قديم 05-18-2024, 04:57 AM
المشاركة 11
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان

ومن تلك الكبائر أيضا التي تورد الإنسان مصير الطرد من رحمة الله، رذيلة (الخمر) وهي التي سماها العلماء (أم الخبائث)، لأن الخمر تذهب بالعقل وبالتالي يتورط تحت إثرها الإنسان في كل الرذائل،
وقد ورد فيها اللعن والطرد من رحمة الله ــ ليس في شاربها فحسب ــ بل في كل شخص له علاقة بها، وذلك وفق حديث النبي عليه السلام.
(لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها)
فلنا أن نتخيل فداحة إثم الخمر، وقد ذكرنا سابقا أن مدمن الخمر من الذين حرم الله عليهم الجنة، وامتد اللعن والطرد من رحمة الله إلى كل متعامل مع الخمر أو تجارتها، بداية من شاربها، وساقيها، وبائعها وعاصرها (أي الداخل في صناعتها)، ومعتصرها (من طلب صناعتها له)، وحاملها (من حملها إلى من أرادها)، والمحمولة إليه (أي كل من حملت إليه في سوق ولو لم يكن من شاربيها)، وآكل ثمنها أي التاجر وكل من جعل أمواله في تجارتها.

كذلك من أشد الآثام التي نغفل عنها، ونُمَارسها في المجتمع على أنها مباحة، بل وتجد التشجيع والتعظيم حتى من بعض أهل الفضل والعبادة والحريصين على مرضاة الله!
هذه الظاهرة هي السعي إلى الشهرة والتبذير والإسراف.
فهذه الصفات كفيلة بأن تجعل الإنسان يخسر رصيد حسناته بأن يحبط عمل الخير الذي اجتهد فيه عُمْرَه، أو أنها كفيلة بأن تأتي به ذليلا يوم القيامة جزاء على حرصه على الشهرة في الدنيا، أو أنها كفيلة بأن تجعله مع الشياطين في مستوى واحد.
ونبدأ بالنقطة الأخيرة.
فالله عز وجل يقول عن المذرين في إنفاق المال
[إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا] {الإسراء:27}
وهذا نص صريح لا جدال فيه، وحدود التبذير الحقيقية التي التزم بها النبي عليه السلام والتزم بها الصحابة، هي حدود أعلي من قدراتنا اليوم، ومن يستطيع أن يبلغها ووفقه الله لها فلا شك أنه من أهل الرضوان.
ولكننا تعلمنا من ديننا أيضا قاعدة هامة وهي:
(ما لا يُدْرك كله، لا يُتْرك جله)
ومعنى القاعدة ببساطة، أن المسلم إذا لم يستطع في أمر ما أن يطبق حدود التقوى بحذافيرها، فعلي الأقل لا يتركها كاملة، ويحاول قدر إمكانه الالتزام بمعظمها أو حتى ببعضها.
فحدود الإسراف المُحرم التي التزمها النبي عليه السلام وصحابته من بعده، كانت بإلزام الزهد الحقيقي بمعناه الصحيح.
فليس الزهد معناه ترك الطيبات ولا ترك الاستمتاع برزق الله، لكن الزهد هو أن تكون الدنيا في يدك لا في قلبك، وأن تتمتع بالطيبات في غير الإنفاق المبالغ فيه على المظاهر.
بالذات إن كان هذا الإنفاق المسرف على المظاهر هدفه الأساسي لفت أنظار الناس، والتعاظم عليهم بالحصول على نوادر الأمور، ومشهور الملابس والمنازل ونحوها.
فالله عز وجل أعطانا المال وأمرنا أن نخرج حقه بالزكاة والصدقة، ولكن ليس معنى إخراج حق المال أن ننفق منه على المظاهر والشهرة لمجرد حب الظهور والتعالي.
فهذه الأمور من أقبح المنكرات في الدين،
وحديثي هنا ليس مُوَجّها إلى أهل الإسراف ممن يمنعون حق الله في مالهم، فهؤلاء يرتكبون ما هو أعظم من الإسراف ألا وهو منع الزكاة والصدقات.
وهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى في الذين اكتنزوا الذهب والفضة ولم ينفقوها في سبيل الله:
[يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ] {التوبة:35}
لكن الحديث مُوَجه في الأساس للعابدين والمتصدقين وأهل السعي في مصالح الناس، فهؤلاء لا يجوز لهم أن يُضَيّعوا حسناتهم وأعمالهم بسلوكهم مظاهر الشهرة والتميز وأنفاق الأموال في أمور لا ضرورة لها على الإطلاق، ولا هدف لها في الأصل إلا الشهرة والتميز
وقد جاء في الحديث الشريف:
(من لبس ثوبَ شهرةٍ ألبسَه اللهُ يومَ القيامةِ ثوبًا مثلَه ثم تلهبُ فيه النارُ ـــ وفي لفظٍ ــــ ثوبَ مذلَّةٍ)
وقد جاء عن (شهر بن حوشب) أنه قال:
(من ركب مشهورًا من الدواب ولبس مشهورًا من الثياب أعرض الله عنه وإن كان كريمًا)
وبالتالي،
فخطورة سلوك مظاهر الشهرة أو سرف الإنفاق والمبالغة فيه أنه يبطل أعمال الصدقات والحسنات لأهل الكرم، لأن الله تعالي لا يحب المسرفين ويكفي أنه يُعْرِض عنهم
وحتى لا يقلق بعض القراء ممن يحرصون على اقتناء المنقولات الغالية لمعيشتهم، فنقول لهم أن اقتناء الأمور عالية الثمن إن كان هدف اقتنائها هو الحاجة إليها، والرغبة في تيسير المعيشة أو تيسير العمل، فهذا مما لا شيء فيه إن شاء الله بشرط ألا يكون هناك بديلا لها ــ بنفس الكفاءة ــ أرخص سعرا.
والعلامة الفارقة الظاهرة بين حدود الإسراف وبين الضرورة، هي النية التي تحكم من يقتني هذه الأشياء، فإن كانت نيته في اقتنائها تقليد أهل البَطَر، أو التظاهر والتعالي، أو الزهو أمام الناس، فهذا هو السرف والشهرة المحرمة، أما إن كان الهدف هو رغبة الإنسان لفائدة نفسه وكان محتاجا لها فلا شيء فيه.

كذلك هنا إسراف منتشر في المجتمع، لكنه لا يحظى بانتباه الناس بالقدر الكافي، ألا وهو الإسراف في استخدام الماء العذب في غير موضع الضرورة.
فهذا من أشد المحرمات، وقد جاء عن النبي عليه السلام ما يلي:
(أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مرَّ بسَعدٍ وَهوَ يتوضَّأُ، فقالَ: ما هذا السَّرَفُ يا سَعدُ؟ قالَ: أفي الوضوءِ سَرفٌ قالَ: نعَم، وإن كنتَ على نَهْرٍ جارٍ)
فإذا كان استخدام الماء العذب بكمية كبيرة في الوضوء نفسه، لا يجوز وإن كان المتوضئ يتوضأ على نهر جار، فكيف بالإسراف في استخدام الماء في اللهو والزينة؟!
وترجع علة التحريم هنا إلى أهمية الماء العذب لكونه أساس الحياة، وهذا النهي المشدد هو من أبلغ إعجاز الإسلام ونظامه الاجتماعي القائم على حفظ الموارد العامة وعدم إهدارها في غير موضعها، والظواهر العقيمة المنتشرة في العالم اليوم توضح لنا مدى المأساة حيث تعاني دول كاملة من قلة الماء العذب للشرب، بينما تهدر دول أخري المياه العذبة في صنع ملاعب الجولف وحمامات السباحة والمنتجعات!

كذلك من السرف وجحود النعمة، الظواهر القاتلة المنتشرة في المجتمع في المبالغة في الإنفاق، بلغت حدا رهيبا تحت تأثير انتشار وتعدد أنواع الملذات حتى رأينا محتويات بعض المنازل والقصور، وتكاليف الإنفاق في حفلات الزواج تتعدي المبالغ الكافية للإنفاق على مدن بأكملها!
ويحدث هذا في نفس الوقت الذي يعاني فيه الملايين من الفقراء من شظف العيش والبحث عن قوت يوم واحد.
كما أن (الشهرة) بذاتها أصبحت هدفا استراتيجيا حتى لمن لا يجدون سبيلا إليها، فسلكوا في ذلك كافة السُبُل من المحرمات دون أدنى وازع من الدين أو الضمير، وأصبحوا يرحبون بالشهرة ولو في المحرمات أو على سبيل العرض والأخلاق، ما داموا سيصبحون نجوما في المجتمع.
أي أنهم يسعون وراء الشهرة في الكبائر، بينما الصحابة وأئمة العلم رضي الله عنهم كانوا يفرون من الشهرة في فضائل الأعمال الكبار كالجهاد في سبيل الله، ونشر العلم!!

