يشتغل الشاعر المصري (أحمد حسن محمد) على قصائد مجموعته الأولى (مدينة شرق الوريد) بوعي و جهد كبيرين و يظهر ذكاؤه و عبقريته الشعرية أكثر ما يظهران في اختيار مواضيع القصائد التي يكتبها حيث يختار الموضوع بشكل يضمن له التفرّد و التميّز في الطرح منذ البداية , بعد ذلك و بإتقان شديد يبدأ أحمد في صياغة الجملة تلو الأخرى بطريقة شعرية لرسم ملامح القصيدة و كي يبلغ بمتلقيه ذروة الدهشة يعمد إلى استخدام المفارقات في نهايات قصائده ليختمها الختام الذي يخالف كل توقّعات المتلقي و من الأمثلة على القصائد مميزة الموضوع قصائد مثل (عندما يحزن شاعر) و (السيرة النفسيَّة لنخلة) و (مملكة قماشية) و (ألف باء) و (قمصان) و (السيرة العائليَّة لمقهى) و غيرها.
و على الرغم من أن (أحمد حسن محمد) يكتب كثيراً في المواضيع الكبرى بالنسبة للإنسان العربي إلّا أنَّ الملاحظ في شعره عموماً و في (مدينة شرق الوريد) خصوصاً أن المكان الأكبر للبسطاء و الفقراء و المهمّشين الضائعين في المدينة , يقول أحمد :
( و فرصة الرّصيفِ و الشحّاذِ كي يرتّبا صداقةً أقوى من الظروفْ
يدلِّك الرّصيفُ ظهرَ ضيفهِ
و يمسح الشحّاذ بصقةً يظنّ أنها من دمعة الرّصيفْ
كلاهما بصمته يشكو النزيفَ من نزيفْ)
و يقول:
(أوقفني أمام باب متجرٍ
و هَرَبَ الجميعْ
صوّب نحوي عينَهُ
و أطلقَ الدُّموعْ)
و يقول أيضاً :
(المالك الشحّاذ في جيبي القماش عادلٌ
يوصي عساكر المرور أن يؤدّبوا عيالَ ضوئهمْ
على كلام الله في العجوز و المحتاجِ و الضَّعيفْ)
و يقول أيضاً:
(منذ ليلتين لم يذقْ سوى بقايا قذفتها طفلةٌ غاضبةٌ
عليه من نافذة السيّارةْ
لأنّ أمّها سهت عند الشّراء عن طعامِ كلبِها
و جوعُ كلبها خسارةْ)
و لأن أحمد شاعر استثنائي فهو يمتلك القدرة التجريدية العجيبة و هذه القدرة هي التي تجعله ينجح غالباً في خلق الفجوات بين الدال و المدلول مما يعني أنه يجتهد بشكل كبير و واضح ليقول ما يريد قوله بشكل شعري مهما كان ما يريد قوله لا شعريّاً و عاديّاً و بهذا ينجح في التقاط التفاصيل اليومية بشكل شعري نادراً ما نجح شاعر في تصويره بهذه البراعة , يصف أحمد خوفه من معلمته القاسية عندما كان طالباً في الابتدائيَّة فيقول:
(تأمرني الغولُ بصوت عصاها في آذان عظامي المفتوحة أن أقرأ
فرميتُ شِباك النّظراتِ على الدّرس لأجمعَ فيها طيرَ الكلماتِ بأعنفِ ما في الرجفةِ من جهدٍ و بكاءْ
و أطيِّرها من شُبّاك الحلقِ فحيناً تنجح في الطيرانِ و حيناً تسقط عند حدود الشفتين لأنّ الرّيشَ ابتلّ من الخوفِ بأثقلِ ماءْ)
و يقول في قصيدة أخرى:
(لفنجان شايٍ محلّى بسهدي على طبق اللَّيلِ
طعمُ الحديثِ إلى قلمٍ لا يجيد المسير على حبلِهِ الأزرقِ)
و مع هذا فأظن أن اشتغاله الحثيث على نحت الجملة الشعرية من اللا شعري يجعله يثلم شيئاً من صخرة اللغة و يجعله يلوي أعناق بعض الكلمات و يستخدم بعض حالاتها المهجورة لتطويعها إيقاعيَّاً فيقول ص129 كتْفي بتسكين التاء بدلاً من كَتِفي بكسرها و كلْمة بتسكين اللام بدلاً من كلِمة بكسرها و أذْناك بتسكين الذال بدلاً من أذُناك بضمّها و يقول ص142 بشْرة بتسكين الشين بدلاً من بشَرة بفتحها و رومةَ بالتاء المربوطة المنصوبة بدلاً من روما بسكون الألف الطويلة و هو بالطبع يعني روما المدينة لا رومة البئر المذكورة في الحديث الشريف و يقول ص156 وسْط بتسكين السين بدلاً من وسَط بفتحها .. إلخ, و على الرغم من كل هذا يقع في كسور وزنيّة بل أن الإيقاع يغيب بشكل كامل أحياناً في بعض المقاطع التفعيليَّة.
