عرض مشاركة واحدة
قديم 02-13-2023, 09:41 AM
المشاركة 3
ثريا نبوي
المراقب اللغوي العام
الشعراء العرب

اوسمتي
الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الثانية التميز الألفية الأولى القسم المميز شاعر مميز المشرف المميز 
مجموع الاوسمة: 8

  • موجود
افتراضي رد: الحمار الذكي والحمار القوي
كانت الأجواء ربيعية في تلك البلدة الرّيفيّة الهادئة، (وفي) صباح أحد الأيّام قرر تاجر التوابل المعروف في البلدة أن يبتاع له حمارًا (قويًّا) يعينه على نقل البضائع من مخازنه إلى متاجر السّوق، قصد سوق الحمير الكائن في البلدة القديمة وطفق يبحث عن حمارٍ قويّ يساعده في جرّ عربة البضائع ويكون قادرًا أيضًا على تحمّل إنجاز أكثر من نقلة في اليوم الواحد.

وأخيرًا وجد ضالّته - بينما يبحث في السّوق- ذلك الحمار (القويّ وقد بدت) على ظهره ملامح الاستقامة والقدرة، وهو ما يزال في مقتبل العمر، ولم يتزوّج بعد، هذا واضح تمامًا من كونه لا يرافق عائلته معه في حظيرة تاجر الحمير ذاك!

كان الحمار القوي (معتدًّا) بقوّة ظهره ونضرة شبابه وعظيم اصطباره على حمل البضائع ونقلها بسرعة ينافس فيها حمير البلدة، وكان دائمًا ما يرتفع صوت نهيقه في السّوق باحثًا عن أوّل مَن يُقدّر كلّ هذه السمات، فهو ما يزال حديث التخرّج من مزرعة مالكه بعد أن ولد فيها لحمارين قويين شاء الزمان أن يهرما بعد أن قضيا عمريهما في خدمة مالك المزرعة. وبعد (ولادته) درّبه مالك المزرعة على حمل المتاع وسرعة المشي ورشاقة التنقّل في تضاريس البلدة المتعددة، وكان التزامه في مرحلة التدريب سببًا في سرعة نموّ عضلات ظهره وأطرافه، فسبق مَن هُم في مثل عمره من الحمير في أن يقوم صاحب المزرعة ومالكه بترشيحه ليتم بيعه في سوق الحمير. وأخيرًا سيتحرر من عالم المزرعة الصّغير الحقير ليدخل عالم التجّار والدكاكين الكبيرة.

نظر التّاجر إلى الحمار القوي وصاح على صاحبه:
* بكم هذا الحمار؟
** ثلاثمئة درهم
* قد اشتريته!!
نظر الحمار القويّ إلى رفاقه الحمير نظرة الفائز المتباهي وقال:
لكلّ مجتهدٍ نصيب! حتوحشوني !!

امتطى التّاجر حماره القوي الجديد وأسرع عائدًا إلى مخزن البضائع، ركّب العربة على ظهر الحمار وحمّل ما أراد توزيعه في ذلك اليوم على دكاكين البلدة في سوق التوابل ثمّ ربت على عنق الحمار مشجعًا ومتفائلًا به:
اليوم يومك يا قوي.. أرني كم سيحتمل هذا الظّهر.. ولك منّي وجبة (شَعيرٍ) مسائية تنسيك عناء يومك!

بدأت رحلة الحمار القويّ في مساره الوظيفيّ، ولم (تكن) الدّنيا (لتَسَع) فرحته وهو ينهي يومه الأوّل ويحصل على ما (وُعِدَ به من) طعام في نهاية يومه الأوّل، فقد أنهى ثلاثين رحلةً (إلى) السّوق دون أن تظهر عليه ملامح التّعب أو أن يقلّل من سرعته واتزانه.

