رحمك الله يا أبي ..
طوال عمرى كنت أخشي هذه اللحظة وأتحسب لها ..
مع الضعف البشري التقليدى تجاه النوائب
يتركز فكر المرء حول أعز ما يملك بالدنيا فيخاف عليه
لكنه علمنى ..
علمنى حتى كيف أفعل عندما أفقده
أكرمنى حيا وميتا
دفع فى دمائي أن الخلود إنما هو فى الآخرة , ولا يكون فى الدنيا إلا للعمل الصالح
كان يعرف تمام المعرفة أننى لا أحتمل أن تمسه شعرة
وأن ظهرى ـــــ هذا الظهر الذى درّبه فأحسن تدريبه ــــ يعجز تماما عن احتمال فكرة إصابته بسوء
فما بالك بفقده
ورغم معرفته اليقينية بذلك إلا أنه كان يصبر ويضغط و .....
ويعلمنى
وجاءت لحظة الاختبار المرتقبة وحان موعد معرفة النتيجة بعيدا عن التخمين
هل سأنجح فى الاختبار كما توقع هو رحمه الله
أم سأفشل فشلا ذريعا من الممكن أن يفضي بي إلى اللحاق به كما جزم بذلك المقربون منه ومنى
" 1 " { ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين }
كانت هذه الآية مستقرة أمام عينىّ ..ودار بخلدى سؤال
لماذا أضاف الله عز وجل إلى اسمه العزيز .. الإيمان باليوم الآخر بالذات ؟!
ألا يكفي أن تكون الآية " ومن الناس من يقول آمنا بالله " وفقط
والإيمان بالله معناه شامل للإيمان بكل الغيبيات التى تحتوى اليوم الآخر وغيره
فلماذا أضاف اليوم الآخر بالذات إلى هذه الآية ؟!
وكان الجواب .........
أن مصيبة الموت بالذات تذهل المسلم عن عقله فينسي أن هناك يوما آخر ..
وهناك لقاء قادم .. فعلام الحزن والصدمة
الحزن والصدمة إنما يكونان إذا كان الموت معناه الفناء وانعدام أمل اللقاء بمن نحب
لهذا كانت مصيبة الموت قرينة الإيمان باليوم الآخر تحديدا
وكان الحل الوحيد أمامى سؤال قاس سألته لنفسي وكان فى إجابته النجاح
هل تؤمن بالله واليوم الآخر أم لا ؟
إن كنت تؤمن فلا صدمات بل هناك " إنا لله وإنا إليه راجعون "
وإن كان إيمانك ظاهريا باللسان فافعل ما تشاء تعبيرا عن صدمتك لأنك لو صدقت باليوم الآخر ما فقدت تماسكك
والواقع أن عقيدتى أقوى من مصيبتى مهما بلغت
ولم يكن هناك مجال للتفريط فيها .. فالحمد لله الذى وفق وآزر عباده الضعفاء
تلاشي أثر الصدمة وتذكرت الوصية
لقد أوصانى بأن أواسي الجميع وأترك نفسي لا يواسينى أحد إلا الله
هكذا وضعنى قدرى بعده .,
وفعلت , وكان لزاما أن أقرر منع التعبير الدامع أيضا بعد أن منعت أثر الصدمة
وكان قرارا لا أملكه لنفسي
فسألت ربي التوفيق وخضت التجربة ,
" 2 " { وكان أبوهما صالحا }
عندما نتأمل فى سورة الكهف ونتأمل قصة موسي والخضر عليهما السلام , ونمعن النظر فى قصة الجدار الذى كان لغلامين يتيمين فى المدينة
نلاحظ أننا دوما ما نهمل شيئا جوهريا فى القصة
وهو من هذا الرجل الذى ترك هذين الولدين فتولاهما الله وبعث إليهما ـــ أكابر خلقه وأفضل أهل زمانهما على الإطلاق ـــ لإقامة الجدار على كنزهما
والعبرة ليست فى إقامة الجدار , فما كان أهون على الله أن يقيم الجدار فلا ينهدم ولو كان من رماد
بل العبرة الحقيقية فى التكريم والتشريف لهذا الرجل الصالح الذى جعل الله عز وجل نبيه ورسوله وأحد أولى العزم موسي عليه السلام
مع معلمه الخضر رسولان منه يؤديان أمانة الجدار .. فأى تشريف وأى تكريم ناله هذان الولدان ؟!
