احصائيات

الردود
21

المشاهدات
17784
 
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي


محمد جاد الزغبي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,187

+التقييم
0.17

تاريخ التسجيل
Jan 2006

الاقامة

رقم العضوية
780
02-09-2016, 01:10 AM
المشاركة 1
02-09-2016, 01:10 AM
المشاركة 1
افتراضي كيف ترد الشبهات .. بالحوار العقلي وحده ( حلقات مسلسلة )

كيف ترد الشبهات .. بالحوار العقلي وحده ( حلقات مسلسلة )

هذا الكتاب وهذه الفصول ..
صبرت على إخراجها شهورا طويلة كانت الساحة فيها مليئة بتطبيق عملى فاجع لنبوءة النبي عليه الصلاة والسلام فيما روى عنه ( فإذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا .. وإعجاب كل ذى رأى برأيه .... )
وبعد أن أصبح الدين والعقيدة والتاريخ والوطنية ومقدرات الناس , أشبه بحلبات التنافس فى ميادين كرة القدم , وصار العبث بالثوابت مهنة من لا مهنة له , وصارت الكتابة والنشر من أردأ السلع فى أسواقنا الآن ..
ورغم كل هذا فالميدان الحقيقي فى نفوس الناس لا زال فيه من الخير الكثير , شهدته ويشهده العشرات , ويتلخص هذا المشهد فى نفوس حائرة تواقة لمصادر المعرفة ,
ومصادر المعرفة بعصرنا الحالى ــ رغم غزارتها الرهيبة وسهولة التوصل إليها ــ إلا أنها كالبحر المحيط فيه من سباع البحر وقروشه أضعاف ما فيه من أسماك ..
وفى ظل هذه الحيرة القاتلة ــ حتى لبعض المثقفين ــ قلنا مرارا وتكرارا أن الردود ومناقشة الشبهات بنفس الأسلوب العلمى الراسخ الذى تعلمناه من مفكرينا وعلمائنا , هذا الأسلوب يصلح لمستويات نخبوية من عوام العصور السالفة , لكنه الآن صعب الإستيعاب على جهابذة النخبة فى الإعلام بعد أن قضي التغريب فى الوطن العربي على أبسط المبادئ التى يقوم عليها أى نقاش وأصبحت اللغة العربية أشبه بالطلاسم بالنسبة لمثقفي اليوم فما بالنا بلغة وأسلوب رد الشبهات المعتاد من كبار العلماء !
لهذا فالقياس العقلي ومحاولة تبسيط النقاش بأمثلة معاصرة هى السبيل الوحيد لتوضيح ألغاز اليوم ولعل الله ينفع بهذه البذرة فتشجع كبار متخصصينا على اتباع نفس النهج , فما أحوجنا إليهم اليوم وما أحوج الناس

كيف ترد الشبهات بالحوار العقلي وحده ؟!

تمهيد ..
بعد أن قارنت مقارنة سريعة بين الإسلام عندنا نحن العرب فى العصر الحالى , وبين إسلام أهل الشرق والغرب , فى آسيا وافريقيا وأوربا وأمريكا , خرجت من فمى عبارة تلقائية وهى :
إذا أردت أن تجد الإيمان غضا كما نزل , فابحث عنه فى غير أرض العرب
فالذى يشاهد مثلا الداعية أحمد ديدات رحمه الله , وتلميذه الدكتور ذاكر نايك ويلحق بهم على منهجهم الداعية الكويتى الأشهر عبد الرحمن السميط وغيرهم من آلاف الدعاة ويري فيهم مدى العزة والفخر الذى تنبض به كلماتهم عن الإسلام , لا فخرا بأنفسهم بل فخرا بالإسلام واستصغارا لشأن أشخاصهم أمامه ويري فيهم الحرقة والهمة العالية والتضحية
ثم يقارن هذا بميوعة ووجل وضعف المصالح عند بعض المنتسبين إلى الإسلام عندنا , يدرك بالفعل أن تيارات المهاجمين للإسلام الآن كادت أن تنجح فى أن تجعل المسلم العربي يخجل من ثوابت دينه إما كراهية لأفعال عملاء الغرب من جماعات الإرهاب , أو انسحاقا أمام دعاة التغريب من العلمانيين ,
وبالطبع لا يعنى هذا أن كل من عندنا كذلك , ولكن المشكلة أنك عزيزى القارئ إذا قارنت عدد الدعاة اليوم بعدد المخلصين الظاهرين المتجردين حقا , فستجد أن المتجردين استثناء وقلة بعكس أولئك المنضمين للإسلام فى غير أرضنا
المقارنة مؤلمة وموجعة حقا ..
والذى يشاهد مدى القوى والإخلاص والتجرد فى مسلمى أقاصي الأرض يتخيل أنه يشاهد مثالا حيا على ما كان عليه الصحابة ! , والكارثة المخجلة لنا ـــــ نحن العرب فى العصر الحديث ـــــ هى النظرة التقديسية التى ينظر بها هؤلاء الأكابر لنا نحن , فمسلمى ماليزيا وتلك المناطق يظنون أن العرب جميعا هم أحفاد الصحابة , ويظنونهم نسخة من أجدادهم !!

وبالتالى ينظرون لهم نظرتهم إلى الصحابة , وربما ظلت تلك النظرة قائمة لولا التطور الهائل الذى حدث فى وسائل الإتصال والتواصل فجعل مسلمى الشرق والغرب يروننا على حقيقتنا , ووسائل الإتصال ذاتها هى التى جعلتنا نرى هؤلاء الناس ! , وكيف أن إسلامهم ممزوج باللحم والعظام فتشعر أنهم يتنفسون بالعقيدة الغضة , لا يهتمون بالمظهر الخارجى إطلاقا مثلما نفعل نحن ونفتخر على بعضنا البعض بطول اللحية أو قصر الجلباب أو بصلاتنا وصيامنا أو أعمالنا القليلة التى نـُــفسدها دوما بالرياء سواء كان رياء معلنا أو مكتوما بين المرء ونفسه , وترى الداعية منّـا يظن نفسه نبيا جديدا لمجرد أن يخرج على الشاشات فلا يدرى هل أصلح الناس أم أفسدهم ؟! ,
هل دعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة , أم بغـّــضهم بالفرقة والتفرق
لأن معظم الدعاة ــ حتى من حسنى النوايا ــ وقع فى فخ التبغيض من حيث لا يدرون , فالشدة والغلظة والمواجهة المتحمسة لا تكون فى مواجهة عوام الناس المضللين فى أى فرقة أو ديانة , بل تكون تلك الشدة فى مواجهة دعاتهم الذين تسببوا فى إضلالهم , لأن هؤلاء الدعاة غالبا ما يعلمون أنهم على باطل ويدعون إلى باطل "[1]" وهم منافقون يكيدون للإسلام عامدين رغم إقامة الحجة عليهم
أما عوامهم فينبغي لنا التيقن من أن الغالبية العظمى منهم قد تلقت الدين من أكابرهم بصورته المبتدعة على أنها الصورة الحقيقية للإسلام , ومعظم العوام معذورون قطعا بالجهل مهما فعلوا ومهما بدت منهم الكراهية تجاه أهل السنة لأنهم تعلموا من نعومة أظفارهم أن المسلمين السنة هم أعدى أعدائهم , وكذلك الحال بالنسبة لعوام الديانات الأخرى , بل حتى لبعض المضللين من المثقفين الذين غرتهم العلمانية ..
فإذا قمنا باستخدام الشدة والغلظة والتجريح والمعايرة مع عوام الناس فسيثير هذا فى قلوبهم عصبية الجاهلية , وسيكرهون الوجه الصحيح للإسلام بسبب كراهيتهم للداعين إليه , وهذا أسوأ ما يمكن أن يفعله داعية !
ناهيك بالطبع على أن الكثير من دعاتنا فى أرض العرب يعتبر الدعوة لمذهبه الخاص أو قناعاته الخاصة أو رؤيته الخاصة أو جماعته أو حزبه أو منهجه فى الفتاوى هى الممثل الرسمى للإسلام وبالتالى يستكبر على غيره وتأخذه العزة بنفسه وبالإثم فيجمع حوله أنصارا وأتباعا ليضيف إلى حلقة التفرق والتحزب فرقة جديدة !
فأين هذا من الإسلام ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام ؟!
فهل يعنى هذا ألا يغضب الداعية أبدا مهما رأى من الكفر والنفاق ,
كلا بالطبع .. ولكن يظل الغضب هو الإستثناء , والرفق هو القاعدة , وللغضب نفسه قاعدة لا تنقدح أبدا , وهو ألا يغضب المرء لنفسه أبدا وهو فى مجال الدعوة , وللأسف ما نراه اليوم متحققا و أكثر ما يكون مطابقة لواقع هذا الحال , فضيّــق البعض ما وسع الناس من رحمة الله
لم يغضب النبي عليه الصلاة والسلام قط إلا فى أمر الله عز وجل , رغم أنه النبي وصاحب الرسالة وهو بشخصه حجة فى الدين , والعدوان عليه ولو بشطر كلمة عدوان على الدين , ورغم هذا فلم يغضب لنفسه قط , مهما تلقي من أذى أو هجوم وجعل الغضب محصورا فقط فى الشدة على المنافقين والمكابرين , وحتى فى هذا لم يشتد ولم يغضب إلا بعد استنفاذ وسائل الرفق والدعوة مرارا وتكرارا ..
كما أن للغضب فلسفة عميقة فى منهج النبوة , فقد رأينا النبي عليه الصلاة والسلام يترفق بالجاهل والعامى ولو كان كافرا , مهما صدر منه من أفعال , لأنه معذور بفعله , بينما وجدناه أشد ما يكون غضبا مع الصحابة رضي الله عنهم إذا صدر من آحادهم تصرف أو عبارة يفترض ألا تخفي دلالتها , وقوة النبي عليه السلام فى البيان عند تلك الحالة نابعة من أهمية البيان ذاته حتى ينتبه الصحابة ــ وهم ورثة الدعوة ــ لخطورة الأمور وترتيب الأولويات
ولهذا غضب النبي عليه السلام فى حادثة قتل أسامة رضي الله عنه لأحد الكفار المحاربين بعد نطق الشهادة , وكذلك غضب عندما جاءته شفاعة فى حد من حدود الله .. وهكذا
لكننا ما رأيناه غاضبا وهو يواجه غلظة الكفار وأفعالهم وحربهم , بل ما غضب حتى من آحاد الناس من المسلمين ممن فيهم جلافة الطبع والتصرف وعذرهم .. فعليه أفضل الصلاة والسلام

وهذا هو منهج الأنبياء , والعلماء من بعدهم , فابن تيمية ــ الذى ظلمه أتباعه وأعداؤه معا ــ حذر أشد التحذير من أن يتخذ المرء شيخا أو شخصا يوالى ويعادى عليه , مهما كانت مكانة هذا الشخص لأن التولى التام والموالاة والمعاداة إنما تكون فى سبيل الله وحده والحجة الوحيدة هنا النبي عليه الصلاة والسلام ومجموع الصحابة من بعده , فإن جعلها المرء لشخص داعية أو شيخ أو جماعة أو حزب فهذا هو طريق الشرك والعياذ بالله !

فإذا نظرت إلى واقع أحوالنا نحن العرب .. وجدت عجبا ,
بالقطع لا عتب ولا عتاب عمن يدافع عن أشراف العلماء والصحابة من قبلهم , فالدفاع عنهم دفاع عن الدين , لأنهم هم حَمَلته إلينا , ولكن هذا الأمر مشروط بالضوابط السابقة وأولها أن يكون الغضب لكل عالم ولكل صحابي بل لكل إنسان تم انتهاك سيرته أمامك بغير حق , بمعنى ألا نفرق بين المسلمين والأئمة فى الدفاع ضد الظلم , ولا يكون الغضب والعصبية رهنا بشخص واحد أو مجموعة معينة , فضلا على وجوب أن يكون غضبا خالصا لله , وليس لنصرة النفس أو غلبة الخصم أو لمجرد الرغبة فى الظهور , كما أنه ليس من الغضب المشروع رفض الإقرار بالحق وترويج الباطل أو الدفاع ضد الشتائم بالشتائم , وألا يكون الغضب نابعا عن الكراهية إلا كراهية أفعال الأشخاص لا كراهية ذواتهم , وبالتالى ففرحة الداعى للحق بالهداية التى يكتبها الله على أى ضال يجب أن تكون أكبر وأعلى من فرحة النصر على أهل الباطل لو ظلوا على باطلهم
ولا أجد فى عالمنا المعاصر من حقق هذه الفضيلة أكثر من دعاة الإسلام فى الخارج

تجد دعاة الإسلام فى تلك البلاد النائية يتعامل مع المسلمين كأنه خادمهم ويتعامل مع نفسه وكأنه ما أدى واجبه بعد , وربما كان من بعض أعماله فقط إدخال الملايين ــ لا أقول الآلاف ــ بل الملايين إلى الإسلام ويتعامل مع هذا الأمر فى بساطة مذهلة وكأن هذا الإنجاز هو الحد الأدنى من واجب كل مسلم ــ وهو كذلك بالفعل لكننا نحن من ينسي ــ ,
لكن هؤلاء الدعاة يطبقون ـــــــــــ وياللمفارقة ــــــــــ ما كان عليه حال آبائنا نحن بينما جئنا نحن بعدهم فمشينا على الخط العكسي ,
ولقد استمعت إلى دعاة العرب , ودعاة البلاد القاصية فما وجدت والله مجالا للمقارنة , فرغم أن دعاتنا أغزر علما بمراحل , إلا أن الدعاة من غير العرب تعلموا القليل فكثر فى أيديهم بالتطبيق العملى , فلم أجد منهم داعية غليظ القلب أو مكفهر الوجه , بل ما وجدت أحدهم غاضبا قط لنفسه ــ حتى لو تعرض لأقسي الهجوم ــ بل وجدتهم غاضبين مهاجمين فقط فى الدفاع عن الدين , وحتى فى غلواء غضبهم لم أعثر لواحد منهم على كلمة أو لفظ بذئ , فكان من الطبيعى جدا أن يؤمن على أيديهم أشد المعادين المتطرفين للإسلام !
أو على الأقل تجد المتعصب من هؤلاء ينزوى خجلا ويخاف مواجهة الجماهير الحاضرة

سمعت وقرأت لذاكر نايك وأحمد ديدات وعبد الرحمن السميط , ومن قبلهم من العرب من كانوا حقا على منهجهم , ما وجدت أحدهم ثائرا أو متأثرا بما يسميه الهجوم على شخصه حتى لو كان هجوما فى حق أو انتقادا فى خطأ !
كما يفعل دعاة اليوم فيصرخ فى الناس بأن الحاقدين كثير وأن لحوم العلماء مسمومة !
رغم أن معظم الانتقادات الموجهة لدعاة اليوم بعضها يعتبر من الجرائم والطوام , وحتى بغض النظر عن الإتهامات فيكفي أن يشاهد الجمهور كيف يتناطح هؤلاء الدعاة كالديكة ويرمون بعضهم البعض بأفظع التهم صراعا على كعكة الدنيا ثم يخرجون للناس مرددين بأن الحرب عليهم هى حرب على الدعوة وعلى الإخلاص !
وسمعت وسمع العالم كله قصة المناضل الإفريقي المسلم مالكوم اكس ..
هذا الرجل بالتحديد يعتبر هو الحجة الواضحة على دعاة اليوم وعلى العلمانيين فى نفس الوقت !
فتجربة الرجل تعد حجة بالغة على العلمانيين وأضرابهم من الطاعنين فى السنة والتاريخ الإسلامى لأنه ــ وغيره بالآلاف عبر العالم ــ آمنوا بالإسلام من القرآن والسنة بمجرد معرفة مبادئ هذا الدين , وهو إيمان حر تام الحرية لا شبهة فيه لتأثير خارجى من البيئة المحيطة او غيرها , بل إن البيئة المحيطة على العكس كان من المفترض أن تدفعه للكفر بالإسلام والمسلمين مع حملات التشويه المنظم
ورغم هذا اسلم الرجل لانه كان كمناضل باحث عن الحرية وسط الاستعباد الأمريكى لم يجد ضالته إلا فى الإسلام فآمن به وهو الذى لم يسمع به فى حياته السابقة قط ..
فهو وسط نضاله لاستعادة الحرية لبنى جنسه من السود لم يقبل أبدا بأى دين يدفعه للعبودية ويفرق تفرقة عنصرية بين وبين غيره من البشر , وبالتالى كفر بالأديان كلها حتى هداه الله تعالى إلى الإسلام بمجرد معرفته بقيمة الحرية فيه وأن العبودية لله وحده , وأنه لا فضل لعربي على أعجمى أو لأبيض على اسود إلا بالتقوى ..
وهذه هى الحجة الأولى على كل من اتهم الإسلام بالعنصرية بينما الغرب وأنصاره هم أساس العنصرية فى العالم اجمع للدرجة التى جعلت الولايات المتحدة تقمع الزنوج حقوقهم حتى سنوات قليلة مضت وهم يروجون ــ رغم ذلك ــ باعتبارهم حملة لواء الحرية والمساواة والديمقراطية فى تناقض لا مثيل له
ومالكوم اكس حجة على العلمانيين ودعاة التغريب وعلى المتاجرين بالإسلام أيضا من ناحية أخرى أهم وأكمل .. تعتبر دليلا عمليا على عمق وصدق وحى ورسالة الإسلام
فمالكوم اكس اسلم على يد داعية لم تكن صفاته الشخصية تتناسب مع قيمة الدين الذى يدعو إليه , وعندما فوجئ مالكوم اكس بان الرجل الذى دعاه للإسلام يتناقض مع مبادئ الدين للدرجة التى عايره بها خصومه , هنا لم يترك مالكوم اكس دينه لأجل ذلك ,
وهذا لسبب بسيط ..
أن أول المبادئ الإسلامية التى تعلمها هى أن الرجال ليست حجة على الدين بل الدين هو الحجة البالغة , وبالتالى إن كان هناك فى الإسلام من لا يصلح لشرف رسالته فالعيب ليس فى الإسلام قطعا بل هو فى المنافقين , ولان مالكوم اكس أراد إثبات هذا عمليا , فقد ترك الولايات المتحدة متجها صوب مكة لأداء فريضة الحج حتى يري مجتمع المسلمين فى أكبر تجمع للمسلمين وهو موسم الحج , وهذا التجمع مع غزارة التنوع كان هو هدف مالكوم اكس كى يقطع الشك باليقين , ويعرف هل هذا الدين يؤمن أتباعه بالمساواة فعليا ويطبقونها عمليا أم أنها مجرد شعارات كشعارات الرأسمالية والشيوعية ..
وعندما نتأمل شهادة مالكوم اكس عن رحلته للحج ندرك تماما من خلال ملاحظاته وانبهاره أن شهادته المحايدة تلك تمثل طعنة نجلاء فى قلوب الحاقدين والمتربصين , فالرجل سجل فى شهادته انبهارا غريبا بأشياء عندنا نحن المسلمين تعتبر من قبيل الثوابت التى لا تلفت نظر احد
ورغم ذلك استوقفته وأثارت انبهاره وكان انبهاره اكبر دليل إدانة على مدى الجبروت الامريكى حكومة وشعبا ومدى عنصرية هذه الدولة التى قامت على جثث عشرين مليون هندى احمر , وتسببت فى قتل واستعباد عشرة ملايين إفريقي
قال مالكوم اكس أنه انبهر عندما وجد أناسا وخليطا من كل أجناس الأرض لا يربطهم أى رابط إلا رابطة الإسلام , وكلهم بلا استثناء يرتدون رداء واحدا ويسبحون ويصلون ويتوجهون بالدعاء لخالق واحد , ويتعاملون مع بعضهم البعض بنفس الأسلوب على نحو يستحيل آن تميز فيه بين غنى وفقير أو بين بشرة وأخرى حيث عبر مالكوم اكس مندهشا أنه وجد معاملة رفاقه فى الحج معه معاملة عادية طبيعية ليس فيها أدنى استعلاء أو استكبار !!