وقد جاء في سير هؤلاء الصالحين ما نصه:
(ومن العجب أن يحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ما يربو على مئة ألف صحابي فلم يقدر ابن حجر العسقلاني على قوة حفظه وسعة اطلاعه، ومهارة بحثه أن يجمع لنا في كتابه الإصابة أكثر من ثمانية آلاف صحابي فأين الباقون!
إنهم على منهاج قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ»
ولو كانت الشهرة منقبة تتشوق لها النفوس الكريمة لأكرم الله بها سادة الدنيا من الأنبياء والمرسلين الذين بعث منهم ما يزيد على ثلاثمائة رسول، وأكثر من مائة ألف نبي، ورغم ذلك لم يحفظ لنا القرآن سوى أسماء خمسة وعشرين رسولاً لا غير.
وقد حذر سلفنا الصالح من حب الظهور والشهرة بين الناس لمن يسعى إليها ويجعلها هدفه، وتضافرت أقوالهم المحذرة من هذا الخلق الذميم، فهذا سفيان الثوري يقول: "إياك والشهرة؛ فما أتيت أحدًا إلا وقد نهى عن الشهرة"
وقال إبراهيم بن أدهم: "ما صدق اللهَ عبدٌ أحب الشهرة"
وقَالَ أَيُّوْبُ السختياني: "مَا صَدَقَ عَبْدٌ قَطُّ، فَأَحَبَّ الشُّهرَةَ")

وكما رأينا في المقال الخطير السابق، ما ورد من أقوال الصحابة وأهل العلم في الهروب من الشهرة في أعظم أعمال الخير، حتى في مقام (صُحبة النبي عليه السلام)، فقد غاب عنا أسماء الغالبية منهم ولم نعرف منهم إلا العشر بينما هم يزيدون عن مائة ألف صحابي، وكل هذا لأنهم كانوا يفرون من الشهرة بلا مقتضي، ولهذا عرفنا منهم رواة الحديث وأصحاب المشاهد والذين نزلت فيهم آيات القرآن والسنة
بل إن الرسل والأنبياء عليهم السلام، لا نعرف منهم إلا 25 نبي ورسول، بينما عدد الرسل يربو على 315 رسولا، وعدد الأنبياء مائة وعشرين ألف نبي، وفق نص الحديث الشريف!
(عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال:
قلت: يا رسولَ اللهِ كمِ الأنبياءُ؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسه عشر جما غفيرا)
فلو كانت الشهرة أمرا مباحا أو نعمة مطلوبة، لجعلها الله لخاصة أوليائه وهم الرسل والأنبياء.

فإذا كانت الشهرة بالفضائل منهي عنها لهذه الدرجة فما بالنا بالشهرة في الرذائل!، وقد تحقق فينا قول النبي عليه السلام:
(لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ.)
وكذلك أيضا تحققت فينا نبوءة رسول الله عليه الصلاة والسلام في قوله:
(لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعٍ)
ومعنى الحديث أنه في آخر الزمان، سيكون أكثر الناس حظا بالدنيا من المال والشهرة هو (اللكع ابن لكع) أي أقل الناس شأنا في المجتمع سواء من حيث فائدته للمجتمع أو من حيث الأخلاق.
ونحن لا نحتاج إلى أن نقول بأن الحديث تحقق في زماننا بحذافيره!

ولا شك أن أعظم الأمور التي يعانيها المسلم في تقواه، هي ردع شهوة الشهرة في نفسه، والتي تتفوق على كافة الشهوات الأخرى، لذلك كان لجهاد النفس في ذلك أجر عظيم، ولكي ينجح الإنسان في ردع نفسه عن فتنة الشهرة عليه أن يتذكر فقط عواقب الشهرة في إبطال حسناته، ولا شك أن حرص المسلم علي حسناته سيكون دافعا قويا جدا لذلك.
ويجب علينا أن نجدد إيماننا كلما استطعنا، وفق ما يقول النبي عليه السلام في الحديث:
(إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فسلوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم)

ومعني (إن الإيمان يخلق كما يخلق الثوب) أن يعتريه القدم فيبلى كما يبلى الثوب بمرور الزمن والاستخدام.
ولهذا يجب ألا نيأس من تورطنا في حب الشهرة مرات وكَرّات، فالله يحب العبد الأواب إليه، وتجديد الإيمان يكون بتجديد العهد مع الله أن يخلع من نيته حب المظاهر والاشتهار بين الناس، وأن يحاول قدر استطاعته عدم الفتنة بمدحهم بالذات إن كان من أهل العلم أو أهل البر.

وتتبقي ملحوظة هامة جدا في هذا السياق.
وهي ضرورة بيان حدود (الشهرة المحرمة)، حتى لا يقع الإنسان في حرج إن كان معروفا بالعلم والتقوى أو بأعمال البر، ويتلقى الشكر والثناء على أفعاله وتقتدي به الناس.
فالشهرة المحرمة تختلف عن (عاجل بشرى المؤمن)، وعاجل بشرى المؤمن هي كلمات الإطراء والثناء وحب الناس لشخص فاعل الخير أو صاحب الخلق والعلم، وقد جاء هذا المفهوم من خلال حديث النبي عليه الصلاة والسلام عندما اشتكى إليه الصحابة أنهم يجدون الثناء ويخشون على دينهم الفتنة به،
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ")

ومعنى (عاجل بشري المؤمن) أن قبول الناس وثنائهم الحسن على أفعال المؤمن ــ دون أن يكون في نيته مسبقا الحرص على هذا الثناء ـــ فإن ثناء الناس هنا ليس من السمعة والشهرة التي تحرم الأجر، بل هو على العكس بشارة النبي عليه السلام بأن قبول الناس ومحبتهم لفعل المؤمنين هي بشارة عاجلة بقبول العمل في الدنيا يدركها المؤمن في الدنيا وتصبح علامة لوجود القبول في الآخرة
وأبسط وسيلة كي يفرق الإنسان بين الشهرة المحرمة وبين (عاجل بشرى المؤمن)، هي أن يتأمل الإنسان في نفسه ونيته، هل قام بفعله أصلا وهو يستهدف الشهرة والسمعة الحسنة بين الناس، أم أنه قام بفعله ابتغاء مرضاة الله وفي سبيله ولم يكن يهدف من وراء هذا منفعة دنيوية أو يتوقع وينتظر ثناء الناس عليه.
فإذا كانت نيته من البداية هي السعي لعمل الخير ــ سواء عرف الناس أم لم يعرفوا ــ فلا شك أن ثناء الناس إذا جاء في هذه الحالة فهو من عاجل بشري المؤمن في الدنيا.
وعاجل بشري المؤمن هي وعد الله الذي يتحقق لعباده المؤمنين، لأن أي مؤمن صالح سيجد محبة الناس من حوله وثنائهم عليه بطبيعة الحال، وهذا وفقا لقوله تعالى:
[إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا] {مريم:96}

ومعني أن الرحمن سيجعل لهم وُدا، أن المؤمنين ستكون لهم مكانة وحب وشعبية بين الناس، وقال العلامة (ابن كثير) في تفسيره لهذه الآية.
(يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه)
وهذا ما عبر عنه أيضا حديث النبي عليه الصلاة والسلام:
(ِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ)

قال النووي رحمه الله:
(قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ هَذِهِ الْبُشْرَى الْمُعَجَّلَة لَهُ بِالْخَيْرِ، وَهِيَ دَلِيل عَلَى رِضَاء اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، وَمَحَبَّته لَهُ، فَيُحَبِّبهُ إِلَى الْخَلْق كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيث، ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض. هَذَا كُلّه إِذَا حَمِدَهُ النَّاس مِنْ غَيْر تَعَرُّض مِنْهُ لِحَمْدِهِمْ، وَإِلَّا فَالتَّعَرُّض مَذْمُوم)
كما ينبغي للمؤمن أن ينتبه لمكر الشيطان جيدا في هذا الباب،
لأن مكر الشيطان في هذا الشأن لا يكون فقط بدفع الإنسان للبحث عن مدح الناس، بل يكون مكره أشد بالمخلصين الذين يبتغون ثواب الله بنية صادقة، فيوهمهم ويؤنب ضمائرهم بأن الناس قد عرفتهم واشتهر ذكرهم وبالتالي فإن أعمالهم صارت رياءً وسمعة.
ويهدف الشيطان من وراء ذلك إلى إيقافهم عن أفعال الخير ودفعهم للامتناع عن إفادة الناس بما يفعلون تحت تأثير خشيتهم أن يقعوا في حب الشهرة والسمعة.
فإذا حدثت الإنسان الفاعل للخير نفسه بمثل هذا فلا يمتنع أبدا عما يفعل، بل يزيد من أعمال الخير التي يفعلها ويحرص عليها ولا يلقي بالا لوساوس الشيطان في هذا الجانب.
فلولا أن أعمال المرء تفيد الناس فعلا وتحظى بقبول رب العالمين، لما جاء الشيطان كي يوسوس له بأن يوقفها
والأمر ليس صعبا على الفهم ومعرفة الفارق الدقيق.
ويستطيع الإنسان أن يستدل بنفسه على ذلك، عن طريق مراقبة مشاعره عند فعل الخير، فإن وجد نفسه قد اعتادت أن تفرح بكلام الناس عنه، بحيث إذا لم يتحدث الناس أصابه الضيق، فعليه عندئذ أن يجدد نيته المخلصة لله عز وجل،
وإذا وجد نفسه يفرح بثناء الناس لكن ثناءهم لا يمثل دافعا أو تشجيعا له في فعل الخير، بمعنى أنه يقوم بعمله في كافة الأحوال سواء عرف الناس أم لم يعرفوا، فهو هنا على الطريق الصحيح.

