثمان بخسة نظرا للمستقبل الغامض و عدم وضوح خطة مجلس الإدارة ، المبلغ سيكون مكلفا لكنه مربح جدا .
خرجت من بيتها غير مطمئنة ، أدارت العجلات و توقفت عند سوق السمك ، اليوم ستعرف ما يخبؤه بائع الكزبرة ، هو في مكانه المعتاد ، الحزم مصفوفة على منضدة أمامه ، صندوق الليمون في جانبه الأيمن وهو جالس على كرسيه الخشبي المهترئ ، تحت المنضدة تظهر أكياس الأعشاب المبللة ، فاجأته نبرتها وهي تسلم عليه ، لكأنه سائح مع موجات أثيرية لا يسمعها غيره ، كانت نفسه منقبضة منذ الفجر ، لم يبع صبيحة اليوم حزمة واحدة ، لعل السوق عبوس اليوم ، لم تقف ذاكرته على يوم شبيه بهذا الذي ابتدأ لتوه ، شعور يغمره كالذي اعتراه في أول ليلة بالسجن ، لكن بسمتها أزاحت عنه الكثير من القنوط ، سألته عن أحواله ، لم يفته أن يقاسمها التحية مستفسرا عن أحوال أمها . ردت بابتسامة مستفسرة عن نوع المساعدة التي كانت ينوي تقديمها ، كان سؤالها مباشرا بعثر جوابه ، تماسك أخيرا قائلا : " كل الصعاب لها حلول ، هذا ما علمتني الحياة " فقالت له : "ترى إن كان صديقك وحبيبي يواجه مشاكل جمة ، هل ستساعده أو على الأقل ترشدني إلى شخص يمكنني من مساعدته." فكر قليلا ثم أجابها : " هل يمكن أن أعرف نوع المصاعب التي يتخبط فيها " فردت و حشرجة تعكر نغمتها : " إنه يسير شركة والده ، وشركته مهددة بالإفلاس ، سيضطر للتخلي عن جزء من حصصه في الشركة . وعندما سكت قالت : "معذرة على إزعاجك سيدي ، فأنا مجرد فتاة مغلوبة على أمرها ، أعماها حبها ، و توهمت أن الجميع يمكن أن يضحوا بما يملكون لنجدة ناصر ، كنت أتساءل إن كان أصدقاؤه يملكون تقديم يد العون ، لكن لابأس ربما يجد حلا آخر ." قام بائع الكزبرة من مقامه ثم جلس و رعشة تهز أصابعه و تغلف صوته : " يا بنيتي إنه شاب سيتأذى كثيرا لأن روحه طيبة ، سينال عقاب نيته الصالحة ، آه يا زمنا يجلد الأرواح الطاهرة " تحركت مستعدة للرحيل و هي تقول : " سامحني فقد أيقظت أشجانك سيدي ، تركتك بخير " ناداها بعد أن خطت خمس خطوات : " انتظري قليلا " توقفت قليلا ثم واصلت المسير و هو خلفها يهرول : " أعلم أنك محرجة من طلب المساعدة ، لكن هذا المكان لا يليق للحديث ، سنذهب لأحد المقاهي ، أريد معلومات إضافية ، جرها من يدها متجها بها نحو محطة سيارات الأجرة ، فاجأه أنها تدعوه إلى سيارتها . سيارة وضيئة ، لابد أنها باهضة التكلفة ، تسرب الشك إلى دواخله ، فهمس بمكر ، ألا تبيعين السيارة وتساعدي حبيبك ؟ " صفرت صفيرا طويلا ثم قالت : "أنت ذكي جدا لكن ربما وقتي يذهب سدى ، فالمبلغ الذي يحتاجه ناصر لإنقاذ موقعه في الشركة ليس بالبسيط كما تظن ، حتى لو تم بيع عشرات السيارات فلن تفي بالغرض ." كاد يتعثر و هي تضغط على الدواسة ، فقالت بشيء من العجرفة : " اذهب إلى أعشابك و اتركني لحالي ، فأنا نذرت نفسي لهذا الحب ، و لن أعدم من الوسائل ما يجعله يحس بأنني المرأة المناسبة ." طارت شكوكه وهو معجب بهذا الإصرار و هذه القدرة على التحدي ، طمأنها : " أراك تستهينين ببائع الكزبرة ، مهما كان المبلغ ضخما فأنا له بالمرصاد ." لكنني أحتاج إلى ضمانات تؤكد أن أموالي ستكون بأمان ، تهللت أساريرها وهي تتأكد من قوة حاسة شمها ، فرائحة النقود تجذيها أينما وجدت ، الآن وقد كشف المسن أوراقه ، فستبدأ لعبتها السحرية بحيوية أكثر فقالت بصوت وديع : " طيب سيدي ، كل ماتطلبه بديهي جدا ، تفضل واركب ."
