عرض مشاركة واحدة
قديم 01-12-2014, 09:17 AM
المشاركة 473
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
والآن مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية – 21- موبي-ديك، للمؤلف هيرمان ميلفيل.

- القطب الأول في هذه المعركة وبطل الرواية الرئيس هو القبطان أيهاب، قبطان سفينة الباقوطة التي تم تحديد مهمتها من قبل ملّاك السفينة باصطياد الحيتان والانتفاع من زيت العنبر.

- كان لملاك السفينة ثقة مطلقة في القبطان أيهاب الذي يوصف بأنه الرعد، وسيد البحار والملك المتوج على المحيطات والحيتان. ولكن أبداً، ملاّك السفينة الأرامل والأطفال لا يستطيعون الدخول في عمق النفس البشرية ليعرفوا أهواءها والجحيم الذي تستعر بها.

- خرج القبطان أيهاب بصحبة بحارته وفي ذهنهم أن هذا الأمر هو الذي سيتم، أي اصطياد الحيتان. ولكن أيهاب، كان له هدف آخر من هذه الرحلة. في إحدى رحلاته الماضية وهو يصيد الحيتان، وجد أمامه كائن خالد لا يستطيع إزاحته. حوت أبيض كأنه الرخام، يحمل على جسده تاريخ التحويت: رماح وجثث وقتلى ودماء. كان لأحد قادة التحويت في تلك الأيام الرغبة الهائلة في المجد وتحقيق فرديته بتحطيم هذا الملك المتوج على البحار. انقض برمحه على الحوت وسعى في حنق عشوائي بشفرة تبلغ ست بوصات إلى أن يستل حياة الحوت الأبيض من أعماقه السحيقة، ثم حدث الشيء الذي غير كل شيء. طوّح الحوت الأبيض، – موبي ديك – فكه السفلي الذي يشبه المنجل وحصد به رجل أيهاب كما يقتص الحصّاد سنبلة من الحقل. فأضحى القبطان أيهاب برجل واحدة: يسعى بين البحار والمحيطات وهو لا يفكر إلا بشيء واحد: هو هذا الكائن الذي جعله في حالة يرثى لها من البؤس. الكائن الذي أخذ منه ما هو مهم لكل بحار، أصبح يحمل عاهته هذه أمام الناس والبحارة والموانئ كتحذير وإشارة بأنه يستطيع صيد أي حوت، لكن لن يستطيع مجرد التفكير بأن يعيد تلك الكرة مرة أخرى مع الخالد الهائل موبي ديك: الحوت الأبيض. ولكن الحوت لا يتعامل مع كائن لا يعقل! ها هو أيهاب يشاهد عدوه وهو يسير أمامه بعدما اقتص من جسده. لم يسجد أمامه خاشعاً. ينمو حقد إيهاب ويزداد ضغينة تجاه موبي ديك الذي كان مسئولا عن مصابه الجسماني كله وعن مرارة الحزن التي استولت على عقله وروحه. اشتعلت في نفسه الثورة الناقمة عليه وهو يتلمس مدى التشويه في جسمه وروحه. رأى هذا القبطان ذو الرجل الواحدة كل ما يثير الجنون ويستفز العذاب، وكل حقيقة يستكين فيها الحقد وكل ما يحطم القوى العقلية ويشوي الأدمغة، وكل ضروب الشيطان الماكرة التي تعيش في الحياة والفكر، رأى كل هذا، أي كل الشرّ مجتمعاً قد تمثل كائناً مرئياً يمكن له أن ينقض هاجماً عليه في صورة موبي ديك. وفوق جسد الحوت الأبيض، جمع القبطان إيهاب كل الغضب والكره اللذين جريا في نفوس بني جنسه منذ عهد آدم ثم فجر قنبلته الملتهبة على ذلك الجسد. هذا المسّ، وهذا الجنون، وهذا الغضب الهائل المرعب، لم ينشأ هكذا دفعة واحد. كانت كبذرة صغيرة، ثم أصبحت بعد سنوات شجرة ضاربة في الأعماق: جذورها الألم، وأوراقها الغضب والكره والحقد والانتقام. بعد أن فقد رجله لم يشعر إلا بالتمزق الجسدي المؤلم ولا شيء سواه.

