عرض مشاركة واحدة
قديم 08-07-2010, 08:17 PM
المشاركة 4
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي رد: حكايات من ضيعتنا
4- شتاء ضيعتنا

تبدأ الحكاية هذه المرة من منعرج آخر مخالف للمسلكالأول.
تبدأ بنهايةالصيف.
بشهرآب.
وقد تفننت الكاتبة في وصفه, فهو شهر "اللهاب", وكأن لهب الشمس تقوقع في أيامه ليودع صيف الضيعة. وهو " طباخالعنب والتين", وكأن الكاتبة تنبّهنا إلى أن ضيعتها لا تقتصر على إنتاج المشمش فقط, بل هي جنة للفواكه والغلال, تأخذ إربها من كل فصل وتعطي حارثها إنتاجها مع كلانقلاب صيفي أو شتوي.
ثم تمرّريم بدرالدين لتهيأنا لفصل جديد ندخله معها للضيعة, فتأخذ بأيدينا لتبعدنا عن أيامشهر آب لنشمّ معها "روائح الشتاء "المتناثرة في هذا الشهر.
ويبدأ فصل جديد من الحكاية.
إنه شتاء الضيعة.
إنه المارد الذي يهجم بجنده, فيتقوقع الجميع.
حتى الغلال ترهب هذا الزائر فـ" يستحيل العنب خلاّ...أوزبيبا" ويفزع التين ويتخلص من كنهه ليمسي " مربّى".
وأجد هنا أن الكاتبة على قدر كبير من الدراية بجزئياتالضيعة حتى أنها ستضعنا أمام معادلة رائعة نستشفّ من خلالها قدرتها على التلاعببالكلمة وتطويع الحرف الذي يأخذنا معه كيفما شاء.
هذه المعادلة تبرز في إنشاء صورتين مختلفتين تماما منحيث الكنه,ومتلازمتين من حيث حبّ الوجود والتمسك بتلابيبالحياة.
أتريد أن تعرف معيماهية هاتين الصورتين؟
تعالىوانظر كيف راوحت ريم بدرالدين بين الموجود الذي ينتظر الوجود, وبين الموجود الذييسعى لتأثيث وجوده وتجديده في كل لحظة.
فتبدأ الصورة الأولى في نقل احتضار الطبيعة في فصلالشتاء.
فالفاكهة التي كانتنظرة, تتباهى بألوانها على الأغصان وتستعجل قاطفها قد انكمشت وساحت مع آخر أيام شهرآب لترمي بجميع مفاتنها وتتخلى عن كل جميل فيها وترفع الراية البيضاء وتعلن هزيمتهاللشتاء القادم, قد انكمشت داخل القوارير واستجارت بـ " أرفف بيت المؤونة" خوفا منهذا القادم, ومستمدة الأمان من الداخلفاصطفت " بزهوّوخيلاء".
والأشجار قد خلعت " ملابسها" ووقفت عارية تناجي الله أن يقوّي من ضعفها وتسترحمه أن يهبها " الماءالزلال" لتغسل بقاياها وتنام تحت وطأة تهديد الشتاء بعد أن تختزن جذورها ما يكفيهاللحياة حتى ربيع آخر.
أماالصورة الثانية, وهي الأهم, فهي النقلة النوعية التي أوجدتها الكاتبة لتحمينا نحنكذلك من مارد الشتاء وتحملنا إلى الداخل, إلى ماوراء الجدران, لنكتشف عالما جديدالم نره, بل لم نكتشفه في صيف الضيعة.
من هنا, من داخل البيوت تنشر الكاتبة صورا جديدة لحياةجديدة.
وقبل الاستقبال " تبدأالنساء بإعداد البيوت" استعدادا لاستقبال الزائر الثقيل.
نعم. زائر ثقيل.
فالزائر المرحّب به يدقّ الباب, وهذا القادم " يقرع الأبوابّ, وكأنهيقتحم المكان عنوة, شاء من شاء وأبى من أبى.
فكيف يجابهه أهل الضيعة؟
إن حاولوا طرده فهذا هو المستحيل, وإن هربوا فتلك قمةالاستسلام.