وربما كان هذا الكلام مدهشا لنا نحن المسلمين لكن الدهشة تزول إذا علمنا أن عنصرية الغرب نحو السود هى داء مجتمعى طافح عندهم مهما تغنوا بالمساواة وهناك من الطبيعى أن يلاقي الزنوج احتقار وازدراء غيرهم رغم كل ما حدث من تطور فى هذه العلاقة , وهذا أمر طبيعى إذا أدركنا أن السود فى بدايات النهضة الأمريكية كانوا أقل مكانة من الحيوانات بكل ما فى الكلمة من معان
وبالتالى ..
عندما يجد مالكوم اكس هذه المساواة الفطرية فى التعامل يحق له الإندهاش ولنا أن نتخيل ردة فعله عندما قرأ فى التاريخ الإسلامى وعلم مكانة وقيمة وقامة بلال بن رباح مؤذن الرسول عليه السلام وهو الصحابي الوحيد الذى لا يمكن لمسلم فى أى جيل ألا يعرفه لأنه مقترن بأهم شعيرة من شعائر الإسلام وهى الصلاة .. , وناهيك عن مكانة وقامة العديد من كبار الصحابة ممن كانوا فى فضلهم عند الله وبين المسلمين أكبر بكثير من ذوى الأحساب الرفيعة ومثالهم صهيب بن سنان الرومى وكذلك سلمان الفارسي ومكانة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد كان رقيقا فى الجاهلية بل ومكانة وحشي بن حرب الذى كان عبدا حبشيا فى الجاهلية لجبير بن مطعم وكان هو من قتل سيدنا حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فى معركة أحد ,
ورغم هذا عندما أسلم وحشي لم يجد من النبي عليه السلام إلا المودة والرحمة كسائر من دخلوا فى الإسلام , فلا كراهية ولا ضغينة رغم أنه قاتل أحب الناس إلى قلب النبي عليه السلام وواحد من أبطال الإسلام المغاوير فضلا على شرفه ونسبه وحسبه , كل هذا لم يمثل عائقا قط أمام وحشي كى يصبح من أفراد المجتمع النبوى ..
وبالتالى ..
لنا أن نقارن ــ إذا جازت المقارنة ــ بين حضارة ورقي وأخلاق مجتمع الإسلام وبين دعاة الحضارة الغربية على مدار تاريخها العنصري البغيض !
بل إن انهاره وإيمانه تحول ليقين لا يتزعزع عندما أدرك أن الإسلام لا يساوى فقط بين الناس بغض النظر عن ألوانهم أو أحسابهم بل إن الإسلام اعتبر التفاخر بالأنساب والأموال وغيرها من نواقض الإيمان حيث نص النبي عليه السلام أن مثل هذا التفاخر والتمايز هو من قبيل الجاهلية المحضة التى ما جاء الإسلام إلا لدحضها

هذه هى تجربة مالكوم إكس وهو واحد من آلاف مؤلفة عبر القرون دخلت الإسلام من بوابته الرئيسية وهى بوابة الحرية الحقيقية المتمثلة فى الخلاص من كافة أنواع استعباد البشر للبشر وإفراد الخضوع لله وحده
وهى كما قلت تجربة تمثل حجة على دعاة اليوم أيضا , فهذا الرجل الإفريقي المؤمن حقا عندما نادى بالحرية ورزقه الله بالإخلاص كانت تجربته نبراسا يُحكى فى التجرد من كل غرض شخصي , ولهذا سبب انقلابا وصداعا غير مسبوق للغطرسة الأمريكية وتبعته الملايين ولم يجد النظام الأمريكى مفرا من اغتياله , رغم أنهم قاموا بتلبية مطالب تعديل القوانين لتهدئة المتظاهرين , وهذه سياسة معروفة فى الحكم حيث أن النظام الغربي إذا وجد نفسه مضطرا للإستجابة لضغوط تخالف نظامه فالحل عندهم هو الإستجابة الفعلية لها ولكن مع القضاء المبرم على من تسبب فى تلك المطالب كى يعطوا لجماهيرهم درسا فى أن النظام وإن استجاب للضغط لكنه لن يسمح لمن يفجره أن يظل حيا كى يتخذه الآخرون قدوة , وبالتالى تعلم الجماهير أن قيادة الثورة على الظلم لها ثمن فادح فلا يجرؤ عليها أحد بعد ذلك إلا من كان داعية مخلصا بالفعل لدعوته

ومصيبتنا فى دعاتنا اليوم أو أغلبهم هو انكسار التجرد بالأغراض الشخصية والحزبية المختلفة والتى ربطت ربطا مقيتا بين الدين والأشخاص وبين أهداف الدعوة التى يلزمها التجرد التام وبين المزج بين مطالب الدعوة وبين المصالح الفردية وهى الأمور التى منحت الخصوم جواز المرور للطعن فى ثوابت الدين عن طريق الطعن فى أشخاص المتجرين بالإسلام طمعا فى الحكم والنفوذ أو الأموال

وقد تأملت فى إمكانيات من يتصدون للدعوة اليوم , وأنا هنا لن أتحدث عن الإمكانيات المتوافرة فى عموم أرضنا وتذهب فى الملذات , بل سيكون حديثي عن الجانب الخيّر فينا
وعدد الدعاة والعلماء عندنا يكاد يتفوق على مجموع سكان بعض دول إفريقيا ! , وعدد مواقع الإنترنت والمنتديات وطلبة العلم والجامعات يكفي لتغذية تعليم المليار مسلم حول العالم
ومع هذا فالجهل والرياء والشرك والتكفير والتخوين هو المحصلة الكبري والأعظم لكل هذه الجهود !
فأين الخلل ؟!
تأملتُ بعض الإحصائيات حول الأموال التى يتبرع بها المسلمون كزكوات وصدقات ودعم فى سبيل الله فأخذتنى الدهشة والذهول حقيقة !
فانظروا لأرض العرب أرضنا كلها , , يوجد عندنا آلافالمؤسسات الخيرية لها تبرعات فى مجموعها تكاد أن تكوّن ميزانية دولة متقدمة , وهناك حتما من بين هذه المؤسسات من يعمل بالفعل فى سبيل الله وإنقاذ وإعانة المحتاجين , ولكن هل كافة من يتاجرون بالتبرعات ويطلبونها عبر إعلانات مصطنعة يفعلون ذلك بالفعل ؟!
مع هذه الإمكانيات وقيمة التبرعات تكاد تتخيل أنه لا يوجد فقير أو صاحب حاجة , فإذا تأملت الواقع وجدت الفقراء يزيدون فقرا ويزدادون عددا !!!
فأين الخلل ؟!
وهناك ــ للطامة الكبري ــ قسم كبير من هذه الملايين لا يعلم أصحابها أن أموالهم تذهب لتغذية وتمويل العمليات الإرهابية تحت زعم الجهاد فى سبيل الله !
تلك العمليات التى يذهب ضحيتها المسلمون وهى ترفع شعار تحرير القدس ومحاربة اليهود بينما التمويل والسلاح لا يأتى لدعاة الإرهاب إلا برعاية اليهود والغرب !
وفى المقابل ..
رجل واحد مثل عبد الرحمن السميط بدأ بلا إمكانيات من أى نوع وقام باستغلال كل فلس فى التبرعات المحدودة التى جمعها , ثم ترك بلده المترف وهاجر لإفريقيا أربعين عاما تحمّل فيها الأمراض والمعيشة الضنك فى سبيل الدعوة للإسلام ومحاربة التنصير ..
فماذا كانت النتيجة يا ترى ؟!!
والله لو أنى ذكرت إنجاز هذا الرجل أمام أى مؤسسة منصفة ولو كانت لا تؤمن بدين لدخلوا الإسلام لفرط التأثر بالإنجاز وحده
رجلٌ واحد يا عباد الله , أخلص فقط فى النية وانطلق وليس معه إلا حب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فأسلم على يديه 11 مليون شخص !
وأسس آلاف الجامعات والمعاهد الإسلامية والدعوية وآلاف المساجد فضلا على آلاف الجمعيات الخيرية التى تربط الدعوة بالتنمية
ورغم كل ما فعله إلا أنه ما ضُبط متلبسا بالدعوة إلى نفسه , ولا استغل أتباعه فى معركة سياسية أو منفعة شخصية أو دعم حاكم , بل إنه أصلا لم يسمح بأن يتكون له أنصار وأتباع يهتفون باسمه أو يسيرون على منهج خاص يحدده لهم بل كان كل ما فعله أنه قدم لهم دعوة الإسلام والسنة , وقدم دعم المعيشة بدون أدنى مقابل حتى كلمة الشكر !!"[2]"
وهذه الإنجازات أيها السادة أقول لكم ــ وأنا المصري من بلد الأزهر ـــ أن مؤسسة الأزهر الدعوية بأكملها وبكل إمكانياتها الضخمة احتاجت عشرين عاما لتحقق إنجازا مماثلا لما حققه السميط بمفرده !!

وأحمد ديدات ــــ وما أدراك ما أحمد ديدات ـــ ففي الوقت الذى كــنـّــا فيه نحن العرب غارقون فى تكفير بعضنا البعض , كانت جبهة التنصير تنفق مليون دولار يوميا لنشر التنصير فى إفريقيا فجاء هذا الرجل وحده وعكف على الدراسة فى العقيدة بلا أى مؤهلات ولم يكن معه إلا الإبتدائية فتعلم العقيدة الصافية من القرآن والسنة رأسا , ثم جلب كافة الأناجيل وكتب القساوسة والمبشرين ودرسها ومحصها , وانطلق للدعوة ...
فماذا كانت النتيجة ؟!
النتيجة لا يمكننى أن أحتويها بمقال أيها السادة إنما يكفي أن أقول لكم أنه أذل ناصية الفاتيكان بأسره وكان كالشوكة فى حلوقهم وحتى عندما مات رحمه الله وضع مكانه تلميذه ذاكر نايك الذى يماثله إبداعا وعلما وبلغ من تأثيرهم الرهيب أن ندواتهم على مواقع الإنترنت يدخل الناس بسببها للإسلام يوميا , أى أنهم تسببوا فى دخول الناس لدين أفواجا حتى بغير دعوة مباشرة !
وأتحدى أى شخص سواء كان مسلما أو غير مسلم أن يدلنى على فائدة شخصية أو نفع شخصى مادى أو معنوى حصل عليه أحمد ديدات أو ذاكر نايك واللافت للنظر أنهم رفضوا حتى المكسب الحلال الزلال وقاموا بتوزيع كتبهم ومحاضراتهم بالمجان ودون أى حقوق محفوظة بل أتاحوها للمسلمين فى أقطار الأرض , رغم أنهم بذلوا من أقواتهم لخدمة مسار الدعوة
بل على العكس رحل أحمد ديدات مثل عبد الرحمن السميط بعد رحلة مع الأمراض بسبب النشاط الغير طبيعى , ورفضوا مبدأ الراحة وظلوا حتى آخر نفس على نفس خطى طريق الأنبياء , فأسأل الله عز وجل أن يرفع ذكرهم فى الدنيا والآخرة بحق ما ضربوا لنا الأمثلة وحفزوا المسلمين على اتباعهم

فماذا فعلنا نحن يا ترى ؟!
بغض النظر عن أننا فرّقنا مجتمعاتنا نفسها , فضلا على بقية العالم , إلا أننا لم نتدبر فى أفعال وتجارب هؤلاء الدعاة ..
كعادتنا الأثيرة طبعا , افتخرنا بهؤلاء الدعاة واستخدمناهم فى إغاظة المخالفين وكأننا أصحاب الإنجاز ! , وهذا ليس غريبا علينا , ألسنا نحن أيضا من ظل يفتخر بحضارة الإسلام ورجاله دون أن يكلف نفسه إحياء فضيلة واحدة من فضائلها , ألسنا نحن من نحفظ القرآن والسنة عن ظهر قلب , ونكاد لا نطبق منهما إلا الأساسيات على مضض !

أما البلية الكبري وشر البلية ما يضحك ..
فهى أننى استغرقت فى الضحك عندما جاء دعاة آسيا وأوربا لبلادنا فإذا ببعض السائلين يسألهم إلى أى فرقة أو مذهب ينتمون !!!
خيبة الله عليكم وعلى من قصّر فى تربيتكم حتى أصبحتم لا ترون الدين إلا من خلال الأشخاص , وحتى عندما رأيتم المثال النموذجى للمسلم الحق , فإذا بكم تريدون دفعه دفعا ليصبح مثلكم , وكان من الطبيعى أن يشعر الدعاة مثل أحمد ديدات وذاكر نايك ويوسف استس وغيرهم بالدهشة وهم يواجهون هذه الأسئلة , لكنهم أجابوا بإجابة لو كان السامعون لها يملكون ذرة خجل لجلدوا أنفسهم بالسياط , ذلك أنهم أجابوا فى بساطة بأنهم مسلمون على القرآن والسنة يحترمون كل العلماء لكنهم لا يتعصبون ولا يتسمون بأسمائهم فهكذا أمر القرآن وهكذا أمرت السنة !!
فيا ليت أجيالنا المعاصرة من الشباب تتخذ من هؤلاء العمالقة أمثلة ورموزا .. فهم الأجدر بأن يكونوا أبناء الصحابة , بل هم بالفعل أبناء الصحابة , فالإسلام والعلم رحمٌ بين أهله
استحضروا تجارب هؤلاء الدعاة من الأعجميين وكيف جندوا أنفسهم للدعوة بالعمل لا بالعلم وحده بضرب نموذج الأخلاق لا بالحديث عنها وفقط , فصار وجودهم فى حد ذاته هاديا لمجتمعاتهم
بالذات فى عصرنا الحالى بعد أن أصبح اليوم فرض عين على كل مسلم أن يكون داعية للإسلام والسُنة بعد أن يتسلح ــ بعد النية الخالصة ــ بالحد الأدنى من ثوابت العلم والكثير من أدبيات المنطق الحوارى , لأن الهجمة هذه المرة جاءت من عدة جبهات فلا يصلح لها العلماء والدعاة وحدهم بل يجب أن تشمل الجميع وكلٌ فى نطاق أسرته ومجتمعه , حتى لا يجد المرء نفسه وأهله قد انقسموا بين دعاة للإرهاب باسم الدين , وبين دعاة للإلحاد باسم رفض الإرهاب
ولهذا السبب خرج هذا الكتاب كمحاولة أسأل الله تعالى أن يفيد بها ولو بمثقال ذرة )

الهوامش :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]ــ رجاء مراجعة كتاب سفراء جهنم ــ الجزء الأول للكاتب ــ مكتبة صيد الفوائد
[2]ــ قارنوا هذا بالله عليكم بما فعلته التيارات الإسلامية على خلاف توجهاتها , ماذا فعلوا بأتباعهم وماذا فعلوا بالإسلام ؟!


قديم 02-09-2016, 01:21 AM
المشاركة 2
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

ضربة البداية : من هم الذين يهاجمون التراث والحضارة الإسلامية , ولماذا ؟!

فى إحدى المشاهد الساخرة ــ والمأساوية فى نفس الوقت ــ وقف الفنان حسن عابدين رحمه الله فى المسرحية يخاطب ابنته متحدثا عن أحوال عن البلد قائلا :
( البلد دى يا صفية عاملة زى اتنين بيلعبوا مع بعض لعبة شد الحبل )
فقالت صفية : ( واحنا بقي اللى بنتفرج يا بابا )
فقال لها : ( لا , احنا الحبل اللى بيلعبوا بيه يا صفية !! )

فى ظل الهجمات المتتالية على الإسلام وتاريخه وحضارته وعلومه , على عدة جبهات , إما بسبب جماعات الإرهاب المسلح التى تنسب نفسها إليه , وإما بسبب هجمات دعاة التغريب والتغييب الذين يستندون لأفعال المجرمين لتبرير الهجمات حتى على القرآن فضلا عن السنة والتاريخ , متسترين خلف دعاوى التجديد والتنوير التى أصبحت بوقا لكل طاعن , بينما هم يهدفون إلى إماتة كل ما له علاقة بالإسلام فى نفوس الناس , وهم فى هجماتهم يتهمون التشريع والتاريخ الإسلامى بمخالفة العقل , والتناقض , ويستغلون فى ذلك أن الناس فى جـُملتهم لا طاقة لهم باستيعاب معظم كتب الرد على الشبهات , بسبب ارتفاع مستواها العلمى ونظرا لعدم إلمامهم بالقواعد التى تستند إليها علوم الشريعة , وبالتالى فلن يستوعبوا معظم ما يتم طرحه عليهم من توضيح ,

فى ظل هذه الهجمات استخدام الجانبان أسلوب الإرهاب ــ مع اختلاف الوسيلة ــ
فالخوارج الجدد يستخدمون السلاح ضدنا , وخوارج الإعلام يستخدمون الإرهاب الفكرى والاغتيال المعنوى , فإذا نطقنا بآرائنا التى تعبر عن ملايين المصريين فى رفض الجانبين , كــفّرنا الطرف الأول , وهاجمنا الطرف الثانى واتهمنا بأننا من الدواعش والإرهابيين وحرض ضدنا الدولة !!
لهذا .. وكتعبير عن فكر الكثيرين من شباب هذا الجيل
خطرت لى فكرة كتابة فصول هذا الكتاب وهو تجميع لمناقشات مطولة بينى وبين بعض من أربكتهم الشبهات المطروحة , واتفقنا فى الحوار على أن يكون النقاش معتمدا على أساس الإقناع والمنطق العقلي المجرد بدون الدخول إلى معمعة التفاصيل العلمية التى تحتاج إلى الحد الأدنى من الدراسة وفهم المنهجية العلمية ,
وذلك حتى يكون أمام القارئ خياران لمطالعة الردود على تلك الشبهات ,
خيار القناعة العقلية فى مثل هذه الحوارات التى تعطى ردا فكريا يستطيع استيعابه كل الناس دون حاجة للتخصص فى علوم الشريعة ,
وخيار الإقناع العلمى وهو متوفر فى كتب رد الشبهات لمن يستطيع أن يقرأ ويتابع أقوال أهل العلم وهى مكتوبة بلغة المتخصصين , يوجد بها ردود مستفيضة على كل شبهة بلا استثناء
وقد نتج عن هذه الحوارات نتائج إيجابية فى أنها أظهرت تناقض العلمانيين أنفسهم ومخالفتهم لمبادئ المنطق الذى يتشدقون به , كما ظهرت من قبل تناقضات مؤيدى الإرهاب عندما انقلبوا على ثوابتهم التى تاجروا بها ,, والله المستعان

أما كيف ومتى نشأت أمثال هذه الحوارات .. فلهذا قصة ..
ف
نحن كعادة شباب جيلنا , اتخذنا من المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعى جامعات افتراضية بديلة , ليس فيها أساتذة متجبرين وتلاميذ مقهورين , بل فيها متخصصون فى كل فن نستمع إليهم ونكلفهم بإرشادنا , وقرّاء ومثقفون لا يسلمون إلا للدليل والحجة , وتنعقد حلقات المناقشة فى مختلف العلوم والمعارف والآداب , ونحرص فيها على رفض الأقوال المبنية على الحزبيات أو القناعات المسبقة , كما أننا نعمل ونؤمن بأن كل إنسان فيه الخير وفيه الشر , وحسب تغلب أحدهما على الأخر يتحدد الحكم على الإنسان بالخير أو الشر , ويتحدد أيضا مدى عطائه بحسب تاريخه وإسهاماته , وما أصاب فيه وما أخطأ , مع مراعاة ظروف مجتمعه الذى عاش فيه , لأنه من المستحيل أن نحاكم بحيادية أى شخصية عامة فى أى عصر بمقاييس غير مقاييس عصره
ولهذا فقد قرأ جيلنا التاريخ كله بحيادية فعلية , ولم نسلم بعصمة أحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام ومجموع الصحابة , ولم يعنينا أبدا فى الأجيال التى تعاقبت على الأمة حتى يومنا هذا , لم يعنينا ولم يزعجنا أن يكون فى الأئمة والعلماء والمفكرين والحكام , عيوب وأخطاء نقول أنهم أخطئوا فيها , لأننا لا نعتقد فى كل شخصيات التاريخ وجوب أن يكون الإنسان مبرأ من كل عيب حتى نصدقه ونقدره ونكبره ! , فكل نجم من نجوم التاريخ له أخطاء لا تؤثر فى حكمنا عليه طالما أن أخطاءه معدودة , وفضله وافر متسع
كما أننا لم نحكم على من أجرموا فى حق الأمة بالشر المطلق إلا عندما لا يكون لهم من عطاء الخير نصيب , فإن كانت له حسنات ذكرناها وإن كانت لا تؤثر فى حكمنا العام عليهم ,
ولهذا لم ندخل إلى القراءة وقلوبنا تحمل الحب المسبق إلا لأجيال الأمة الأولى , لأن القرآن والسنة بين أيدينا أوضحوا لنا أن حبهم إيمان .. ولم ندخل بالكره المسبق لأحد بخلاف ما اجتمعت عليه الأجيال الأولى فحكمت عليهم بأنهم كانوا أعداء لنا ,
ومع ذلك قرأنا عن هؤلاء وهؤلاء حتى يكون حبنا وكرهنا مبنيا على أساس من الواقع ..
وبعدها قرأنا وحاكمنا تاريخنا وتاريخ الغرب من العهد الأول وحتى العصر الحديث , وكان قياسنا فى الحكم عليهم هو مبدأ الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات ,
ليس فى التاريخ العام وحسب , بل حتى على مستوى الفكر , فلم ندخل فى القراءة ونحن نردد ما صدعونا به فى سنوات تعليمنا الأولى من أن فلان هو رائد كذا وكذا , وأن فلان هو علامة كذا وكذا ..
فقد فضلنا أن نرى بأنفسنا ثم نحكم حكما موضوعيا ,