و مما أثار استغرابي وجود بعض الهنات الإملائية في المجموعة بالذات في كتابة الهمزة و لا أعلم إن كان ثمّة اختلاف في طريقة كتابتها بين ما درسناه في سوريا و ما هو موجود في مصر فنحن نكتب (كُؤوس) هكذا لا (كُئُوس) كما وردت في ديوان أحمد ص102 (و يشربون كئوس أيتام) و نحن نكتب (موْؤُود) لا (موْءُود) كما وردت في ديوان أحمد ص128 في عنوان القصيدة .. إلخ.
إنّ التكثيف التصويري العالي في (مدينة شرق الوريد) على ما يعكسه من براعة لدى الشاعر كما سبق و أوضحنا يصعّب المهمّة على المتلقّي العادي و المتوسط بشكل كبير جداً و أظن أنّ أحمد غير قادر على قراءة معظم شعره على جمهور متعدد الثقافات لأن نصوصه برأيي نصوص مقروءة لا منبريَّة إضافةً لأن تناول المرء ملعقة أو ملعقتين من العسل ستعطي لسانه المذاق الحلو و الفائدة المرجوة في حين أن تناول كمية كبيرة من العسل قد تصيبه بالاشمئزاز و اللبيب تكفيه الإشارة كما يقال , يقول أحمد في إحدى قصائده :
(يا حرفي الثلاثين الذي لن تتقنَ اللهجاتُ نطقكَ مرّة أخرى على سطرٍ جديدْ
من يومِها و أنا أفتّش عنكَ في أنقاضِ أعصابي و ينتصب السّرادق في الوريدْ
ثوبي سوادُ دمي و تشرب قهوةُ الإحباطِ ظلّي في الصّباح و في المساءْ
و الروح حافيةٌ على رمل العزاءْ , و أنا أمطِّرُ دعوتي دمعاً على خد السّماءْ
رئتايَ أطولُ شارعين يضيّفانِ البردَ ينتعل الزفيرُ لظاهما و يسير بي في فكري المكشوفِ للأحزانِ في سفحِ القتامةِ ساقطاً بي من أعالي حيرتي في بركةٍ تتقيّأ الأمواج من بطن الظّلامْ ..)
و المفارقة العجيبة أن شاعراً يكتب بهذا التكثيف التصويري العالي يكتب في نفس المجموعة قصيدة عمودية مطوّلة و كلاسيكيّة من 125 بيت !.