- غير أن أيهاب حين أجبره الفقد المؤلم للعودة نحو الوطن، وحين استلقى هناك أشهراً طويلة ممداً هو والعذاب في أرجوحة واحدة، في ذلك الوقت، ( ويا لبراعة التحليل السيكولوجي التي يمتلكها ملفيل!) أقول: حدث نزيف في أيهاب.

- نزيف مختلف وفريد. تسرب النزيف الدموي في جسد أيهاب إلى روحه الجريحة، وتمازج النزيفان معاً، فجعل اختلاطهما اختلاطاً مجنوناً، وغاص في عمق أيهاب الذي أصبح صامتاً كأن لا ألم يسكنه. لكن غضب وجنون أيهاب لم يهدأ، وإنما انكمش وغار في أعماق سحيقة في روحه، واستولى عليه الجنون وأخذه أسيراً نحو هدفه المنشود: موبي ديك، وأصبح يمتلك أضعاف القوة التي كان يمتلكها إبان تعقله قبل أن يخسر جزء من جسده. ومن أجل هذا الغضب والانتقام الذي يجب أن يخرج من روح أيهاب، سوف يبحث عن الحوت الأبيض موبي ديك، وسيطارده حول رأس هورن وحول الدوامة النرويجية وحول شعلّ الهلاك والدمار، سيغزو المحيطات من جديد وسيرسم خارطة يتوقع فيها أين يتجه هذا الحوت وأين سيصادفه، وإذا واجهت الريح سفينته ومنعته من الإقدام على عمله الجنوني، سوف يقف في وجه الرياح، ويهاجمها ويطلق كل جنونه حتى يطوّح برمحه الذي بناه من الصلب والدم، رمحاً هائلاً لا هدف له إلا جسد موبي ديك الذي آن له أن يهتز ويرتعد. وتسير الرواية في هذا الشأن.

- هذه القصة بطابعها الثأري الغاضب من الممكن طرحها في مائة صفحة أو مائتين بالكثير. ولكن هيرمان ملفيل يعطي هذه القصة التي تدور في المحيط أبعاداً أخرى، فنرى هناك أبطال آخرين: هي النصوص العلمية والفلسفية والدينية وشتى العلوم الإنسانية التي زج بها ملفيل في روايته هذه إلى درجة من الممكن وصف هذا الكتاب بموسوعة الحيتان.

- وهي إلى ذلك قصيدة جميلة ومرعبة للماء الذي يتشكل طبقاً لما يجده المرء فيه. إن أيهاب الذي كان يحمل فكرة الانتقام تلك في روحه وعقله كان يجد المحيط محارباً ومبارزاً له.

- إلى أن حدث التحول الرهيب -غير المؤثر- في نفس القبطان أيهاب في فصل السيمفونية، وقبل المعركة الفاصلة بين أيهاب والحوت. هذا الفصل ضربة معلم من هيرمان ملفيل.

- طوال صفحات الرواية لا يجد القارئ أمامه إلا كائن إنساني غاضب بلغ منه الحقد والكره والثأر درجة لا يمكن من خلالها طرح شبيه له للتدليل عليه.

- فكل هذه العواطف البشرية المدمرة امتزجت فيما بينها مع تصميم نهائي على الحرب والانتقام.
- أليس أيهاب إنسان في الأخير؟ ألا يحق له أن يصل إلى هذه الدرجة من الحقد والكره! ولكن أين أيهاب الآخر؟ أيهاب الإنسان العادي الذي يحب، ولديه طفل ومتزوج، أيهاب ابن البر لا ابن البحر؟