وقد يسأل البعض كيف لكم ذلك وهذه الأحكام تحتاج المتخصصين فى عشرات المجالات ؟!
فنقول بأن أجيالنا خرج منها ــ من ناحية العدد ــ أكبر كم من المتخصصين فى كل مجال , وعدد حاملى الماجستير والدكتوراة فى أجيالنا يتفوق على عدد طلبة الجامعات فى أجيال من قبلنا ,
ومن ناحية الكيف , فقد توهمت الأجيال السابقة أن فساد التعليم ــ الذى كانوا هم السبب فيه ــ جعل من حامل الدكتوراة اليوم أقل علما من طالب الجامعة فى أيامهم , وهو قول مردود وإشاعة روجتها ضدنا تلك الدوائر التى شاخت فى مواقعها ــ على حد تعبير هيكل ــ , وهم يعايروننا بما تسببوا هم فيه , دون أن يدركوا أننا لم نقتصر على ما علموه إيانا من التعليم المنقوص , بل استخدمنا أدوات عصرنا وسهولة المصادر لنعيد تعليم أنفسنا ونتخصص أكثر وأكثر
فلم يعد مهندس الكمبيوتر فى جيلنا يكتفي بالبكالوريوس أو حتى الدكتوراة , بل ذهب ليحصل على شهادات الخبرة العالمية ويتوافق مع مستويات عصره
ولم يعد طالب الحقوق أو الشريعة يكتفي بالماجستير أو الدكتوراة , بل استخدم هذه الشهادات كوسيلة لمعرفة طرق البحث فى كتب السابقين ووسيلة لإبداع الجديد الملائم للواقع , فلم يجعل شهادته غاية يتوقف عندها
بل ولم يكتف جيلنا بالإغراق فى تخصصه فحسب , بل طبق مقولة العقاد فى تعريف المثقف المتوازن وهو ( الذى يعرف كل شيئ عن شيئ ــ أى مجال تخصصه ــ ويعرف شيئ عن كل شيئ ــ وهو مجال ثقافته ــ )
وعرفنا من قراءة التاريخ أن المفكرين هم قادة تربية الرأى العام , فقررنا تربية مفكري جيلنا على طباعنا قبل أن نسمح لهم بأن يربونا على فكرهم ,
وقد أتاحت تعدد وسائل التفاعل والتواصل أن نحتك بمن يكتبون , ونجبرهم على أن يواصلوا البحث والتعلم لكى يقدموا لنا فى كل مرة شيئا جديدا ,
وفى المنتديات الثقافية ..
كنا ننتخب الموضوع ونوع الموضوع الذى يؤرقنا , وبعد تحديد التخصص ,, يقوم جمهور الحاضرين بالسؤال , ويتكلم المتخصصون حسب كل موضوع النقاش , ثم يتغير الموضوع فيتغير المتكلمون ويأتى المستمعون من المتخصصين فى الموضوع الجديد ليصبحوا هم الأساتذة , ويصبح من تكلم سابقا هو المستمع هذه المرة , وهكذا دواليك , فكلنا يمر عليه الدور ــ حسب تخصصه ــ ليصبح متكلما أو مستمعا ليعود النفع على الجميع
ولم يكن المحاضرون والأساتذة من جيلنا فقط ,
بالعكس
فقد فوجئنا ونحن فى شبكة الانترنت والمنتديات الثقافية بانضمام علماء كبار , وأساتذة جامعات سابقين , وفقهاء متخصصون , ومفكرون ــ كلهم كان قد التزم بيته ـــ بعد أن فرغت ساحة الإعلام ممن يعرف أقدار العلماء فيبحث عنهم , وجاء الانترنت وسيلة جديدة لجئوا إليها لنشر علمهم مجانا على الشباب , وعلى حد قول أحدهم لى ــ وهو اللواء أحمد سعد الدين ــ "[1]"
أنه عندما فكر فى دخول عالم المنتديات الثقافية كان يهدف لإنشاء موقع غير تفاعلى ينشر فيه العلم ولا يسمح لأحد بالتواصل معه لأنه لم ير فى الأجيال الجديدة ــ كما كان يظن ــ أى أمل فى حب العلم ومُدارسته , كما كان يظن أنهم مثلما يروج الإعلام ليس لديهم صبر أو فضول تجاه العلوم والتاريخ
ففوجئ بعد الاحتكاك بالشباب بآلاف الرسائل تنهال عليه طلبا للمزيد , فدخل إلى الشبكات الثقافية الكبري مثل شبكة العز الثقافية , وشبكة بوابة العرب , ووجد تفاعلا لم يتوقعه أبدا من شباب فى العشرينيات والثلاثينيات تسأل بثقافة واسعة , وبشكل يعطى تصورا عن سابق ثقافتهم فى تلك المجالات , وكان من أكبر ما أثر فيه ــ باعتباره من أبطال أكتوبر ــ أنه رأى هذا الجيل الذى لم يحضر الحرب يكاد يعرف عنها وعن أبطالها كل شيئ ,
وبالتالى ,,
خصص الرجل ــ بعد تقاعده ــ أكثر من عشر ساعات يوميا لينشر علمه ويجيب ويدل ويرشد كل من يسأله , وهذا الأمر تكرر كثيرا مع متخصصين كبار مثله بالذات منذ عام 2002 م , وكانت المنتديات هى النشاط الرئيسي على الانترنت لكافة المجالات , فلم تكن وسائل التواصل الاجتماعى قد ظهرت بعد , ولم ينسحب البساط من المنتديات والمدونات إلا مع عام 2011 م ,
وفى تلك الفترة احتك كل شاب هاو للقراءة , بشيوخ فى مهنة النقد والفكر لا يعرف لأعلام عنهم شيئا مثل أستاذنا الدكتور البدراوى زهران رحمه الله , أستاذ الأدب العربي فى عدد من الجامعات المصرية , وهو من جيل شوقي ضيف ومحمود شاكر ,
ولشدة تواضعه كان يستقبلنا فى بيته ويكتب لنا تحقيقات أدبية على أعمالنا ــ وهو الذى كان ينقد لفطاحل الأدب من قبل ــ وكانت سعادته فوق الوصف وهو يشاهد شبابا حديث السن لا يقرأ فقط الأدب الجاهلى والعباسي والأموى بل يستمتع به ويستخرج منه الصور البلاغية ويناقش الأعمال الأدبية عروضيا ولغويا ويستدل بفطاحل النحو والبلاغة فى نقده
وأستاذنا الدكتور أحمد أبو رحاب أستاذ الأدب والنقد بجامعة الإسكندرية ــ رحمه الله ــ كان يشارك معنا كعضو عادى وينشر أعماله وينتقد أعمالنا ــ كما لو كان فى مثل عمرنا ــ وعندما عرفنا بقيمته وقامته , هرعنا إليه نعاتبه ونتمنى منه أن يفرد لنا من وقته ليعلمنا , وكان الرجل فياضا فى عطائه لا يرد طلبا , والأمثلة كثيرة ومتعددة ,
فالتاريخ الضخم والكم الهائل من المناقشات منذ عام 2002 م , يكاد يتفوق على العطاء العلمى لبعض الكليات المتخصصة , ونحمد الله أنه متوفر على النت ومنتشر بشكل يحميه من الضياع ..

وهذا الكتاب يضم بعض الحوارات التفاعلية , هى تسجيل لبعض محتوى تلك المناقشات المستمرة بلا انقطاع ,
ولعدم التشتت , تعاملت فى الكتاب على أن السائل أو المحاور فى النقاش كان شخصا واحدا , رغم أن المـُــناقشين كانوا مجموعة كبيرة , وبأسئلة مستفيضة
وكانت البداية عبارة عن مناقشة قصيرة تخص تحذيري للمجموعة من القراءة فى الفلسفة الغربية , وأن مجال الفلسفة الغربية ليس كما يظنونه عنوانا وحيدا للفكر والثقافة
فلما اعترض أحدهم على تحذيري قلت له أنا لا أمنعك , ولكنى أقول خذ حذرك من فلسفة الأديان ــ تحديدا ــ لأنها ضلالات محضة , فكان شرطه للعمل بالتحذير أن يقتنع بالسبب ,
فقلت له بأن العلماء حذّروا من تلك الكتب , فقال بأن الفقهاء لا علاقة لهم بالفكر والفلسفة !! ,
فعلمت أن الحوار سيطول , وسيحتاج إلى موضوعات أخرى يجب مناقشتها قبل أن نصل إلى تفاصيل القضايا , فعرضت عليه أن نتحاور بطريقة السؤال والإجابة العلمية البحتة ,
فقال مشاغبا : الإجابة العلمية المحضة يفهمها أهل التخصص , إن كان العلماء الأقدمون ــ كما تقول ــ كانوا أصحاب منطق وحجة فحاورنى بالعقل وحده ,
فقلت له : لقد أنصفت , ومعك كل الحق , ولكنى لن أحاورك فقط فى قضية التحذير من فلسفة الإلهيات , بل سأحاورك فى الشبهات المنتشرة هذه الأيام والإتهامات المتناثرة حول العلماء والتاريخ والثوابت , وسنجعل المحاورة عقلية فقط دون الدخول فى تفاصيل علوم الشريعة , ولن أحيلك إلى كتاب علمى متخصص إلا إذا طلبت أنت بنفسك هذا الطلب وسأنوه لك عن المصادر كى تكون أمامك فرصة التنقيب بنفسك إذا أردت ..
فقال فى حماس : اتفقنا , وسأجمع كل ما يعرض لى وما قرأته لأواجهك بأسئلتى
فقلت له : ما هى طبيعة الشبهات التى ستجمعها ؟
قال : الشبهات التى نسمعها هذه الأيام حول السنة النبوية والتجديد والتاريخ ولم نكن نسمعها من قبل بهذه الضراوة ..
فقلت له : ولماذا تغفل عن الشبهات والإساءات التى على الجانب الآخر , فالطعن فى السنة والسيرة بل وفى القرآن هو من العلمانيين وأضرابهم , لكن لا تنسي أنه هناك جانبا آخر نعانى منه أشد مما نعانى من هؤلاء وهو الجانب الخارج عن فقه السنة , أو هم الفئات التى تستند فى فهمها للدين إلى فقه الخوارج أو الجمود التام
فقال متسائلا : ولكن هؤلاء هم من يصارعهم العلمانيون ويردون عليهم
قلت موضحا : بالعكس , العلمانيون يصارعون الدين والتاريخ كله وعلى رأسهم أهل السنة , أما أهل السنة هم الذين يردون ويتصدون لكلا الجانبين معا منذ فجر التاريخ الإسلامى , جانب الإفراط وجانب التفريط , والسنة الحقيقية هى بين هؤلاء وأولئك , وهى التى تمثل من هم مثلي ومثلك ومثل سائر عوام المسلمين , فنحن لسنا علمانيين ندعو لهجر كل ما يخص الشريعة , ولسنا أيضا من المبتدعة ندعو لإظهار الإسلام على أنه دين الإرهاب , بينما الله عز وجل سماه وسمى رسوله عليه السلام رحمة للعالمين
فقال : إذا سنبدأ النقاش بأن توضح لى هذه الفكرة , لأنها لو صحـّــت أعتقد أنها ستحل الكثير من ألغاز الحيرة التى تـُــشقينا
فقلت محذرا : ولكن لى شرط واحد ألا يكون الأمر أشبه بالتحدى والتناطح لأن هذا سيمنعك من قبول الحق ولو كنت مقتنعا به ,
فقال : بل على العكس أنا سعيد بالنقاش المنتظر طالما أنه سيرد بطريقة الإقناع المجرد على أمور تحيرنى ولكنى فى نفس الوقت أرفضها وأرفض الذى يُــقال فى الفضائيات حول ثوابت الدين ..
وهكذا بدأ الحوار ..

الهوامش
[1]ــ هو اللواء أحمد سعد الدين ــ حفظه الله ــ قائد عسكري سابق , ومفكر اسلامى من طراز رفيع

قديم 02-09-2016, 01:25 AM
المشاركة 3
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
فكان السؤال الأول :
ما معنى الحوار الفكرى والعقلي فقط والذى تدعونى إليه , هل تعنى أنه خال من المعلومات ؟!
قال الكاتب :
كلا بالطبع , فالحوار العلمى هو حوار متخصص يدور بين العلماء وبعضهم البعض , أو بينهم وبين طلبة العلم ويغرق فى تفاصيل ومصطلحات واستدلالات المتخصصين والإقناع فيه للدليل العلمى , أما الحوار الفكرى , فرغم انه يحتوى على المعلومات والمصادر العلمية كأساس للتبادل الحوارى , إلا أن الإقناع فيه للحجة والمنطق العقلي والشواهد , فمثلا العالم أو طالب العلم يكفيه دليلا أن نحتج عليه بنظرية علمية سابقة أثبت العلماء نجاحها ونحتج عليه بأقوال المتخصصين فيقبلها , ولكن المثقف أو المحاور لا يقتنع إلا إذا رأى بعينه أو بعقله صحة ثبات هذه النظرية , لأنه ليس عالما بالمجال نفسه ولا يستطيع تقدير قيمة علمائه
أما أن نقول بأن الحوار الفكرى يخلو من المعلومات أو الشواهد فهذا هو التعريف المثالى للسفسطة والجدل الفارغ
تساءل الشاب :
لا أريد أن أشعب موضوع الحوار , ولكن هناك مسار تاريخى يلزم أن نتعرف عليه ولو بشكل مختصر ,
فعندما تساءلنا جميعا منذ فترة من هو التيار السياسي أو الدينى الذى يمثل الاتجاه الصحيح انتهينا إلى أن كافة التيارات تحمل الحق والباطل بشكل نسبي , فمنها تيارات قائمة على أساس باطل أصلا , ومنها تيارات تتفاوت فيها نسبة الحق , ولكن لا يوجد تيار يعبر عن عامة المسلمين ــ وهم الأغلبية ــ لأن كل التيارات السياسية والدينية تعبر عن مجموعة بعينها مهما ادعت أنها تعبر عن جماهير المسلمين ,
فمتى بدأت أصلا مسألة التفرق إلى اتجاهات وتيارات مختلفة ؟!
قال الكاتب :
القصة طويلة ومتصلة , ولكنها ضرورية ولهذا سأرويها بشكل مجمل وأدع لك المصادر لتتعرف على التفاصيل ,
وقبل التعرف على بداية التفرق , يلزم لنا معرفة الأسباب , فالأسباب المختصرة التى تسببت فى كوارث التشرذم والتى يمكن إجمالها فى ثلاث سطور فقط لا غير , هذه الأسباب هلك المتفرقون حولها وتجاهلوا وصايا القرآن والسنة التى أبرزت وتنبأت بما سيحدث , ولم ينج إلا من قرأ وتدبر وفهم ثم طـبــّــق
فالأسباب على أنواع ثلاثة , سبب عقائدى وسبب تشريعى وسبب سياسي ,
أما السبب العقائدى فهو أن أول فتق فى الإسلام كان بسبب البعد عن السُــنة النبوية "[1]" , واللجوء إلى الإبتداع فى العقيدة , وهو أمر تواتر فيه التحذير بأشد أوامر النهى بل إن النبي عليه الصلاة والسلام جعلها آخر وصاياه , حيث أوضح للمسلمين أنه تركهم على المحجة البيضاء وكانت خطبته عليه الصلاة والسلام دوما ما يتقدمها التحذير من البدع ,
والسبب التشريعى , والسياسي يتمثلان معا فى رهن الشرع والحكم بالأشخاص , وهذه كانت ــ ولا زالت ــ هى قاصمة الظهر , فبمجرد أن انتشرت الفتن وظهرت فرق تقول بأقوال أئمة بعينهم لا تأخذ من سواهم , وفرق أخرى ترى الحكم فى طائفة معينة لا يتجاوز لغيرها حتى تمزقت وحدة المسلمين ,
فأصبح كل تيار لا يري الصواب المطلق إلا فى الإمام الذى يتبعه , ويراه حجة على الدين وليس على العكس , وهذا هو ما قال فيه الإمام الشاطبي بأن هلاك الأمة كان بسبب ترك السنة وإتباع أقوال الرجال , والمقصود هنا بالطبع ليس الأقوال العلمية أو الفقهية بل المقصود هو أن يكون العالم أو الإمام هو مصدر الحق وعنوان المتبعين فلو دققت النظر ستجد أن مسميات الجماعات كلها ترجع في نسبتها إلى أشخاص ينتسبون إليهم وليس إلى منهج السنة , وهذا يضرب أول ثوابت الإسلام فى أن العصمة والحجة محصورة فى النبي عليه الصلاة والسلام وحده , وهذا ما تواتر الأئمة فى التوكيد عليه كأئمة المذاهب ومن جاء بعدهم ,
والغريب أن كل الناس تردد حكمة ( نعرف الحق ثم نعرف رجاله ) رغم أن معظم القائلين بهذا يخالفون هذا المبدأ عند أول اختبار !
ومع تواتر الزمان وتشعب الفرق انتشرت الأحزاب والجماعات وكلها تبنى وتدعو للوحدة حول أفكار مؤسسها وضاع الأساس الحقيقي الذى اجتمع عليه المسلمون جميعا والذى يدين به عوام الناس الآن

فأساس الاجتماع فى جماعة واحدة هى ( جماعة المسلمين ) والتى ورثها ـــ بعد التفرق ــ مفهوم أو مصطلح ( أهل السنة والجماعة ) , هذا الأساس يقوم على الاتفاق التام بين المسلمين فى العقيدة والأصول , على أن يقتصر أى اختلاف مقبول أو سائغ فى الفروع ..
وهذه حقيقة راسخة ملزمة لكافة المسلمين , وتعلو على كل ما عداها من مقاصد الشريعة وكانت أشد وصايا القرآن والسنة , وليس المقصود بعدم الاختلاف هنا عدم وجود وجهات النظر أو الاتجاهات المختلفة , بل المقصود أن ألا يكون هناك خلاف فى الثوابت التى هى بطبيعتها لا تحتمل التغيير والاختلاف من عصر إلى عصر أو من زمن إلى زمن , لأنها أمور عقائدية نزلت بالوحى , وهى أساس الإيمان والإسلام فلا يوجد فيها مجال للاجتهاد أو الزيادة أو النقصان ,
وهى بطبيعتها أمور محدودة ومحددة مثل أركان الإيمان الثمانية وأركان الإسلام الخمسة ومنهج وطريقة تأدية العبادات , والالتزام بالقرآن والسنة الصحيحة المروية عن طريق الصحابة كمصدرين رئيسيين للتشريع ,
أما باقي الفروع , وأمور الحياة فهى رؤية عامة أتاح الإسلام فيها الاجتهاد للعلماء فى ظل الضوابط العامة التى تحكم حياة المسلم ,
وبالتالى ..
فإن أى مسلم ينكر أحد هذه الثوابت وضرورة العمل بها أو يزيد عليها أركانا أخرى يعتبرها من أصول الدين , فهو فى ميزان الشرع مبتدع أى صاحب فرقة , أما الذى يـُــكوّن منهجا فقهيا يتفق فى الأصول مع تلك المصادر ويختلف فى الفروع , فهو هنا مذهب فقهى تحت راية أهل السنة , والمعيار الذى نميز به الفرقة عن المذهب هو معيار موطن الاجتهاد , فإن كان صاحب المذهب يجتهد فى حدود الفروع فقط فهو ضمن جماعة المسلمين , أما إن جاء بأقوال مختلفة فى العقائد تختلف عن ثوابت القرآن والسنة فهو صاحب فرقة ,
وقد تفرعت الفرق المنشقة إلى أكثر من سبعين فرقة رئيسية تحتها مئات الفرق الفرعية كل منها يكفر الآخر , والفوارق الرئيسية بيننا وبينهم , هى أنهم يجتمعون جميعا على تكفير أهل السنة , وجميعهم ينكرون السنة النبوية المروية عن طريق الصحابة , إما إنكار كلى وإما إنكار جزئي , كما أن كل فرقة منهم لها أركان وأصول تختلف عن أركان الإيمان الثمانية وأركان الإسلام الخمسة , وكل فرقة لابد أن تتخذ لنفسها إسما وانتسابا مع مسمى ( المسلم ) وهو المسمى الوحيد أو الانتساب الوحيد الذى يجيزه الشرع إلى جوار الانتساب للسنة النبوية , بدون انتساب آخر إلى أى شخص أو مسمى