سامية فتاة أمضت سبع سنوات في بلاد الغرب ، شقراء معتدلة القوام ، تبدو أطول من قامتها ، أكملت ربيعها الخامس والعشرين عكس أخيها ناصر تملك ذكاء اجتماعيا خارقا أهلها لممارسة العديد من المسؤوليات بأريحية ، لا يجرفها التيار ، فالعديد من الأشخاص لا يقوون على ممارسة أكثر من مهمة ، فهي تسرد الصوف و تشاهد التلفاز وفي الوقت ذاته تجاري صديقتها في حديث الموضة والطبخ و الفن دون أن يتشتت انتباهها لحظة واحدة ، إنها تملك تعددية التركيز ، مقبولة الجلسة ، مرنة الرد ، حاسمة الرأي ، يقظة الملامح ، تمارس هالتها ضغطا رهيبا على محاورها ، قوة الحجة و واسترسال لغتها في تسلسل منطقي مشفوع بذاكرة قوية فتتجسد النظريات في أقوالها وأفعالها لكأنها إنسان آلي كامل البرمجة ، زارها أبوها في رحلته الإستشفائية الأخيرة و قف على تسييرها المميز للوحدات الفندقية التي أنشأها في بلاد المهجر ، فوقع لها توكيلا على كل ممتلكات العائلة العقارية ، شرح لها أهمية الشركة ، والمصاعب التي تواجهها و نبهها أنه بين الفينة والفينة ستنتابه تشنجات عصبية ناجمة عن الإرهاق الذي يعانيه ، يخبرها أن أعضاءه متماسكة لكن جهازه العصبي مرهق لأنه بدنه لا ينال قسطه الكافي من الرياضة و الفسحة والاسترخاء لإنعاش حيويته فباشر وصيته : " أنت بنت أبيك يا سامية ، وأخوك ولد أمه ، حبكما كبير في أعماقي ، لكن أخاك يحتاج دوما لعين توجهه ، تركته لعام كامل يلهو و يعيش على مزاجه ، لكنني سأفوض له تسيير الشركة ليقف على عجزه و على عدم قدرته على التسيير ، سيرى بأم عينيه أن العالم لايمكن سبر أغواره دون الفعل الحقيقي ، فليست الدروشة سبيلا سليما وليس العناد منشأ القوة ، بل تلك القدرة على التصرف بإيجابية في أحلك الظروف ، سيتعلم كثيرا ، فمعه في مجلس الإدارة أناس خبثاء ، أناس شراهتهم لا حدود لها ، أناس يمارسون عقدهم في مواطن لا تسمح بالتهور ، ضعفه سيجعلهم يقدمون على تصرفات غبية ، وهي فرصة ذهبية لقطف رؤوسهم السامة و رد كيدهم في نحورهم . سترين يا ابنتي بأم عينك أن أخاك لن يطلب منك المساعدة ، لأنه أغلق نفسه في عالمه الخاص ، و توهمه نفسه أن الحياة تسير فقط بمنطقه الضيق ، إنه تشرب الكثير من طباع أمك التي ما كانت يوما سعيدة في حياتها ، فمنذ أن علمت أني كنت أحب فتاة أخرى قبل زواجي تقوقعت على نفسها غيرة ، و الحقيقة يا ابنتي أن والدي هو من اختارها لي ، ليس لأنني لست قادرا على عصيان أوامره ، وليس لأنني ضعيف لأفرط في حبي ، لكن التي كانت يوما حبيبتي معاندة جدا ، و رسمت خططا لعلاقتنا غير مبهجة حين تم رفضها ، يومها عرفت أن الحب شيء و القدرة على إنجاحه شيء آخر .
يا ابنتي تعلمين أني لا أخفي عنك شيئا مهما صغر أو كبر ، وأعلمك علم اليقين أنني لست نادما على كل قراراتي طوال حياتي ، في الشركة هناك فتاة تسمى صالحة إنها نسخة طبق الأصل من أمها في شبابها هذه صورة أمها ونحن في ريعان الشباب ، وهذه صورة البنت ، من جهة فهي كفؤة جدا كمحاسبة ، لكن عينيها و ملامحها تحملان العناد والمكابرة ، أبطأت في ترسيمها لأعرف نواياها الحقيقية ، تتبعت كل خطواتها و علمت أنها مهتمة عن بعد بأخيك ناصر ، لكنها لم تقدم بعد على أية خطوة ، حرصها الكبير جعلني أعجب بصبرها ، ولكن في الوقت ذاته هذا النمط في التعامل ينم على حدة الطباع و الإيمان الزائد بالنفس ، وشخص كهذا لا يحسن التصرف عند الشدائد . يا ابنتي أنت ربة العائلة في غيابي حتى يسترد ناصر عافيته و يتحمل مسؤوليته . لا تنسي أمك وهاتفيها كل يوم وطمئنيها أن كل شيء سيكون بخير عند عودتك إلى البلاد لتسيير الشركة و الأخذ بيد العائلة . فهي تثق بك كثيرا بالقدر الذي تخاف على ولدها ناصر و لو أظهرت عكس ما تضمر ، فأنا أعرفها جيدا . و طوال حياتي لم تقم بسلوك مشين ، بل تتفانى في سبيل العائلة وفق قواعدها و استطاعتها . " كان أبوها يومها صفحة شفافة جدا ورهيفا جدا ، سقطت دمعة من عينيه و هو يكابر تدحرجها ، لكنها ابنته التي يعرف بجد معدنها ولايضيره أن يبدو ضعيفا في حضرتها . في الأسبوع المقبل ستنال شهادتها و تعود إلى الوطن .
ركبا في السيارة فرن هاتفها ، إنه وكيلها في البرصة ينبئها أن مقالا في موقع إليتروني إقتصادي سيبعثر كل التوقعات ، و ثلاثون بالمئة من أسهم الشركة المدرجة في البرصة ستشهد تقلبات عجيبة ، فهذا التسريب سابق لأوانه ، و هي خطة تحتاج بعض الوقت ليحللها الإقتصاديون وسماسرة البرصة ، لكن على كل حال فالأموال يجب أن تضخ في حسابها بالبرصة في هذه اللحظة ليتصرف في الحين علما أن عقده في التداول لم يحرر بعد ،كما أخبرها ، أن العشرين بالمئة من إيرادات الأسهم كما سبق وتفاوضا عليها ليست مناسبة في عملية كهذه ، كما سيحتاج إلى دفعة مسبقة خارج العقد لإبرام الصفقات مع المضاربين . كانت تجيب بتحريك رأسها و قالت أخيراموضحة : "بعد ساعة سأكون معك هناك ".
