قراءة نقدية معمقة ومغايرة لقصص مبارك الحمود
فيما يلي قراءة نقدية معمقة ومغايرة لقصص القاص مبارك الحمود احاول فيها فكفكة رمزية وغموض هذه النصوص العبقرية وابراز مكامن الجمال فيها- عسى ان يدور نقاش حول هذه الدراسة والقراءة المعمقة:
اولا : "قصة الظل"
بسم الله الرحمن الرحيم
عندما يكون الماضي ليس سوى ظل يلاحقك أينما تذهب بدون أن يلمسك, تبحث عنه بين طيات جسدك, و تفكر:" يا ترى أين هو مربوط!؟, أهنا أم هناك؟!", و حينما تذهب إلى فراشك وتُطفئ الأنوار يتبدد إليك الخوف, فكل ما حولك صار ظلا يلتهم جسدك المتكور المنهك حتى يختفى وسط أحشائه, ولكنك رغم ذلك تصحو بأمان.. إلى ظلي ذاك, الذي ظل نعم الرفيق بدون تذمر, وحتى في صحاري الشموس, أهدي هذه القصة.
الظل
انشغل أهل المدينة الصغيرة بذلك الظل الذي يظهر كثيرا في حفلاتهم, قادما من المجهول, ومستترا بأماكن الظلام, أو بظلال السمينين, والمسنين منهم.. كان الجميع يتحدث عنه ما بين متخوفٍ منه و مستهترٍ به, بين من يرى أنه خطر يحدق بهم كرئيس الشرطة سعيد الرافلي الذي أكد أنه قد رأى زحف ظلاله على بساط غرفة نوم أبناءه السابقة, وتسلله هاربا من جنبات النافذة وحوافها.. ومن يرى أنه ليس سوى أسطورة أو خرافة متخيلة أو في أقل الأحوال شخصية عادية, لص أو متشرد, بالغ الجميع واستمتع بنسجها ليملأ أوقات فراغه بها, وذلك كان رأي الدكتور وليد .. وهناك منهم من أقسم على رؤيته بوضوح, و كان من بينهم شيخ المسجد منصور سالم الذي قال أنه استطاع أن يرى عيناه المثقوبتين, وأن يرى فيهما دمعتان تلمعان كماستين معلقتين في يوم الهزيمة الكبرى.. والبعض الآخر منهم من قلل من أهميته, وأنه لن يضرهم بشيء, وخاصة أنه يخافهم, ودائما ما يولي هاربا عنهم, وكان ذلك رأي شباب المدينة ومنهم ماجد المازني, الفتى اليتيم.
كان الصغار هم أكثر من رآه عن قرب, فقد رآه أحد أبناء الرافلي على مقربة 5 أقدام منه, بملامحه الشديدة القتامة, و حاول وقتها أن يحضر الكرة التي سقطت على مقربة من الظل الذي ظهر فجأة, ونظر له مرعوبا, فولى الظل هاربا من أمامه عندما بدأ بالبكاء, قال الصغير أنه سمع همهمة الظل الغير واضحة, رغم أن فمه كان مقفل بغراء, وأنه مد يده لخطفه فبكى.. لقد كان أطول منه بقليل, يبدو شعره القصير مسترسلا, وبقية ملامحه غير واضحة أبدا, لقد كان ظلا فعلا, و انتشر بين الكل أنه كان بذلك يحاول سحرَ الصبي, ولكنه خاب.. وغلّق أهل المدينة على صغارهم الأبواب, و أصبحوا بسبب ذلك يبكرون في الانتهاء من أعمالهم.