قال الشاب :
معنى هذا أن المسلمين تشرذموا ألف قطعة كما حدث مع الأديان السابقة !
قال الكاتب :
كلا , ليس هذا صحيحا بالمعنى الذى خطر ببالك , أى نعم حدثت الفرقة والاختلاف بين المسلمين , ولكن هناك فوارق ضخمة بين أمة الإسلام والأمم السابقة , فالنبي عليه السلام أخبر أن أمة اليهود تفرقت فرقا وواحدة منها فى الجنة والباقي فى النار , وهكذا أمة النصاري , وكذلك انقسمت أمة الإسلام ,
لكن الفارق الرئيسي بيننا وبين السابقين , أن الفرقة الناجية فى الإسلام وهى أمة أهل السنة تمثل الغالبية العظمى من المسلمين فى كل عصر , بينما كافة الفرق المنشقة عنها مجتمعة لا تكاد تصل إلى نسبة 20 % من مجموع المسلمين , وهذا ما لا يوجد فى الأمم السابقة حيث تشرذمت أممهم لعدة فرق متساوية تقريبا , واقتصر وجود الفرق الناجية على جيل الأنبياء وحدهم أو ما يتبعه بقليل ولحق بهم بعد ذلك من ورث بشارة محمد عليه السلام واتبعه
والفارق الثانى ..
أن أول الفرق ظهورا فى الإسلام ظهر بعد نحو أربعين عاما تقريبا من وفاة النبي عليه السلام , وظلت الأمة السنية متماسكة وتمثل الأكثرية حتى اليوم وكتابها وسنة نبيها عليه السلام محفوظون , بينما فى الأمم السابقة انشق اليهود إلى فرقتين فى عهد وحياة موسي عليه السلام نفسه ورفض بعضهم تنفيذ أوامره بفتح القدس , فعاقبهم الله تعالى بالتيه أربعين سنة , ثم انشقوا إلى فرق مختلفة حتى اليوم وتم تزوير التوراة وتحريفها
والنصاري انشقوا بعد رفع عيسي عليه السلام بفترة وجيزة , وتم تحريف الإنجيل إلى عدة أناجيل وانقسم النصاري إلى فرق شبه متساوية حتى اليوم ولكل منها عقائد مختلفة
وكان أول انشقاق فى تاريخ المسلمين بفرقة , هو انشقاق الخوارج الذين خرجوا على الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه , ثم تبعتهم فرقة الشيعة , ثم الجهمية والمعتزلة , ثم تتابعت الفرق وكل منها يفسر القرآن بالهوى وحسب الأمزجة الشخصية "[2]" , ولهذا رفضوا جميعا العمل بالسنة النبوية المروية عن طريق الصحابة , وحاربوها وحاربوا أهلها لأن السنة النبوية هى التى وقفت عائقا أمام أهوائهم وقراءتهم الخاطئة لتفسير القرآن , فاختار المعتزلة العمل بالعقل المجرد كمصدر رئيسي للتشريع يحاكم النصوص ولا تحكمه , واختارت باقي الفرق ســُـــنة أخرى مروية عن طريق كبار هذه الفرق ومؤسسيها ورفضوا ما سواها , وخرجت معظم هذه الفرق خروجا مسلحا على دولة الخلافة الأموية والعباسية , إلا أنهم لم يستطيعوا هدم الخلافة أو تكوين دولة لهم إلا بعد انهيار الخلافة العباسية وتضعضع الحكم
وحتى بعد انهيار الخلافة التى جمعت المسلمين تحت رايتها ظل أهل السنة والجماعة هم الغالبية من عوام المسلمين تحت حكم أمراء الدول , ثم الخلافة العثمانية , ثم جاء عهد الاحتلال الأجنبي لتختفي الفرق القديمة ويبدأ الاحتلال فى إعادة استغلال أفكار هذه الفرق على يد أفكار متناحرة ومذاهب متضادة تطبيقا لسياسته الشهيرة ( فــرّق تسد )
قال الشاب :
كيف أسس الاحتلال هذه الفرق الجديدة ؟!
أجاب الكاتب :
الاحتلال ابتكر وأسس شيئا جديدا واحدا فقط وهو حملات التنصير الغربي المدعومة دعما هائلا منذ بدايتها حيث أعاد الإحتلال تاريخ الغرب القديم فى التنصير بالقوة كما فعلوا فى أوربا والأندلس , ولكنهم فى العصر الحديث أضافوا غزوات التبشير النصرانى إلى تلك الجهود التى عمدت إلى تنصير المسلمين فى كل بقاع العالم بأساليب الإغراء والدعم المادى وإثارة الشبهات
أما فيما يخص استغلال الإحتلال للفرق فى تكريس التنازع بين المسلمين , فهو لم يؤسس شيئا ولم يتعب نفسه , بل كان يستثمر أفكار الطوائف المختلفة فيناصرها جميعا ويدعمها فتتصارع فيما بينها وتنسي خيار المقاومة والاستقلال , وبريطانيا كانت أول من طبق تلك السياسة فى الهند والشرق الأقصي , ثم بعد انهيار الخلافة العثمانية فى بداية القرن العشرين طبقتها فى الشرق الأوسط بأسهل الطرق , لأن وجود مظلة الخلافة كان مانعا وحاجزا من خروج الآراء والتحزبات المختلفة إلى ميدان صراع
وبالتالى كانت الخلافة منذ عهد الراشدين وحتى العثمانيين , تترك الفرق المختلفة ومعتقداتها , ولا تضطهدها إلا إذا أثارت الشغب أو حملت السلاح , وبالتالى ظلت تلك الفرق منغلقة على نفسها وزعمائها , وكانت الغلبة والرياسة لعموم الناس وزعماؤهم من علماء السنة على مختلف المذاهب دون أى مسمى آخر أو آراء احتكارية أخرى تـُـــفرق جموع المسلمين ..
قال الشاب : وهل أخرج الاحتلال تلك الفرق وساعدها ..
أجاب الكاتب :
الاحتلال البريطانى لم يستثمر الخلافات العقائدية فحسب , بل استثمر كل خلاف طائفي , وكانت الطريقة بسيطة جدا , فالسلطة الجامعة لأى دولة هى التى تحمى الكل تحت مظلتها , فلما ذهبت تلك السلطة سمحت لكل صاحب بدعة وكل صاحب مذهب بالخروج والدعوة لمذهبه , فمزقت الهند بإثارة الصراع بين الهندوس والمسلمين وبقية الطوائف ودفعت ــ فى نفس الوقت ــ ببعثات التبشير النصرانية لاستهداف المسلمين تحديدا خوفا من عنصرين تميز بهما المسلمون فى الهند , وهما قوة العقيدة والثانى الإعتزاز بالأرض وردع العدو الكافر , فكان لابد من شغل مسلمى الهند بصراعات جانبيه تمنع تكاتفهم
ثم مزقت باكستان وجوارها بين الشيعة والسنة والصوفية , ودعمت الفرق الجديدة المُختَرعة مثل القاديانية والبهائية والبريلوية فانشغلت الجماهير "[3]" ــ التى لا يوجد لها تيار يعبر عنها رغم أنها الأغلبية ــ انشغلت بهذا الصراع عن أى دعوة أو تفكير فى مقاومة الاحتلال بل الأنكى من ذلك أن الفرق المتناحرة كان كل منها يستنصر بالاحتلال البريطانى ليدعمه ضد خصمه , وكان البريطانيون يساعدون الجميع ويدعمون الجميع , ثم يجلسون فى استمتاع ليشاهدوا هذه المسرحية !
قال الشاب : وماذا فعلوا فى الشرق الأوسط ومصر .. ؟!
قال الكاتب :
أيضا استغلوا نفس الأمر , ولكن بمعالجة مختلفة , ولكن خطتهم عندنا كانت قمة فى الذكاء والخبث والمكر , وأرجو أن تتابع بتركيز تسلسل الأحداث لأن ما نحن فيه الآن في مصر والعالم العربي هو تكرار لنفس اللعبة بحذافيرها وبنفس حلقاتها الموروثة مع إختلاف شخص اللاعب حيث حل الأمريكيون محل البريطانيين "[4]"
ومن العجيب أن البريطانيين أظهروا ما فعلوه بعد ذلك ببلادنا فى كتبهم ووثائقهم التى خرجت بمقتضي قانون الوثائق البريطانى , وكذلك الأمريكيون بمقتضي القانون الأمريكى , ولهذا فإن ما أخبرك به ليست تخمينات أو استدلالات بل هى معلومات صرفة خرجت بها مراجع كثيرة .. عربية وأجنبية
فهم يعلمون تماما أن الجامع المشترك بين العرب جميعا هو الدين والعروبة واللغة , فهذه العوامل مجتمعة ــ وأكرر مجتمعة ــــ تمثل القاسم المشترك الأعظم بين العرب
وبالتالى أسهل طريقة لتفريق العرب هى ضرب الوحدة بين العوامل الثلاث المشتركة , فإذا ظهرت تيارات مختلفة كل منها يأخذ عاملا واحدا من هذه العوامل , وينادى به أساسا للنظام السياسي فى البلاد العربية وأساس للوحدة بينها , ويترك العاملين الباقيين , عندها سيظهر تناقض هائل بين العوامل الثلاث المتكاملة أصلا والتى من غير المنطقي أن يحدث بها تنافس
وبالتالى تحدث الفُــرقة التى لا جماع لها لأنه لن يخرج أى تيار يعبر عن الجماهير التى تتمسك بالعوامل الثلاث جميعا .. وكان المـُـعـبـّر عن الجماهير فى مصر والعالم العربي هو ( الأزهر ) والذى كان القائد السياسي لمصر ضد الاحتلال وضد تسلط الحكام المماليك من قبلهم , حتى نجح محمد على فى إخراج الأزهر من المشهد كما فعل مع المماليك "[5]" وإن ظلت قيادة الأزهر الروحية موجودة بقوتها حتى ظهور التيار الليبرالى
وجاء البريطانيون وبعد فشلهم الذريع فى إشعال فتنة طائفية قاصمة بين المسلمين والأقباط بسبب التاريخ النضالى المشترك بين الأقباط والمسلمين وعدم قابلية المجتمع المصري لانتشار تلك الفتنة , لجئوا إلى الخطة الأصوب وهى محاولة خلق تيارات تتنازع بين الدين والوطنية واللغة والعروبة , وكل منها يمسك بطرف واحد ضد الآخرين

الهوامش
[1]ــ قيل للإمام أحمد بن حنبل ( أماتك الله على الإسلام ) فقال ( والسنة ) وهذا يدلل على خطورة ترك السنة واللجوء للبدع
[2]ــ مذاهب الإسلاميين ــ عامر النجار ـ الهيئة العامة للكتاب
[3]ـ لمراجعة تفاصيل تلك الفرق برجاء الرجوع لاصدارات الشيخ إحسان الهى ظهير فى كتبه التى حملت نفس عناوين هذه الفرق البهائية والبريلوية والصوفية , وسلسلة الشيعة
[4]ـ بعض خيوط اللعبة مؤيدا بالوثائق ظهر فى كتاب ( التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين ) ــ مارك كورتيز ـ المركز القومى للترجمة والنشر وكذلك كتاب ( لعبة الشيطان ) ــ روبرت دريفوس
[5]ــ تاريخ الحركة القومية ( جزءان ) ــ عبد الرحمن الرافعى ــ مكتبة دار المعارف


يتبع إن شاء الله

قديم 02-09-2016, 11:08 AM
المشاركة 4
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
متابع مستفيد إن شاء الله ..
بوركت يا أستاذ جاد..

قديم 02-09-2016, 06:23 PM
المشاركة 5
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
متابع مستفيد إن شاء الله ..
بوركت يا أستاذ جاد..
رفيق الدرب عمرو ..
أخيرا خرج الكتاب ونسأل الله تعالى أن يفيد به
ولا تحرمنا متابعتكم

قديم 02-10-2016, 02:57 AM
المشاركة 6
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

ونواصل .....
قال الشاب :
وكيف تمكنوا من فك الترابط بين عوامل الانتماء المتحدة إلى الدين والعروبة واللغة ؟!
قال الكاتب :
عن طريق دعم كل تيار حسب نوعه الذى يتحدد بميله الأكبر ناحية أى عامل من العوامل الثلاثة , فمثلا ظهر تيار الإخوان المسلمين ينادى بإعادة الخلافة التى سقطت , وبالتالى فهم تيار أقرب للدين فركزوا عليه ودعموه فى مواجهة التيار الليبرالى الذى اشتد عوده فى مصر عقب دستور 1923 م , واتخذ الطابع السياسي الغربي الذى يميل للعلمانية ولا يري أى دور للدين فى السياسة بل يري علماء الدين له وظيفة وعظية وفقط , وهذا بالطبع اختزال لدور علوم الشريعة فى الخطابة وحسب , وبالتالى كان من الطبيعى أن يتصادم هذا التيار مع التيار الإسلامى
ومع التعصب انحاز كل تيار إلى المرجعية التى اختارها أكثر وأكثر , فبالغ التيار الإسلامى فى رفض أى مظهر غربي حتى لو تم تمصيره وكان ضروريا لمقتضي العصر بل كانوا هم أول من تطرّفوا وقالوا بأن القومية والوطنية ضد الدين فزرعوا أول بذرة لهذه الفكرة الخبيثة التى تخلق تناقضا بين الدين والوطنية وهذا هو الذى يفسر لك لماذا سمعنا من التيار الإسلامى ــ فى تجربة حكمه ــ أقوال عجيبة تحتقر الانتماء الوطنى وتعتبره من خارج الدين ,
مع أن مرجعية أهل السنة تجعل أرض المسلمين وبلادهم من أساسيات التدين ولا تنبذ إلا التعصب سواء فى للدين أو للوطن
وفى المقابل رفض الليبراليون والعلمانيون أى وجود لعلماء الدين ــ حتى الأزهر ــ فى الحقل السياسي وظهرت فى تلك الفترة أشرس معركة ضد ثوابت الإسلام بدأت بالشيخ على عبد الرازق , وطه حسين , ولويس عوض , وغيرهم من دعاة التغريب لمحو أى هوية حضارية إسلامية وعربية فى مصر .. وجاهدوا لفك العلاقة بين الشريعة الإسلامية والقانون
وسكت الأزهر عن منعه من السياسة ــ بعد أن كان هو قائد الجماهير فى مجال السياسة ومواجهة الاحتلال والحكام ـــ لكنه لم يسكت على اتهامات المستشرقين التى أعاد العلمانيون والمتغربون نشرها والتى كانت تطعن فى وضوح حتى فى قدسية القرآن وأبطلوا هذا التغريب وحافظوا على عقائد الناس , لكنهم اكتفوا بمواجهة تلك الأفكار ولم يتدخلوا بشيئ فى المسائل السياسية إلا إصرارهم على عدم مخالفة الشريعة فى قوانين الأحوال الشخصية والقانون المدنى أو سلوك المجتمع وعدم الاعتراف بالفوضي الفكرية التى دعا لها دعاة التغريب تحت عنوان ( حرية الفكر ) وتصادموا طويلا مع هذا الاتجاه
وأما فى المجال السياسي أنشأ الإخوان وغيرهم من الحركات الإسلامية تكتلات وتيارات تعادى الليبرالية والعلمانية واشتعلت المعركة بين الجانبين ,
وكان الاحتلال البريطانى يدعمهما معا !
وبالطبع لم يكن أحد التيارين يـُـعبر عن مجموع الجماهير , فالجمهور ينتمى للإسلام والوطنية المصرية واللغة العربية فى قالب واحد , ولهذا كان الجمهور ــ غير المستـقطب ــ بعيدا عن هذا الصراع حول الهوية , وحتى المسيحيين فى مصر فى ذلك الوقت كانوا ــ كما هم ــ مندمجين حضاريا فى قالب واحد مع المسلمين بلا تفرقة من قبل ظهور التيار الليبرالى بمئات السنوات , وهذا ينفي ادعاء التيار الليبرالى أنه جمع بين عنصري الأمة , فهذا كذب محض فالمسلمون والأقباط مجتمعون فى وطن واحد منذ الفتح الإسلامى وحتى العصر الحديث ولم يفرقهم حتى زعماء الحملات الصليبية الذين حاولوا استغلال فارق الدين ففشلوا
ولكن فى المجال السياسي المحض ــ بعيدا عن معركة الهوية ــ كان الجمهور يقف مع حزب الوفد وزعمائه سعد زغلول ومصطفي النحاس فى مواجهة الانجليز والقصر والأحزاب التابعة لهم ,
ولو أن حزب الوفد أعطى الاهتمام للانتماء الحضاري الإسلامى بدلا من الإنتماء الثقافي للغرب , لما تمكّن الإخوان من كسب أى أنصار لهم فى الشارع المصري , ولكن لأن شعاراتها استقطبت الحس الدينى فى النفوس تمكنت من تجنيد الكثير من الشباب بل وبعض رجال الأزهر , مع أن اتجاههم السياسي الذى اتخذوه فى بدايات دعوتهم كان كفيلا بسحق أى شعبية لهم بين الجمهور لأنهم ناصروا الملك فاروق ضد الوفد , وناصروا أيضا رئيس الوزراء إسماعيل صدقي المعروف بجلاد الشعب !
واستخدموا الدين فى الترويج لسياسة الملك ورئيس الوزراء وبطريقة فجة , فعندما خرج الشعب يؤيد النحاس فى مواجهة القصر رافعين شعار ( الشعب مع النحاس ) رد الإخوان برفعهم شعار ( الله مع الملك ) , وعندما ثارت الجماهير ضد سياسة إسماعيل صدقي رفع الإخوان شعارات من القرآن لمناصرته ! , ورغم هذا النفاق الواضح إلا أنهم وجدوا أنصارا بسبب هيبة الدين فى النفوس