"يمكنك أن تتأكد بنفسك سنذهب حالا إلى البرصة فالشركة ستنهار بعد لحظات ، إن لم نقم بعمل جبار " رد عليها : كم تحتاجين من المال ؟ " لا أخفيك الملايين من الدراهم على الأقل ." زفر زفرة حادة وهو يقول : " هذه مقامرة في آخر العمر" فردت عليه : ربما تكون فرصة العمر أيضا ، فأموالك ربما تتضاعف بين يوم وليلة ، فهذه الشركة لا يمكن أن تزول ، فعلى الأقل حصصها الثابثة توازي السبعين بالمئة ، ناهيك عن مدخراتها كسندات في خزينة الدولة ، إنها شركة لها موقعها الوطني وتحافظ على التوازنات و لن تسمح الدولة بتدميرها ، فهذه فرصة للإغتناء و في الوقت ذاته تنقذ وجه صديقك ومنصبه ، أيضا نكون قد حققنا نجاحا هائلا في سبيل الحب ، فكلنا في الأخير ناجحون . فقال لها بعد صمت لوقت قصير : " لنذهب إلى البنك "
عند مدير المؤسسة البنكية وقف بائع الكزبرة بعد إدخاله من البوابة الخلفية ، أعطاه قصاصة ورقة و قال له :" حول قروشي لهذا الحساب " ذعر مدير الوكال بهذا القرار، مستغربا من هذه الخطوة العجيبة الغريبة من أعظم زبون لهذه الوكالة مجيبا : "هكذا دفعة واحدة" فقال أحمد : بصوت الحازم : " يا صديقي إنها غارة فيها غنائم جمة ، سأعيد أموالي بعد حين ، وهل سأجد مؤسسة آمنة كوكالتكم . " لكن المدير بدا عليه التوتر ، وهو يحاول التأثير على الزبون ، فجاءه أحمد من الآخر :" حول نقودي على جناح السرعة فأنا لا أملك وقتا للكلام والدراهم تضيع . " ضغط المدير على الزر فطارت الدراهم إلى المجهول "
ضحكت بمكر وهي تحس انتفاخ رصيدها فأرسلت رسالة إلى وكيلها تأمره باليقظة ، وعدم التحلي بالرحمة ، فكرت أن تحرك عجلاتاها و لاتنظر هذا المخبول المؤمن بزغاريد الحب ، لكن همسة في دواخلها لا تزال تؤمن أن المرء لا يجب أن يغلق الأبواب خلفه ، خصوصا إن كان مبحرا في نفق مظلم .
وجدها تنتظر ، استوى على المقعد وقال لها :" في عينيك بريق عجيب ، قد يكون توترا أو حزنا أو مكرا ، لكن احترسي و لا تقللي من قدرات العشاب ، فهيا على بركة الله إلى سوق السمك ، فكزبرتي تنتظرني هناك ."
عادت صالحة من البرصة وروحها مكسورة ، ياله من عالم صاخب ، أحست أنها تعرضت لابتزاز كبير ، دفعت من خالص مالها دفعة سوداء لوكيلها إنها كل ما تملك ، رغم ذلك حرر عقدا بنسبة مرتفعة جدا لم يترك لها مجالا للتفاوض ، إنه ضغط عامل الزمن ، بدأ إحساسها يمل من هذه اللعبة الخطيرة ، أموال بائع الكزبرة في يد مقامر ، و مقاولتها الفتية تبخر مخزونها ، إنها عودة إلى الصفر ، يرهبها الحضيض، لم تستطع انتظار ما ستسفر عنه بداية التداول ، حركة الأسهم لا تزال عادية ، لكن وكيلها يؤكد أن حربا ضروسا ستبدأ قريبا ، دماغها يغلي وهي تنتظر ، ماذا سيفعل هذا الوكيل ، فناصر لم يطرح بعد حصصه في السوق ، هل يراهن وكيلها على الأسهم المتداولة لتغطية نقص المبلغ الذي حظيت به من بائع الكزبرة . يشرح لها رغم محدودية وقته ، يشرح وهو يقدم التعليمات ، هاتفاه لا يتوقفان عن الرنين ، و أصابعه تنتقلان عبر لوح حاسوبه بسرعة جنونيية ، إنه في قمة الجنون ، كيف سيكون عند بداية التداول ، ربما يمزق ملابسة و يسير ويجيء عبر الأروقة ، سينتف شعره و ينطلق سانه بالسب والشتم ، سيقفز ملوحا بقبضة النصر حينا و ينحني حينا آخر ، أية أعصاب يملك هؤلاء . تبحث لنفسها عن مكان آمن تحسست محفظتها ، فتحتها بضعة أوراق لا تزال هنا ، أما بطائقها فما عادت صالحة للاستعمال . تطوف عبر لطرقات في المدينة ، لم تقف على مكان ترمي فيه أحزانها ومخاوفها .