و ذلك ما جعل ماجد زيد المازني يتحدى الجميع على أن يعرف مكان سكنه, وأن يجلبه لهم بين يديهم في وضح النهار, بشرط أن تكون له مكافاة مالية على ذلك قدرها ثلاثة أكياس من الدقيق الأبيض.. كان ماجد مشهور بين أهل المدينة بنشاطه وجده, و لذلك حين اشترط عليهم تلك الشروط وافقوا فورا.. فراقبه ساعات طويلة, وكان وقت المغرب حين رآه فجأة.. كان الظل ينظر لعائلة النجار من خلال نافذتهم المفتوحة, والشاب يراقبه بحذر و خوف.. أحس الشاب بملامح حزن تبدو على الظل, هناك ألم خفي يشعُره بذلك السواد الفاحم.. و مرت الأيام و هو على هذه الحالة, و لكن لم يستطع أن يعرف مكانه, فالظل خفيف المسير وسريع الخطى, وسرعان ما يختفي في وسط أحشاء الغابة كالشبح.
و لحل معضلة ذلك قرر الشاب مد خط طويل عريض من دهان أبيض على ما يستطيع على طول الغابة من الجهة المقابلة لمدينتهم, وفعلا نجحت خطته فقد بدت خطوات الظل المؤدية للغابة واضحة, رغم أنها تبدو متباعدة قليلا.. وصل فعلا لنهايتها, وقف عند شجرة عملاقة تبدو مخضرة الجوانب بشكل عجيب توجد فيها فتحة تكفي لدخوله, قد انتهت عندها الأقدام.. أدخل رأسه الخشنة الشعر, و إذا به أمام غابة أخرى, كأنه أخرج رأسه من الجهة الأخرى للشجرة لو لا أنه لاحظ الاختلاف بينها و بين ما ورائها, تجرأ رغم ارتعابه وخطا خطوات مترددة حتى لاحظ نورا شديدا يتفجر من بين الأحراش.. وقف على طرف مدينة تملؤها الأضواء الشديدة, حاول معها استكهان كنهها و لكنها كالحلم.. شعر بالرهبة, وهو يراقب من بعيد أهل هذه المدينة.
بدوا له كالملائكة و لكن بدون أجنحة, وهو يراقبهم من بعيد, وفي ظل اندهاشه نسي أن يبحث عن ذلك الظل, لقد كان منبهرا بسعادة و متوجسا بفضول, وهو يرى تلك المدينة الأسطورية, بسكانها المبهرين, وبدا ذلك الإبهار بالتشتت قليلا, عندما شعر أهل المدينة بوجود غريب عنهم يتلصص عليهم, فالتفتوا بوجوههم المبهمة, وتجيشوا على بعضهم كأنهم يتأهبون للهجوم عليه, أحس بسريان رعب شديد في نفسه, جعله يهيم على نفسه هاربا إلى تلك الشجرة, ليعود من خلالها إلى مدينته, يعيش حياته التي لم يعد يرى فيها الظل.
قرءاه نقدية مغايرة ومعمقة لقصة "الظل" لكاتبها مبارك الحمود ومحاولة لفكفكة الغموض في القصة واستخراج عناصر الجمال منها
لا شك أن ابرز ما يميز هذه القصة هو الغموض في طبيعة الشخصية الرئيسة التي اختار مبارك الحمود أن يجعلها محورا للحدث وهي شخصية (الظل)، والذي يخطف انتباه المتلقي ويظل يشغل باله فور ولوجه إلى القصة، كما كان يشغل بال أهل تلك المدينة المتخيلة التي تمثل الفضاء المكاني للقصة.
وعلى الرغم من محاولة مبارك الحمود مساعدة المتلقي في فهم طبيعة تلك الشخصية، وذلك من خلال توفيره تقديم يحاول من خلاله رسم ملامح تلك الشخصية، وتوضيح ماهيتها، لكنها تظل عصية، ولا يستطيع المتلقي تحديد طبيعة هذا الظل حتى بعد انتهائه من قراءة القصة.
