عرض مشاركة واحدة
قديم 01-21-2013, 09:07 AM
المشاركة 367
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
معروفٌ أنَّ دراساتٍ وكتباً كثيرة ناقشت وحللت نقديا أعمال كافكا في أوروبا وخارج أوروبا وخصوصا قصة " المحاكمة "، مما يجعل أية مقاربة نقدية جديدة لهذه القصة أو لسواها من أعماله عرضة للاتهام بالتكرار وإثارة السأم، خصوصا إذا كانت تلك المقاربة تعج في أكثر من نصفها بمناقشة لآراء النقاد السابقين كما يقتضي التقليد الأكاديمي أو العرف التأليفي والبحثي المألوف في دراسات ومقالات نقدية كهذه. ولكننا هنا لن نعمد إلى استعراض آراء الآخرين، إلا لماماً، وبما يخدم السياق العام لمقاربتنا النقدية، بل سنحاول أن نقدم مقاربة شخصية يمكن الحكم على جديتها واقترابها أو ابتعادها عن تحقيق أهدافها بعد الانتهاء من مطالعتها. هذا الكلام لا يعني التشكيك المجاني بالمنهجيات التي اختطها الآخرون، ولا بالثوابت الأكاديمية التي انطلقوا منها، بل هو مسعى لجعل محاولتنا أكثر شخصية، و بالتالي أقرب إلى طبيعة المنطلقات التي اقترحتها واعتمدتها بشكل شخصي.غير أن تناول أعمال كافكا أو سواه من كتاب عصره، وحتى من عصور أقدم من ذلك بكثير، ليس أمرا مرفوضا بحد ذاته، أو أنه قليل القيمة النقدية والفكرية، إذ لا أحد يستطيع أن يوقف الاهتمام في يومنا هذا بالأعمال الكبيرة القديمة كالإلياذة أو الشعر العربي القديم أو أعمال شكسبير ودوستوفسكي وحتى الملحمة الشعبية ألف ليلة وليلة وإعادة قراءة هذه الأعمال منهجيا والنظر إليها بعينين مختلفتين، أو يُراد لهما أن يكونا مختلفتين؟ لا أحد يستطيع أو يسعى إلى ذلك، غير أننا قصدنا شيئا آخر يتعلق بآليات القراءة النقدية انطلاقا من تجربة خاصة نسعى إلى جعلها أكثر أسئلة وأقل أجوبة وأحكاماً معيارية كما هو شائع في هذا النوع من الدراسات.
تطرح قصة "المحاكمة" ومنذ بداياتها سؤالا مهما عن ماهية الموضوع الذي تخوض فيه وتجعله مادتها وخلاصتها، وأيضا عن طريقتها الخاصة لقراءة وتقديم ذلك الموضوع. وقد اختلف النقاد ومتابعو أدب كافكا في موضوع هذه القصة اختلافا بيِّنا بلغ في حالات معينة درجة التناقض الجدي، وسنقدم بعد قليل جردة سريعة ومبتسرة لبعض وجهات النظر ، محاولين أن تكون مكثفة ومفيدة.
هنا ، في غمرة هذا الاختلاف والافتراق العميقين يمكن أن نتلمس نوعا خاصا وفريدا من الغنى المضموني، وتلك خصيصة يمكن للباحث أن يجدها في أغلب أعمال كافكا التي كانت هي الأخرى موضوعا للاختلاف حول موضوعها الأرأس.ولعلنا نلمس من خلال هذه الخصيصة جزء ثابتا من الهوية الإبداعية لكافكا ولنصوصه، بمعنى أن هذا الغنى والتنوع المؤكَد باختلاف القراءات يمكن أن يساعدنا كثيرا على التأكد من هوية عدد من النصوص التي تنسب لكافكا ولكنها موضع شكوك وتمحيص كما هو الحال مع مسرحيته " بنات آوى وعرب". على أن السمات العامة لأدب كافكا، المرصودة جيدا من قبل نقاد متميزين، تضم هذا الجزء الثابت على بساطته إلى جانب أجزاء أخرى شكلية ومضمونية، وكل هذا يعطي لأدب كافكا هويته الحقيقية.
سنتنازل أيضا عن "حقنا" في تقديم خلاصة ضافية لأحداث القصة " المحاكمة" على افتراض أن القارئ يعرف عمَّ نتحدث وما هي تلك الأحداث ولكننا سنكتفي بخلاصة مكثفة نقول فيها: إن بطلها استفاق صباحا ليجد نفسه معتقلا و ملاحقا قضائيا من قبل محكمة لا يعرفها، ومتهما بتهمة لا يعلم ماهيتها، ولسوف يبذل جهودا خارقة لا ليثبت براءته التي هو متأكد منها، بل ليعرف السبب وراء اتهامه والقبض عليه في غرفة نومه. وخلال ذلك كله، يتعرف على عالم المحاكم والمحاماة الغريب العجيب والكابوسي حتى تنتهي القصة بصدور الحكم عليه بالإعدام، و من ثم ينفذ الحكم طعنا بالسكين من قبل اثنين من موظفي تلك المحكمة الغربية والغامضة، وكان كافكا قد روى هذه النهاية ضاحكا في جلسة مع أصدقاء مما يؤكد طبعه المرح وغير المتجهم والسوداوي - بالمعنى الكابوسي للعبارة- لشخصيته. وأسجل هنا، أن هذه المعلومة التي تتحدث عن كافكا وهو يقرأ ضاحكا لأصدقائه الخاتمة الدامية لمسرحيته، جعلتني في حيرة من أمر هذا التصرف وكيفية تفسيره. وقد ناقشت مع نفسي عدة احتمالات لتفسيره لما يعنيه أو يستبطنه من قيمة معينة، وكنت أميل إلى احتمالين : الأول، هو أن كافكا ظل يحتفظ في أعماقه بشعور من السخرية التي قد تبلغ الازدراء لهذا الموظف غريب الأطوار والذي يخلط الحكمة بالسذاجة بالتهور و بصلف البرجوازي الصغير الأوروبي عهد ذاك حتى دفعه إلى هذه النهاية، التي لا أشعر شخصيا بأنها الأكثر منطقية وانسجاما مع مجرى الأحداث. والثاني، هو أن كافكا ربما كان يقرأ هذه الصيغة للخاتمة ضاحكا، دون أن يقطع، وبشكل جازم، أنها الخاتمة النهائية، وربما كانت لديه أكثر من صيغة لنهايات أخرى. غير أن ما أقوله هنا من احتمالات يبقى مجرد ترجيحات ورجما بالغيب قد لا يؤدي إلى أي شيء مهم على صعيد فهم المضامين، خصوصا وأن طابع الفكاهة السوداء يخترق النص من بدايته إلى نهايته. وعليه، يمكن النظر إلى هذه الخاتمة بالذات كجزء من تلك الفكاهة السوداء ولكن مع القهقهة التي تصدر عن المؤلف.