وبعد شهور من العمل عند تاجر التّوابل، بدأ الحمار يفكر (في) الاستقرار، فانتقى له زوجةً يضمّها (إليه) لتعينه على بناء أسرة ولتعدّ له ما يعينه على حياة الكدّ والتّعب، ولا تزال حصصه من (الشعير) تزداد يومًا بعد يوم وقد منحه تاجر التّوابل رتبة حمارٍ أوّل وابتاع له سرجًا من فضّة، وأربع حذوات من الفولاذ المطليّ بالذّهب، وقد (خصص) له حظيرةً أكبر تتسع له ولأفراد عائلته، وما لبث الحمار القوي أن أنجب جحشًا وفلوةً وبهذا فقد كبرت العائلة وأصبحت بحاجة إلى حصص جديدة من البرسيم، وعليه إذن أن يزيد من عدد النّقلات بين المخزن والسّوق، فما كان منه إلا أن اجتهد أكثر وصابر أكثر لتحقيق هذا الهدف ولتأمين قوتِ عائلته (واحتياجاتها) الكثيرة، فلم يقتصر الأمر على البرسيم؛ ولكنّ الكثير من الكماليات، (كان ضروريًّا) لتعيش العائلة في مستوًى يليق بالحمار القويّ ذي الرّتبة الرّفيعة.

ومع مرور السّنين وتقدّم سنّ الحمار، بدأ (يضعُفُ وتقل) سرعته وعدد نقلاته، فلم يعد ينجز أربعين نقلةً في اليوم ولم يعد (متزنًا) كما كان، وفي يومٍ من أيّام الشّتاء الباردة أصابت الحمار حمّى طرحته فراش المرض، مما اضّطرّ تاجر التّوابل إلى استئجار حمارٍ آخر ليقوم بنقل البضائع ريثما يصحّ الحمار القويّ، وقد كان الحمار الجديد ذكيًا حادّ الذّكاء (ذا) نظرة مستقبلية ثاقبة وفطنةٍ لا تغيب وقوّة ظهرٍ لا تخور، كيف لا وهو في مقتبل العمر ولا هدف له إلا التحرّر من صاحبه اللئيم الذي يغريه بالجزرة أثناء امتطائه إلى مراده، ثمّ لا يُلقمه إيّاها حتى يعودا (إلى حيث) انطلقا فيظلّ الحمار الذّكيّ رهين الجزرة الشّهيّة لا ينالها إلا بشقّ الأنفس، فأيّ حياةٍ هذه؟!

بدأ الحمار الذّكيّ (في) التّفكير أثناء رحلاته الكثيرة المتعددة بين مخزن تاجر التّوابل وسوق البلدة، تعمّق في التفكير، وجعل يجمع البيانات حول وضعه المعيشيّ، فمثلًا حسب كم رطلًا من البرسيم يحتاج في اليوم والليلة، وبهذا عرف بذكائه كم من الدونمات يحتاج ليزرع البرسيم كي يكفي نفسه قوت شهرها، فخطرت له فكرة، وكانت الفكرة تتلخّص في أن يستغل روثه في زراعة حبوب البرسيم، فليس كلّ ما يأكله الحمار الذكيّ يتم هضمه، وهناك دائمًا حبوبٌ زائدة تخرج مع الرّوث وبهذا لو استطاع أن يخرج روثه في أماكن يستطيع تذكّرها لعرف وقت الرّبيع أين يجدها فيأكل(مما نبتَ فيها).

وبعد عدّة أسابيع، شُفي الحمار القويّ، وكان قد بدأ تاجر التوابل بتجهيز سرجه ليباشر عمله بعد غياب، وقد كان ذلك أثناء تجهيز الحمار الذّكي للعودة إلى صاحبه، وقد بدت على ملامح الحمار الذكيّ آثار السّرور والتفاؤل! فأثار بذلك فضول الحمار القويّ ليدور بينهما هذا الحديث:
- ما الذي يجعلك مسرورًا هكذا وقد فقدتَ عملك!!
= إنني لا أعمل من أجل البرسيم، ولكنني سأجعل البرسيم يعمل من أجلي.
- ههههه ما هذا؟! (لقد والله) فسد الزّمان واقتربت السّاعة! وكيف ذلك أيّها المتحذلق!
= ببساطة، سأسقِط البرسيم في فضلاتي على تربة خصبة، ثمّ ينبت، فأتناول منه ما يكفي حاجتي ثمّ أجعل ممّا بقي تجارةً لي، أبيعه لحمار أحمق لا يستقرّ فكره إلا عند جزرة صاحبه!!
وبهذا أتحرّر من حاجتي لمالكي وأعيش حياةً سعيدة بعيدًا عن حمل البضائع وتوبيخ صاحبي اللئيم!

لم يفهم الحمار القويّ مغزى القول، ولكنه شعر بالإهانة كونه لم يفهم! ولو فكّر قليلًا خارج صندوق البرسيم، لعرف المغزى .. ولكن