كذلك من الذنوب المُحبطة للعمل، التي تقع دون أي داع في المجتمع رغم خطورتها، هو الذنب الذي ثار فيه جدل عقيم على مواقع التواصل من مُشجعي الثقافة الغربية وهي آفة امتناع الزوجة عن زوجها إن أرادها لنفسه!
وكعادة التقليعات الغربية انتشر هذا المصطلح الهدام (الاغتصاب الزوجي)، في نفس الوقت الذي تظهر فيه دعواتهم الداعية والمشجعة للمجاهرة بكل الرذائل كالزنا والشذوذ!
وهذا من جملة ما جرته علينا أقلام وجدت الفرصة في هذا الجو المشحون ضد كل أحاديث النبي عليه السلام وضد ثوابت الأخلاق، فهاجموا حديث النبي عليه السلام الذي يقول فيه:
(إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)
وهذا الحديث فيه تحذير ووعيد للمرأة ألا تمتنع عن زوجها إن أرادها لفراشه، وعلة خطورة التحذير أن الرجل بطبيعته مفتوحة أمامه أبواب المعاصي والذنوب لا سيما في ظل انهيار الأخلاق بالمجتمع، فإذا اجتمع على الرجل امتناع زوجته ورفضها له مع يُسر الزنا كانت الكارثة!


والقضية لا تحتاج جدلا طويلا.
فالحديث فيه وعيد شديد نعم، ولكن ليس فيه إجبار ــــ كما يقول دعاة الانحلال ــ للمرأة على الاستجابة القطعية لزوجها في كل وقت حتى لو لم تكن لها رغبة.
فالعلاقة الزوجية علاقة مودة وتراحم لا علاقة استعباد، وبالتالي يجوز للمرأة بالتفاهم والرضا مع زوجها أن تمتنع عنه إن أرادت فإذا رضي الزوج انتهت القضية!
فلماذا يُصِر هؤلاء الناس على أن يكون امتناع الزوجة بالرفض العنيف الموجب للعن الملائكة، ولماذا لا ينصحون ــ لو أنهم حقا لا يريدون خراب البيوت ــ بأن يتم كل هذا في إطار التفاهم.
وهذا المعني يؤكده حديث النبي عليه السلام:
(والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها)
ونقول لهؤلاء المُحَرّضين للزوجات إذا كان عندكم ما يسمي بالاغتصاب الزوجي، فلا مانع عندنا من تطبيقه بشرط أن يكون من حق الزوج إن أصرت زوجته على الامتناع عنه دون عذر أن يتزوج عليها المثني والثلاث والرباع كما أحل الله له.
ودعونا نري رأي الزوجات في هذا العرض البسيط؟!
فإن أردت أن تكوني زوجة حرة مستقلة ـــ وفق ما ينادي به هؤلاء ـــ فاقبلي باستقلال زوجك وحريته أن يجد لشهوته موضعا آخر بالحلال الذي شرعه له الله طالما أنك امتنعت عنه بغير مرضاة الله ؟!
وحقا نحن في آخر الزمان والله

يتبع إن شاء الله

قديم يوم أمس, 10:51 PM
المشاركة 12
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان

ونأتي للعنصر الرابع من عناصر النجاة.
وهو أن يُطَبّق المسلم وصايا النبي عليه السلام ووصايا الصحابة للنجاة بدينه في عصر الفتن.
وعلى عكس ما يظن البعض أن المعيشة في زمن الفتن وآخر الزمان كلها شر، فالله عز وجل خلق الحياة كلها على قاعدة (النسبية)، والدنيا كلها تعيش بِعُمْلة ذات وجهين، وجه سلبي وآخر إيجابي
وإذا كان المسلم المخلص في عصرنا الحالي يري أنه من سوء حظه أنه لم يعش زمن النبي عليه السلام مثلا، أو زمن الصحابة، فعليه أن يراجع رأيه وينظر في الدرس البليغ الذي أعطاه لنا الصحابي الجليل (المقداد بن الأسود) رضي الله عنه في عدم جواز تمني المعيشة بزمنٍ آخر.
فقد روي (جبير بن نفير) ــ وهو من التابعين ــ قصة بليغة عن (المقداد بن الأسود) فقال:
(جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما، فمر به رجل، فقال:
طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت.
فاستغضب "أي ظهر على المقداد الغضب الشديد" فجعلت أعجب، ما قال إلا خيرا، ثم أقبل إليه!
فقال المقداد:
ما يحمل الرجل على أن يتمنى مَحْضَرا غَيّبَه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه، والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كَبّهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه، ولم يصدقوه.
أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين لما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم، والله لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشدّ حالٍ بعث عليها فيه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفَرّق بين الوالد وولده حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافرا، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها للتي قال الله عز وجل:
{الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين}).

صَدَق (المقداد) رضي الله عنه، وما أعظم فهمه وعبقريته، فالمقداد رضي الله عنه شرح في بساطة واختصار درسا عبقريا للمسلمين لو تدبروا فيه لسلموا بحكمة الله عز وجل الذي قال عن نفسه في القرآن:
[لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286}
فالخالق سبحانه أدرى بطاقة كل إنسان من خَلْقه، و(المقداد) عندما رأى الرجل يتمني لو كان قد حضر زمن النبي عليه السلام وفاز بصحبته، حَذّره من هذا التمني
فالرجل ــ رغم حُسن نيته ــ وقع في خطأ كبير، إذ أنه احتسب نفسه على أنه سيؤمن بالنبي عليه السلام ويتبعه حتما إن حضر زمنه
وهذا مما لا يمكن القطع بحدوثه لأن النبي عليه السلام بُعث في فَوْرة عبادة الأصنام، وحاربه قومه وفيهم الكثير من العقلاء والنابهين، ورغم ذلك عندما انتشرت الدعوة تفرقت الأسر والعائلات بين مسلم وكافر، وكان هناك الكثيرون ممن آمنوا في أعماقهم بصدق الوحي والرسالة ـــ ورغم ذلك ـــ أصروا على الكفر لأسباب مختلفة منها الكبر وكراهية شخص النبي عليه السلام نفسه،
ومنها خشية المعايرة، ومنه ــ وهذا هو الأخطر ــ الالتزام بخط الآباء والأجداد في نصرة الشرك كما فعل (أبو طالب) عم النبي عليه السلام
وبالتالي ذهب هؤلاء إلى النار لا لأنهم كانوا مكذبين حقا للرسالة، بل ذهبوا نصرة لآبائهم الذين ماتوا على الشرك أثناء حربهم مع النبي عليه الصلاة والسلام.