وما يزيد الغموض في طبيعة تلك الشخصية هو ما ورد في التقديم الذي جاء به مبارك الحمود ليوضح طبيعة تلك الشخصية على ما يبدو... فعلى الرغم أننا نجد مبارك الحمود يصف الظل على انه الماضي الذي يتحول إلى ظل، ويصبح يلاحق صاحبه، وبالتالي يصبح مصدرا للخوف الذي يتبدد إلى صاحب الظل عندما يذهب إلى فراشه ويطفيء الأنوار، حيث يصبح كل ما حوله ظلا يلتهم الجسد المتكور المنهك... فكيف نفهم إذا إهداء مبارك الحمود القصة إلى ظله والذي يقول عنه انه " إلى ظلي ذاك, الذي ظل نعم الرفيق بدون تذمر, وحتى في صحاري الشموس, أهدي هذه القصة."؟
- فمن الذي يجب أن يتذمر: اهو الظل أم صاحب الظل؟ ما دام أن الظل هو السبب في كل ذلك الخوف؟
- وهل هناك سر خلف هذا الإهداء؟
- وهل فعلا أن الظل مشكل، ومكون من تراكمت الماضي؟
- أم أن فهم القصة يتطلب معرفة كنه ذلك الظل؟
- ثم هل كتب مبارك الحمود هذه القصة بعد تخطيط مسبق لطبيعة هذه الشخصية? أم انه ترك المجال لخياله ليرسمها كيف يشاء؟
- وهل تمثل الشخصية هنا بعدا واحدا رسم بوعي (تراكمات الماضي)، أم أنها يمكن أن تمثل أكثر من بعد في نفس الوقت، وربما تكون قد خرجت من ذهن مبارك الحمود دون وعي منه؟ اليس ذلك ما يحدث عادة عندما يتولى العقل الباطن توليد النص الابداعي؟
يتبع،،،
نعود لنغوص في ثنايا هذه القصة وأعماقها التي أبدعها خيال مبارك الحمود فجاء النص المتولد عبقريا فذا يملؤه الغموض، والإدهاش، والشد، والكثير من الفنيات التي تجعله ينبض بالحيوية والحياة، والجمال.
وكما هي عادته نجد أن مبارك الحمود قد اختار كلمة واحدة ( الظل ) لتكون عنوانا لقصته هذه، وهي حتما كلمة تختزن في ثناياها ويرتبط بها الكثير من الغموض، والرهبة، وما يثر الخوف والتوجس، وربما الكثير من الأسئلة، وبالتالي فهي تمثل ثقبا اسودا يشد المتلقي لباقي النص فما يلبث أن يندفع ليتابع القراءة ليتعرف على قصة ذلك (الظل) محاولا كشف سره وفهم ابعاده وما يمثله.
ونجد إذ نبحر في النص أن مبارك الحمود قد قسمه إلى خمسة أجزاء( فقرات)، لكنه وعلى غير عادته لم يرقم هذه الفقرات أو لم يفصل بينها بحروف أو أي رموز كودية أخرى على شاكلة ما فعل في قصة (عاطل) وقصة (انتقام).
وربما أن السر في ذلك يعود لقناعته أن النص بحد ذاته غامض وكودي ورمزي بما فيه الكفاية، ولا يحتاج إلى المزيد من الرموز الكودية التي قد تجعله أكثر غموضا. حتى أننا نجده قد اضطر لوضع ما يشبه المقدمة التفسيرية للنص، آخذنا بيد المتلقي ليساعده على الولوج إلى القصة وفهم طبيعة تلك الشخصية المثيرة، ولم يكتف بما ورد على السنة الشخوص الذين قدموا وصفا لشخصية الظل المحورية في جسم النص، وهي حتما مقدمة غير ضرورية لأنها، وربما عن غير قصد، قللت من حجم الصورة الذهنية الغنية للشخصية المحورية في القصة، وهي شخصية الظل، وقللت من شأنها، وذلك من خلال حصرها بالإيحاء على أنها تمثل (تراكمات الماضي)، وكان الأجدر بالقاص أن يترك الأمر لمخيلة المتلقي ليستنبط طبيعة تلك الشخصية ويرسم أبعادها في ذهنه من خلال ما يقدمه القاص من وصف وأحداث.