لطفي يتوجس شرا من هذا المقال الذي تم نشره ، يحس أنه ليس الوحيد الذي سيلعب هذه اللعبة ، يتساءل هل اهتدى ناصر إلى خطة تخلصه من بيع حصصه ؟ هل قام بصفقة مع من يحرره من قبضته ؟ أما هذا الضئيل الذي رفض التعامل معي في البرصة مع أنني كنت أمنحه أكبر النسب ، لماذا تدرع أنه مشغول ؟ هل مثله ينشغل عن كعكة كهذه ؟ بدأت الأمور تختلط في ذهنه عندما أعلمه وكيله أن الأسهم بدأت حركتها في ازدياد ببرصة باريز فقال له بصوت قوي : تصرف وإلا فقدنا حضورنا ؟
هناك في باريز كانت خطة سامية خلخلة حسابات هؤلاء المضاربين فنشرت ذاك المقال لقياس ردة الفعل ، كانت خطة غبية بعض الشيء ، وكلاء الشركة يعملون برأيها ولا يستشيرون ناصرا الذي ما عاد يفرق بين رأسه و رجليه ، بل أغلق على نفسه في المكتب طوال اليوم ، لكأنه ينتظر أن يتحرك العالم لنصرته ، إنها قلة حيلة النعامة ، دفن نفسه هناك والشركة بقرة تمتد نحوها الخناجر . هاتفته أخته في تلك اللحظة لم يجبها إلا بعد رنات عديدة ، سألته عن حال أمها و حال أبيها ، كان رده أنه لا يملك من الوقت ما يحك فيه جلده ، كانت تعرف كل حركاته وسكناته بفضل عيونها المنتشرة في كل الأرجاء ، كانت تراجع عرضها لنيل الشهادة التي أخذت من عمرها زهرته ، وحاسوبها المتطور تتغير جداوله مركزا على التجمعات المالية وتلاحظ تغير حركة الأسهم .
بائع الكزبرة يرى السوق مسودا ، حمل أعشابه إلى الجمعية الخيرية ، دخل الى بيته وزوجته تقصفه بنظرة استغراب و فتحت فمها أخيرا : " ما بك أرى وجهك شاحبا " رجع ببصره إلى الأرض قائلا : " أنا تعبان يا خديجة ، و رأسي سينفجر ، أسرع نحو البالوعة يقذف ما في بطنه من الآلام ، تقدمت نحوه تشد أزره ، تبا لهذا اليوم العسير، يقول بائع الكزبرة ، استوى على سريره البسيط و أخذت زوجته المحفظة لتفرغها فقال لها : " ما بها إلا بعض درهيمات عليك أن تستعيني بالصندوق " فردت :" يا للهول ، باكرا دفعت الفائض إلى البنك " هب من مرقده رغم تهالكه ، لكنه تمالك نفسه ، وقال لها:" سأجد حلا يا حبيبة العمر ." فواصلت بصوت بهي : " لا تشغل بالك حبيبي غدا سأسحب ما يكفي من البنك و ستذهب عند الطبيب ." فرد عليها بعنف : " لا أطباء ولا أبناك ، سأتدبر أمري الآن." وقف مرتعشا فسقط ، عاود النهوض فلم تقو ركبتاه على الصمود . فقال بصوت فيه ضعف دفين : بدأ الكبر ينال مني ياخديجة ، آه لهذا الزمن المر ." واسته زوجته : " لا تبتئس يا حبيبي ، ستستعيد عافيك و قوتك ، لدينا من المال مايكفي لألف عام ، وعقاراتنا تكفي أحفاد أحفادنا ..." فرد عليها بعد جهد جهيد : " لا أحب ذكر المال يا خديجة ، هلا بدلت هذا الموضوع ، لو كنا نستفيد من مالنا لما رضينا بهذه العيشة المذلة ، نحن دمرنا أنفسنا من أجل المال ، كلما انتفخت جيوبنا تضاءلت أجسادنا ، استسلمنا لحب المال واكتنازه ، وفقدنا لذة العيش ." لما رأت عصبيته ازدادت قامت حاملة الدراهم المعدودات و بها اشترت قرصا فوارا عند البقال و بعضا من دقيق و رجعت إليه ، أعدت له حساء الشعير وبعض تمر و أكرهته على شرب القرص الفوار ، رقد على سريره وهو يهذي . خديجة تعيش تقلبات زوجها على مدى الشهور الماضية ، أحست أن شيئا يشغل باله ، فعصبية مزاجه لم تعد خافية ، تظهر من فلتات لسانه و حركات يديه ، يخونه هدوؤه المعهود ، إنه كذاك العاشق المتيم الذي لا يستطيع البوح ، تتساءل إن كانت لحكاية العشيقين صلة بما يعانيه ، أم حرك عشقهما في نفسه نزوة ما ، فبدأ يبهر بالفتيات اللائي يجبن السوق طولا وعرضا في السوق كل يوم ، مرضه جعله يفصح أنه ليس راضيا على عيشه و حياته . هي أيضا أحيانا تحس بهذه النزوة و تتساءل حين ترى تلك النساء اللائي يتباهين بقلائدهن و فساتينهن الجميلة رغم تواضع مركزهن الاجتماعي ، هي المليونيرة لا ترداد الأسواق العصرية ولا البوتيكات ، و لم تقصد يوما صالة الحلاق و لا صالون التجميل . لم تحظ يوما بالمشي إلى جانب زوجها يدا في يد قصد التجوال و الفسحة ، لم تسجل ذاكرتها سفرا و لا رحلة إلى الشلالات والشواطئ ، في الحقيقة لم تستمتع في حياتها يوما بملذات كانت كلها في المتناول .
كانت تبتعد عن المدينة بمسافة بعيدة عندما رن هاتفها و وكيلها يخبرها أنها حققت فوزا يفوق الخيال في آخر نصف ساعة قبل إغلاق البرصة ، هنأها أنها الآن تستطيع أن تدخل صراع الأسهم التي ستطرح بهناء وصفاء ، تسأل وتكرر السؤال ، كم كان مقدار فوزها ، يجيبها أن الملايين أصبحت في جعبتها و باستطاعتها أن تقارع أعتى كبار المستثمرين . تريد أن تسأله عن المزيد لكنه مضطر لقطع الاتصال فهو سيدرس خيارات السوق و ينتظر بيان الشركات و يقرأ مؤشرات البرصات الغربية .
