احصائيات

الردود
0

المشاهدات
21
 
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


مُهاجر is on a distinguished road

    موجود

المشاركات
590

+التقييم
0.42

تاريخ التسجيل
Feb 2022

الاقامة
مسقط

رقم العضوية
16905
اليوم, 07:11 AM
المشاركة 1
اليوم, 07:11 AM
المشاركة 1
افتراضي ذاكرة الأمس وقلق اليوم
بالأمس كان لي حديث مع زوجتي العزيزة، حديث أعادنا إلى سنوات الطفولة الأولى، حين كنا نعيش مرحلة من العمر لا يفصلنا فيها عن بنات الجيران سوى النوم أو المدرسة. حتى الطعام، في كثير من الأحيان، كنا نتشاركه معا، وكأن البيوت بيت واحد، والقلوب قلب واحد.
كنا نرافقهم في رحلاتهم، لا كضيوف، بل كظل ملازم، أو لعل الأدق أننا كنا جزءا منهم. نلعب، ونتسامر، ونضحك، دون أن يخطر في بال أحد منا ما يعكر صفو تلك العلاقة أو يشوب نقاءها. لم تكن في القلوب نيات مريبة، ولا في العقول حسابات معقدة، بل كانت النية صافية، كزلال العسل المصفى الرقراق، وكان الإحساس أخويا خالصا، لا تشوبه المؤثرات ولا تفسده الظنون.
ثم انتقل بنا الحديث إلى واقعنا المعاش، وكيف تبدل الحال. أصبح الصغير، وهو في مهده، يعرف ما يسمى بالعيب، ويشرح لك دقائق الأمور، وكأن خبرته في الحياة سبقت عمره بسنوات. عندها تفتحت أمامنا علامات استفهام كثيرة، تطرق أبواب الأذهان؛ منها ما هو واضح المعالم، ومنها ما غاب عن فضاء البصيرة.




كان الانفتاح على العالم في مقدمة الأسباب، تتبعه بقية العوامل كروافد وفروع غذتها غفلة الجموع. ومع تسارع الأحداث، بات الواقع يفرض علينا خيارين لا ثالث لهما: إما الثبات، وإما الانصهار ثم التبدد فالزوال.




ومن هنا يبرز السؤال: ما السبب الحقيقي لتلك الطفرة التي تبدل فيها الحال واختل الميزان؟ حتى اختلطت الأمور، فصار الأصل فرعا، والحقيقة خيالا، والثابت متغيرا. وسرى اللغط، وجثمت الحيرة، حتى عصفت بفكر الحكيم، فوجد نفسه في معمعة لا مخرج لها ولا سبيل، إن لم يكن على بصيرة.
ودوام الحال ضرب من الخيال، وأمنية لا تتحقق، ولو أنفق صاحبها ما أنفق من مال. ذلك السجل الحافل وألبوم الذكريات، بما يحويه من أماكن وأزمنة وشخوص، له دموع العيون وبكاء القلوب. غير أن هذا الواقع، الذي لا نلون صورته بالسواد المطلق، يقطع سيل الذكريات. نذكر محاسنه ولا نخفي مثالبه، وإن كانت المثالب اليوم قد زاحمت تلك المحاسن. ومع ذلك، يبقى هناك متنفس نلوذ به كلما هاجت الذكريات وأعادتنا إلى مرابع تلك الأيام.



لقد كان التعاون بين نسيج المجتمع أساسه ومحركه الحاجة المتبادلة؛ حاجة الفرد إلى الجماعة، والجماعة إلى الفرد. كانوا في مستوى واحد، لا تفاضل بينهم إلا نادرا، ممن ضحكت له الدنيا وتربع في المقام. ومع هذا، لا يمكن أن نذكر الماضي على أنه سرمدي النعيم والهنا، لكنه يذكر حين نقارنه بواقع معاش، كحالنا مع الأطفال يوم كنا صغارا.




تلك اللحمة الاجتماعية ذاب فيها الواحد في الآخر، حتى صار لنا كيان واحد وهم واحد: أن نحيا حياة بسيطة، لا يعكر صفوها قواطع الأيام، نسير مع الدنيا دون التفات لما يخبئه القدر، فيكون يومنا كأمسنا وكغدنا.



كانت القلوب آنذاك مشبعة بالنقاء، لم تتلوث بما يجرفه الفضاء المفتوح، ولم تخالطها اختلافات ثقافية تصادم إرثها المحفوظ. واليوم، للأسف، بتنا نشير إلى ما هو نعمة في أصله، يمكن أن يكون خيرا عميما إن أحسن توظيفه، فإذا به يتحول إلى نقمة حين يساء استخدامه. فالطفرة العلمية والتكنولوجية، بدلا من أن تكون جسرا للتقارب، أصبحت في كثير من الأحيان سببا للتفكك والتباعد، وكأنها هي المتحكمة، لا الإنسان.