و(المقداد) رضي الله عنه، ذكر للرجل كيف أنه يرفل في نعمة كبيرة من الله إذ أنه وُلد في زمن عزة الإسلام، وخرج في أهله الذين علموه الإسلام، وهذه نعمة عظيمة إذ يُولد المرء في بيت ومجتمع مسلم فلا يضطر إلى معاداة أهله أو عشيرته للدفاع عن عقيدته
كما أن الله عافي أجيال التابعين ومن بعدهم من ابتلاء رهيب تَحَمَّله الصحابة رضوان الله عليهم إذ أن معظمهم كانوا يحبون آباءهم وكانوا يتمنون لهم الهداية، لكن آباءهم ماتوا على الشرك، ومنهم من جاء ذكره في القرآن محكوما عليه بالنار والذم، كما هو الحال مع (أبي جهل) وقد أسلم ولده (عكرمة)، و(عتبة بن ربيعة) وقد أسلم ولده (أبو حذيفة)، و(الوليد بن المغيرة) وقد أسلم ولداه (خالد) و(الوليد) وغيرهم كثير
فلنا أن نتخيل مشاعرهم وهم يتلون آيات الله التي نزلت في عذاب آبائهم؟!
ولا ينبغي للمرء أن يقول عن نفسه أنه لو حضر زمن النبي عليه السلام فلا شك أنه سيؤمن برسالته وليحمد الله على عافيته، لأن التجربة العملية تثبت النتيجة، فاليهود في مجتمع الجزيرة العربية قاطبة كانوا يعلمون بمبعث النبي عليه الصلاة والسلام بل ويعلمون بيوم ولادته أيضا بموجب ما عندهم من علوم (التوراة)،
والمفارقة الرهيبة أنهم كانوا ينتظرون ظهوره ويتمنون حضور زمنه كي يؤمنوا به وينصروه على أهل الشرك، وعندما جاء زمان بعثة النبي عليه السلام وظهر فعلا ودعا للإسلام بآيات القرآن الكريم التي تخاطب أهل الكتاب بما يعرفونه ولا يعرفه غيرهم
إذا بهم يستنكرونه وينكرونه لكونهم كانوا يتوقعون ظهوره في نسل بني إسرائيل، فلما جاء ظهوره في العرب أنكروه بل وحاربوه الحرب الشعواء!

وقد يعترض القارئ بأن هذا يجوز في عدم تمني زمن الصحابة، ولكن كيف لا يتمني المرء عدم ولادته في زمن الفتن؟!
ونقول إن الله عز وجل حكيم، وهو الأدري بقدراتنا، فلو أن المسلم الطموح اليوم وُلِد قبل مائة عام أو أكثر من زمنه الحالي حيث كان المجتمع لا زال فيه من الخير الكثير، لفات عليه أجر وجزاء بالغ الاتساع.
لأننا في عصرنا الحالي نرى أن المسلم الملتزم الذي يحسده الناس على التزامه، هو من يحافظ على الفرائض من الصلاة والزكاة والصوم والحج، ويختم القرآن مرة في رمضان، ويتقي الله ما استطاع في معاملاته، فهو بذلك في عُرْف مجتمع اليوم شخص متدين بلغ الحد الأقصى من التقدير في مجتمعه لتدينه هذا

وهذا راجع بالأساس لأن الفرائض تم انتهاكها في المجتمع وتراجعت قيمتها، وبالتالي صار الملتزمون بها هم القلة القليلة التي تستحق التقدير
بينما منذ أقل من مائة عام، لو تأملنا المجتمع سنجد أن المسلم العادي الذي لا يتميز عن أقرانه بعبادة ملحوظة هو المسلم المواظب على صلاة الجماعة في المسجد في كل فرض، وهو القائم بالفرائض والسنن الرواتب والنوافل المتعارف عليها، وهو المنتظم في قراءة القرآن فيختمه مرة واحدة على الأقل كل شهر، وهو المواظب على أذكاره في الصباح والمساء والواقف عند حدود الله تعالي لا يتعداها.
فهذه الصفات كانت في ذلك الزمان صفات الفرد العادي في المجتمع، بينما المتميز العابد في هذا المجتمع كان أعلي من هذا بمراحل
فتجده حافظا لكتاب الله تعالي، دارسا للسنة والفقه ولو بالسماع، مؤديا لحق المجتمع في التكافل وحريص على البر وقضاء حوائج الناس ... إلى غير ذلك.

وبالتالي فالمسلم المتحمس في عالم اليوم، بلغ بأعماله القليلة ما لا يستطيع أن يبلغه لو وُلِد في زمنٍ آخر، لأنه بطاعته القليلة تلك، صار من العابدين في زمن الفتن
وحساب الحسنات عند الله تعالي يختلف من زمن لآخر، فأجر أداء الفراض والطاعات في زمن الفتن أضعاف مضاعفة من أجرها في أزمنة الخير وهذا ثابت في أكثر من حديث.
ومنها حديث النبي عليه السلام:
(إِنَّ مِنْ ورائِكُم زمانُ صبرٍ، لِلْمُتَمَسِّكِ فيه أجرُ خمسينَ شهيدًا منكم)
والحديث في منتهي الخطورة، ويحمل بشارة عظيمة جدا لكل مسلم في عالمنا اليوم،
فالنبي عليه السلام يوضح للصحابة كيف سيكون عليه حال الناس في أزمنة الفتن، وكيف أن القابض على دينه في هذا الزمان المتمسك بالسُنة سيكون له أجر خمسين شهيدا ــــ ليسوا من زمنه ــــ بل أجر خمسين شهيدا من الصحابة أنفسهم!
وأنا لا أعلم أجرا وجزاء ورد في شريعة الإسلام يعادل الأجر الوارد في هذا الحديث الشريف.
لأنه من المعلوم والثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الصحابة لهم مكانة عند الله لن يبلغها سواهم ممن سيأتي بعدهم من الأجيال مهما بلغت طاعتهم وعطاؤهم في الإسلام، وذلك بموجب حديث النبي عليه السلام:
(لا تَسبُّوا أصحابي فوالَّذي نَفسي بيدِهِ لَو أنَّ أحدَكُم أنفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما أدرَكَ مُدَّ أحدِهِم ولا نصيفَهُ)
ورغم هذا.
فإن العابد المتمسك بدينه في أزمنة الفتن سيكون له استثناء غير تقليدي بأن يبلغ أجر خمسين صحابيا دفعة واحدة بكل ما يشتمله هذا الأجر من مزايا لا تخطر على بال
وذلك لأن العبادة والطاعة والتمسك بالدين في زمن الفتن هو بطبيعته من أصعب الأمور على النفس، لا سيما في ظل انتشار الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف بعد انقلاب الأخلاق والمُسَلّمات، وبالتالي أصبح الملتزم بالطاعة يجد من معايرة المجتمع وحربه عليه، ما كان يجده العصاة وأصحاب الفواحش في الزمان القديم.
وهذا من علامات الساعة الصغرى حيث جاء عن أهل العلم مقولة معبرة تصف هذا الأمر وهي:
(ليأتين على الناس زمان يُعَيَّر المؤمن بإيمانه كما يُعير اليومَ الفاجر بفجوره حتى يقال للرجل إنك مؤمن فقيه)
وقد حدث هذا بالفعل!

وبالتالي يجب علي المسلم المحافظ على الحد الأدنى من العبادة، أن يستبشر بهذه الطاعة لأن جزاءها لا يفوقه جزاء أي جيل من أجيال الأمة.
بل إن الجزاء لا يقتصر على أن أجر العابد سيكون مساويا لأجر خمسين من الصحابة، بل جاء عن النبي عليه السلام ما هو أعز وأكرم حيث قال عليه الصلاة والسلام:
(الْعِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ.)

وهذا جزاء بالغ العظمة، لأن الله عز وجل جعل من هجرة الصحابة إلي النبي عليه السلام قبل فتح مكة أجر أعلي ومكانة أقيم بكثير ممن أسلم بعد الفتح، وقد جعل الله ترتيب الأفضلية في الصحابة على ثلاث مستويات، فأعلاها وأعظمها هو مستوي (المهاجرين)، لأنهم تركوا أموالهم وديارهم وهاجروا وجاهدوا مع النبي عليه السلام في زمن حربه مع قريش.
والمستوي الثاني جعله الله تعالي في (الأنصار) باعتبارهم الذين آووا ونصروا المهاجرين وقاسموهم أموالهم وديارهم وتجارتهم، والمستوي الثالث والأخير وهم (مُسْلِمة الفتح)، والذين أسلموا عند فتح مكة وعفا عنهم النبي عليه الصلاة والسلام فانضموا لمفهوم (الصحابة) في المجمل.
وهذا الترتيب هو الذي ورد في آيات القرآن الكريم في قوله تعالي:
[وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {الحديد:10}
وأيضا في قوله تعالي:
[لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ(9)]. {الحشر}.
وبفتح مكة انتهي مفهوم (الهجرة) تماما، ولم يتجدد فتح هذا المفهوم مرة أخري إلا للمسلمين في زمن الفتنة وفق نص الحديث الشريف
(العبادة في الهَرْج، كهجرة إليّ)
والهَرْجْ هو انتشار فتن القتل والهلاك العام، وانتشار الفرقة والتناحر وسفك الدماء، ولا شك أننا نشاهد في عالمنا اليوم آلاف الضحايا ممن لا يدرون فيم قتلوا وبأي مبرر؟!
وحولنا أوطان كاملة تحولت إلى يُبَاب وخراب، ولا يوجد مبرر منطقي لحدوث هذا إلا الفتن العمياء والتجارة بالدين والتجارة بالأوطان!
وعليه.
فالمعيشة في زمن الفتن في ظل التمسك بالحد الأدنى من التقوى هي كرامة عظيمة لمن وفقه الله تعالى للانتباه لها والعمل على الدخول في بشارتها النبوية.