ونجد أن الفقرة الأولى من النص غنية بالحيوية والحركة والنشاط، إضافة إلى شمولها على الكثير من الجوانب الجمالية، والكلمات الدالة، واستثمارا للنقائض، وهو العامل الأعظم أثرا على الدماغ. وكذلك كلمات تستثير في المتلقي الحواس، والمشاعر، والمخاوف، وهي في مجموعها عناصر جمالية، جعلت نص هذه الفقرة بالغ الأثر، خاصة أنها جاءت في بداية النص، فعمقت اثر الثقب الأسود والمتمثل في العنوان، والذي استخدمه القاص لجذب انتباه واهتمام المتلقي لمتابعة القراءة ... وكل هذه العناصر الجمالية سوف نستكشفها هنا تباعا " انشغل أهل المدينة الصغيرة بذلك الظل الذي يظهر كثيرا في حفلاتهم, قادما من المجهول, ومستترا بأماكن الظلام, أو بظلال السمينين, والمسنين منهم.. كان الجميع يتحدث عنه ما بين متخوفٍ منه و مستهترٍ به, بين من يرى أنه خطر يحدق بهم كرئيس الشرطة سعيد الرافلي الذي أكد أنه قد رأى زحف ظلاله على بساط غرفة نوم أبناءه السابقة, وتسلله هاربا من جنبات النافذة وحوافها.. ومن يرى أنه ليس سوى أسطورة أوخرافة متخيلة أو في أقل الأحوال شخصية عادية, لص أو متشرد, بالغ الجميع واستمتع بنسجها ليملأ أوقات فراغه بها, وذلك كان رأي الدكتور وليد .. وهناك منهم من أقسم على رؤيته بوضوح, و كان من بينهم شيخ المسجد منصور سالم الذي قال أنه استطاع أن يرى عيناه المثقوبتين, وأن يرى فيهما دمعتان تلمعان كماستين معلقتين في يوم الهزيمةالكبرى.. والبعض الآخر منهم من قلل من أهميته, وأنه لن يضرهم بشيء, وخاصة أنه يخافهم, ودائما ما يولي هاربا عنهم, وكان ذلك رأي شباب المدينة ومنهم ماجد المازني, الفتى اليتيم".
فكلمة ( انشغل ) وهي أول كلمة في النص، تشير إلى الحركة والانشغال والنشاط، خاصة أنها تصف حال أهل تلك المدينة الصغيرة، والتي تمثل المشهد للقصة، الذي يظهر فيها الظل. وباستخدام كلمة ( يظهر كثيرا) في وصف للظل مزيدا من الحركة والنشاط، وكلمات ( في حفلاتهم) تعنى أيضا جو صاخب مليء بالحركة والنشاط، وكلمة (قادما) تعني حركة أيضا، وكذلك كلمة (مستترا) فيها حركة أيضا، وفيها استثمار للنقائض مع كلمة (يظهر+ يستتر).
وفي هذا السطر الأول الكثير من الإثارة والشد الصاعد المتطور، كون القصة تتحدث عن (ظل) يظهر كثيرا في حفلات أهل مدينة صغيرة، فيشغل أهلها، خاصة انه قادم من المجهول، ويستتر في أماكن الظلام، أو في ظلال السمينين، والمسنين منهم. ونجد أن كلمات مثل ( مجهول+ مستتر+ ظلام+ ظلال+ سمينين+ مسنين) تشتمل على دلالة تساهم في بناء مشهد وجو مخيف اقرب إلى أجواء أفلام الرعب، ذلك الذي يظهر فيه الظل.
ونجد أن القاص يستخدم في هذه الفقرة هنا، عددا كبيرا من الكلمات التي تشتمل على حرف السين أو الشين، وهي أحرف الهمس التي تساهم في بناء ذلك الجو المخيف الذي غالبا من يبدع القاص مبارك الحمود في بناؤه، ويخدم كعنصر مهم من عناصر الشد، والإدهاش، والتشويق، والإثارة.