وكل هذا .. جعله القرآن بسبب مختصر هو { وكان أبوهما صالحا }
كانت هذه التأملات هى مدخلى لإعادة الدموع إلى موطنها قبل الخروج
فمثله لا نبكى عليه بل نحن أولى بالبكاء على أنفسنا
فإنا ـــــ ونحسبه على خير ولا نزكيه على الله ــــــ لو امتلكنا خصلة من خصال وفاته لمات المرء وعنده أمل أن يغفر الله له
مات على وضوء وبنية قراءة القرآن وأسلم الروح قبل أن يقرأ
شيعه المئات وحرارة الدعاء من قلوبهم يشعر بها من تأمل المحفل
ولم يكن أحدهم يعزى الآخر فيه , بل كان الكل ينتظرون من يعزيهم فيه
فلسنا نحن من فقدناه , بل كانوا جميعا فاقدين فيه كل المعانى الجميلة
منهم من فقد الأب ومنهم من فقد المعلم ومنهم من فقد الصديق ومنهم من فقد الرفيق
وكان غريبا ـ وأنا ولده ـ أن أواسي من جاء ليعزينى ودموعه تسيل وأنا كاتم دمعى
لكن كتمان الدموع ما كان صعبا وأنا أستمع إلى ذكر مآثره تترى على أذنى من كل فم
ألا يجعلنا هذا نفرح له ونتناسي ــــــ إن كنا نحبه حقا ـــــ ألم فراقه
لأننا لو بكينا بعد كل هذا الأمل فى رحمة الله تعالى له
نكون باكين من منطلق أنانية شعورنا بالفراق لا عليه هو
ولهذا قلص الدمع وعاد أدراجه
فقد كنت أعز عليه من قرة عينه وسمح لى بفراقه والاغتراب عنه لصالح مستقبلي
أفلا أفعل المثل معه وهو إن شاء الله إلى خير الآخرة صائر
ثم تاقت نفسي لما هو أكثر ,
أن أبتسم وأسعد .. ولكن كيف
" 3 " { ذرية بعضها من بعض }
ينص الحديث الشريف على أنه
" إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث , " وأولهما " ولد صالح يدعو له "
ولأن النص حديث عن المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام
وهو الذى أوتى مجامع الكلم , فلا يوجد معنى يمكن أن يخرج عن نطاقه المقصود أبدا
والمتأمل فى الحديث يجد أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل ولد يدعو له
بل قال ولد صالح يدعو له
وهذا يعنى أن كل ولد يدعو لوالده بخير ويتذكره
هو حتما ولد صالح وشهادة الصلاح جاءت على لسان النبي عليه الصلاة والسلام
وذلك أمر طبيعى لو أمعنا النظر
لأن معنى الدعاء من الولد لأبيه أنه يتذكره بالوفاء الواجب
والأخلاق لا تتجزأ فمن فيه الوفاء فهو حتما على خير
كذلك الذى يوفقه الله للدعاء لأبيه لابد أن يكون صالحا فى الفرائض
فليس متصورا أنه يدرك قيمة ومعنى الدعاء ويهمل الصلاة مثلا
أيضا معنى دعاء الولد لأبيه أن أباه أحسن إليه بلا مقابل
فمنحه الإبن جزاء ذلك عرفانا وتقديرا ولو لم تثمر تربيته المخلصة ما دعا له
عندما تواردت تلك الأفكار بالخاطر
كان السؤال المنطقي
هل حقا يفقد الولد الصالح أباه الصالح
المفروض لا ..
فالأب ـ فى ظل دعاء الولد له ـ قائم أمامه بما رباه عليه
كذلك الأب , لن يفتقد الولد لأنه موصول معه بالدعاء
فعلام الحزن إذا ؟! وعلام الدموع ؟!
لا تكون الحسرة شعورا إلا لمن غاب عنه الورع
ورفض أن يعزى نفسه بهذا الجزاء العظيم
وإذا كان آباؤنا عاشوا وماتوا على القرآن العظيم
فليس للأبناء خيار إلا من اثنين
أن يصدق فيهم قوله تعالى
{ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة }
أو يرزقهم الله تعالى مصداق الآية الكريمة
{ ذرية بعضها من بعض }
نسأل الله تعالى من فضله أن يميتنا ويحيينا على شهادة التوحيد