أوقفت سيارتها على جانب البحر ، ركضت وهي تقفز كطفلة تفوقت في لعبة ، وحين ذهب عنها التأثر رجعت إلى نفسها تسألها أسئلة صعبة :" ماذا تريدين يا صالحة ؟ " هل الحب أم الانتقام ، هل التحرر من المكائد والرجوع إلى السلمية أم مواصلة الحرب ، الحرب تستنزف الروح يا صالحة ! الحرب تقتل فينا الإنسان ، عودي إلى رشدك يا صالحة ، لكنها تعود من جديد ، ألم يكن بائع الكزبرة يسخر منها ، لو لم يكن يملك الملايين ما اعتبرها مجرد مخبولة بل لأحس بكفاحها المستميت ، ألا يستحق أن تجرده من ريشه ليحس بلوعة الحرمان ، حتى ناصر هذا ألا يعتبر مجرما ، ألم يجدها تنزف دموعا وروحها في ألم عميق فما كان منه إلا أن تجاهلها ، ألم يعتبر الملايين و منصب الفخامة أفضل منها ومن مسح دموعها الجارية ؟ كلا يا صالحة يجب عليك أن تكملي المشوار !
سامية عقدت يدها وكسرت حاسوبها و نزف الدم من يدها هطولا ، ما هكذا يكون التداول ، من هذا الذي يزحف للسيطرة على الشركة ، فقام بحركات غريبة لا تمت للاقتصاد بصلة ، هذه ليست فعال لطفي مهما بلغ به التهور لن يقدم على هذه المجازفات التي أفقدت التداول كل قوانينه ، هذا ضرب من إقتصاد الجنون كالذي حدث في أسواق أسيا المالية ذات شجع . ماذا يحدث لك يا أخي ناصر وأنت في غفلتك لا تريد حتى الرد على مكالماتي ، فكرت أن تقلع مع أول طائرة ، لكنها مصرة على نيل شهادتها ، غدا فقط ألا تصبرون يوما واحدا ، والله لأبيعن السماء والأرض و أدك كل الذين زعزعوا استقرار بنيان والدي ، أليس المجد رهين أسرتها ، كيف يتطاول عليها من لا يملك من قيم الزعامة شيئا .
ناصر في كوخه الذي هجره منذ شهور مستسلم تمام الإستسلام بعد معرفته بحركية أسهم شركته و صعودها الصاروخي وهبوطها المفاجئ أكثر من سبع مرات خلال ساعتين من التداول ، عرف أن أسهمه التي سيعرضها غدا لسد العجز سيلعب بها مناوؤوه كي لا يجني منها ما يسد عثرات الشركة و بذلك سيفقد رئاستها مع أي انعقاد لمجلس الإدارة للبحث عن الحلول . فكر في رمي نفسه في البحر و التخلص من عجزه الفاضح ، تذكر حبيبته التي لم يستطع حتى مصارحتها بما يكابده ، آه عندما تعرف أنه فقد رئاسته فتعتبره فاقدا لرجولته ، لام نفسه و ندم على تجاهلها كل هذه المدة ، فإن كان يعيش ففقط ليحظى برفقتها ، لكن ربما الأقدار هي من تباعد بينهما .
عند العاشرة ليلا استقبلها وكيلها في مطعم فاخر ، تناولا عشاء في مرح وسرور وشربا نخب النجاح ، كان يتحدث عن مغامراته في البرصة ، وكل الرجال الذين صنعهم بذكائه و بعض الذين هوى بآمالهم نحو الحضيض ، كان يصفها بالشجاعة ، بالمرأة الحديدية ، بالنبيهة ، تميل نفسها إلى تصديقه ، لكأنها تجهل نفسها ، يعزف على أوتار خاصة ، فتستعد النفس لتصديقه ، كان كل شيء يسير بشكل طبيعي جدا ، إنه لقاء شريكين تجمعهما التجارة ، لكنه مصر على إفساد احتفالها ، عندما فاجأها :"أين يريدين أن نكمل ليلتنا ، في شقتي أم شقتك ؟" عندها تغير مزاجها كلية ، ماذا يظن هذا الخنزير ، أيحسبني مجرد دمية أو بائعة هوى ، من يظن نفسه ؟ ردت عليه بعنف :" ما هذه الجرأة الخبيثة ؟ " ضحك ضحكة خفيفة و هو يقول :" صدقت دعابتي بسهولة ، يا ابنة العم أنا متزوج ، فقط أمازحك ، لكن لا بأس يمكن أن نذهب إلى المرقص و هناك نحتفل بإنجازنا و بشراكتنا المربحة ." ردت عليه حازمة :" سنلتقي غدا في البرصة فيومي طويل و أحس بالعياء ." قامت من مكانها و ضعت محفظتها على كتفها و لم تصغ لما تردده شفاهه من أعذار .
الليل كله تتقلب في الفراش ، رغم أنها تخوض حربا فهذا لا يعني أنها مستعدة للتخلي عن صالحة كلية ، فحربها مجرد تكتيك لاثبات الذات ، لا تريد نفسها محاربة أبد الدهر ، لا تريد لنفسها أن تتسسكع على ضفاف الشهوات الزائفة ، لا تريد لنفسها شراء المتعة ، تريد متعة حقيقية بلا وخزات ضمير . نعم ضميرها لايزال حيا ، لم تخنقه بعد . توعدت وكيلها بشر عقاب .