وفي كلمات ( يتحدث عنه + يرى ) استثارة لحواس المتلقي. وفي وصف الحالة التي ينظر فيها الناس إلى ذلك الظل حيث ينقسمون إلى أقسام منهم من هو (متخوف منه) ومنهم من هو (مستهتر به)، ومنهم من يراه خطرا محدقا بهم، خاصة أن من بينهم رئيس الشرطة كونه خطر عليهم...ما يساهم في تعقيد وتطوير جو النص المخيف الذي يسعى القاص لوضع المتلقي فيه بإضافة عنصر الصراع المؤثر.
وفي تسمية رئيس الشرطة (سعيد الرافيلي)، وتأكيده بأنه (رأى) زحف ظلاله على بساط غرفة أبناؤه السابقة، ما يدفع المتلقي إلى الشعور بدفق هائل من مشاعر الخوف والرهبة، أولا لان المتحدث يبدو شخصيا حقيقيا من مشهد واقعي، جرى في المدينة الصغيرة المجاورة، وهو حتما ليس شخصا عاديا كونه رئيس الشرطة، وهو يؤكد بأنه رأى الظل شخصيا وبأم عينه، ورآه وهو يزحف على بساط غرفة نوم أبناءه (السابقة)، وتسلله هاربا من جنبات النافذة وحوافها، وفي ذلك ما يضخم مصداقية الحديث عما حصل لما يمثله الشرطي من هالة وقوة ومصداقية، ويجعل ما حصل اقرب إلي التصديق كون المتحدث شرطي يروي ما شاهد بأم عينه. لكنه في نفس الوقت يشير أيضا إلى أن الشرطي كان قد انتقل من البيت (السابق) هربا وخوفا من الظل...وفي ذلك ما يزيد في دفق مشاعر الخوف في نفس المتلقي. ولا يفوتنا أن نشير بان كلمة (زحف) تعني الكثير من الحركة، وبالتالي تضيف الكثير من الحيوية للنص النابض بالحيوية أصلا نظرا لتكرار كلمات تشير إلى الحركة والنشاط.
وفي تسمية الدكتور وليد كممثل لفئة أخرى من الناس من بين سكان تلك المدينة الصغيرة، والذين يعتقدون هذه المرة أن ( الظل- مجرد أسطورة أو خرافة متخيلة أو في اقل الأحوال شخصية عادية، أو لص متشرد، بالغ الجميع في نسجها ليملأ أوقات فراغه)، ما يزيد من مصداقية الحدث وواقعيته، ونجد في هذا الموقف إبراز لصراع بين فئات مختلفة من الناس، فئة يقودها شرطي وتتعامل مع الأمور من منطلق الأمن، والاحتمالات الواردة، ويتصرف بناء على ذلك، وفئة أخرى يقودها دكتور أي إنسان متعلم فهو بذلك يمثل العقلانية والشريحة المتعلمة، ولذلك نجدها تشكك في كل ما يقال دون دليل مادي ملموس. ونجد هنا أيضا استثارة للحواس من خلال استخدام كلمة (يرى)، وفي استخدام كلمة (نسجها) ما يشير إلى مزيد من الحركة والنشاط.
ولكن الصراع يزداد حده عندما يُدخل القاص شخصية جديدة إلى النص تقود فئة ثالثة من جمهور المدينة الصغيرة تلك، يقودها هذه المرة رجل دين هو شيخ المسجد منصور سالم، حيث نجد أن القاص يجعله يقسم على رؤية الظل بوضوح، وهو أمر لم يفعله الدكتور وليد مثلا، وفي ذلك مغزى مهم كونه رجل دين، لا بل وان يقدم وصفا هو اقرب إلى وصف لشخصية من عالم الجن (وكان من بينهم شيخ المسجد منصور سالم الذي قال أنه استطاع أن يرى عيناه المثقوبتين, وأن يرى فيهما دمعتان تلمعان كماستين معلقتين في يوم الهزيمة الكبرى..) أي أنها فئة تؤمن بالغيبيات وبوجود عوالم أخرى غير العالم المادي الذي نعيش فيه ولا بد ان ليوم الهزيمة الكبرى رمزية ما لها علاقة بهذا الايمان الغيبي؟. وهنا نجد مزيد من الكلمات التي تستثير في المتلقي حاسة البصر حيث تم تكرار حاسة الرؤيا أكثر من مرة ( رؤيته+ يرى + عيناه + يرى+ دمعتان ) وكلها كلمات تشير إلى حاسة البصر، وتخدم في زيادة مصداقية الرواية التي تتبناها هذه الفئة من جمهور المدينة، مما يجعل الحدث اقرب إلى الواقعية، والشخوص اقرب إلى الناس العادين الذين يمكن أن نلتقي بهم في الأسواق أو في الحي المجاور للذي نسكنه.