ولكن هذا مع الضابط الهام الذي ينبغي للعاقل أن يضعه نصب عينيه، وهو الحرص التام في عدم التورط بلسانه أو بفعله في الموبقات التي تنسف جزاء طاعته، وتبطل عمله.
كذلك من أهم وصايا النبي عليه الصلاة والسلام في زمن الفتن، هي الاعتزال الإيجابي أولا، فإن لم يستطع فعليه بالاعتزال السلبي
وقد سبق أن أوردنا هذه الوصية في حديث النبي عليه السلام لحذيفة بن اليمان أن يعتزل بدينه عن كافة الفرق، وضرب له المثل بأن يفعل ذلك ولو اضطر إلى أن يعض على أصل شجرة حتى يدركه الموت.
ولا شك أن هذه الوصية وردت بهذا التشديد في زمن (الفرقة) لكثرة انتشار الصراعات على الباطل، وانعدام الحق بين سائر الفرق المتناحرة.
وقد يعترض البعض بأن فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هي فريضة واجبة على الأمة، وجعلها الله تعالي في القرآن الكريم أهم أسباب خَيْرِيتها وتميزها على بقية الأمم وذلك بموجب قوله تعالي:
[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}

فنقول بأن هذه القاعدة هي الفرض المفروض في الأحوال العادية على الأمة، أما في أزمنة الفتن فهي حالات استثنائية عالجها القرآن وعالجتها السُنة المشرفة بنصوص خاصة بها.
فالله عز وجل قال أيضا في كتابه:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {المائدة:105}
وقد قال (ابن كثير) في تفسيره كلاما نفيسا يشرح الفارق بين الأحوال العادية للأمة والتي يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبيا، وبين أحوال الفتن وتفرق الجماعة والتي تنطبق فيها قاعدة (عليكم أنفسكم) فجاء في التفسير عن هذه الآية الكريمة ما نصه:
(وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله
} يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم {
فقال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة. ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا -أو قال: فلا يقبل منكم – فحينئذ" عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل"
ورواه أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله:
} يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم {الآية ،
قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله:
ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول:
} يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم {الآية.
قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مه، لم يجئ تأويل هذه بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي -صلى الله عليه وسلم -بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا، ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعا، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه،)

وحديث (ابن مسعود) رضي الله عنه واضح تام الوضوح في إبراز وجوب الاعتزال عندما يحين زمانه وتحين علاماته وهي اختلاف القلوب والأهواء والتفرق والتشرذم والصراعات بين المسلمين وبعضهم البعض وانعدام اجتماع كلمتهم على أمر واحد.
ويُسْتثني من حالة الاعتزال التام أهل العلم، والذين يكون من واجبهم إظهار الحق، ودفع الشبهات، وتعليم الناس الأصول الصحيحة للدين، فهؤلاء لا يجوز لهم الاعتزال لأنهم هُدَاة المجتمع.
ولكن وفقا لحديث (ابن مسعود) فإنه حتى العلماء يجوز لهم الاعتزال أيضا والسكوت في حالة واحدة وهي أن يتم الرد عليهم برفض سماعهم، ورفض إرشادهم، ومنعهم من البيان، عندئذ يطبقون نص الآية ويكتفون بإصلاح أنفسهم وإصلاح من يستمع منهم أو يقبل، أما غير ذلك فلا يحملون أنفسهم ما لا يطيقون طالما واجهوا حالة من الرفض العام في المجتمع.
وهذا حدث ويحدث في المجتمعات الإسلامية بمختلف أقطارها بأساليب مختلفة، حيث أصبح المنادون بالاستقلال المعرفي والداعين للالتزام بالقرآن والسنة غرباء عن مجتمعاتهم، معتكفون في مكتباتهم وبين كتبهم يعانون الرفض والإهمال، وإذا تكلموا واجهوهم بالسب والطعن والاتهام.
ولهذا انطبق عليهم وصف (الغرباء) الذي وصفهم به النبي عليه السلام بقوله:
(بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)
وفي رواية أخرى:
(قيل: يا رسول الله! من الغرباء؟
قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)
ومفهوم (الغربة) هنا أتي من مفهوم (الاعتزال)، والذي يجعل من الإنسان الملتزم، إنسانا منعزلا وغريبا عن الطبائع العامة في مجتمعه، وهذا ما يعانيه وسيعانيه كل من حضر وعاش في زمان الفرقة والفتن.

وقد يعترض البعض أيضا بحديث النبي عليه السلام:
(المؤمِنُ الذي يُخالِطُ الناسِ ويَصبِرُ على أذاهُمْ، أفضلُ من المؤمِنِ الَّذي لا يُخالِطُ النَّاسَ ولا يَصبرُ على أذاهُمْ)
وبالمثل.
فالحديث ينطبق نصه على الأحوال العادية التي تكون فيها الأمة متفقة الكلمة بشكل عام، أو حتى بشكل جزئي، أما عندما تنقسم إلى عدد لا نهائي من الأهواء والفرق والجماعات والحكومات، ويصبح من المستحيل أن تجد أسرة واحدة يتفق أهلها علي أمر واحد دون اختلاف، فلا شك أن هذا الزمان هو زمان فُرْقة ينطبق عليه الاستثناء الذي يكون له تطبيق آخر وهو نص حديث (حذيفة ابن اليمان) السابق الإشارة إليه.
والأذى المحتمل المشار إليه في الحديث، هو كل أذى يلاقيه المؤمن في غير العقيدة، أما الأذى الذي يفتن الناس عن دينهم ويشككهم في عقيدتهم فليس للمؤمن فيه أن يخالط من يرتكبونه أو يتحمل أذاهم، بل المفروض هو العكس، اعتزالهم وهجرهم وفق أمر الله تعالى في كتابه العزيز:
[وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا] {النساء:140}

كذلك من أهم الوصايا التي وردت إلينا عن طريق الصحابة والأئمة والعلماء، هي ضرورة أن يتميز المسلم بالذكاء الإيماني.
والذكاء الإيماني معناه في أصل الحرص على معرفة وتطبيق أبسط الأعمال الصالحة جُهدا، وأعظمها أجرا.
وأيضا معناه إدراك واستغلال الموهبة والميزة أو النعمة التي عندك في نفع الناس، فالمجتمع يوجد به أُناسٌ عاديون، وآخرون مميزون بميزة خلقها الله تعالي فيهم في موهبة يجيدونها، أو نعمة يمتازون بها عن غيرهم.
وبالتالي فإن الذكاء الإيماني يقتضي أن يُركز في استغلال هذه الموهبة أو النعمة لخدمة الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لأن الله عز وجل جعله مميزا بها لهذا الغرض أصلا.
وبالتالي فليس عليه أن يغرق في نوافل العبادات ويهمل استغلال ما أنعم الله به عليه من تحقيق مصالح المجتمع.
فإن الذي يتعبد إلى الله بخدمة عموم الناس، أفضل بمراحل من المتعبد بالنوافل والعبادات الخاصة الذي تعود بالنفع عليه وحده لا المجتمع، ومعروف بالطبع أن التعبد بنفع المجتمع أفضل كثيرا من التعبد بالنوافل.
وقد جاء في كتاب (إحياء علوم الدين)، للإمام (الغزالي):
(قيل لبشر الحافي:
إن فلاناً ــــ الغني ـــ كثير الصوم والصلاة،
فقال: المسكين ترك حاله، ودخل في حال غيره! وإنما حال هذا: هو إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه، ومن صلاته لنفسه، ومن جمعه للدنيا، ومنعه للفقراء !!
وقال ابن مسعود:
في آخر الزمان يكثر الحج بلا سبب، يهون عليهم السفرُ، ويُبسط لهم في الرزق، ويرجعون محرومين مسلوبين، يهوي أحدهم بعيره بين الرمال والقفار، وجاره مأسور لا يواسيه
)

فإن العابد الغني لا ينبغي أن ينشغل بالنوافل وحدها، ويترك الوظيفة الأهم التي خلقه الله تعالى لها ألا وهي السعي في إعالة المحتاج وتفريج أزمة المكروب بماله.
وبالمثل فإن المسلم الذي رزقه الله نفوذا ومكانة في المجتمع، فهذا قد يَسّر الله له سهولة قضاء حوائج الناس بأكثر مما يستطيع غيره، وبالتالي فإن جعل سعيه في ذلك كان له أفضل أجرا من العبادة الشخصية بالنوافل.
وأيضا المسلم الذي رزقه الله العلم الصحيح، والفهم والأسلوب في نشر المعرفة الصحيحة في الدين، فهذا قد رزقه الله بأفضل النعم، فلو أنه انشغل بهذا العلم وجعله في رد الشبهات عن الدين، وتعليمه للناس وإرشادهم، فإن الأجر الذي سيلقاه عند الله ــــ ليس أعظم من العابدين المحافظين على النوافل ـــ بل أعظم حتى من المجاهدين أنفسهم والذين يبذلون الدماء للدفاع عن أوطانهم.
لأن الجهاد يكون نفع الناس فيه على مقدار المعركة أو القتال، بينما نفع نشر العلم والدفاع عن السُنة هو جهاد عام يبقي أثره على امتداد الزمان على عموم الناس.

