يبقى لنا البحــــــر
وقفنا على البحر تحت الظهيرة طفلين منفعلين
و روحى يسبح عبر مروجك
في نهر عينين مغدقتين
و قلبى يركض خلف سؤالِ
حملت براعمه عطر مرعىً على شفتيك
سؤالك فيه عذوبة ريح الشمالِ
و روعة أغنية سكبتها كمنجات شوق مخبأة في يديك
سؤالك لون سماء على برك و دوالي
سألتَ عن البحر هل تتغير ألوانهُ؟
و هل تتلون أمواجه؟ هل تُرى تتبدل شطآنهُ؟
سألت و عيناك واسعتان اتساع الرؤى
و وجهك نجم نأى
و سفن مضيعة لم تجد مرفأَ
سألتَ و هدبك دهشة طفلِ
و رعشة سنبلة, و تموُّج حقلِ
و كانت يداك شراعين منهمرين
على زورقين
وراء المدى و الرؤى شاردين
و قلتُ, نعم, يا حبيبي
يغيّر ألوانَه البحرُ
تعبر فيه سفائن خضرُ
و تطلع منه مدائن شقرُ
و يشرب حينا دماء الغروبِ
و يصبح حينا بلون الفضاء
يلملم زرقته يا حبيبي
و يحلم, يرنو بعينين شذْريَّتين
سماويّتين
إلى اللانهاية, يأخذ لون الضياء
صباحا و يطفىء كل ثريَّاته في المساء
سألتَ عن البحر, هل تتغير ألوانهُ؟
و هل تتلون أمواجه؟ هل تُرى تتبدل شطآنهُ؟
نعم يا حبيبي
و بحر يلاطم وديان نفسي
و يرحل عبر موانىء لون و شمسِ
و عبر حقول مغيبِ
و يغتسل الغسق القمرىّ بأمواجه و يبلل شَعره
و يلقي إليه سماء و فكرة
نعم يا حبيبي, نعم, و يلون خلجانهُ
نعم و يغير ألوانهُ
فيشرب صفرة شكى و ظنى
و يصبح أزرق في لون لحني
و تبحر في شذر أمواجه أغنياتي و سفني
و يصبح أبيض, تصبح لجته ياسمينة
و يصبح أخضر, مثل اخضرار العيون الحزينة
و مثل زبرجد نهر النهاوند في قعر حزني
سألت عن البحر, هل تتغير ألوانهُ؟
و عيناك بحر ترامى و ضاعت
حدود مداهُ و شطآنُهُ
نعم يا حبيبي, يغير ألوانهُ و يصير بلون الرماد
له كل طعم ليالي السهاد
رمادية كل أسماكه, و رماد
لآليه, إسفنجهُ, أخطبوتاتهُ, و رماد
مدائنه الغارقات القباب
و لون الرماد
جبين غريق طفا و توسّد أمواجهَ الملح, مغمىً عليه
و يبتلع الماء, و الملح عوسجة و رماد على شفتيه
و بحري و بحرك, بحر الرماد
حنون الفؤاد
له قسوة تلثم الجرح, تفرش لين وساد
و بحري و بحرك شاكس جسمَ الغريق الرمادى
أرسل موجته القاسية
لتلطمه, و عروس بحور لتحمله, للرمال النبيذية الناسية
و يرقد من دون وعى على الجرف, مغمىً عليه
و بحر الرماد
يرشرش إغماءه, و الشبابُ الغريق
تغازل خديه, موجة حب, و تغسل جبهته و تريق
عليه المحبة و الملح و الرغو, حينا يغطي الجسد
و حينا يعود, و يرتد عنه, و يتركه لذهول الأبد
و يا من تسائلنى
هل يُغير بحري و بحرك ألوانهُ؟
و مثل الغيوم يلون, يرسم, يالزيت و الفحم شطآنهُ؟
حبيبي لقد كان لي في الطفولة جدُّ
طويل كمثل جدائل شعر ربيع وريف
و كان لجدىَ عمقٌ
و ظلٌّ
و بُعدُ
له عنف عاصفة في خريف
و كان مدىً في بحار مطلسمة لا تُحدُّ
و جدىَ كان قويا كموجة بحر مخيف
و في ذات يوم سرَتْ ألسن النار في بيتنا
مضت تمضغ الباب, تشعل لين الستائر
يدور اللهيب دوائر
يزمجر في شرفات مُنانا
و يضحك من رعبنا
يهدد ان يتوسع, يركض في حينا
و ينذر أن يتغدى خدودا, شفاها, ظفائر
و يغتال حتى شباب البيادر
و أقبل جدىَ مندفعا مثل موجة بحرِ
و أرسل صيحة هول و ذعرِ
تحدّر في عنف إعصار نوء, يسب و يلعن
شتائمه مطر و حنان, شراسته بيت شِعر ملحن
و نجمة فجرِ
و زورق عطرِ
و مدُّ السباب على شفتيه غدير ملون
و أطفأ جدى الحريق, و أنقذ هدبي و شَعرى
حبيبي, و جدىَ قد كان بحرا
يُغيّر ألوانه و تصير محاجر عينيه سودا و خضرا
يبدّل أمواجه, يترامى, يصوغ لآلىء
يُسيل ينابيع, يرسي شواطىء
و يبدع مدّا, و يصنع جذرا
يبعثر عبر ازرقاق الخليج جزائر شقرا
و كانت جرادله و هْى تلعن, كانت قماقم بلسم
تكسّر أسورة النار, عن ساعد لين و ذراع و معصم
و قسوة أمواج بحرىَ صارت أكفا و صدرا
لتحمل جسم الغريق الرمادى تمطره قبلات و زهرا
و ترميه فوق ضفاف السلامة
رفيف جناح حمامة
و تعطيه عمرا جديدا
و تزرع إغماءه حلما و سنابل ذكرى
و برد غمامة
عن اللون و البحر تسألني يا حبيبي
و أنت شراعي
وألوان بحري
و غيبوبة الحلم في مقلتي
و أنت ضباب دروبي
و أنت قلوعي
و أنت ذرى موجتى
و وردة حزني, و عطر شحوبي
عن اللون و البحر تسألني يا حبيبي
و أنت بحاري
و مرجانتي و محاري
و وجهك داري
فخذ زورقي فوق موجة شوق مغلفة, خافية
إلى شاطىء مبهم مستحيل
فلا فيه سهل و لا رابية
إلى غسق قمرىّ المدار
عميق القرار
و ليس له في الظهيرة لونُ
و ليس له في الكثافة غصنُ
و لا فيه هولٌ, و لا فيه أمنُ
هنالك سوف نضيع
و نأكل دفء الشتاء, و نقطف ثلج الربيع
و نغزل صوف الصقيع
هناك لا طول للظل في حلمنا, لا قِصَر
و لا شىء يمكن أن يرتقيه النظر
سوى موجة أغنية تتحدّر عبر جبال القمر
و نضحك, نبكي, و عيناك تعكس لون البَحَر
و يبقى لنا اللون
و البحر
و الأبد المنتظَر
نـــازك الملائـــكة