بائع الكزبرة يستيقظ من فراشه عند العاشرة صباحا ، نظر نحو الساعة الحائطية القديمة ، عقاربها استوت على العاشرة :" تذكر أنه كان مريضا ، تذكر نقوده ، وتذكر زوجته فانتفض يبحث عنها في أرجاء المنزل ، المفتاح في قفل المنزل يدور ، زوجته تدخل حاملة ما لذ وطاب من الفواكه والخضر واللحم ، كما اشترت جلابيب مختلفة الألوان ، و نعالا صفراء وبيضاء لزوجها ، عانقته عناقا حارا ، سألها :" أين كنت ياخديجة ؟ " ردت بتلقائية :" في البنك حبيبي ، حان الوقت لنتمتع بما جمعناه ، لا كزبرة بعد اليوم ، لا لشظف العيش . سنزور الكعبة كل عام و سنعتني بأحفادنا ." كاد يسقط مغشيا عليه عندما سمع البنك . فسألها : " وهل بطاقتك البنكية صالحة ؟" فردت باستغراب :" ما بك يا حبيبي ، وهل مرضك سيبخر مدخراتنا ، مدير البنك شكرني على ثقتنا بمصرفه و البشارة تعلو وجهه . "
وقفت أمام مبنى البرصة الزجاجي ، تنتظر رفع الستارة ، فور دخولها وقعت ورقة عزل وكليل أعمالها ، وتجميد أسهمها من تداولات اليوم ، و في الوقت ذاته نقلت غلتها إلى حساب بائع الكزبرة و ردت إلى مقاولتها الصغيرة ما ابتز منها ، تنتظر دخول وكيلها كل حين ، لكنه لم يظهر بعد ، ذهبت إلى المقهى ونفسها منقبضة ، رغم خبثه فقد أكسبها جولة مهمة ، تملك رصيدا جيدا من الأسهم ، لم تخسر بائع الكزبرة ، وبإمكانها استرجاع علاقتها مع ناصر مادامت لم تقدم بعد على عمل عدواني تجاهه ، تنتظر وتنتظر و لا أثر له ، قامت إلى سيارتها هناك وجدت رجلين ، تقدما نحوها مباشرة ، " أنت صالحة ؟" ردت عليهما بالإيجاب وضعا دملجين في معصميها و قاداها إلى سيارتهما .
ناصر لم يلتحق بعمله باكرا ، كانت الشمس بارزة عندما قام من كهفه بمحاداة الشاطئ ، لم ينتبه لبذلته التي فقدت نصاعتها و انسيابيتها ، وضع جثته المتهالكة وراء المقود و انطلق نحو مكتبه وهو يفكر أن يلغي طرح أسهم الشركة .
عندما رست سيارته وهم بالنزول كان هناك رجل وامرأة يقودانه إلى سيارة الشرطة .
لطفي تناول فطوره و تهيأ ليوم من العمل الجاد ، و هو على يقين من الإستيلاء على نصيب مهم من الشركة ، نظر إلى ساعته فوجدها تقترب من العاشرة صباحا ، إنه وقت العمل ، خرج من بيته متجها نحوسيارته عندما طوقه رجال الشرطة .
كانت تشرح أطروحتها ، وتقدم عرضها لما داعب هزاز هاتفها جيبها ، بين الفينة والفينة يزداد الاهتزاز حتى شوش على تركيزها فطلبت لحظة استراحة ، ردت على مكالمة من محامي الشركة يخبرها أن أخاها محتجز بتهمة تصفية واحد من كبار الوكلاء في البرصة . هاتفت أمها فوجدتها تنوح باكية ، فطمأنتها أنها في طريقها إلى البيت .
بائع الكزبرة بعد أن تناول غداءه مع زوجته خرجا في فسحة ، يعوضان ما فاتهما ، مر على المصرف مطمئنا على ودائعه ، وأكملا طريقهما في جولة عبر مرافق المدينة في ملابسهما الجديدة ، و في جو مرح مليء بالود والرحمة والأمل .
في غرفة اسمنتية قاحلة كان لطفي ينتظر مقيد اليدين مع ثلة من المجرمين الذين يرمقونه بنظرات غريبة ، ينتظر دوره لتقديم إفادته في ملف لا يعرف مضمونه بعد ، هل الأمر يتعلق بصفقاته الماضية أم بكيده المتلاحق في الشركة ، أم في قضية تصفية وكيل البرصة ، يرتب ذهنه للترافع . في تلك اللحظة دخل ناصر إلى غرفة الانتظار فوجد غريمه هناك ، تعجب من هذه الصدفة العجيبة فظن أن التحقيق وصل إلى أعلى الهرم ، ما إن التقط أنفاسه حتى دخلت صالحة مكبلة اليدين ، رأته فهوت بأعينها إلى الأرض عندها خطا خطواته نحوها قائلا : " أعتذر منك يا صالحة ، كان تصرفا غريبا جدا مني ، لكنني مجرد مبتدئ ، الآن انتهى كل شيء ، سأفقد منصبي وربما يكون مصيري السجن ." ولما أمسكت عن الإجابة ، و لاحظ أن عيناها تهيأتا للدموع سألها :" ما ذا تفعلين هنا ؟" هناك هطلت دموعها مدرارا ، كسر هذا الموقف مناداة الحارس على لطفي للاستجواب .