وليس معنى هذا الكلام أن يكف المرء عن النوافل من الزيادة في الصلاة والحج والعمرة، ولكن المطلوب منه أن يُوّظف نفسه توظيفا يليق بالموهبة التي وهبها الله له.
وقد سبق أن ذكرنا حديث النبي عليه الصلاة والسلام في ذكر أفضلية السعي في قضاء مصالح الناس وكيف فَضّلها النبي عليه السلام على الاعتكاف في المسجد النبوي شهرا!

والوصايا السابقة كلها إنما ينجح في تطبيقها من وفقه الله تعالى إلى ذلك بصدق النية، مصداقا لقوله تعالى:
[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] {العنكبوت:69}
لأن نية النجاة هي التي تحكم رغبة المرء حقا، فليس كل من عَبّرَ بلسانه عن رغبة النجاة بطالبٍ لها أو ساعٍ إليها إن لم تكن رغبته تلك أقرب إليه من حبل الوريد، فلا رغبة ولا نية.
كُلنا قائلٌ برغبته، معبرٌ عنها، لكن هل تعمقنا في أنفسنا فأدركنا هدفنا حقا، أم أن الأمر لا يعدو إلا كونه محاولة لإرضاء الضمير وفقط؟

تلك هي المعضلة الحقة إخلاص النية وإدراك معية الله وقربه تعالى منا إلى أقصي درجات القرب.
وأهم ما فيها هو تنفيذ المسلم لأهم شرط في الإيمان عند أداء الفرائض وعند الالتزام بالنواهي، هذا الشرط هو (تعظيم أمر الله)
وهو ليس أمرا هينا، بل أمر وجوبي ووجودي في الدين، فتعظيم أمر الله معناه تقديس الأمر والنهي الإلهي وتعظيمه حتى لو كان هناك تقصير منك في أداء الأمر أو الامتناع بالنهي، فلا تدع تقصيرك دافعا للاستهانة بالأمر والنهي بل يجب إنزالهما في قلبك منازل الخشية مصداقا لقول الله تعالي في وصف المؤمنين.
[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] {الأنفال:2}
وبعدها، لا خشية كما أسلفنا القول، ولا خوف، وكُن كيف شئت طالما أنك أدركت منزلة الخشية لله حقا، وهذا يقودنا إلى إدراك واحدة من أكبر الكوارث التي تحيق بالمجمعات الإسلامية وهي أزمة اليقين المفقود



قديم يوم أمس, 11:03 PM
المشاركة 13
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان

الفصل الثالث:
أزمة الخط المستقيم

من أكبر الأزمات العقلية في طريق العودة إلى الله هو محاولة العقل للعودة بغير إرشاد القلب.
فما يغفل عنه الكثيرون أن الطريق إلى الله لا يُسرع بالعاقل، ولا يبطئ بالغبي الغافل، بل يبطئ بالعاقل المتغافل
وبالعكس
فالعقل غالبا ما يكون طريقا للهلاك وهذا أمر طبيعي لأن العقل إذا سلك طريق التساؤل والعودة إلى الله طرح أمامه مفردات المادة والإدراك في أمر يعوزه العجز للاعتراف بوجود خالق قادر منعم ومتفضل
ولذا فالمقولة الشهيرة أن الله تمت معرفته بالعقل، تحتاج معها إضافة لتصبح قابلة للمنطق فيكون الطريق بالعقل والقلب، فالقلب عماده المشاعر والأحاسيس وهو الذي يضيف لمحة التأثر المطلوبة لجمود العقل.

فالعقل بلا قلب، لن يعرف الخوف ولا الهيبة ولا العجز لأن مفردات العقل بطبيعتها تُفَجّر الغرور الإنساني فتدفعه للتساؤل بلا حدود وفى غياب التأثر القلبي يستمر التساؤل إلى ما لا نهاية رافضا أن يستكين لمفردات المنطق الإلهي طمعا في منطق عقلي يقنعه بدليل محسوس ملموس!
ولذلك ضل الملحدون وغيرهم الطريق عندما قالوا بعدم وجود إله لا تدركه الحواس، وكيف يمكن أن يوجد إله لا يدركه بصر وفى هذا جاء القرآن الكريم مُترجما لتلك الحقيقة، حقيقة أن العقل وحده لا يصلح حيث يقول عز وجل:
[أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46}

هل لاحظتم التعبير القرآني: (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)
فالآية الكريمة جعلت الإدراك العقلي للقلب لا للعقل، لأن العقل هو الطريق أو الوسيلة بينما المُنَفّذ الفعلي هو القلب الذي يصدق أو يكذب النتائج
وقد تكرر مفهوم نسبة الإدراك للقلب لا العقل في آيات القرآن الكريم مثال ذلك قوله تعالى:
[أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] {محمد:24}
وضلال الملحدين والمنكرين لوجود الخالق يدحضه المنطق العقلي ذاته، حيث أن مفردات العقل ذاتها تقود إلى أن وجود الإله في محل الإدراك ينفي ألوهيته بطبيعة الحال،
بمعنى أنه لو تمكن العقل (المخلوق) من رؤية وإدراك ذات الله تعالى وصفاته، لكان هذا دليلا على قصور الخالق ــ حاشا لله ــ إذ أن الخالق لا يمكن أن يخضع لإدراك (المخلوق)، وقول الملحدين هنا يشبه أن تتمرد الآلات التي صنعها البشر على البشر أنفسهم وأن تكون في مستواهم وتدرك طبيعتهم وكيفية صناعتهم لها!
وهذا مستحيل وضد المنطق بطبيعة الحال، فإذا كان هذا الأمر غير جائز في صناعة الإنسان للمخترعات والأدوات فكيف يمكن تجويزه على خالق الكون.
ويُضاف إلى هذا أن مقولة الملحدين في أنهم يريدون خضوع الخالق لحواسهم الظاهرة، ينافي منطق العلم نفسه، لأن العقل البشري يقف عاجزا أمام بعض مخلوقات الله، فكيف يمكن تصور قدرته على إدراك خالقها؟!
إذ أن هذا الكون الذي لم نعرف منه إلا جزء بسيطا من سمائه الدنيا يبلغ مقداره 15 مليار إلى 100 مليار سنة ضوئية في الاتساع و13 مليار سنة في العمر ــ والله أعلم بالحقيقة ـــ ويبدو أمام الإدراك لغزا غير قابل للحل،
فإذا كان العقل عاجزا عن الإدراك الحسي لبعض مخلوقات الله، فكيف بالله نفسه عز وجل؟!
والعقل العلمي عجز في كافة حضارات الأرض الحالية والسابقة عن معرفة أدنى معلومة تخص (الروح)، وكيفية الموت، فرغم التقدم العلمي الهائل في أجهزة القياس إلا أن العلم البشري سيظل عاجزا أمام حقيقة الموت وعاجزا عن تفسيرها وسيقتصر علمه فقط على مُسبباتها الظاهرة دون أن يدرك كنه الموت نفسه، ودون أن يستطيع العلم إعادة الحياة حتى لحشرة صغيرة!
وسيظل العلم عاجزا عن محاكاة الإبداع في الخلية البشرية أو تكوينها معمليا بنفس صفاتها وخَلْقها!