تساءل الشاب :
هذين التيارين أحدهما يؤيد الدين والآخر يرفضه ويؤيد القومية المصرية , فأين تيار العروبة ؟!
قال الكاتب :
ظهرت حركة القومية العربية كرد فعل على إنشاء إسرائيل عام 1948 م , بعد أن تجمعت أربعة جيوش عربية لتلك الحرب , وقصة الحرب والمؤامرة الغربية فيها منتشرة ومشهورة , "[1]"
لكن القومية العربية كحركة سياسية اكتسبت شعبية ساحقة فى ذلك الوقت , تبلورت على يد جمال عبد الناصر ــ لا سيما بعد حرب 56 ــ ورغم أن القومية العربية كحركة سياسية لا تتخذ الدين عاملا كمعيار مشترك للعرب بل تتخذ العروبة , وبالتالى فهى تصلح لأن تكون عاملا للفرقة لا للتجميع ,
إلا أن الصياغة والإخلاص الذى قاد بهما عبد الناصر تجربته أفشل به مخططات الغرب لفترة طويلة لأنه جعل من الاستقلال عن الغرب رسالته الرئيسية فى الحياة , ونجح فى تجنيد بعض الدول العربية التى تابعته وكذلك دول آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية لتكوين جبهة موحدة أرهقت الغرب كله , ورغم استناد تجربة عبد الناصر للاتحاد السوفياتى كخصم معضد ضد الغرب إلا أنه حافظ على استقلاله تماما فى مواجهته فمنع استخدام أراضيه كقواعد عسكرية للسوفيات رغم انتشار القواعد الأمريكية فى المنطقة ,
والأهم من هذا ..
أنه ظهر كممثل جديد للكتلة الصلبة من الجماهير التى عانت من صراعات النخبة بين الدين والعلمانية والشيوعية والقومية , فرفض استغلال الدين كأيديولوجيا , وبعد نجاحه فى الصراع بينه وبين الإخوان , حل الجماعة مرة أخرى ولم يكتف باستخدام القوة والاعتقال معهم وحدهم , بل امتد الاعتقال والحكم إلى من يمثلون الليبرالية والرأسمالية وأنصار التغريب بل حتى كل معارض سياسي له , وبالنسبة لمصالح وثروات الكبار فى ذلك الوقت
صادر هذا كله لصالح الدولة التى أعادت تقسيم الثروة من جديد , ثم كانت المفاجأة الغريبة فى أنه عامل الأحزاب الشيوعية فى مصر بقوة أكثر من الجميع رغم أنه كان حليفا للسوفيات , فأنشأ قسما خاصا بمكافحة الشيوعية فى المباحث العامة وتعقبهم كما تعقب غيرهم , وبهذا لم يعد هناك على الساحة خلاف أيديولوجى من أساسه , خاصة أنه فى سنوات ما قبل الثورة كاد الصراع الأيديولوجى ينقلب لحرب أهلية بعد أن استخدمت التيارات المختلفة القوة والسلاح
وفى نفس الوقت ,
أيقن مدى قوة ونفوذ الأزهر كمؤسسة عالمية , ومن أغرب الغرائب حقيقة , أنه أدرك العلة التى تعانيها المجتمعات الإسلامية فقام بتأسيس ( مجمع البحوث الإسلامية ) ونص فى قرار تأسيسه على ما نعتبره اليوم حلما بعيد المنال وأكتفي هنا بنص قرار قانون التأسيس :
( وجاء في قانون تأسيسه نصاً عام 1961 م :
المجمع هو الهيئة العليا للبحوث الإسلامية، وتقوم بالدراسة في كل ما يتصل بهذه البحوث، وتعمل على تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي، وتجليتها في جوهرها الأصيل الخالص، وتوسيع نطاق العلم بها لكل مستوى وفي كل بيئة، وبيان الرأي فيما يَجِدُّ من مشكلات مذهبية أو اجتماعية تتعلق بالعقيدة“!!)
ولو لم يؤسس عبد الناصر للأزهر سوى هذا المجمع بهذا الهدف .. لكفاه إنجازا , ولو ظل مجمع البحوث الإسلامية بنفس نظامه ونفس نفوذه حتى اليوم لحقق هدف الوحدة بأيسر السبل
كما لم يكتف عبد الناصر بذلك , بل أصدر قرارا باعتبار مادة ( التربية الدينية ) مادة إجبارية فى التعليم العام بعد أن كانت اختيارية , ثم عدّل القوانين المدنية بإلغاء إباحة الدعارة المقننة من العهد الملكى , فضلا على إلغاء إباحة القمار وصدر قراره بغلق كافة المحافل والنوادى والمطبوعات الماسونية "[2]" ,
ثم أقام لأول مرة المسابقات العالمية فى حفظ القرآن الكريم وكانت يعقدها سنويا ويُـسلم فيها ــ بصفته رئيس الجمهورية ــ الجوائز للطلبة
ثم أنشأ إذاعة القرآن الكريم , والتى جعلت لعلماء الدين ومشاهير قراء القرآن ذراعا إعلامية لا يُستهان بها , وفى عهده تمت طباعة الصحف الشريف مترجما بعدة لغات وتم توزيعه على أنحاء العالم بالذات فى آسيا وإفريقيا , وفى عهده أيضا تم جمع القرآن الكريم على أسطوانات مسموعة ترتيلا وتجويدا , ثم أضاف انجازا آخر فى تأسيس المعاهد الأزهرية بكثافة والتى سمحت للطالبات بالدخول إلى الأزهر لأول مرة , بخلاف الإنتاج السينمائي التاريخى , ومعظم الأفلام الدينية المشهورة التى يتم بثها فى المناسبات الدينية حتى اليوم هى من إنتاج فترة الستينات , بخلاف التوسع فى إنشاء المساجد التى بلغت فى عهده 21 ألف مسجد ..
ثم أسس أيضا مدينة البعوث الإسلامية التى فتحت أبوابها لاستقبال الطلاب الأفارقة ومن سائر أنحاء العالم ليدرسوا فى الأزهر ,
كما كـثـّــف إرسال البعثات من الدعاة إلى عمق إفريقيا لمقاومة موجات التنصير الأوربية ونجح فى دحرها ,
خاصة وأنه تنبه لأسلوب البعثات التبشيرية حيث كانت أوربا لا ترسل القساوسة ورجال الدين المحترفين فقط , بل كانت ترسل القساوسة ممن يمتهنون الطب والهندسة ونحوها , ليستقطبوا أهل تلك البلاد بالخدمات المادية والدعوة
,
فأصدر عبد الناصر تعديلا لقانون الأزهر ليضم الجامع الأزهر إلى جواره جامعة فيها مختلف تخصصات العلوم الكسبية يتم تدريسها إلى جوار علوم الشريعة فيتخرجون فى الأزهر علماء ودعاة فى نفس الوقت , ومن الغريب أن معظم شيوخ الأزهر رفضوا هذه التعديلات رغم أن الكليات المتخصصة فى الشريعة بقيت كما هى , إلا أنهم عادوا بعد ذلك بسنوات طويلة يعترفون بصحة قرار عبد الناصر بعد أن وجدوا فى إفريقيا أجيالا كاملة من المسلمين تحفظ لمصر هذا الصنيع ولا تنساه , وكانت هذه الأجيال هى ثمرة الدفعات التى تخرجت فى جامعة الأزهر دعاة وعلماء فى مختلف التخصصات ,
وقد نجم عن هذه العهود أن ارتفعت نسبة الدخول للإسلام فى إفريقيا وآسيا إلى نسب غير مسبوقة أوردها تقرير مجلس الكنائس العالمى بنسبة 7 من كل 10 وصلتهم الدعوة
هذا بخلاف إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامى وهى الجامعة الإسلامية التى كانت لها أدوار إيجابية أيضا فى تلك الفترة , "[3]"
أما العيوب الخطيرة فيما انتهجه عبد الناصر فقد تمثلت فى أن قانون الأزهر الجديد سحب ــ وإلى اليوم ــ الإستقلال الأزهرى الذى كان مبنيا على أوقاف الأزهر والتى كانت تكفل الإستقلال المادى والإدارى عن الحكومة , ولهذا أصبح الأزهر لأول مرة منذ نشأته تابعا للحكومة فى الإدارة والأوقاف , وبمعنى أصح لم يسمح عبد الناصر فى نظامه الجديد بوجود أى مؤسسة مستقلة يُـمكنها أن تعطل معاركه أو تمثل نقطة ضعف فى المواجهة مع خصومه
ولهذا السبب بالذات وبسبب اعتقاله للإخوان عقب مؤامرة تنظيم سيد قطب عام 65 تم تصوير عبد الناصر بأنه يعادى الإسلام , وهذا ما لا يمكن قبوله لأن الأهداف هنا سياسية محضة لا علاقة لها بالدين وتجربة الإخوان خير دليل على استخدامهم الدين كمنطقة نفوذ للسلطة بغض النظر عن المبادئ , والنقد الموضوعى لتجربة عبد الناصر يلزم له الحكم على أفعاله مع مراعاة الأجواء التى كانت دائرة فى عصره فلا يوجد حاكم يحمل الخير المطلق ــ بعد الراشدين ــ كما لا يوجد حاكم يحمل الشر المطلق إلا الندرة عبر التاريخ ,
والحكم الموضوعى للأسف يغيب تماما ــ بالذات فى العصر الحديث ــ بسبب الإستقطاب الأيديولوجى
فخلاصة تجربة عبد الناصر مع الأزهر أنه دعم جانبه الدعوى والدينى , ولكنه قضي على دوره السياسي الذى كان يقود به الجماهير قبل فترة محمد على , ولهذا استمر دور الأزهر الدينى كما هو
أكمل الشاب فى سخرية : المصيبة الكبري أننا لم نعرف عطاء عبد الناصر فى المجال الدينى من الناصريين , بل عرفناه من خصومه , بعد أن ظللنا فترة طويلة نصدق أنه كان يحالف الشيوعيين ويعتقد بمذهبهم المضاد للدين , ورغم هذا لم نقرأ كثيرا من الناصريين دفاعا عنه بسرد تلك الحقائق
قال الكاتب :
نعم , لقد ظل جيلنا يعتقد بهذا لفترة طويلة "[4]" ولم نكن نملك مصدرا نعرف به من أنشأ تلك المؤسسات حتى عرفناها من خصومه كما تقول , مع أن المتأمل المحايد كان يدرك ببساطة أن اتهام عبد الناصر باعتناق الفكر الإشتراكى سياسيا ودينيا ــ لا سياسيا فقط ــ يتضاد تماما مع تقويته لدور الأزهر واعتباره مصدرا للنفوذ المعنوى للدولة , بالإضافة إلى أنه مزّق الشيوعيين فى مصر ورفض كل وساطات الاتحاد السوفياتى للسماح لهم بالعمل , بل إنه غامر بالدخول فى مصادمة سياسية عنيفة مع الاتحاد السوفياتى بسبب أن طلبة البعثات المصرية فى موسكو اشتكوا له بأنهم لا يدرسون تخصصاتهم فقط , بل يصر السوفيات على تدريس المنهج الشيوعى لهم رغم أنه قائم على الإلحاد الصريح ويتعارض مع عقيدة الطلبة , فما كان من عبد الناصر إلا أن أصدر قرارا بتحويل الطلبة من الاتحاد السوفياتى إلى الجامعات الأمريكية , وبالطبع وافق الرئيس الأمريكى أيزنهاور ,
وبهذا أدرك السوفيات أن عبد الناصر يصر على موقفه , فأذعنوا واكتفوا بتدريس مواد التخصص لطلبة البعثات دون المنهج الفكرى الشيوعى
تساءل الشاب :
ولكن ما سر ولغز سكوت الناصريين عن الدفاع عن عبد الناصر فى تلك النقطة ؟!
قال الكاتب :
السبب الأول , أن الخلل كان من ناحيتنا نحن الشباب , لأننا وقعنا فى دائرة الاستقطاب فترة طويلة حتى خرجنا منها ,
السبب الثانى , هو أن عبد الناصر لم يكن ينتمى أيديولوجيا لشيئ , وإنما كان يلتزم إلتزام الرجل العامى بدينه ووطنيته وعروبته , لكن القوميين العرب من حوله لم يكونوا كذلك بل كانوا مؤدلجين بالكامل , فمنهم قوميون يساريون أو شيوعيون صرحاء لا يرون للدين دورا فى الحياة أصلا وينادون بفصل العروبة عن الإسلام , وكان منهم قوميون يرون الدين أمر شخصي لا مجتمعى , وكان منهم المعتدلون أيضا ,
والقوميون العرب الذين أحاط بعضهم بعبد الناصر كانوا يستميتون فى جذبه لصفوفهم واتخاذ العروبة واللغة العربية أساسا وحيدا للوحدة العربية , وتنحية الدين خارج اللعبة باعتباره ــ فى زعمهم ــ يفـرّق الناس ولا يجمعهم , والواقع أن أساس الدين هو التجميع لا التفريق لكن هؤلاء ــ فى تلك الفترة بالذات ــ وبدايات عصر الذرة والتقدم العلمى الهائل اعتقد الكثيرون منهم أن الأديان كلها خرافة ! , بالذات فى فترة شبابهم , ورغم أنهم تراجعوا عنها بعد ذلك ولم يعودوا بنفس الفكر , إلا أنهم إلى اليوم لا زالوا يعتبرون العروبة هى أساس الوحدة , "[5]"
مع أنهم لو تأملوا القضية ــ بدون انتماء أيديولوجى ــ لعرفوا أن العروبة نفسها ــ كعامل مشترك من المحيط إلى الخليج ـــ لم تولد أصلا فى التاريخ إلا على يد الإسلام , ولم تتوحد البلاد العربية من قبل قط على مفهوم العروبة وحده , لا فى التاريخ القديم ولا فى التاريخ الحديث ! , وأكبر دليل على فشل دعوة القوميين العرب هو فشلهم الذريع فى تأسيس الدولة العربية المتحدة ــ بينما دولة الخلافة امتدت أكثر من ألف عام ــ لأن الدول العربية التى رفضت موقفهم من الدين دخلت معهم فى خصومات مستعرة حول الرجعية والتقدمية , وحتى الدول العربية التى نهجت نهج القومية دخلت مع بعضها البعض فى صراعات حول مبادئ القومية نفسها فاصطدم الحزب البعثي الشيوعى فى سوريا والعراق واصطدم كلاهما مع الحركة القومية فى مصر .. إلخ هذه المناطحات التى لم تجلب إلا مزيدا من التشتت لأنها تبنت فكرة العروبة وحدها
ولو عدنا لتاريخ الجنس العربي ,
فالجنس العربي كان محصورا فى الجزيرة العربية من قبل الإسلام , وكانوا عبارة عن قبائل مختلفة متناحرة لم يتوحدوا على شيئ أبدا إلا على حج بيت الله الحرام , وفيما دون ذلك كانت المعارك بين القبائل متوالية ومستمرة وصراعات الزعامة كانت تشبه إلى حد كبير صراعات الزعامة بين العرب فى الفترة القومية !
ثم جاء الإسلام كحل سحري ربانى , يقول عز وجل :
( وألف بين قلوبهم .. لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم )
والآية صريحة وهى ــ إلى جوار حقائق التاريخ ــ تقرر أمرا واقعا أن الدين الإسلامى على مفهوم القرآن والسنة هو الذى وحّد العرب وألّف بين قلوب المتخاصمين , وأنه من المستحيل أن تكون العروبة وحدها عاملا للتجميع بل هى إن انفردت فهى عامل تفرقة فى منتهى الخطورة , لأن الدين الإسلامى كان هو السبب الرئيسي فى منع الأقليات العرقية من الصراع مع العرب فى مناطق نفوذهم بعد الإسلام فى آسيا وإفريقيا مثل الأكراد والأمازيغ والترك فكل هؤلاء استوعبهم الإسلام تحت رايته ولم تستوعبهم العروبة , فإن رفعت راية العروبة فسيرفع كل هؤلاء رايات قومياتهم ويحدث التناحر ..
ولهذا قامت الخلافة الإسلامية بجمع كلمة الشعوب فى آسيا وإفريقيا وأوربا وليس فقط فى المنطقة العربية , بل إنه لولا الإسلام , لما خرج العرب وانتشروا فى آسيا وإفريقيا وظل جنسهم محصورا فى الجزيرة , ولكن الفتوحات سمحت لهم بالهجرات المكثفة التى جعلت للسان العربي الجماهيرية الأكبر فى مصر والمغرب العربي والعراق والشام والداخل الإفريقي , وهى البلاد التى ينادى القوميون بالاتحاد بينها
لهذا منذ فترة القومية فى الخمسينات وحتى اليوم دخلت الدول العربية فى صدامات مختلفة مزقتها ومنعتها حتى من مجرد الإتحاد فى المصالح الاقتصادية وإنشاء سوق عربية مشتركة , بينما نجحت أوربا فى تكوين الاتحاد الأوربي رغم أن دول أوربا تحمل فى التاريخ القريب صراعات دموية وحروب أوقعت ملايين القتلى , ورغم هذا نجحوا فى الاتحاد رغم اختلاف الأديان واختلاف اللغة والتراث
وفشلنا نحن لأننا مضينا على الخط الذى رسمه الغرب ففصلنا بين عوامل الاشتراك الثلاث الدين واللغة والعروبة , فتمزقت البلاد العربية بين من ينادى بالدين وحده ــ وعلى فهمه هو ــ كأساس للتوحد , وبين من ينادى بالعروبة وحدها ويفتعل معركة حول الهوية المتجذرة فى التاريخ , وبين القوميات الضيقة التى تفجرت فى السبعينات فخرج من كل بلد من ينادى بفصل بلاده عن محيطها العربي والانسلاخ منه والتوجه نحو أوربا !

وبالمقابل ..
فالتيارات التى تبنت فكرة الإسلام وافتعلت بينها وبين القومية معركة فكرية , سقطت فى فخ التشرذم أيضا لأن تلك التيارات قدمت نفسها على أنها الراعى الرسمى للإسلام ! , وهذا هو عين التفرق لأنه ربط مرفوض بين الدين والأشخاص , وبالتالى فلابد أن يظهر التناحر ,
وجاء التغريبيون والعلمانيون فنبذوا العوامل الثلاث مجتمعة , وقالوا بأنهم متوجهون نحو الحضارة الغربية الحديثة , وليتهم اكتفوا بنقل التقدم العلمى , بل أصروا على أخذ باقة الغرب كاملة فنادوا بالطباع والتقاليد والفنون والآداب الغربية وحاولوا إدخالها لمصر على أن الغرب لم يتقدم بالتكنولوجيا وحدها بل تقدم بأفكار العلمانية والمذاهب المختلفة , فأهملوا التاريخ الحضاري الإسلامى واللغة وغيرها , وتفننوا فى استبدال ذلك كله بالأدب الغربي واللغات الغربية وبالطبع فتح لهم الاحتلال الإنجليزي سائر أبوابه ودعمه ,
واغتر كثيرون بفلسفة الغرب فى تنحية الدين عن مجالات الحياة دون أن ينتبه هؤلاء الحمقي إلى أن الغرب نجح بتنحية الكهنوت الذى كان عائقا للتقدم العلمى , أى أن الدين والكهنوتية هناك كانت سببا رئيسيا للتخلف , بينما نحن فى الإسلام لا كهنوتية عندنا بل الكهنوت محرّم تحريما باتا , والدين كان مقياس ومشعل حضارتنا بالأساس ولولاه لما تكوّن التقدم العلمى العربي ولا الحضارة العربية أى أن الدين عندنا كان سبب التقدم
وهكذا تحقق المراد الغربي الكامل للاحتلال بأن تفرقت الأمة العربية كلها على تلك التيارات الضيقة , وبالتالى انعزلت أكثرية الجماهير عن كل تلك الفرق , لا سيما وأن الإتهامات المعلبة التى صكتها الإتجاهات الأيديولوجية المختلفة كانت تتناثر منهم ضد مختلف خصومهم وكافة من ليس على مذاهبهم , وهى اتهامات مأثورة ومعروفة ولا زالت تثير استخفاف عامة الناس ,
فإذا عاديت أى تيار إسلامى حتى فى المجال السياسي فقط , فأنت بين خيار الكفر والبدعة , وإن صححت لأى تيار أو انتقدت الاتجاهات الفقهية والعقائدية المتناحرة , فلن تختلف التهمة كثيرا
وإن انتقدت القومية والشيوعية فأنت إمبريالى وعميل للمخابرات الأمريكية , وإذا خالفت ووقفت ضد دعاة التغريب والعلمانية فأنت ظلامى وإقصائي وتعبد كتب التراث وترفض التحضر والتجديد !! , وإن ناديت باستخدام اللغة العربية الفصحى وآدابها , ونبذ استخدام اللغات الغربية كأساس للتعامل والثقافة , فأنت متخلف وتخالف روح العصر !!
وهذا بعينه ما تنبأ به النبي عليه الصلاة والسلام للأمة فى آخر الزمان , وكانت وصيته القاطعة هى اعتزال كل تلك الفرق جميعها فى الحديث الشهور :
( عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم". وقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟. قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر". قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟. قال: "نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها". قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا". قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك" )
وقد تحدث العلماء فى ذلك فبينوا أن الاعتزال يكون بالتزام منهج أهل السنة ــ الصحابة ــ فى العقيدة والأصول والثوابت , ثم اعتزال كل المتناحرين الذين ستعرفهم بعلامة توضح لك بسهولة أنهم ليسوا من الجماعة , ألا هى التفرد والتميز عن الناس إما بالعقائد المخالفة أو بفقه مخصوص ينبذون ما سواه أو بشخص ــ أو عدة أشخاص ــ يتخذونهم أئمة لهم دون سائر أئمة المسلمين , أو حتى بسمت وزى وهيئة تميزهم عن عامة المسلمين ..
واعتزالك لكافة المتناحرين وتمتعك بالإستقلال فى مواجهتهم , واتخاذك مبدأ ( معرفة الحق ثم الرجال ) هذا كله سيجلب لك عداوات كافة التيارات دون استثاء , وهذه النقطة بالذات أجدها علامة الطريق الصحيح ــ إن شاء الله ــ لأن أهل السنة ــ عقائديا ــ اكتسبوا عداوة جميع الفرق , وأهل الصواب من عامة الناس ــ سياسيا ــ تلقوا الاتهامات من كافة التيارات التى لا يؤيدون أحدا منها