حامد يتأهب للعودة فأمه طريحة الفراش منذ صعقها خبر إلقاء القبض على ابنتها و تحويلها إلى السجن المركزي في انتظار مثولها أمام المحكة في الغد ، لم يترك له الخبر فرصة تسوية أعماله ، بل جمع حقيبته باحثا عن أول طائرة تعود به إلى الوطن ، وجد أخيرا تذكرة ، و انطلق إلى المطار ، عند نزوله من الميترو سقطت منه محفظته ، لكن سامية كانت وراءه أخذت المحفظة و نادت عليه :" سيدي ...سيدي .. هذه محفظتك .." رجع خطوتين فرأى بدرا منيرا يقدم له أوراقه ، شكرها متمتما فبدأ بينهما الحديث ، لم تخبره شيئا عن نفسها رغم إعجابها به و بتفانيه في إنقاذ أخته ، حكى لها مشوارهما منذ الصغر ، كان يتحدث عن صالحة لكأنها أفضل ما أنجبت الأرض ، حكى لها تغيرها منذ تم طردها من الشركة ، رغم ذلك لم تستسلم فقد واصلت كدها وأنشأت مقاولة بسيطة ، لكن حكاية البرصة هذه لا علم له بها ، لابد أن يستعين بمحام قوي لانتشال أخته من هذه التهمة الكاذبة ، يعيد ويكرر أنها روح طيبة لا يمكن أن تقتل ذبابة . سامية تفكر في جليسها ، هل هو التاريخ يعيد نفسه ، لا تريده أن يصمت ، تستلذ بنبرته الحزينة ، تريد سماع هذا الموال الذي يطرب قلبها ، تحاول جره إلى مواضيع أخرى كي تتعرف أكثر عليه لكنه مأخوذ بما أصاب أخته و مصر على إثبات براءتها .
المواقف الصعبة تفتح القلوب لبعضها ، تحاول سامية أن تتفاعل بإيجابية مع ما يقوله حامد ، لكن أخته متورطة بشكل أو بآخر في مصاعب الشركة و لو كان الأمر كما يقول حامد لما تم الزج بها في السجن ، لكن في الوقت ذاته تعرف أن أخاها بريء جدا من التهم المنسوبة إليه ، فربما تكون صالحة أيضا مجرد مخبولة كما ناصر جرتها دورة الحزام .
لكن الذي يوجع سامية أكثر هو هذا الحب الذي ينمو في عش السماء الرحب ، فكلما تنهد حامد أحست أنفاسه عطرا يفوح في فؤادها ، أيكون طعم الحب في الأعالي ساميا تلطفه السحب و تلمع صفحته فيغدو طريا فواحا كوردة بللتها قطرات الندى ، تحس نفسها على صهوة فرس مستوية السرج ، بل لكأنها على هودج ناقة تسير بخطوات وئيدة ، جاءتها لسعة توجس في فسحتها الذهنية عندما تفطنت أنها لم تتحدث عن نفسها لحامد ، أيمكن أن يغفر لها هذا الكتمان يوم يكتشف أنها غريمة أخته و أنه ربما إن تأكدت من تورطها في مشاكل الشركة ستجد نفسها مجبرة على أداء ثمن باهض ، ولن يشفع لها حب حامد و لا نبرته الشجية .
نظر نحوها حامد و تأمل هدوءها ، رأى فيها إنسانة تحسن الإصغاء والإنصات و يلتهب في نفسه شعور غريب كلما أشعت ابتسامتها و مسحت على وجهه بنظرة عابرة ، يحس عينيها منبع دفء طال قلبه البارد ، يخاف كل الخوف أن تعتبره مخبولا لو قال لها بصريح العبارة أنه يحبها ، مؤكد أنها ستستغرب من سذاجته ، وستتساءل إن كان المرء فعلا سيحب شخصا لم يعرفه بعد ، إنها متكتمة جدا على ما يبدو ، لكنها رغم ذلك فعيونها تحكي قصة أخرى غير التي تحاول أن تظهر .
في السجن وجدت صالحة نفسها فريسة للأرق ، وصورته تصاحبها ، يقدم اعتذاره ألاف المرات ، تتألم لأنها لم تستطع غير البكاء بصحبته ، لم تعتذر له عن نواياها في الاتنتقام منه و من شركته لولا تدخلات القدر ، لتصفو روحها و تستعيد عافيتها ، تألمت وهي تتذكر التهم الموجهة إليها ، فمنها ضلوع في القتل ، وإضرار بالشركة ، كانت تنفي التهم و توضح أنها مجرد طموحة تريد حفر اسمها على صخرة السوق ، و أنها مارست التجارة بأخلاقياتها و بمهنية عالية ، وأنها لم تمارس تلفيقا ولا تزويرا ، و حتى عند طردها من الشركة انسحبت بهدوء ودون زوبعة . تخاف أن لا تستطيع توكيد براءتها و أن تبقى فريسة السجن أبد الآبدين . أما ناصر فأحس لكأنه في النعيم ، اليوم تحرر من ثقل أنقض ظهره ، فأخيرا اعترف لها بخطئه ، و قلبه تصافى من وخزات الضمير ، يتذكر أسئلة الاستجواب ، وعن ليلته أين أمضاها و عن علاقته بصالحة ، و علاقة صالحة بالشركة ، وعن معرفته بوكيل الأعمال ، يتعجب من ورود اسم صالحة في محضر التحقيقات ، أتكون تشتغل في البرصة ؟ أسئلة لم يجد لها أجوبة مقنعة ، لم يهتم لمصيره في السجن ، فهو يكاد يرى السجن أرحم من العالم الخارجي .
حان وقت الفراق و حامد لم يعرف عنها ما يكفي تجر حقيبتها متوجهة نحو سيارة جاءت لاستقبالها ، " سعيدة بصحبتك " هذا هو قولها الأخير نادى عليها قبل الدخول إلى العربة ، نظرت نحوه فأعاد النداء التقيا من جديد وهو يقول :" هل سأراك في الجوار ؟" ردت واثقة : "نعم سنلتقي قريبا ." رد بشغف :" أين ومتى؟؟؟ دوني رقم هاتفي ! " ابتسمت في وجهه و قالت : " ليس بعد ، و لم العجلة .." وتوجهت إلى سيارتها .