ولم يدم التساؤلكثيرا فقد أخذت عنا الكاتبة المبادرة - وهي العليمة بأهل الضيعة - وأراحتنا منالسؤال.
لقد جابهوا الشتاءبثروة الغابة بـ "الحطب", وبالمدفأة التي صارت عزيزة في هذا الوقت بعد أن أهملت " لشهور في عتمة السقيفة".
ماأقساك يا إنسان.
ولتزيد الكاتبةمن شدنا إلى ضيعتها والسؤال عن أهلها تذكرنا أن " فصل الشتاء قارس جدا", حتى أنالجبل المشرف على القرية لقّبوه " بجبل الشيخ" لأن الثلج يغطي قممه فيجعله كشيخأسطوري تمتد لحيته البيضاء لتزيده وقارا, وتجعل منه حكيم القرية وحاميها, وباعثالاطمئنان في نفوس السكان.
وأمام هذا الزخم المتراكم من سواد الشتاء وصلصلة سيوفه وشراسة جنودهوحمحمة خيوله تغلق الأبواب وترتفع الأسوار ويهدأ أهل الضيعة من وراءالأبواب.
ولِمَ لا؟ "ومدفأةالحطب يبدأ أوارها مع أول مطرة ويظهر فوقها إبريق شاي واحد لإعداد الشاي والآخرللتزود بالماء الساخن طيلة النهار".
الله..الله..
ماأحلى هذه الحياة وسط الدفء وبين الأهل,وبعيدا عن التعب.
ولكن...
إلى متى؟
يوم..يومان...
إنه الشتاء يا صديقي.
وقد تنبّهت الكاتبة لهذه النقطة فقالت:
" الملل يفرد قلوعه".
لماذا؟
لأن من ولد بين الزرع والحرث والحصاد, وبين البذر والتقليم والتهيئةوالقطاف, لايقدر مع هذا الوقت الفارغ المتراكم على الصدور.
إنه إنسان..ليس شجرا.
الشجر قد نام ينتظر الربيع.
وإنسان الضيعة إلى متى ينام؟
غنه عرق نابض بالنشاط, بالحياة. ومتى خبا هذا النبضيموت إنسان الضيعة.
وحتى لو " ذخر بيت المؤونة بأنواع مختلفة من المربيات...وكل أنواع الزيتون, والأجبانوالقمح....".
وحتى لو ادخرتالنساء " الحكايا لترويها في الأمسيات لتزيح بعضا منالرتابة".
إنه الإنسان ياصديقي.
وإنسانمن؟
إنسان الضيعة الذي إن توقّفمات.
وقد أبدعت ريم بدرالدين فيآخر القصة عندما فطنت بفطرة الكاتب المحترف إلى أنها لابد أن تعطي متنفسا لهذاالإنسان كي يجدد حياته من جديد, أن يتحرك مرة أخرى ليسري دم الحياة فيعروقه.
فأوجدت له مخرجا منمنفاه لما " تتوقف الأمطار أو الثلوج ليوم أو يومين" فـ " يسارع الرجال إلىالحقول...لاخذ طاقة من حرية" و " تأخذ النساء فرصة" لـ " يتزودن بالحكايا والقصصلأيام احتباس مقبلة".
ألم أقللك أنه الإنسان؟
ألم أخبرك أنالكاتبة أنشأت صورتين مختلفتين تماما؟
ألم تر معي كيف استكانت الأشجار وسلّمت بقدرها ونامت, ورفض الإنسانجبروت الطاغية - الشتاء - ولم يستسلم,وبقي يتحيّن الفرصة ليجدد حياته في كللحظة.
ألم أخبرك أن ريمبدرالدين تمتلك الأدوات اللازمة لتجعل منا متقبّلين من الدرجةالأولى.
وإلى حين " بزوغ الشمسفي الأفق الشرقي من القرية" في " صباحات ضيعتنا" ننسحب بكل هدوء لينعم أهل الضيعة بمدفأة الحطب وينتظرون صباحا يجددون من خلاله حياتهم.