الهوامش :
[1]ــ حرب 1984 م , هذى من مساخر التاريخ العربي فى الحقيقة وشر البلية ما يضحك , فالبلاد العربية التى أرسلت جيوشها بعتادها مهيض الجناح كانت كلها تقريبا محتلة وتحت سيطرة الانجليز الذين زرعوا اليهود فى فلسطين ,
ومع هذا سمح الانجليز بتحرك الجيوش العربية إلى فلسطين وكانت القيادة معقودة فى ذلك الوقت لعاهل الأردن الملك عبد الله وبالتبعية كانت القيادة الميدانية لقائد الجيش الأردنى الذى هو فى الأصل جنرال بريطانى يدعى جلوب باشا !!
واكتملت المساخر بانسحاب الجيش الأردنى فجأة أثناء المعارك مما أوقع الجيش المصري فى حصار الفالوجا الشهير وانتهت الحرب باستيلاء اليهود على أضعاف المساحة المقررة لهم فى قرار التقسيم الذى رفضه العرب آنذاك
[2]ــ من سخرية القدر أن عبد الناصر ألغى هذا البغاء وعندما جاء الإخوان للحكم قاموا بمد تراخيص الخمور والملاهى لثلاث سنوات بدلا من سنتين فى عهد مبارك بالإضافة إلى زيادة الضرائب عليهما
[3]ــ مقال إحصائي لعصر عبد الناصر نشرته شبكة التجديد العربي فى مايو 2011 م
[4]ــ كاتب هذه السطور وقع تحت الدعاية المضادة لعبد الناصر وكان مجمل الاعتراضات على عصر عبد الناصر تتمثل فى عنصرين رئيسيين , عداؤه للإسلام ( كما كان يروج الإخوان ) , والعنصر الثانى الاستبداد السياسي وتمكين أهل الثقة الذين أشاعوا الفساد فى البلاد , وبعد ظهور حقيقة موقفه من الإسلام لابد أن نعترف أنه كان اعتراضا فى غير محله , وبالتالى تظل مشكلة عبد الناصر وعصره فى القمع والسكوت عن القيادات الفاشلة بالذات فى الجيش وهذا الانتقاد يعترف به حتى الناصريين أنفسهم
[5]ــ من يطالع كتابات وأفكار عمالقة عصر عبد الناصر فى تلك الفترة يصاب بالذهول من الإلحاد الصريح الذين يتكلمون به لكن معظمهم تراجع عن هذه الأفكار وظهر التراجع واضحا فى كتاباتهم الحديثة بعد تقدمهم فى العمر والتجربة

يتبع ..

قديم 02-15-2016, 03:09 PM
المشاركة 7
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بانتظارك يا أستاذ جاد..

قديم 02-19-2016, 02:04 AM
المشاركة 8
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بارك الله فيك
وعذرا للتأخير فقد تسبب فيه عطل طارئ بالنت

قديم 02-19-2016, 02:25 AM
المشاركة 9
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ونواصل ...................

قال الشاب : عرفنا أن عهد عبد الناصر اختفي فيه مؤقتا الصراع الأيديولوجى بالمنع المباشر ولم يخرج فى عهده إلا انتماءات الشيوعية والعلمانية على استحياء ومع ذلك نجح عبد الناصر فى تشريدهم وأبقي على تماسك المجتمع من الفتن والتفرق ووجهه ناحية عدوه الطبيعى , فما الذى أعاد الصراع مرة أخرى ؟!
أجاب الكاتب :
من أكبر مصائب السادات رحمه الله , أنه تصور أن حرب أكتوبر قد أعطته حصانة شعبية وجماهيرية منافسة لعبد الناصر , لكنه غفل عن أهم سبب وأخطر مبرر كان وراء وقوف الجماهير خلف عبد الناصر واستمرار شعبيته لليوم ,
وهذا السبب أن عبد الناصر كان مخلصا فى تجربته ــ رغم أخطائه الكبري ــ فلم يستفد من الحكم شيئا تقريبا , ولا ناور أو داهن أو دلس على الناس بشيئ أو استأثر لنفسه بأى ميزة , ولم يستفد من أموال الدولة شيئا غير راتبه البسيط ,
والأهم من ذلك ..
أنه الحاكم المصري الوحيد فى العصر الحديث ومنذ ظهور الدولة القومية فى عصر محمد على , الحاكم الوحيد الذى نجح فى أن ينتقم للشعب من فئة الخمسة بالمائة التى تستولى دائما على تسعين فى المائة من ثروات البلاد بالتواطؤ مع نظم الحكم المستمرة من محمد على حتى عصرنا الحالى مرورا بفترة الملكية كلها ..

فلم يحدث أن جاء حاكم مصري من قلب الشعب نجح فى أن يجعل مشروع عمره هو استعادة ثروات البلاد المنهوبة فى أيدى الإقطاع أو رجال الأعمال الكبار الذين يتجبرون بالإستيلاء على كافة الثروات وبمنتهى التبجح ليظل الشعب تحت أردأ أنواع الفقر
وفى عهد الملك فاروق ــ أى قبيل قيام ثورة يوليو بقيادة عبد الناصر ــ لم يكن الشعب يمتلك شيئا قط من ثروات بلاده بل تحكم فيها قلة قليلة جدا من باشوات العهد الملكى ورجال القصر حتى أن بعضهم كان يتملك من الأطيان الزراعية ما يعادل مساحة محافظة كاملة اليوم !!
بخلاف أن أقل شخص بين كبار الإقطاعيين كانت مساحة أملاكه تتعدى خمسة آلاف فدان على الأقل , ولهذا كان من المعهود فى ذلك العصر أن كل قرية ريفية مهما بلغ اتساع مساحتها كانت تدخل فى مسمى ملكية أحد الباشوات وحده , ويسميها بالإسم المألوف ( العزبة ) والعزبة هذه ليست كما نتصورها اليوم مساحة شاسعة وفقط من الأرض بل هى قرية كاملة بكل سكانها وما عليها ومن عليها يمتلكها هذا الباشا بل ويمتلك أرواح العاملين فيها إذا شاء دون أدنى محاسبة أو قانون من أى نوع !
فجاء عبد الناصر وبمجرد خلاصه من قضية الإستقلال العسكري قام من فوره بالإستقلال الإقتصادى وصادر كافة هذه الثروات دونما استثناء , وبجرأة غريبة يحسد عليها , ولهذا وقف الشعب معه وقوفا كاملا وحقيقيا لأنه بالفعل رد الحق لأصحابه , فهؤلاء الإقطاعيين لم يرث أحد منهم أو يمتلك شبرا من هذه الأرض بمقابل مشروع ــ إلا الندرة النادرة ــ بل كانت كلها تدخل فى باب العطايا والهبات , هذا فضلا على أن الشركات الأوربية التى كانت تعمل على الإنتاج الزراعى المصري وتستغله أسوأ استغلال تم اخضاعها جميعا للتأميم ,
والأهم من هذا أن عبد الناصر لم يسمح لنفسه أن يستفيد شيئا من هذه الأملاك بل قام بإعادة توزيعها على الملاك الحقيقيين لها وهم عامة الشعب من البسطاء , واستغل الفائض المالى الضخم الناجم عن مصادرة مصالح الإحتلال الإقتصادى ليدفع بمصر لأول مرة إلى عصر تصنيع جبار أسس به القطاع العام الذى ظل نظام مبارك ينهبه ثلاثين عاما !!

ولهذا وحده نقول أن تجربة عبد الناصر فى هذا الصدد تجربة غير مسبوقة فى جرأتها حيث أنه وقف أمام عتاولة الإقتصاد فى الداخل والخارج واستقل ببلاده استقلالا حقيقيا ولم يكتف بالإستقلال السياسي وحده
كما أنه قام بتصحيح أخطائه بعد النكسة ونجح فى تكوين الجيش على أعلى مستوى , وبسبب إخلاصه صبر الشعب عليه ولم يثر , ولم يكن هذا بسبب سياسة القمع كما يتصور بعض الناس , فسياسة القمع نفسها لم تنفع السادات عندما لجأ إليها بعد ذلك , لأن الناس لم تشعر به حاكما مخلصا بعد أن رآه الناس يخترق كل الثوابت القومية التى أسسها سلفه , فشعبية عبد الناصر كانت على أساس اقتناع الناس به فعلا وأكبر دليل على هذا أن الناصريين مستمرون لليوم فى افـتـتــانهم بالزعيم وحبهم له , وهذا ما لم يحدث مع أى حاكم معاصر فيما أعلم

أما السادات فلم يكن واضحا أو مباشرا مع الناس , بل كان مفتونا بألاعيب السياسة , والشعب المصري له طبيعة خاصة جدا أنه يدرك تماما ألاعيب حكامه مهما أخفوها ويـُـعـبّرون عن فهمهم باستخدام طريقتهم الأثيرة وهى التنكيت ..
ولهذا كان الخطأ القاتل للسادات أنه أفرج عن التيار الإسلامى من السجون ــ ليس بهدف رفع الظلم عن المظلومين منهم ــ بل بهدف استخدامهم سياسيا لمواجهة الناصريين والشيوعيين أصحاب الشعبية فسمح للإخوان والتنظيمات التكفيرية التى تكونت فى السجون بالعمل السياسي لقهر شعبية خصومه عن طريق التشنيع عليهم بتهمة الإلحاد والخروج عن الدين
وبالتالى ,,
وبعد أن نجح عبد الناصر فى قتل الخلافات الأيديولوجية بالقوة حتى لا تفتت الشعب , جاء السادات ــ ولأسباب سياسية ــ ليتفجر مرة أخرى صراع الأيديولوجيات القاتل لتعود نفس الدوامة ولكن مع ظهور طرف ثالث متطرف هذه المرة فبعد أن كان الصراع يدور بين العلمانية وما يشابهها وبين الأزهر , أصبح الصراع ثلاثيا بين العلمانية والتيارات الإسلامية والأزهر ,
وانتهى الأمر بالصراع الدموى المعروف فى فترة الثمانينات وما تلاها ,
ثم جاء نظام مبارك فارتكب الجريمة الكبري عندما استمر فى نفس سياسة السادات وبشكل أفدح , وهو استخدام التيارات الإسلامية كلعبة سياسية يلاعب بها الداخل والخارج أيضا لتحقيق أغراضه فى تثبيت حكمه ,
ولهذا دعم مبارك وحلفاؤه من العرب تسفير وإرسال شباب الجماعات للكفاح المسلح فى أفغانستان برعاية أمريكية , ومن تلك اللحظة انتقلت ولاية التيارات الإسلامية إلى الغرب ــ بعلم القيادات وجهل الشباب ــ ومن تلك اللحظة تكونت عشرات التنظيمات التكفيرية التى صارت ألعوبة فى أيدى الحكومات فى لعبة الإرهاب دون أن يقف أتباع هذه التنظيمات لحظة ليسألوا أنفسهم ماذا يفعلون وبرعاية من يقاتلون ؟!! ,
وكانت الجريمة الكبري الثانية لمبارك هى قتل دور الأزهر وتحجيم شيوخه وترك الساحة للإخوان والسلفيين ومنذ عهد الشيخ طنطاوى لم يستعد الأزهر مكانته بين نفوس الناس , بالذات بعد رحيل الأئمة الكبار كالشعراوى وجاد الحق والغزالى وهو الوضع الذى أدى بنا اليوم إلى حصر الصراع بين أنصار العلمانية وبين أنصار التيارات الإسلامية المختلفة , وغاب دور الأزهر الذى أصبح شيوخه وعلماؤه موظفون تقليديون وانشغلوا بلقمة العيش وصعوبة الحياة وأصبحت الساحة خاوية للتيارات المتناحرة ..
وهكذا عاد الصراع الأيديولوجى بأبشع مما كان ,
وبرعاية الدولة أيضا وتمكن مبارك بهذا من شغل الناس عن خطايا حكمه عن طريق إغراقهم فى تحزبات سياسية ودينية لا نهاية لها , كنا استخدم لعبة الفتنة الطائفية عدة مرات , حتى جاءت بدايات القرن الجديد وتكونت أجيال شابة جديدة انتبهت ــ فيما يبدو ــ لهذا الأمر فرفضوا الجميع وثاروا على الجميع وبهذا انطلقت ثورة يناير ,
ونظرا لأن الشباب عديم الخبرة بتلك اللعبة فقد نجح أطراف الصراع أنفسهم فى سرقة مكتسبات الثورة بنفس الأسلوب وهو أسلوب ( فرّق تسد ) , ولست أدرى حقيقة متى ستنتهى هذه اللعبة القميئة ؟!

سأل الشاب :
بعد هذا العرض الكافي لأساس التيارات المتناحرة , سندخل فى فوارق العلم والفلسفة , ولكنى أريد ابتداء أن أسأل سؤالا مفصليا فى النقاش ولا أصبر على إجابته ,
فى البداية عندما بدأ بعض الإعلاميين يتحدثون عن البخارى وكتب التراث كنا نسمعهم ونؤيدهم , ثم وجدناهم يتجاوزون قليلا فى الأوصاف , ولكن عذرناهم من شدة الغضب على السلفيين والإخوان , ولكن الذى أثار الاستغراب حقيقة أنهم بعد عدة أشهر من بداية الحرب ضد الإرهاب , سمعنا كلاما رهيبا ولم نغضب من الكلام بقدر ما أثار تساؤلنا , لأن الأمر وصل للسخرية من الأحاديث والمناداة بانتقاد القرآن !! ,
ثم كلام متجاوز جدا حتى بحق كبار الصحابة والخلفاء الراشدين ! والمناداة بأن الدين الذى نعرفه ليس الإسلام ولكن إسلام اخترعه جيل الصحابة بعد النبي عليه السلام !
ثم الذى يثير العجب أن الكلام والهجوم بدأ مركزا ومنتشرا جداــ تقريبا كل الصحف والقنوات ــ ورغم أننا دوما نسخر من نظرية المؤامرة إلا أن الأمر مريب بالفعل , ما سر هذه الهجمات الغريبة فى هذا التوقيت ؟!
قال الكاتب :
أنا أولا أحمد الله تعالى أنه حتى الشباب وغير المتخصصين فى علوم الشريعة وحتى أصحاب ثقافة انتقاد بعض كتب التراث , لاحظوا مدى التطاول والتبجح الذى يؤذى كل صاحب فطرة , واتضحت لهم أهداف أصحاب الهجوم لأن الله أعماهم عما يفعلون فلم ينتبهوا وأفصحوا سريعا بحقيقة معتقداتهم
ورغم أن إجابة السؤال ــ تشمل تقريبا موضوع الحوار كله ــ إلا أنى سألخص إجابة مختصرة فى ضوئها ستعرف مع من نتعامل , وستعرف أن من حذروكم من الانقياد لهجمات العلمانيين لم يكونوا متشددين أو يتهمونهم بالباطل , بل إن التحذير من سابق الخبرة فى التعامل معهم , وقلنا ساعتها لا يخدعكم ما يظهرون به على أنهم مجددون ويرغبون فقط فى تقديم صحيح الدين , وعما قريب سيطعنون حتى فى القرآن , فقلتم بأننا نبالغ !
وقلنا لكم ساعتها أنهم يستغلون تجارة الإسلاميين بالدين فى الفضائيات , وعندما ينتهوا من انتقادهم سيلتفتون لكل علماء الإسلام والصحابة , فلم تصدقوا