وصل حامد إلى بيته والظلام اكتسح المدينة ، أمه عقدت رأسها بمنديل ، و الدموع تبلل خديها ، وشعرها الأشيب مشتت على كتفيها ، هاله هذا المنظر المرعب تعانقه وهي تقول :" إنها هناك مع المجرمين ، هل تناولت عشاءها؟ و هل تسرب النوم إلى جفونها؟ من يدري ؟ حاولت زيارتها فلم يقبلوا ، واكتفوا بأخذ ما أحضرت لها من ملابس و أغذية " كان علي التأكد مما كانت تقوم به ، إنها تخفي عني أمورا كثيرة ، اتصلت بالمحامي كما وصيتني و توجه نحو مركز الشرطة و بدأ يعد ملف القضية . " يواسي أمه المنهارة ، ويعدها ببذل قصارى جهده .
بائع الكزبرة مع زوجته يحلان ضيوفا عند ابنه و انضمت إليهم بنته و زوجها وأبناؤهم ، يقهقهون و يمرحون على العشاء ، كان يومه ربيعيا ، ظهرت صورة ناصر على التلفاز و بعدها صورة صالحة ، فقام من مقامه مسكتا الجميع ، كان خبرا عن الشركة و السجن ، تألم لمصاب العشيقين ، و تألم أكثر لفقدان قلبه صلته بناموس الطبيعة ، أحس أن إحساسه خذله هذه المرة ، تألمت روحه كثيرا ، كما زاده ألما إفساد فرحة أبنائه به و بأمهم .
دخلت سامية بيتها واطمأنت على أمها فوجدت الطبيب يكشف على والدها الذي دبت الحركة في أعضائه دون أن يسترجع وعيه ، فكم مرة قام من مقامه ، و هو يردد ، سآتي يابني لانقاذك ، لن أتركك حزينا هكذا ، لا تخف أختك قوية ، ستخفف عنك آلامك ، اعتمد عليها ، أنت ولد صالح يا بني ، قلب أمك بجانبك ." الطبيب يشرح لهما أنه هذيان ما بعد الإغماء ، و أنه بحال جيدة ، سيتعيد عافيته قريبا ، لكن حذار من إخباره بمشاكل العائلة إلا بعد حين و بطريقة مرنة .
خرجت لتوها عند المحامي الذي شرح لها بدقة مجرى التحقيقات من البداية ، سألته عن تورط أخيها فقال لها إنه بريء كما تعلمين و سألته عن البنت المسماة صالحة ، فقال أن هناك شبهة لا تزال تحوم حول دخولها في المضاربات ، و لكونها آخر من رأى القتيل في منتصف الليل ، بينما لطفي تأكد بما لا يدع مجالا للشك أنه متورط في التلاعبات التي ألحقت الأضرار بالشركة ، فقد تم ضبط كميات هائلة من الخضر المهربة من المزارع في احدى مخازنه صبيحة اليوم و معها تم توقيف الكثير من المتعاونين معه و من المحتمل أن تدينه شهاداتهم ، و ربما يكون هو من قتل وكيل صالحة نظرا لكونه ألحق به خسائر فادحة في مضاربات الأمس . نظرت سامية إلى يدها التي تلفها ضمادة خفيفة كأنها شاركت في مباراة ملاكمة ، شرحت للمحامي القصة عندما سألها عن مصابها . فقال ضاحكا : "هذه حجة تدينك لو كنت هنا في البلد ."
دقت العاشرة صباحا ، أمام المحكة بائع الكزبرة يمشي و يجيء ، ظهرت أم صالحة فجأة و معها شاب ظريف ، توجه نحوها قائلا : " لطف الله من أقداره سيدتي . أقسم أنها بريئة مما نسب إليها ، إنها روح طيبة تلك الفتاة . " سجل المحامي اسمه للإدلاء بشهادته و شرح له في السيارة جميع خطواتها للحفاظ على حبها . كانا في خارج المحكمة بينما دخل المحامي لتسجيل حضوره عند قاضي التحقيق ، إنها سامية تتقدم أباها وأمها و المحامي يسير بجانبهم ، طلب منهم الانتظار خارج المحكمة حتى يأذن لهم بالدخول عند مجيء المتهمين ، رآها حامد قادمة فارتعشت فرائصه ، تقدمت نحوه و سلمت عليه وعلى أمه ثم بائع الكزبرة ، شم أحمد رائحة الحب تنبعث منهما فقال في نفسه :" شكرا أيتها الحاسة السادسة ، أنا بخير و في المكان المناسب ." وصل السيد نبيل الذي قام من مرضه كأنه لم يشك يوما من شيء ، كان في الصباح الباكر في الشركة مع ابنته و هاتف معارفه من كبار المسؤولين و أكدوا له مساندتهم له في مصابه . تقدم بخطواته الواثقة نحو بائع الكزبرة فقال له :" أنت أحمد ؟ يسرني لقاؤك بعد ثلاثين سنة " عانقه بائع الكزبرة وهو يتذكر يوم سرق محفظة والده و زج به في السجن ، كان نبيل يومها يزوره في السجن و يحضر له الطعام و الألبسة حتى انقضت مدته ، عامله بلطف رغم أنه أساء إلى والده ، نبيل يمد يده إلى نبيلة التي خفضت عينيها اللتين غمرهما الدمع قائلا :" السيدة نبيلة ، خفف الله من أقداره " مد يده نحو حامد وهو يقول : " أنت حامد بلا شك ، ابنتي حكت لي عن لقائك بها في الطائرة ." تقدمت أم ناصر تسلم على الجميع دون أن تعرف واحدا منهم .
وصلت سيارات شرطة تحمل المتهمين ليمثلوا امام قاضي التحقيق ، في غرفة الانتظار ، تعلقت صالحة بناصر وهي تعانقه :" سامحني كنت اريد بك شرا ، لكنني كلما اقتربت من إيذائك تذكرت أنك حبيبي ." واسأل بائع الكزبرة . مهما قيل عني فإني بريئة يا ناصر كما أنت بريء ."