لقد أمسكت التكنولوجيا بأيدي من لا يحسنون التصرف فيها، ففرضوا على أنفسهم عزلة قسرية، وإقامة جبرية، بلا حكم ولا تنفيذ. أما أولياء الأمور، فقد ترك كثير منهم الحبل على الغارب، وتركوا الأبناء دون إرشاد أو توجيه، فلا عجب بعد ذلك إن حصدنا نتائج الإهمال، ولا يجوز أن نلوم الأطفال إذا جاء التشجيع من الآباء على التجرد من الأخلاق، أو التراخي في أمور الدين، تحت شعار مواكبة الجديد بلا تمييز.



من هنا يتولد القهر الداخلي، ويتسلل الظلم الخارجي، لينال من عقل وقلب ذلك النشء. فيغدو الماضي، في قاموس الطفل والشاب المتنفس برئة التطور، مجرد مخلفات تخلف، لا يستطيعون تصور كيف عاش الماضون حياتهم.




والحقيقة المؤلمة أن التغير جاء منا وفينا، مهما سقنا من أعذار وتبريرات، فنحن من نملك العقل والإرادة. إنها القناعة السلبية التي جعلتنا نلقي بعصا المحاولة، ونتخلى عن شمائل وخصال عززت الإخاء والمحبة، وخلقت الألفة وتمني الخير للآخرين. فبدلا من ذلك، ساد التقاطع والتدابر، وانقطعت الصلة بجذور حضارتنا وإرثنا.



في الماضي، كان الطفل ينعم براحة البال، أما اليوم فنشاهد شرودا وقلقا، نتيجة ما يتلقاه ويمارسه، حتى صار فكر بعضهم كالعصف المأكول. والمقارنة المنصفة لا تكون في جانب التقدم المادي، من وسائل نقل واتصال، فذلك من الغبن، وإنما تكون في الجوانب الاجتماعية التي كان الأصل فيها الثبات على الفطرة، لا الاندثار تحت أقدام التمدن المغلوط والتغريب الفكري والروحي.
إن الجمال الحقيقي يكمن في التوازن: أن نأخذ من التكنولوجيا ما يدعم التلاحم والتقارب، ويجمع الشتات، لا أن نجعلها معول هدم. فالمشكلة ليست في الجهاز، بل في طريقة التعاطي معه.




لقد كان المجتمع سابقا يتحسس أفراده، يفرح لفرحهم ويتألم لألمهم، كالجسد الواحد. أما اليوم، فالفجوة التي نعيشها لم يصنعها إلا أفراد البيت الواحد والمجتمع الواحد. والانفلات من ربقة الانتماء هو ثمرة الذوبان في ذوات الآخرين، حتى صار الوطن عند بعضهم موطن وحشة لا انتماء.
ما نحتاج إليه اليوم هو وعي صادق، وتثقيف مسؤول، وإعادة صياغة للواقع، لتعود اللحمة الاجتماعية هاجس كل فرد يعيش تحت سماء هذا المجتمع. فالنقاء لم يكن يوما مطلقا، والشوائب جزء من طبيعة البشر، لكن العلاج كان ولا يزال في ترويض النفس، وتغليب الصالح العام، حتى يسلم القلب من الأحقاد.




ولا يمكن إغفال دور الإعلام والبرامج الموجهة للأطفال. فقد كانت الرسوم الكرتونية قديما حاملة لقيم سامية، كالأمانة والصدق والصداقة وبر الوالدين والشجاعة، بينما يطغى اليوم في كثير مما يعرض العنف والكذب والخيانة، مما يزرع في النفوس عطشا للشر، ويثير قلق أولياء الأمور.



إن المسؤولية في النهاية تقع على ولي الأمر، في التقنين والتوجيه، لا بالمنع الأعمى، بل بالحوار والإقناع. فلكل شيء حدان، والعبرة بكيفية الاستخدام. والانفتاح على الحضارات سنة كونية، كما دل عليه القرآن الكريم، لكن بشرط الحفاظ على الهوية والعادات والتقاليد، وأخذ النافع وترك الضار.
بهذا تتضح الصورة: ليست المشكلة في العصر، ولا في التقدم، بل في غياب الميزان. وكلما عرفنا السبب، انقطع العجب، وعاد الأمل في أن نستعيد إنسانيتنا، ونصنع مستقبلا لا يقطع جذوره عن ماضيه، ولا يعادي زمانه.



مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3)
 
أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: ذاكرة الأمس وقلق اليوم
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الأمس أحمد سليم بكر منبر النصوص الفلسفية والمقالة الأدبية 1 10-12-2015 11:50 AM
حلم الأمس خولة الراشد منبر القصص والروايات والمسرح . 11 05-11-2013 12:16 PM
أنت منذ الأمس أحمد فضول منبر شعر التفعيلة 2 08-07-2012 07:31 PM
[ كلمات تبدلت معانيها بين الأمس و اليوم ] حميد درويش عطية المقهى 11 10-21-2011 07:21 PM

الساعة الآن 03:58 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.