قال الشاب : يا أستاذ بعض الطاعنين الآن لم نسمع أبدا أنه علمانى أصلا بل كانوا مقدمى برامج دينية وتاريخية فكيف انقلبوا ؟!
قال الكاتب :
وتذكرون ساعتها أن كثيرا من الباحثين قالوا لكم , إن المهاجمين للسنة ليسوا فقط العلمانيين , بل إن أهل السنة تعرضوا عبر التاريخ لهجمات كل التيارات المعبرة عن الفرق المختلفة , واليوم يهاجم السنة كل من ينتمون للعلمانية وللشيعة وللخوارج وللإخوان فضلا على العداء التاريخى القديم لحركة المستشرقين وأذنابهم من دعاة الغرب ,
وستعرف خلال الحوار مفاجأة أعتقد أنها تصيب اليوم كل من كان غير متابع , ولكنى سأشرحها فى حينها ,
فرغم أن العلمانيين فى مصر هم من اعتدنا منهم هذا الهجوم , إلا أن الهجوم المكثف والمنظم هذه المرة لا يمثل العلمانيون فيه رأس الأفعى بل هم الذيل فقط , والرأس المدبر فرقة أخرى تعتبر هى شيطان الشبهات الأكبر على أهل السنة فى هذا العصر ..
فالهجوم هذه المرة يشهد تضافرا فى الجهود من سائر الأطراف , لأن حالة الشرق الأوسط بعد الثورات حالة سيولة كاملة , وكل طرف يهمه أن يكون الوريث للنظم السابقة فى الإقليم
فالطرف العلمانى والتغريبي يستغل عداء الناس للإسلاميين المتاجرين بالدين , والطرف المبتدع من أنصار الشيعة والصوفية يستغلون الأمر للهجوم على السنة ولكنهم لا يظهرون فى واجهة المشهد بل يلعبون كعادتهم من خلف الستار , وأنصارهم يستدرجون الناس بسابق حديثهم المغلف بالتدين , ويكفيك مثالا هذا الذى كان يمدح الصحابة وصنع برنامجا عنهم , انظر ماذا قال عنهم الآن والخلافة الإسلامية كانت كلها ــ حتى بخلافة الراشدين ــ خلافة دموية ووحشية , وليس فيها إلا سنوات عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز !! , فأين خلافة أبي بكر وأين خلافة عثمان وعلى عليهم رضوان الله ؟!
بل بلغت به الوقاحة للعيب فى عمر بن الخطاب ووصفه بأنه لم يكن ذلك الحاكم الملائكى أو المعصوم ونحن لم نقل أنه معصوم بل قلنا أفضل الحكام , والغرب المسيحى جاء منه كاتب اسمه مايكل هارت وضع عمر بن الخطاب ضمن أعظم مائة شخصية فى التاريخ الإنسانى !! وهذا الذى يدعى الإسلام يقول أن لديه اعتراضات على أسلوب حكم عمر !!
سأل الشاب : إذا الأهداف مختلفة باختلاف الأشخاص المهاجمين للدين ..
قال الكاتب :
كلا .. الخصوم متعددون وهدفهم واحد , هو علم الحديث , ولاحظ أننى لم أقل الحديث نفسه أو السنة النبوية أو علماء الحديث بل هدفهم علم الحديث نفسه وعليه تركزت هجماتهم , فهجومهم على البخارى ليس هجوما على كتب السُنة أو كتب الحديث النبوى ,
بل هجوم على علم الحديث ــــــــــــ كمنهج نقل ـــــــــــــ الذى هو الوسيلة الوحيدة التى نقلت لنا كلنا شيئ من العصور السابقة , فهو علم اختصت به أمة الإسلام عن غيرها من الأمم , ولا توجد ضوابط النقل فى علم الحديث عند أى أمة سابقة , ولهذا ضاعت منهم كتبهم المقدسة المنقولة عن الرسل وتم تزويرها ,
أما الإسلام , فقد قام أهله ــ بتوفيق الله ــ بابتكار هذا العلم لينقلوا لعشرات الأجيال من بعدهم القرآن والسنة والتاريخ والأدب وكافة العلوم , نظرا لأن الكتابة فى العصور الأولى لم تكن هى الوسيلة المعتمدة فى النقل وكان المعتمد هو علم الرواية الذى ينقل لك الألفاظ بحروفها وتشكيلها النحوى , ولولا ذلك لوصل القرآن محرفا لو نقلوه بالكتابة فقط , فلم يكن التنقيط والتشكيل معروفا فى ذلك الزمان ..
ولهذا فكل أعداء الإسلام ركزوا على تكذيب المصادر , بدء من كفار قريش الذين قالوا عن النبي عليه السلام أنه كاذب وأنه مؤلف أساطير , ونهاية بما يحدث اليوم مع الصحابة والعلماء
سأل الشاب : إذا طريقة الرواية والأسانيد هى التى نقلت كل شيئ وليس الأحاديث النبوية فقط !
قال الكاتب :
بالطبع , فعن طريقها تم تحديد الرواة لكل رواية فى أى مجال وعن طريق علم ( الجرح والتعديل ) تم وضع التقييم المناسب لكل راو , وبناء عليه يستطيع أى عالم حديث فى أى عصر أن يعرف من دراسة السند إذا كانت هذه الواقعة صحيحة أم لا , وهذا الحديث صحيح أم موضوع .. , ولم يكتف العلماء بنقد الأسانيد وحدها أو اعتمدوا عليها فقط , بل وضعوا مناهج لدراسة المتون أيضا واشترطوا خلو المتن من عيوب الشذوذ والعلل وهذا يتضح جليا من التعريف الذى وضعه علماء الحديث للحديث الصحيح حيث قالوا ( هو الحديث الذى ينقله العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه بغير شذوذ ولا علة ) "[1]"
وهذا يبين لك فى وضوح تعمد المهاجمين اللعب بعقول الناس والترويج لأن علم الحديث يعتمد على الأسانيد وحسب وأن العلماء يصححون المتون الشاذة لمجرد صحة السند , وهذا بالطبع لا علاقة له بقواعد علم الحديث بل إن هناك طريقة علمية يتقنها الراسخون فى علوم الحديث تجعلهم قادرين على تمييز الحديث الصحيح من الضعيف بدون النظر إلى السند أصلا , ولكنها طريقة لا يستطيعها ولا يتقنها إلا فطاحل هذا العلم ممن اكتسبوا الخبرة الهائلة بلغة وتعبيرات النبوة , وقد شرح الإمام ابن القيم هذه الطريقة فى كتاب شهير بعنوان ( المنار المنيف )
وبالتالى نجح العلماء فى تحصين الأحاديث عن طريق تحصين طرق النقل والنقد الحديثي , فهو الأساس لكافة علوم الشريعة وبغيره لا يبقي شيئ منها
ولهذا ركز المستشرقون هجماتهم من البداية على علم الحديث وحاولوا بشتى الطرق إيجاد الثغرات فيه , فعجزوا , واليوم يأتى الطاعنون ويسيرون على نفس الدرب , لأنهم لن يـُـتـعبوا أنفسهم فينتقدون الفقه ثم الحديث ثم التفسير ثم العقيدة ثم التاريخ ,
فكل هذا يتحقق تلقائيا إذا نجحت فى الطعن والتشكيك فى علم الحديث , وشككت فى صحة منهج نقل العلماء والرواة الذين نقلوا , وبهذا ينهار الدين له , وحتى التاريخ والأدب أيضا
ولهذا اجتمعت الخصوم على علم الحديث بالذات
,
فالمستشرقون الغربيون يهدفون لهدم الدين كله , والعلمانيون والشيعة والخوارج والفرق البدعية يهدفون إلى إلغاء السنة النبوية الصحيحة التى نقلها الصحابة والتابعون وتابعيهم , وذلك ليـَـحْلوا لهم تفسير القرآن على هواهم وتحريف فهمه دون أن تمنعهم السنة من الاختراع فى تفسير آيات الأحكام , وهذا كله يتحقق بضرب أصول علم الحديث ,
ولتقريب الأمر بمثال ,
فالكتاب السياسي المعتمد فى عصرنا مثلا هو الكتاب الذى يعتمد على التوثيق لكافة المعلومات الواردة فى متن الكتاب والذى يبنى الكاتب عليها تحليله , فإذا نجحت أنت فى إثبات كذب أو تزوير الوثائق انهدم محتوى الكتاب وما يتضمنه من تحليلات حتى لو كانت صادقة
أما مسألة توقيت الهجمات على السـُــنة ,
فهذه تجربة مكررة للعلمانيين وخصوم السنة , فهم يصطادون فى الماء العكر دائما , فالناس كلها الآن تواجه التشدد والإرهاب بنقد أفكار الإرهابيين وهؤلاء يستغلون الفرصة لنشر فكرهم الإرهابي المقابل القائم على شيطنة مجرد ترديد شهادة الإسلام أو الالتزام بفرائضه وأوامر الله ونواهيه , وقد فعلوها مرارا من قبل , فعندما واجهت الدولة إرهاب السبعينات وما تلاها , كان علمانيو اليوم وأساتذتهم لا يكتفون بمهاجمة شيوخ الإرهاب بل ضموا سائر شيوخ الأزهر ودعاته وعلى رأسهم الشعراوى إلى قائمة الهجوم والطعن واتهامه بدعم أفكار الإرهاب !!
قال الشاب : وما دخل مواجهة الفكر المتطرف بالهجوم على الشعراوى أو من كان مثله ..
قال الكاتب :
الهدف تنحية الدين نفسه عن حياة الناس بحيث يصير من حقهم هم ممارسة كل أنواع الزندقة والفجور , ولا يحق لك أنت مجرد تقدير الإسلام أو احترام أركانه أو القول بحرام على أى فاحشة وإلا فأنت إرهابي !

قال الشاب : إذا الهجوم ليس على الجانب السياسي وتاريخ الخلافة فقط
قال الكاتب :
يا صديقي تعال نحسبها بالمنطق المجرد , بغير أى قناعات , وأخبرنى ما الذى يزعج هؤلاء من تاريخ الخلافة الإسلامية , واتهامها بأنها ضيعت المسلمين , مع أن المسلمين عندما كانوا فى الخلافة المتحدة كانت حضارتهم تجوب الشرق والغرب , ليس سياسيا وعسكريا فقط , بل ونهضتهم العلمية لم يكن لها مثيل , وعلى المستوى السياسي كــنـّـا سادة العالم ,
والعلمانية لها فى مصر والعالم العربي قرابة قرن كامل , فأخبرنى بالله عليك ما هو حال المسلمين فى عهدهم التنويري ؟!!
وما النجاح الذى حققوه سياسيا أو أدبيا أو تاريخيا أو علميا منذ بدء الفترة الليبرالية وحتى يومنا هذا ؟!
قال الشاب : ولكن فكر الخلافة هو ما ينادى به الإخوان وجماعات العنف ؟
قال الكاتب :
هؤلاء المتخلفون لا ينادون بفكر الخلافة كأساس لوحدة عربية أو إسلامية متدرجة القوة , بل ينادون بمسماها فقط تحقيقا لأهداف شخصية أو أهداف غربية ,
فما شأنى أنا إذا جاء هؤلاء المتخلفون فتاجروا بشعار الخلافة أو قالوا بأن الخلافة هى اللحية الطويلة والجلباب الأسود ونبذ العلوم والحضارة واتخاذ السبايا والجوارى ؟!
وما شأنى إذا انتشر عبر العالم مخرفون ودجالون يقولون أنهم يعرفون المستقبل باستخدام علم الفلك , فهل نـُـبـْـطل علم الفلك كله ونلغيه لأن هناك من يتاجر به ؟!
وإذا جاء غاوى شهرة أو نصّـاب من النصابين وقال بأنه يعالج الناس بالطب الطبيعى والعشبي فهل معنى هذا أنه لا يوجد طب طبيعى حقيقي تم برعاية العلماء واعتمدوه
؟!
وهل وجدت أحدا يهتم بالاسم والمسمى من كلمة الخلافة أم أن المهم هو المقصود الأساسي وهو التحالف والاتحاد والنهضة العلمية والحضارية والتخلص من التبعية للغرب سياسيا وفكريا بغض النظر عن المسميات ؟!
ولو قامت فى الغد دولة عربية متوحدة المصالح ــ حتى بدون التوحد الفيدرالى ــ واتخذت لنفسها أى مسمى حديث بعيد عن مسميات الخلافة لكانت فى حكم علماء المسلمين خلافة متكاملة الأركان , فالعبرة ليس فى الألفاظ والمبانى ولكن العبرة بالمعانى والمضمون "[2]"
لكن العلمانيين يغفلون هذا الفهم عمدا رغم أنه الفهم المتواتر عن أهل السنة , ويصرون على نقد لفظ الخلافة وشكلياتها باعتبارنا نُـصر على هذه الشكليات كما يفعل مجانين التيارات الإرهابية , وبالتالى فهُم هنا ينتقدون فينا ما لا نعتقده أصلا , ويصمون الدين نفسه بالتخلف باعتباره يعتنى بالشكليات ولهذا يدعون لهجره وهجر حضارته باعتبارها لا تناسب العصر
وأنا أتعجب صراحة لعبقرية العلمانيين الفريدة فى حل المشكلات , فالحل من وجهة نظرهم إذا استغل الإرهابيون الدين , أن نلغي الإلتزام بالدين أصلا , !
وهذا حل فريد من نوعه للمشكلات , فدعونا ــ وفقا لمنطقهم ــ أن نلغي استخدام السيارات والطائرات لحل مشكلة حوادث وسائل النقل , والحل لتلوث الطعام أن نوقف استخدام الطاقة ونوقف الأكل !!
وهم يتهمون المسلمين بالتخلف لتمسكهم بعظمة تاريخهم , ولا يعيبون على الغرب تمسكهم بتاريخهم المحرف
!!
أين كلام هؤلاء المتخلفين من تاريخ الإسلام الذى حفل بآلاف الاختراعات العلمية كتب عنها وعن فضلها الغرب أكثر مما كتبنا نحن , ولو أنك عدت لفلم وثائقي مهم أنتجته قناة ألمانية بعنوان ( علوم الإسلام الدفينة ) ستعرف أى جريمة يرتكبها العلمانيون , فالفيلم يقول صراحة فى نهاية استعراضه لعلوم الإسلام فى الطب والرياضيات والفلك أن أساسيات هذه العلوم جاءتنا من المسلمين , وأن هذه الأساسيات انتحلها بعض علماء الغرب متعمدين , أى اتهموا رموزهم بالسطور العلمى على إنتاجنا , الأغرب أنهم حددوا بالاسم من هم هؤلاء العلماء "[3]"
قال الشاب : وماذا عن احتجاجهم بحقوق الإنسان ؟
رد الكاتب قائلا :
سأتركك تحكم بنفسك , ما هى أخبار حقوق الإنسان فى دولة العلمانيين يا ترى ؟! وما هى أخبار حرية الرأى فى فرنسا وأوربا مهد العلمانية ؟!
هل يستطيع أكبر كاتب أو أكبر عالم أن يخرج هناك وفى عصرنا الحالى فينكر الهولوكوست أو يحارب إرهاب الغرب وحكوماته لتحقيق مصالحه ؟! وما أخبار حقوق الإنسان فى تعامل الغرب معنا ؟!
وما هى أخبار حقوق الإنسان فى المجازر الحيوانية التى ارتكبتها دولة الغرب فى عهدها العلمانى ففاقت فى وحشيتها تاريخ أجدادهم فى عهد الكهنوت ؟!
وهل سمحت فرنسا للمسلمات ــ حتى من مواطنيها ــ بارتداء الأزياء المحتشمة التى يعتقدون بها ؟! وبالمقابل هل منعت اليهود من ارتداء رموزهم الدينية فى الملابس ؟!
وإذا كان هذا يحدث فى عصرنا الحالى فكيف يمكنك تصور توافر حرية الرأى ــ كما يتصورها العلمانيون ــ فى القرون الماضية ,
مع ملاحظة أننا نملك فى تاريخ الخلافة الراشدة وخلافة عمر بن عبد العزيز نموذجا متكاملا لحقوق الإنسان لم يصل الغرب حتى الآن إلى مستواه , فكان عهدا من العدل المتكامل لا توجد فيه سيطرة لطبقة على طبقة أخرى لا بمسمى رجال الأعمال ولا بمسمى العائلات الحاكمة , بينما الغرب حتى فى عصره الحديث لا يملك هذا النموذج , وطبقات رجال الأعمال فى أعرق الديمقراطيات تتحكم فى كل شيئ فعليا فى تلك الدول
وحتى تاريخ الخلافة فى عهد الأسرة الأموية والعباسية وأمراء الدول كان التعرض لحقوق الإنسان فيها وجبروت السلطان مرهون فقط بمن ينازع السلاطين حكمهم , وما عدا ذلك كانت العدالة مفتوحة لآحاد الناس أمام القضاء وهناك حوادث أكثر من أن نحصيها لقضاة اقتصوا لعوام الناس ضد أشرافهم بل وضد الحكام أنفسهم والقضاء فى الإسلام باب مستقل فى التاريخ يحتشد بمئات الأمثلة على نزاهة الحكم والأحكام ,
ولولا هذا لما مكنهم الله من هذا الملك العريض ,
ولولا وجود هذا الجو من العدالة والرفاهية للشعب الإسلامى ما خرج هذا الإبداع وخرجت هذه الحضارة , فمن المستحيل أن تخرج الحضارة والإبداع فى جو من الإرهاب كما يصورونه !
بل الأهم من هذا وذاك ما كانت جيوش دولة الإسلام تنتصر فى كافة معاركها مع القوى العظمى فى ذلك الوقت لو لم تكن الحكومات حكومات تحقق على الأقل العدالة الكافية للشعب كله , فالديكتاتورية تهدم الحضارات ولا تبنيها , كما أن الدكتاتورية تخلق جوا مريعا من عدم الإنتماء فتنهزم الجيوش مهما بلغت قوة عتادها , ولا يوجد جيش فى العالم ينتصر فى معارك خارجية وجبهته الداخلية ممزقة
فهل يمكن لعاقل أن يتصور الوحشية والدكتاتورية كأساس لحكم الخلافة بينما قواتها جابت الأرض شرقا وغربا وردت سائر الهجمات المنظمة التى تميزت بقوات هائلة وتحالفات عدة دول , بل إنه حتى فى فترات الضعف وتفرق الإمارات الإسلامية لم ينجح الغرب بالحملات الصليبية فى النيل من الدول الإسلامية رغم تكراره الأحلاف العسكرية لسبع مرات فى فترة الحملات الصليبية !
وفى نفس الوقت فى أوربا , كان ملوكها يلقون بخصومهم للأسود الجائعة , بل يتسلون بحفلات جماعية للمصارعة بين العبيد لابد أن تكون نهايتها بالموت لأحدهم ؟!
وفى محاكم التفتيش التى تم عقدها للمسلمين فى أوربا ابتكروا أساليب تعذيب تثير شفقة الشياطين على الضحايا !
واتحدي أى علمانى أن يأتى لى بسابقة شبيهة أو حتى مقاربة لذلك فى تاريخ الخلافة الإسلامية وعلى يد حكامها وبمباركة علمائها كما حدث فى الغرب , وكل ما يروجون له , ستجده بين أمرين إما أنه افتراءات محضة جلبوها من قصص الخرافات بلا مصادر مسندة , وإما أنها حوادث تمت فى فترات التفرق والتحزب والفتن التى تخللت التاريخ المستقر للخلافة
وعندما تسأل العلمانيين ما هو مبرر كراهيتكم لفترة الخلافة وهى باعترافكم كانت عصور علم وأدب وثراء وسيادة , لن يجيبوا أبدا لأن حقيقة كراهيتهم لها هى فقط كونها خلافة إسلامية أى مرتبطة بالدين !
ولو كانت هناك دولة ناجحة أو حتى ظالمة فى تاريخ المسلمين لكنها ليست مرتبطة بأهل السنة فسيعظمونها مهما كانت جرائمها ووحشيتها , وهذا يوضح هدفهم تماما أنهم يقصدون السنة وأهل السنة بالذات

الهوامش :
[1]ــ إختصار علوم الحديث ـ الإمام بن كثير ــ بتحقيق العلامة أحمد شاكر
[2]ـ قاعدة أصولية فى علم أصول الفقه
[3]ــ علوم الاسلام الدفينة ــ فلم وثائقي ـ أنتاج ألمانى ـ موقع يوتيوب

قديم 02-19-2016, 02:46 AM
المشاركة 10
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