هم بهذه الطريقة مع أمثالهم من عبدة المذاهب البشرية هبطوا بقدرات العقل إلى دركها الأسفل فخرج منهم كما رأينا ملحدون ومشركون، وصنف آخر أعجب وهم العلمانيون عندما وقفوا يدافعون عن قدرات العقل الإنساني باعتباره يستطيع بالتطور أن يطور تشريعاته بما يتناسب والتقدم العلمي الهائل الذي يرونه أمامهم ويعبرون عن ذلك بأن الدنيا أصبحت قرية صغيرة مملوكة للقدرات الإنسانية
ولعمرى إنهم في ضلالة ما بعدها ضلالة، ومن أشد إعجاز القرآن آياته التي أخبرنا عن أمثالهم في قوله تعالى:
[حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] {يونس:24}

وقد كنت أتعجب من حماقة إبليس لعنه الله وهو يتحدى رب العالمين وهو يثق تمام الثقة بمصيره الذي أخبر عنه القرآن فإذا ببعض البشر أشد منه حماقة وهم يقرءون بأعينهم ولا يفقهون بقلوبهم هذا الوعيد المباشر الصريح بأن مصدر الهلاك الأعظم للبشرية عندما تأخذ الأرض زخرفها ويظن الغافلون أنهم قادرون عليها.
ومما هو أغرب أن تلك العقول التي تتبجح بالعلم والإدراك والدفاع عن العقل تعجز عن ربط حقائق بسيطة تطرحها العقول والتجارب أمامهم وهم يرون بأعينهم هذا الكون الفريد، الذي تشغل فيه شمسنا بمجموعتها حيزا أشبه بثقب إبرة في هذا الكون الفسيح الذي لا زلت أدعو القارئ للتبصر في جزء بسيط من سمائه الدنيا يبلغ اتساعه 13 مليار سنة ضوئية في أقل التقديرات العلمية
أي حاصل ضرب 13000000000 × 12 × 365 × 24 × 60 × 60 كيلومتر
وتبلغ درجة حرارة الشمس في قلبها من7 إلى 10 مليون درجة مئوية وعلى سطح الشمس تبلغ 5600 درجة تقريبا لو نقصت هذه الدرجة بمقدار محدود، فهذا معناه بدء عصر جليدي على الأرض!، ولو زادت بمقدار محدود لاحترقت الأرض بما عليها
فأين هو مثال تلك القدرة على الضبط والإحكام ؟!
هذه الشمس بكل هذا المقدار الرهيب من الحرارة لا تستطيع أن تضيء حول محيطها إلا ما مقداره 500 كيلومتر من صفحة السماء والباقي في ظلمة حالكة،
والأكثر إثارة للذهول أن هذا المقدار من الطاقة والحرارة يعتبر أشبه بقطعة الثلج أمام النجوم العملاقة التي تعتبر شمسنا أمامها من النجوم الباهتة حيث يبلغ مقدار طاقة بعض النجوم الكبري حجم كافة نجوم مجرتنا درب التبانة في الكويزرات العملاقة!
أي أن مجرتنا بكل ما تحويه من شموس عملاقة، تعادل حجم نجم واحد من النجوم الكبري في مجرات أكثر فداحة في الحجم
فتخيلوا معي مقدار الطاقة المنبعثة من كامل نجوم السماء الدنيا ؟!
وتخيلوا السماوات السبع في مجموعها بكل من فيها وما فيها عندما نستمع إلى أقوال المفسرين عن الكُرسي الذي يستقر فوقه عرش الرحمن حيث وصف دنيانا بأنها إلى جوار الكرسي ــــ لا العرش ـــ كحلقة المغفر إذا ألقيت في الصحراء وحلقة المغفر هي حلقة الحديد التي تربط بها الدواب
وهذا وفقا لحديث النبي عليه السلام:
(ما السماوات السبع في الكرسي بالنسبة لكرسي الله إلا كحلقة ملقاة في فلاة في صحراء من الأرض وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة)
هذه الحقائق لو أننا وضعنا كوكب الأرض إلى جوارها، ما الذي يمكن أن يساويه ؟!
فإذا وضعنا الإنسان إلى جوار كل هذا الهول، ما الذي يساويه ؟!
وهل يمكن بعد كل هذا أن نقبل تبجح القائلين برفض التشريع السماوي الداعين للمنهج العلماني القائم على عدم صلاحية شريعة الله عز وجل لهذا العصر المتقدم ؟!

ولأن رب العزة لا يأخذنا بحماقاتنا فقد ترك لنا من الأدلة المبسوطة على حقارة شأن الدنيا وأهلها ـــ إلا من أدرك واعتبر ـــ عندما نلمح في أطراف الأرض نفسها ــ لا الكون بعجائبه ـــ ألغازا تتحدى قدرة العلماء من سائر أقطار العالم وهم يقفون أمامها عاجزين عن النوم وعن الحل.
والقائمة لا تؤذن بحصر حول النظام المفرط الدقة للأجرام السماوية وآثار ذلك على الأرض وما يحتشد من ألغاز علمية لا زالت رهن البحث من مئات الأعوام مثل لغز رسومات (كهوف تاسيلي) في الجزائر ومثلث (برمودا) في المحيط الأطلنطي، و(بوابة الشمس) في بيرو، وحادثة (روزرويل) وانفجار (سيبريا) العظيم، وأعماق المحيطات المليئة بالغرائب، والآثار المكتشفة لمخترعات علمية الحديثة بلغ عمرها ما يزيد عن خمسة وثلاثين ألف عام في حضارات مجهولة لنا تماما لا نعرف كم بلغ تقدمها العلمي!
هذا بالإضافة للقدرات التي تخرجها الطبيعة لنا
فإعصار واحد مثل إعصار (تورنادو) الشهير الذي يتكرر مرارا، ومع ذلك تعجز أعتى التكنولوجيا عن التصدي له لتقليل الخسائر فقط فضلا على منعها ؟!
ومن آياته أيضا أن الدواب التي تقبع بلا عقل، ومع ذلك يمكنها إدراك الكوارث الكونية والطبيعية قبلها بوقت يمتد لساعات في حين يعجز الإنسان بأجهزته ومعداته عن توقعها بنسبة صحيحة إلا فيما ندر
وهذا يؤكد على القول المأثور أن من اعتمد على عقله ضل، ولكن أين المتأملون ؟!
ولو غابوا عن تلك الحقائق كيف غابوا عن مثل هذا الوعيد في قوله تعالى:
[وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا {المزمل ـ 11 , 12}

ومن غريب الأمور أن بعض علماء الغرب الكبار وهم في الأصل أبعد ما يكون عن الدين، إلا أنهم تمكنوا بالعقل المقترن بالمنطق القلبي الحر الخالي من الغرض والهوى من ولوج باب الإيمان من أوسع أبوابه عقب التأمل في بديع صنع الله بهذا الكون ونقلت وسائل الإعلام مقولة مأثورة لأحد مشاهير العلماء في علم الفلك قال:
(إني على يقين من أن هذا المجال ـــ مجال الفلك ـــ لا يمكن لأحد أن يخوضه بعقله في غير إيمان بوجود إله أو حتما سيفقد هذا العقل)
والوصول إلى الله بطريق الإدراك العقلي السليم الممتزج بصحوة القلب يكون أفضل طرق الوصول دون شك مصداقا لقوله تعالى
[إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ] {فاطر:28}
فبلا شك أن إدراك العقل لمدى قدرة الله تعالى اللامحدودة وطلاقتها في خلقه يقود المرء ببساطة إلى أن الوقوف بالعقل أمام خالق العقل ومحاولة الاستقلال ورفض أداء العبادة والإيمان بالقرآن والسنة هو من الحماقة بمكان كبير.
هذا عن العقلاء الذين أحبوا الإنفراد بالعقل وحده طريقا دونما تهذيب لقدراته بالقلب المستعد القابل للهداية فأخذهم الكبر والغرور البشري المعهود.