و ما دام الحديث قد أوصلنا إلى الشعر العمودي عند أحمد فأرى أنه في القصيدة التفعيليّة أقوى و أجرأ منه في قصيدة البيت فمن يقرأ على سبيل المثال قصيدته ص125 بتمعَّن سيجد أنه يبحث عن القافية أحياناً و يخطئ فيها أحياناً أخرى في قصائد أخرى , فمن قوافيه الضعيفة برأيي قوله في قصيدة مدح للحبيب المصطفى صلّى الله عليه و سلّم:
(فإذا بهِ يجدُ الإجابةَ ضمًّةً ... و "اقرأ" و إرسالاً لحينِ عِناقِ
ما قبّلتْ شفتاهُ كأساً فاجتبى ... ربّي الرّسولَ بريقهِ التّرياقِ)
و من أبياته ضعيفة القافية ضعيفة التأليف قوله مثلاً:
(في جذرها صوتُ طينٍ من أسى بلدي ... أسقيهِ بالحبرِ أم ماتت و أغسلُها
أم أقتل الحرف أم أحييه إنْ نسجتْ ... كفّاي قمصانَ سطري أم أهلهلُها)
و من أخطائه في القافية وقوعه في خطأ (ألف التأسيس) الشائع عند الشعراء الشباب و للمصادفة فقد جاء الخطأ بعد بيت جميل و حداثي جداً برأيي, يقول أحمد:
(فصّلتَ من كفِّكَ الخضراءِ أقمصَةً ... لي يا أبي ثمّ راحَ اليتمُ ينسلُها
لو كنتَ خيّرتني في لبس ضمّتها ... لفصّلتْ كفني منها أناملُها)
نفسيَّاً أرى الكثير من المؤثرات السوداوية -الخارجة عن النص بطبيعة الحال- التي تطغى على شعر أحمد بالذات ما يتصل منها بعلاقة الشاعر بالمرأة فمن يقرأ مدينة شرق الوريد يجد أن إناثها كلهنّ عوانس و أرامل و مطلقات , يقول أحمد :
(و فرصة العانس حين تنفض الحياء عن رفوف صبرها
لكي تعاشر المرآة في سريرها بنظرة تقدّ قمصانَ الممثلينَ
و المزارعين و الموظفينَ و العمّال و القعودَ في المقاهي)
و يقول:
(أختي , ابنتي , أمّي التي في سمعها عرز العواذل إبرة الكلمات
رشّوا ثوبكِ القرويّ بالنّظراتِ و الهمساتِ مذ رُمِيَتْ على كتفيكِ أحمالٌ
بوزنِ مطلّقةْ)
و يقول:
(و فرصة الأرملة الحسناء
كي تعيد غسل ثوبها المصاب بالرذاذ من محادثات جارتيها
و كي تعيد نسجه المشقوق من عيون أولاد الحرام
و الذين سلّطوا كلابَ عينيهم عليها)
و على توق أحمد و انتظاره لها فإن القارئ لا يكاد يعثر على المرأة المثال في المجموعة إلَّا نادراً و بشكل سوداوي أو بشكل تخيّلي مكتوب و مجازي لا واقعي و محسوس , يقول أحمد:
(فرأيت أوراقي أمامي زوجةً شقراءَ تلبس زرقة السّطر الشفيف
و تنام مثل الأمّهات)
و يقول:
(عصفورة خلف أسلاكِ القصور بكت ... تبت يدا قاطف العصفور من ورقي
سبعاً و عشرينَ شوقاً كنت أحسبها ... تطيق بعدي و ليلى قطّ لم تطقِ)
و يقول:
(و أنتِ تعرفينَ أنني أبٌ مؤجّلٌ
منذ ارتديتُ الغيبَ و التحفتُ بالسّماءْ)
و يقول:
(عطشانُ يا حبيبتي
و الحبر لا يبلّ صيفاً في دماءْ)
بدا لي أيضاً أن أحمد حسن محمد حاول استخدام مفردات من العاميّة المصرية شعر أنها قريبة من اللغة الفصحى و كدت أن أقول أن هذه الالتفاتة كانت جميلة و موفقة لولا أنّه أفرط في استخدامها.
ختاماً أنوّه بأنني لست ناقداً و أن كل ما ذكرته في قراءتي هذه هو جزء من رؤيتي الشعرية الشخصية النابعة عن ذائقتي الخاصة لا معرفتي النقدية و آخر ما سأفعله هو أن أضع الجملة التي وضعها أحمد حسن محمد على الغلاف الخلفي لديوانه مدينة شرق الوريد الفائز بالمركز الأول بجائزة مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري كأفضل ديوان عربي تأكيداً لما قاله الناقد و الشاعر السوري عبدالقادر الحصني : " إنّ صوت هذا الشاعر (أي أحمد حسن محمد) صوت مميز جداً , إنه واحد من قلة من الشعراء العرب , و أنا مطّلع على المشهد الشعري العربي " .
مختار الكمالي
البوكمال 25/10/2011م