قال الشاب : كيف ذلك ؟!
قال الكاتب :
سأعطيك مثالا صارخا واضحا يثبت لك ذلك بوضوح تام ,
مثلا إبراهيم عيسي .. سيد الطاعنين هذه الأيام فى الشريعة والسنة وأهل الحديث , والذى لا يعجبه طريقة حكم عمر بن الخطاب نفسه ! , هل تصدق أنه عندما سُئل عن السفاح الروسي ( ستالين ) الذى حكم الاتحاد السوفياتى بالحديد والنار , هل تعلم ماذا قال عنه ؟!
قال إنه حاكم عظيم !! ,
فلما سأله المُحاور فى دهشة : ولكنه قتل عشرين مليون مواطن فى فترة حكمه ؟!
أجابه إبراهيم عيسي : لكنه جعل من الاتحاد السوفياتى دولة عظمى !
والمصيبة الكبري أن محاوره لم يعلم بالعدد الحقيقي لضحايا ستالين فقد تسبب بوفاة أكثر من 50 مليون إنسان بين عامي 1927 و1953 فيما يزيد بخمس عشرة مرة على ضحايا هتلر في أوروبا و4 مرات على خسائر روسيا في الحرب العالمية الثانية و40 مرة على خسائرها في الحرب العالمية الأولى وهى مجازر ارتكبها ستالين بعد الحرب العالمية الثانية لفترة طويلة وبقيت سرية حتى فضحها خلفه نيكيتا خروتوشوف عام 1956 م , فى الجلسة الشهيرة لمؤتمر الحزب الشيوعى الحاكم آنذاك
قهقه الشاب ضاحكا فى دهشة : ما هذا ؟! ستالين السفاح عظيم لأنه أسس دولة عظمى وخلفاء المسلمين ليسوا كذلك وهم من حكموا العالم شرقا وغربا ؟!
قال الكاتب :
هل رأيت ؟!
المشكلة ليست مع هؤلاء فى الحكم والسياسة بل مشكلتهم فى نسبة أى شيئ عظيم للإسلام والمسلمين , وهذا الرجل المادح لستالين لكونه جعل دولته إحدى دولتين عظميين فى العالم لمدة ستين سنة فقط , وقتل فى مقابل ذلك 50 مليون آدمى , يذم الخلافة الإسلامية من عهد الراشدين وحتى عهد العثمانيين , بينما عدد المواطنين فى عهد أى خلافة لا أعتقد أنه سيتجاوز عدد ضحايا ستالين وحده ! ,
بالإضافة إلى أن إبراهيم عيسي يتجاهل تماما التاريخ الوحشي لدول وحكومات الرافضة التى حكمت بعض الأقطار الإسلامية فى فترات التمزق , رغم أنها حفلت بتاريخ دوى وإبادة عرقية للمخالفين , فلم نره مرة يذكر بالذم دولة العبيديين فى مصر , ولا دولة الصفويين فى إيران والتى أجبرت شعبا كاملا على التشيع بالقتل والقهر والتعذيب الممنهج ونراه فقط يركز على دول أهل السنة
وفى مقابل هذا التاريخ الدموى حكم المسلمون السنة العالم كله قرابة ثمانية قرون كقوة عظمى وحيدة ومنفردة أيضا ثم كقوة عظمى هى الأكبر بين قوى العالم حتى انهيار الخلافة
قال الشاب : قوة وحيدة !
أجاب الكاتب :
هل نسيت أن الخلافة الراشدة أسقطت القوتين الأعظم فى ذلك الوقت معا الرومان والفرس , وحاربتهما معا , وهزمتهما هزيمة ساحقة فى آسيا وأوربا وإفريقيا , وهو ما لم يحدث مع أى دولة فى التاريخ المكتوب كله , وجاءت الخلافة الأموية , فحكم سليمان ابن عبد الملك أكبر إمبراطورية فى التاريخ , فدولته كانت حدودها من الصين شرقا حتى الأندلس غربا وهى أكبر رقعة من الأرض استطاع حاكم بشري أن يسيطر عليها فى وقت واحد !
وجاء العباسيون فحكموا نفس الرقعة وخرجت الأندلس فقط لتظل تحت حكم الأمويين وهى خلافة إسلامية عظيمة أيضا , ووقف المسلمون عند حدود بلاد الغال ( فرنسا الحالية ) ,
بل كاد الأندلسيون أن يجتاحوا سائر أوربا ويحتلوا الجزر البريطانية لأول مرة فى التاريخ فى عهد القائد الأندلسي العتيد الحاجب المنصور
ثم جاءت الدول الإسلامية التى حكمت نفس الرقعة من الشرق الأوسط ولكن على إمارات منفصلة , ثم جاء العثمانيون وأسسوا خلافتهم التى اكتسحت أوربا وإفريقيا لمدة ستة قرون , حتى سقطت فى بداية القرن العشرين ! ,
أى أن تاريخ الخلافة الإسلامية بين قوى العالم دار بين ثمانية قرون حكموا فيها العالم منفردين وبين أربعة قرون حكموا العالم فيها كقوة عظمى متقدمة على غيرها فى دول أوربا
فهل تعلم كيف سقطت الخلافة العثمانية ومتى بدأ الانهيار ؟!
قال الشاب : متى وكيف ؟!
قال الكاتب :
كان العثمانيون يشعرون بالعزة الشديدة بالإسلام , خاصة عندما تحققت فيهم بشارة النبي عليه السلام , وفتحوا عاصمة الروم ( القسطنطينية ) وغيروا اسمها إلى ( إسلام بول ) وهى اسطنبول الحالية , ولهذا , ورغم أنهم من جنس الترك إلا أن انتماؤهم الإسلامى دمجهم حتى مع العرب , وكانوا يعاملون ملوك أوربا معاملة الخاضعين لهم , وقد دخلت الجيوش العثمانية فاكتسحت جيوش بلجيكا لأن ملك بلجيكا قتل رسول الملك سليمان القانونى !
وظلت الخلافة عصية على الغرب حتى مرت أربعمائة عام , وبدأت المظاهر الأوربية تغزو حياة العثمانيين , وبعد مائة عام فقط , تركوا نظام الحكم الإسلامى جزئيا وأخذوا ببعض القوانين من النظام القانونى الفرنسي والانجليزي وبعدها صارت دولة العثمانيين مرتعا للغربيين وانهارت قيمتها حتى تم تدميرها فى الحرب العالمية الأولى
فانطبقت عليها مقولة عمر ابن الخطاب ( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام , وبه ننتصر على أعدائنا وليس بقوة السلاح , فإن تركنا الإسلام , تساوينا بهم فانتصروا بقوة السلاح علينا )
بل إن كثيرا من المؤرخين الآن يغفل عن أن انهيار الخلافة كان السبب الرئيسي فى نشأة التنظيمات الإرهابية بصورتها المعاصرة , لأن المسلمين تجاوبوا مع حركة الإخوان وأمثالها لأنهم رفعوا شعار الخلافة وتاجروا به , وفى نفس الوقت كان العلمانيون والليبراليون قد ظهروا فى السيطرة على الواقع المصري وتراجع دور علماء الأزهر , ولم يكن الناس قابلين لهذا التحول الغربي وثقافتهم ترفضه ,
قال الشاب : تريد أن تقول أن انتشار العلمانية كان سببا رئيسيا فى تحقيق التيارات الإسلامية لشعبية بين الناس
قال الكاتب :
احكم أنت بنفسك وأخبرنى ..
ماذا كانت ردة فعل الشعب أيام حكم المجلس العسكري بعد ثورة يناير عندما وقف العلمانيون بقوة فى الإعلام لصالح رفض التعديل الدستورى ,
استغل الإخوان والسلفيين اجتماع العلمانيين على القول برفض التعديلات , ليروجوا بأن كل من يرفض التعديلات هو من أتباع العلمانيين الذين يريدون إلغاء المادة الثانية !
ورغم أن هذا لم يكن مطروحا أصلا فى الاستفتاء , إلا أن الناس صوتوا بنعم عنادا فى أبواق العلمانية التى دأبت على الطعن فى الثوابت لمجرد أنهم قالوا بلا , رغم أنها الخيار السياسي الصحيح ! , وهذا يدل بوضوح على مقت الشعب لاختيارات العلمانيين حتى لو كانت صوابا
وعندما انكشف أمر بيع الإخوان للثورة بعد أن أوصلهم الشعب لمجلس الشعب وشاهد أداءهم المزرى ,
انقسم الشعب بين التيار الإسلامى وبين فلول الوطنى لشعورهم بتفاهة الجبهة المدنية ولم يضعوها كخيار ثالث أصلا
ولهذا قال العقلاء مرارا وتكرارا , بأن إخراج العلمانيين من دائرة الحرب الفكرية على الإرهاب يوفر ثلاثة أرباع الجهد فى هذه المعركة , فالذين ينضمون أو حتى يتعاطفون مع التيارات الإرهابية لا يفعلون ذلك اقتناعا بفكرهم بل لمجرد النكاية فى العلمانيين وأضرابهم لوقاحتهم البالغة ضد القرآن والسنة ,
والإخوان تستغل ذلك فتردد فى كل مناسبة أن إسقاطهم كان إسقاطا للإسلام فى مصر , وكنا ــ ولا زلنا ــ نسخر من وقاحتهم تلك لأننا لم نر منهم إسلاما ولا حتى ليبرالية , ولكن بعض الناس صدقت ذلك , كيف لا , وهم يسمعون فى كل يوم من يقول بأن كتب التراث الإسلامى قذارة وانحطاط ووحشية , وأن الصحابة والتابعين جاهدوا لبناء إمبراطورية ولم يجاهدوا لنشر الإسلام , وأن الشريعة الإسلامية مصطلح لا وجود له فى القرآن والسنة , وأن الإرهاب ليس صناعة أمريكا بل هو من صناعة الأزهر وأن القرآن هو نص تاريخى وبعض نصوصه كانت ملزمة لزمن النبي عليه السلام وحده !!

قال الشاب
: قالوا ذلك بالفعل , والمفاجأة أننى عرفت هذه الأقوال من مواقع الإخوان وصفحاتهم , ولكن ما هو دور الفرق الأخرى غير العلمانيين ؟!
قال الكاتب :
ربما تأخذك المفاجأة بشدة إذا علمت أن المصدر الرئيسي للهجمة المنظمة الآن على التاريخ الإسلامى وتراثه , ليسوا هم العلمانيين أو دعاة الغريب ,
فهؤلاء فقط يمثلون أدوارا فرعية إلى جوار اللاعب الرئيسي الذى نزل للملعب العربي بقوة وعنف عقب أحداث الثورات , وأعنى بهم النظام الإيرانى والذى يعتبر نظاما كهنوتيا بامتياز حيث يتم تسخير موارد الدولة على كافة المستويات لخدمة المد الشيعى فى المنطقة ..
تساءل الشاب : هذا قول غريب إذا سمحت لى ! , فالمفترض أن العلمانيين هم أصحاب الإتجاه الرئيسي لتنحية الحضارة الإسلامية ..
أجاب الكاتب :
العلمانيون فى بلادنا يا صديقي قوم مهيضو الجناح جدا , وإمكانياتهم ورسالتهم فى الحياة لا تتعدى إلى شيئ إلا تنحية الدين عن واقعنا المعاصر , لكنهم لا يهتمون كثيرا بالتاريخ الإسلامى , ولا يعنيهم أن يهاجموه إلا عندما تتعارض وقائع التاريخ مع طموحاتهم , بل إن بعضهم قد يمتدح التاريخ الإسلامى ولكنه يقول بأن العصر الحالى لا يناسب فكر الماضي ,
باختصار ,
هدف العلمانيين ومن سايرهم كاليساريين ودعاة التغريب هو تقليد المنهج الأوربي فى كل شيئ , وهؤلاء ليست عندهم مشكلة حتى فى التدين الشخصي للأفراد , طالما أن هؤلاء الأفراد لن يعترضوا على علمنة المجتمع , ولا يعنيهم إطلاقا أن نظل معتزين وفخورين ومتمسكين بتاريخنا وتراثنا طالما أنه لن يتعارض مع ما يخططون له
لكن الهجمة المنظمة الحالية على التراث الإسلامى تفوح برائحة مختلفة تماما عن الرائحة المعتادة من النشاط العلمانى ,
ولا يدرك الفارق الدقيق بين الحالتين إلا من له خبرة التعرض لأنواع العداوات التاريخية لأهل السنة , فإذا تأملت الهجمة الحادثة منذ إسقاط الإخوان ستجد عدة ملحوظات تلفت النظر بالفعل ..
أولها : الهجمة هذه المرة مكثفة وشديدة التنظيم وتفجرت فجأة فى عشرات الصحف والقنوات الفضائية ومواقع الإنترنت , على نحو يشي بالتدبير وبأن مصدرها واحد ومن المستحيل أن تكون من قبيل الصدفة ,
ثانيها : الفارق الدقيق الذى لفت نظر المتخصصين فى العقيدة أن الهجمات التى تبدو علمانية الهوى تميزت هذه المرة بهجوم كاسح على أفراد بعينهم فى التاريخ الإسلامى , مثل أبي بكر وعمر من الصحابة ومن أمهات المؤمنين عائشة وحفصة , ومن العلماء البخارى وابن تيمية , ومن الحكام صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنهم جميعا , ولو راجعت الهجمات عبر الشهور الماضية ستجد أنها حملة منظمة بالفعل على هؤلاء الأفراد بالذات فهناك عشرات المقالات والمعالجات الإعلامية التى تطعن فى هذه الشخصيات بتكرار يثير الريبة ! , أما الذى يكشف الأمر فعلا أن هذه الهجمات على هذه الشخصيات منقولة بالنص من كتب الشيعة سواء القدامى أو المعاصرين
وهذا غريب للغاية ,
فالعلمانيون لم يركزوا هجماتهم من قبل أبدا على شخصيات بعينها فى التاريخ والتراث ولم يجرؤ واحد منهم على ذكر أى شخصية من سيدات بيت النبوة ,
فضلا على هذا أن معظمهم لم يجرؤ على مهاجمة عمر بن الخطاب وصلاح الدين بالذات , نظرا لأن الفاروق عمر لا زال الغرب نفسه يعترف بعدالة حكمه النموذجى , وصلاح الدين يُمثل بطلا قوميا للإسلام وقضية القدس ولهذا يحتفي به حتى العلمانيون أنفسهم فضلا على أن الهجوم على عمر وصلاح الدين لا يخدم القضية العلمانية فى قريب أو بعيد .. هذا بالإضافة إلى أن العلمانيين وحتى دعاة التغريب تتخذ من عمر وصلاح الدين نموذجا غير قابل للتكرار ويعلمون تماما حجم شعبيتهم الكاسحة ولهذا لا يقتربون منهما
أما بالنسبة لابن تيمية والبخارى فالعلمانيون لم يخصصوا هجومهم من قبل على علماء محددين , بل من عادتهم إنتقاد نصوص القرآن والسنة نفسها , ولو تحدثوا عن العلماء فلا يخصصون أحدا بعينه , بل يتحدثون عن عموم العلماء السُــنة , ولو خصصوا الهجوم على عالم بعينه فهم يهتمون دائما بنقد الإمام الشافعى بالذات وهذا لأن الشافعى هو الشوكة فى حلق العلمانية باعتباره الذى ابتكر وأسس أصول الفقه وأصول الحديث أيضا , مما جعل من علوم الفقه وعلوم الحديث علوما محددة القواعد كاملة البناء نجح العلماء بعد ذلك فى ترتيبها وتبويبها وتفريعها لفروع أصغر فأصغر حتى تكاملت علوم الشريعة بملايين الكتب والمصادر فصعب اختراقها بالشبهات
نخلص من هذا إلى أن الهجمة الحالية لا يمكن أن يكون السبق فيها للعلمانية وحدها ,
فمن الذى يقف خلف هذا الهجوم يا ترى ؟!
ومن الذى يمتلك الأدوات المادية التى تمكنه من اختراق وتجنيد الإعلام لهذه الهجمات ؟! ومن الذى لا يشغله شيئ فى الدنيا إلا الطعن فى الشخصيات سالفة الذكر
؟!
والجواب واضح وضوح الشمس لكل من يمتلك أدنى خبرة بالشيعة الإثناعشرية والنظام الإيرانى ,
فالشيعة الإثناعشرية تحديدا لا تعادى أحدا أو تمقت شخصا قدر مقتها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه , وبعده أبو بكر وعائشة وحفصة حتى أن دعاتهم يلعنون هؤلاء بالذات وبالإسم واحدا واحدا قبل أن يتمموا اللعن على سائر الصحابة وسائر أهل السنة , فضلا على أن الشيعة تعتبر صلاح الدين بالنسبة لها أعدى لهم من إبليس , لأن صلاح الدين هو الذى قضي على حكم العبيديين الشيعة فى مصر وهى الدولة المعروفة خطأ باسم الدولة الفاطمية "[1]" ولم يكتف صلاح الدين بهذا بل قام بغلق كافة المعاهد الشيعية مثل الأزهر والأقمر والأنور , وأعيد فتح الأزهر بعد ذلك ليصبح أكبر معهد لعلوم السنة بعد أن كان المرجعية الكبري للشيعة , وبالتالى فصلاح الدين مزق أحلامهم بعد أن نجحوا فى تحقيق أكبرها على الإطلاق وهو حكم مصر , ومن المستحيل أن ينسوا له صنيعه هذا
أما البخارى وابن تيمية ,
فالأول هو أمير المؤمنين فى الحديث وكتابه الصحيح شوكة فى حلق الشيعة ليوم الدين , والسبب فى ذلك أن الشيعة عاجزون عن اتباع المنهج السنى فى علوم الحديث والإسناد وكتبهم كلها طافحة بالروايات الموضوعة زورا على آل البيت ,
أما ابن تيمية فلا عجب ولا غرابة فى عداوة الشيعة له , فقد كان رحمه الله حائط صد رهيب ضد الشيعة والصوفية والجهمية فى زمانه , ومؤلفاته فى هذا الباب نجحت فى دحر أهل البدع جميعا فى عصره , بالإضافة إلى أن هذه المؤلفات مثل كتاب ( منهاج السنة النبوية ) لا زال إلى اليوم يعتبر المرجع الرئيسي لكل مهتم بفنون الرد على شبهات الشيعة "[2]"
أضف إلى هذا أن نشاط التمدد الإيرانى فى العالم السنى تضاعف منذ بداية الثورات العربية , والشيعة فى مصر بالذات لهم محاولات مريرة منذ بداية القرن الماضي لاختراق الأزهر ومصر بشتى السبل , وفى كل مرة يعجزون عن ذلك بسبب توفيق الله للعلماء والباحثين فى كشف نواياهم , لكنهم يستعينون بالدعم المادى الهائل فى اختراق ضعاف النفوس سواء فى الأزهر أو الأحزاب السياسية أو الإعلام
قال الشاب : إذا هذا هو ما يفسر تخصيص الهجوم على خلافة الراشدين والبخارى والمقالات المتعددة التى تطعن فى سيرة صلاح الدين بلا أى مناسبة ؟!
قال الكاتب :
هو بالضبط كما تقول , ولاحظ أنك قلت فى عبارتك ( هجوم على صلاح الدين بلا مناسبة ) , فدهشتك تلك هى مربط الفرس فى كشف مصدر الهجوم , لأنه بالفعل لا يوجد أى مبرر عند أى مسلم ــ عدا الشيعة ــ للهجوم على صلاح الدين بالذات , فهو بخلاف إنجازه التاريخى فى تحرير القدس ودحر الصليبيين , لا يمتاز عن غيره من حكام عصره بشيئ يبرر كراهيته , فلماذا خصص الإعلام اليوم مقالات متعددة للهجوم عليه ولماذا لم يهاجموا قطز مثلا أو بيبرس أو حتى حكام المماليك فى فترة ضعفهم , ولماذا لم يهاجموا الحكام السفاحين من دولة العبيديين كالحاكم بأمر الله رغم تاريخهم الوحشي ؟!
هذا مع الوضع فى الاعتبار أن الهجوم على صلاح الدين بالذات يعتبر خيانة فى عرف كل عربي ومسلم لأن الرجل مرتبط فى أذهان الناس بتحرير القدس كما أن الغرب يـُـكن له عداوة شديدة بلغت من الوقاحة أنه عندما تمكن الغرب من إعادة احتلال القدس جاء قائد الاحتلال إلى قبر صلاح قائلا : ها قد عدنا يا صلاح الدين ,
فالرجل صار رمزا لقضية القدس اليوم منذ احتلالها , والأطفال تتغنى بسيف صلاح الدين الأيوبي بالذات طمعا فى مجيئ قائد آخر مثله يحقق حلم المسلمين فى استعادة أقصاهم الشريف
لكن مع الشيعة .. الأمر مختلف ,
لأن عقيدتهم قائمة على كراهية هذا الرجل الذى أحبط مخططاتهم التاريخية ,
تساءل الشاب : ولكن المهاجمين اليوم لا يعلنون أنهم شيعة ؟!
قال الكاتب :
بالطبع , لأنهم بالفعل ليسوا من الشيعة , فالشيعة المصريون الذين أعلنوا تشيعهم معروفون , وهؤلاء لن يقبل الناس منهم صرفا ولا عدلا وقد فقدوا فاعليتهم تماما بعد هزيمتهم عدة مرات فى المناظرات العلنية على مدار الأعوام السابقة , أما حصان طروادة الجديد للشيعة فهم هؤلاء المأجورون من المحسوبين على أهل السنة وتنحصر مهمتهم فى تحطيم هيبة تاريخ أهل السنة دون الإفصاح عن تأييدهم أو حتى تعاطفهم مع الشيعة وإلا فسدت مهمتهم
وعندك فى مصر والعالم العربي ثلاثة أو أربعة من أشهر المروجين لهذه الهجمات بهذا الأسلوب , وهؤلاء يهمهم فقط هدم تراث السنة حتى لو لم تروج لمعتقدات الشيعة ,
فبعد يأس الشيعة فى إيران من فاعلية المناظرات مع علماء السنة , لجئوا لطريقة مبتكرة فعلا تحقق هدفهم دون أن يضطروا للدفاع عن أنفسهم فى مواجهة انتقاد علماء السنة العـنيف , خاصة وأن كتبهم ليست فقط تحتوى الطعن فى القرآن وتكفر الصحابة وأمهات المؤمنين , بل أيضا لأن كتبهم مثل كتب الصوفية فيها خرافات وروايات لا يمكن أن تكون من نتاج البحث العلمى بل هى أقرب للبحث الجنائي ومباحث المخدرات !
لذلك كانوا يحتاجون لوسيلة تجعلهم يهاجمون كتب السنة دون أن يبادلهم أهل السنة الهجوم على كتبهم , أو على الأقل ينشغل أهل السنة بالدفاع عن أنفسهم ويتركوا كتب المنهج الرافضي فتخلو لهم الساحة للاختراق
فاستغلوا بعض المنسوبين للسنة ودعموهم , فخرج هؤلاء يقولون بأنهم من أهل السنة ويريدون التجديد ــ نفس النغمة العلمانية ــ, وأشهر هؤلاء الدعاة حسن فرحان المالكى فى السعودية , وعدنان إبراهيم الفلسطينى المغترب فى النمسا , وبعض أضرابهم على المنتديات وشبكات التواصل الإجتماعى , ولكنهم وقعوا فى حماقات أظهرت نواياهم سريعا

الهوامش :

[1]ــ أطلق الإمام السيوطى على العبيديين اسم الدولة العبيدية الخبيثة فى كتابه تاريخ الخلفاء
[2]ــ بلغ حقد الشيعة على هذا الكتاب أن علماءهم يحضون أتباعهم على حرق نسخ هذا الكتاب إذا أرادوا أن يستجيب الله لدعائهم !!


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: كيف ترد الشبهات .. بالحوار العقلي وحده ( حلقات مسلسلة )
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
لســـــت وحدي بقلمي قصة مسلسلة ناريمان الشريف منبر القصص والروايات والمسرح . 21 11-12-2020 11:35 PM
O الإدهاش العقلي الجميل لستينسلو ليم o العنود العلي منبر مختارات من الشتات. 15 03-28-2020 11:31 AM
المذهب العقلي سعد عطية حسون منبر الحوارات الثقافية العامة 0 09-24-2015 10:54 PM
قطراات نديه .. هند طاهر منبر الحوارات الثقافية العامة 1 10-09-2013 04:24 PM
رد الشبهات عن حد الرجم محمد جاد الزغبي منبر الحوارات الثقافية العامة 11 01-04-2013 10:33 PM

الساعة الآن 10:43 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.