ولكن الصراع لا ينتهي هناك، فنجد القاص يدخل فئة رابعة من سكان تلك المدينة وهم شباب المدينة، ويقودهم هذه المرة فتى (يتيم) اسمه ماجد المازني... وهذه الفئة تقلل من أهمية الظل وتعتقد حتى لو انه كان موجودا كما يقول الشيخ والشرطي فهو لن يضرهم بشيء، وليس ذلك فقط بل هو يخافهم ودائما ما يولي هاربا عنهم. وفي كلمة (يولي هاربا) مزيدا من الحركة والنشاط. وفي إلصاق صفة (اليتم) في هذه الشخصية التي تقود فئة الشباب ما يوحي بالكثير...وكأن القاص يريد أن يقول بأن ما يصيب اليتيم من فجيعة يجعله صلبا، قويا، جسورا، شجاعا، وأكثر إخافة من الظل المخيف للكثير من أفراد الشعب. وفي منحه اسم (ماجد المازني) ما يجعله شخصية اقرب إلى الواقعية...ونجد هنا ان هذه الشخصية تدخل في صراع مع شخصيةالظل فيما تبقى من النص وهو ما يزيد من حدة الصراع في النص ويضاعف الاثر...وهي شخصية يكررها القاص ويجعل لها دورا محوريا في الكثير من قصصه مثل قصة المريض.
وكأن القاص هنا ومن خلال رسمه بإتقان وحرفية للشخصيات الأربعة، ( الشرطي سعد الرافلي، والدكتور وليد، والشيخ منصور سالم، واليتيم ماجد المازني) والتي تقود الفئات الأربعة من جمهور المدينة تلك، يريد أن يقول بأن ما تؤمن به كل فئة من فئات تلك المدينة ممثله بهذه الشخصيات، هو في الواقع نتاج لذلك الرصيد من الأفكار والمعلومات والمثل العليا والتجربة المتراكمة في (الأنا العليا) حسب تقسيمات فرويد للشخصية... فوصف الشيخ لشخصية (الظل) لم يأت من الفراغ، وإنما من تراكمات ما يؤمن به في (أناه العليا)، والذي هو حتما مشبع في الغالب بقصص الجن وعوالم ما وراء الطبيعة ولذلك نجده الوحيد الذي يقسم على ما شاهد. أما الدكتور وليد فيقف على نقيض الشيخ ولا يؤمن بوجود (الظل) بل يعتبره من نسج الخيال، وأسطورة وهو اذ شخصية دارونيه. وبينما نجد أن الشرطي تصرف بحسه الأمني، بأن قام على تغيير مكان سكنه بعد أن استشعر بالخطر لمشاهدتة الظل يزحف في غرفة نوم اولاده، نجد أن الشاب (اليتيم) ماجد المازني يمثل موقف صلب ليس فيه أي خوف بل هو يعتقد بأن الظل هو الذي يخاف فيولي هاربا منه ومن جمهور الشباب الذي يمثله.
وظني ان القاص قد لجأ الى ابراز مثل هذه الصراع ومن ثم الاشارة الى دور الانا العليا فيه بهدف التمهيد لما سيأتي لاحقا؟؟؟!!!
ولا شك أن القاص قد ابدع في رسم شخوص القصة وجعلها تبدو حقيقة، وتتمايز عن بعضها البعض لا بل وتتصارع في مواقفها...مما جعل النص ينبض بالحيوية والشد والادهاش..
يتبع،،،