ولكن ماذا عن العقلاء الراغبين الذين قادهم نفس العقل الراغب للهداية إلى التيه بدلا من الهداية؟!
هؤلاء هم للهداية طارقو أبواب، فوقعوا في الإفراط كما وقع غيرهم في التفريط، لكنهم عجزوا عن إدراك أن هذا الطَـــرْق لا يفيد حيث أن الأبواب مفتوحة على الدوام ومع ذلك يصرون إصرارا غريبا على طرقها وسماع الإذن بالدخول أولا قبل أن يدخلوها!
مع أن الإذن ممنوح لهم ولكافة المخلوقات منذ خلق الله الدنيا، وقد جاء في صريح القرآن هذا المعني.
[قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر:53}
هؤلاء الذين لم يدركوا مدى العظمة التي يمثلها كبرياء الخالق
ونعني بهم المبالغين في اليأس، المستسلمين له، الواقفين عند أخطائهم وذنوبهم بغير الشكل الذي أراده الله من الإنسان.
أولئك المؤنبين ضمائرهم بأخطائهم السابقة بشكل يجاوز الحد، بل ويمتد بهم العصف النفسي إلى ما هو أخطر إلى درجة ترك أعمال الخير مخافة الرياء وإلى حمل الهم النفسي والقنوط من رحمة الله تعالى تحت تأثير الخوف المرضي من الخطأ أو الذنب
وهؤلاء لم يدركوا حكمة الإسلام العريقة التي تقول بالوسطية دوما، لأن مبالغتهم في الخوف من الذنوب أوقعتهم فيما هو أشد ألف مرة إلا وهو القنوط واليأس
فإن كان مفروضا علينا إدراك عاقبة الذنوب والندم والتوبة، فالأشد فرضا من هذا عدم اليأس من مغفرة الله
قال تعالي:
[وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ]
{يوسف:87}
وهؤلاء لا يدركون حقيقة بسيطة للغاية تبسط نفسها أمام كل مبصر وهي أن الإنسان مخلوق على طريق الخطأ بطبيعته وليس مطلوبا من أي إنسان ألا يذنب بل المطلوب منه فقط ألا يُصِر على ذنب وإن أصر فلا يمل من التوبة ولو تكرر الذنب منه آلاف المرات.
وبإجماع العلماء بناء على نصوص القرآن والسنة فإن العبد المكرر للذنب لو كرر التوبة فهو في الأوابين أي الراجعين للحق دوما، والأوابون صفة من صفات الأنبياء أنفسهم يحبها الله تعالي في عباده
فيقول عز وجل:
[رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا] {الإسراء:25}
وقد امتدح الله نبيه داوود بهذا الوصف فقال:
[اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ] {ص:17}
فقط مطلوب من المسلم ألا يصر على الذنب اتكالا على التوبة فيستهين بذلك وينتوى مسبقا أن يستمر في الذنب وبخلاف هذا وطالما أنه لم ينتو مسبقا فالتوبة مقبولة حتما
وليس في العبادة ـــ كما قلنا ــ مطلوب منا عدم الخطأ أو العصمة
فلو أن الإنسان مطلوب وواجب عليه ألا يخطئ لما دخل الجنة أحد قط حتى الأنبياء والرسل والملائكة، والله عز وجل خلقنا لنعبده ونذنب فنتوب فيتوب علينا،
وفى هذا ورد حديث المصطفي صلي الله عليه وسلم قائلا:
(والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم.)
ولو أن طبيعة خَلْقْ الإنسان كان فيه الإلزام بالعمل الصارم بلا خطأ لكان معناه أن البشر تدخل الجنة بعملها وتدخل النار بتقصيرها وهو ما يُعَد أمرا مفروغا من نفيه.
بل حتى الملائكة وهم خلق لا يعصون الله ما أمرهم لا يدخلون بهذا العمل وقد ورد في التفاسير أن هناك من الملائكة من هو ساجد لا يقوم وراكع لا يرفع وتقوم الساعة عليهم وهم على هذه الحالة قائلين:
(ما عبدناك حق عبادتك)

فما أعجب المتنطعين الراغبين في تعذيب أنفسهم بما لم يرتكبوه بعد وكأن الله تعالى لم يقل في كتابه العزيز:
[مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا] {النساء:147}
فالله أكبر من هذا وأعظم وأَجَل من أن يقف بالحساب أو يبالي، وكما أن الله تعالي لا يقبل التفريط، فهو أيضا لا يقبل الإفراط
والمطلوب من المسلم ألا يطمئن ويغتر بعمل صالح وفقه الله إليه، وفي نفس الوقت مطلوب منه ألا ييأس من رحمة الله على ذنب وقع منه.
فليس على المسلم إلا إخلاص النية وعدم الشرك بالله والإيمان التام الخالص لوجهه وبعدها ليس مطلوبا منه إلا السير بطريق الإخلاص في النية وهي أخطر ما يطلبه الله عز وجل حيث أن الإخلاص جعله الله سرا مخفيا حتى عن الملائكة والشياطين وجعله الطريق الوحيد للنجاة.
أما الأخطاء والذنوب فهي عوارض الحياة اللازمة لها مهما فعلنا وما علينا إلا تفادى العمد فيها وحسب.

ومن خلال التأمل في خلق الكون وطبيعته يلفت نظرنا أن طبيعة الكون نفسه تحمل هذا المعني.
فعلماء الفلكيون قرروا أن الكون ــ خارج حدود الأرض ــ لا يعرف الخط المستقيم قط،
بل كل ما فيه عبارة عن منحنيات حتى الأجسام التي تطرق الفضاء يُجْبرها الفضاء الكوني أن تستسلم لسلوك المسار المنحنى أو الدائري أو الأسطواني ولهذا أيضا وصف القرآن الصعود في السماء دائما بلفظ (العروج) ولم يصفه بلفظ (الصعود) قط
لأن العروج معناه المسار الدائري أثناء الارتفاع إلى أعلي، بينما الصعود معناه الارتفاع بخط مستقيم، لهذا جاء وصف الارتفاع إلى السماء بلفظ العروج وحده ومن ذلك قوله تعالي:
[تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ] {المعارج:4}
وقال أيضا:
[وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ] {الحجر:14}

ولهذا قال العلماء عبارتهم السابقة أن الكون لا يعرف في هندسته الخطوط (المستقيمة)،
ومن باب الفائدة اللغوية نقول إن لفظ (الاستقامة) محل نظر وتعديل، لأن العلماء أرادوا بها وصف (الخط المباشر) غير المنحنى أو المنكسر ووصف (المباشر) في اللغة العربية، يختلف جذريا عن (المستقيم) لأن الاستقامة معناها الانتظام في المسار بغض النظر عن شكل المسار مباشرا أو منحنيا، والمباشر معناها السير في خط ممتد إلى الإمام لا ينكسر.

فالأرض مثلا تدور في فلك منتظم مستقيم لا يختل في مساره شبه الدائري حول الشمس، وكذلك سائر الأجرام السماوية، ومسارها مستقيم ــــ أي منتظم ــــ رغم أنه ليس مسارا مباشرا على خط واحد
وهذا يقودنا للربط بين التعبير الفلكي، والحقيقة التي نحن بصددها أن الاستقامة المطلوبة من البشر ليست معناها السير في خط مباشر لا يختل يمينا أو شمالا لأن هذا ضد طبيعة الخلق الإنساني القائم على الخطأ والسهو والكبر والنسيان
فضلا على أن الاستقامة المطلوبة من البشر لو أنها تعنى السير المباشر لكان معنى هذا دخول الناس للجنة بأعمالها كجزاء طبيعي لعدم انحناء المسار في انتظامه على الحسنات وحدها، وهو ما يعد غير متحقق بشكل قاطع كما رأينا في أدلة القرآن والسُنة
وبهذا الشكل فحتما هناك مقصود ومدلول مختلف لمعنى الاستقامة في القرآن الكريم في قوله تعالى:
[فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] {الشُّورى:15}
فالاستقامة هنا معناها الالتزام بأوامر الله بعد الإيمان والتوكل عليه في الحساب، لأن المسار بطبيعته للإنسان لا يمثله الخط المباشر بل الاستقامة فيه هي المسار المنحنى بلا خلاف والفارق يكمن في الطاعة بحسب انتظام هذا المسار المنحنى ذاته
فليس مهما أن تُزايد على نفسك بالطاعة والحذر بقدر ما هو أهم أن تنتبه لحقيقتين وهما
الأولي: أن تسلك طريقك مخلصا النية في عدم الوقوع في الخطأ،
والثانية: أن توقن تمام اليقين أن كل ما فعلته وما ستفعله هو لا شيء أمام نعمة الله تعالى لأن الغرور بالنعمة أو العمل أو العلم هو طريق إلى جهنم بلا جواز سفر
لذلك على الذي يرهق نفسه بالخشية من الخطأ أن يجعل تلك الخشية قاصرة على ما هو أولى ألا وهو الخشية منه جل وعلا ألا يقبلنا يوم الحساب، والله عز وجل ذو رحمة وفضل لا ينفذ قط ولا يمل الله حتى تملوا.
وإنه من المثير للدهشة أن الإنسان يمل والخير أمامه أضعاف الشر وسبل النجاة عديدة وسبيل الهلاك واحد فقط.
بينما الشيطان لا يمل قط ولا ييأس ويبذل الجهد أعواما لينال من الإنسان عثرة واحدة، وبعد كل هذا الجهد المضنى قد يعود الإنسان إلى رشده فيستغفر الله فيضيع عمل الشيطان كله بضربة واحدة.
ومع ذلك لا يمل ولا يكل!
فهلا عدنا لأنفسنا في لحظة صافية، لنتعلم كيف نعود لله عودة شافية

تم بحمد الله


مواقع النشر (المفضلة)



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه للموضوع: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اسباب الفتن ودوافعها اعزاز العدناني منبر الحوارات الثقافية العامة 0 02-07-2022 12:21 AM
تعدد النيات أبوفؤاد منبر الحوارات الثقافية العامة 5 05-27-2021 02:14 AM
مفتاح النجاة نورا نور الدين منبر الحوارات الثقافية العامة 3 08-27-2013 11:31 AM

الساعة الآن 12:32 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2021, Jelsoft Enterprises Ltd.