الموضوع: المرآة
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
4

المشاهدات
3579
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
01-04-2014, 12:50 AM
المشاركة 1
01-04-2014, 12:50 AM
المشاركة 1
افتراضي المرآة
تذكر أولى القيود التي كبلت هيئته و هو يتفقد وجهه الصبوح في المرآة ، كانت نسيجا عنكبوتيا بخيوطه الواهية . حين مات جده استل المرآة من قبضته المتراخية بسياط الموت ، أتعسه الجسد الذي تلبسه الموت حين التهمه التراب ، فوارى سوأة المرآة في أخدود عميق بجانب المقبرة .
يومها كان في السابعة من عمره ، أفزعته تلك الصورة فخيل إليه أن عنكبوتا نسج عليها قيودا تهذب حركيتها ، يحس حركاته تتثاقل لكأنه يجري في حلم ، تتباطأ أعضاؤه و يفقد الكثير من مرونته ، كان دائما يتساءل لم استعصى الطيران على الإنسان ؟ ولم تعذر عليه الغوص في أعماق اليم ؟ كان يعلم أن لتلك الخيوط السحرية أثرا على ذاته التي تنقبض فيها الحركة ، تتعثر فيها الرغبة و يخبو فيها شغب الطفولة . لا يكاد يميز ملامحه ، مرآة عجيبة تلك التي تظهره على غير حقيقته .
تذكرها يوما عندما رأى رجالا يحفرون بجانب المقبرة ، حين غادروا توجه نحو لعبته المسكونة ، مسح على وجه المرآة غبار السنين ، لا تزال تلمع جوانبها المعدنية و لم يستطع التراب قضم طلائها ، كلما هم بالنظر إلى شاشتها ، تذكر رعب الطفولة الأولى ، وكيف تأزمت فيه النشوة ، و كم مرة أيقظته الصورة التي شوهت ملامحه البريئة ، وجعلت منه طفلا عنكبوتيا . رغم ذلك فالفضول غلبه و عيناه تختلسان النظر إلى المرآة و يداه تصوبان عدستها على وجهه ، عين مغمضة معصوبة ، وأذن موصدة ، و صخرة ضخمة على رأسه الهائم وراء قضبان حديدية ، ماهذا ؟ تبتعد صورته رويدا رويدا إنها سلاسل براقة بأقفال نحاسية ، تلف كل جسده ، رماها بعيدا وتحسس جسمه : " مايا له فأل قبيح ! أيتها المرآة اللعينة ! ألست شابا مليحا ذكيا ؟ أحفر طريقي في الصخر ، لا قيود تربطني ! لا موانع تصفد أحلامي !" خمن أنها مرآة ملعونة ، حملها بعيدا إلى مغارة عند قدم الجبل ، هناك دفن سرها المشؤوم . كما الماضي مازالت تلك الصورة تلعب بكل أحلامه ، توطن في ذهنه أن قوة قاهرة تحول بينه وبين ما يبتغيه ، أحس أن نحسا يلازمه أينما حل وارتحل .
تمضي الأيام ، تزوج و نسي المرآة و شأنها و استهلكت الحياة وقته و طاقته ، فهو السيد البطل ، يرسم السبل ، و يعلم الصواب ، يحد من طيش أبنائه ، فكانوا يستسلمون بسرعة لمنهجه ، يتبعون طريقته و يحققون نجاحاته الباهرة ، تزوج أولهم و منحه حفيدا ذكيا مليحا ، لا يحب مفارقته . كبر جميع أبنائه و استوى رشدهم ، اعتلت البهجة نفسه و هو ينهي رسالته بسلام .
يوما جاءه الحفيد و وجهه يحمل كآبة من سالت عيونه دمعا غزيرا ، فسأله : " ما بك يا بني ؟" فرد عليه الحفيد و هو يبكي : " أنا عنكبوت صغير يا جدي " استفاقت ذاكرته و الرعب ينخر هدوءه ، فقام من جلسته متسائلا : " إلى ماذا ترمي يا بني ؟" فواصل الصغير :" جدي ، هذه المرآة تصدع ملامحي ! و تلبسني شبكة عنكبوتية ! وجدتها أنا و أصدقائي في المغارة ، إنها ترعبني !" ضحك الجد فقال لولده : " لا تقلق يابني فهذه ليست مرآة بل مجرد آلة فيها صورة لا تتحرك، هل رآها أصدقاؤك ؟ " فرد الحفيد : " لا عندما رأيت فيها ذلك الشبح منعتهم من الاقتراب منها و أخبرتهم أن بعبعا يفتك بالأطفال يسكنها ، فهرعوا إلى ديارهم هاربين ." طمأنه الجد ماسحا على وجهه : " اذهب وامرح فهذه مجرد قطعة بئيسة ، لديك الكثير من اللعب ."
حين اختلى بنفسه سقطت دمعة من عينيه قلقا على أحفاده ، أحب الرجوع إلى الماضي لينظر لصورته البشعة التي حسبها لم تؤثر على حياته ، تعجب حين وجد صورته لا يفسدها غير ما خطه الزمن على صفحته . حينها اكتسح الندم قلاع نشوته ، نادما على ما اقترفته يداه .