نحاول الآن أن نقدم وصفا للحالة النفسية والعقلية والروحية التي كان عليها كافكا شخصيا، وللكيفية التي كتب فيها قصته هذه خلال ليلة واحدة. لنترك كافكا ذاته يصف تلك الساعات العاصفة والغامضة في يومياته في النص التالي:
( هذه القصة "الحُكْم " - يبدو ان هذا هو اسم القصة الأولي ثم تحول إلى المحاكمة فيما بعد- كتبتُها دفعة واحدة ليلة 22 – 23 من الساعة العاشرة مساء حتى السادسة صباحاً. تجمّدت ساقاي حتّى أنه أصبح مِن العسير عليَّ أن أسحبهما مِن تحت الطاولة. المجهود الهائل والغبطة الغامرة، كيف تطوّرت القصة أمامي، وكيف تقدّمت في فيضان. عدّة مرات في هذه الليلة حملت ثقلي على ظهري. كيف يمكن أن يقال كل شيء، كيف تُعدُّ نار متأججة لكلّ الخواطر وأكثرها غرابة، تحترق وتنبعث. كيف أصبحت الدنيا زرقاء أمام النافذة. مرّت عربة. وعبر رجلان الجّسر. في الساعة الثانية نظرتُ إلى الساعة للمرّة الأخيرة. وإذ دخلتْ الخادمة الغرفة الأمامية للمرّة الأولى، كتبت الجملة الأخيرة. إطفاء المصباح وانتشارُ ضوء النهار. آلام القلب الخفيفة. النُّعاس الذي زال منتصف الليل. الدخول المرتجف إلى حجرة الأختين. قراءة. قبل ذلك التمطّي أمام الخادمة والقول: "لقد كتبتُ حتّى الآن". منظر الفِراش الذي لم يُمَسّ، وكأنه أُدخِلَ لتوه. والقناعة التي تأكدت أنني بكتابتي الروائية إنّما أُوْجَد في قيعان كتابة مزرية. (أما الآن) فهكذا فقط يمكن الكتابة، فقط في مثل هذا السياق، وبهذا الانفتاح الكامل للجسد والروح ....)
أعتقد إن الذين جربوا نعمة و متعة الكتابة الإبداعية، أو غيرها من أشكال الإبداع الفني، التشكيلي أو سواه، شعروا وهم يقرأون أسطر كافكا هذه بأنها تخصهم هم ، أعني تخص كل واحد منهم، وقد شعر بها هذا المبدع أو ذاك ذات مرة وهو في غمرة عملية إبداعية أو بعد الانتهاء منها بقليل.
لا أعتقد بأن هناك تصويرا دقيقا وراقيا لهذه الحالة من الفيض الإبداعي عبر عنه كاتب آخر كما عبر عنه كافكا في هذه الأسطر القليلة الكلمات والمتوهجة بالفرح والسحر والتحليق الجمالي في سماء الإبداع .
لقد ذهب عدد من النقاد والمفكرين إلى اعتبار كافكا واحدا من أهم المبدعين الذين عبروا عن عصرهم تعبيرا جماليا و أدبيا نموذجيا وأخاذا. فالفيلسوف الألماني المعروف ثيودور أدورنو يقول إن كل من تمر عليه "عربات كافكا" سيفقد حتما وإلى الأبد سلامه مع العالم، وكأني بأودورنو يعني أيضا: إن من يقرأ سرديات كافكا المفعمة بالشعر الروائي – كما أسماه كونديرا - الشفاف والصلب كالكرستال، و المعبرة بنجاح عن عصره، الذي هو عصرنا أيضا مع الفارق، سيفقد إلى الأبد سلامه الداخلي المعتاد، ولكن أي معنى يمكن أن تستبطنه عبارة " السلام الداخلي" غير ذاك المساوي لجهلنا بالعالم الذي نحياه، أو بكلمات أخرى : للعالم كما رأيناه وعبرت عنه كتابات مختلفة نوعا وبعمق لكتاب آخرين لم يروا من العالم إلا ظلاله أو سرابه.
ويماثل أديب أوروبي آخر هو دبليو . إتش . أودن بين كافكا ودانتي وشكسبير وغوته من حيث تعبيرهم عن العصور التي عاشوها، وكتبوا فيها وعنها. ويبدو لي إن الاسم الأكثر إغراء من بين هذه الأسماء الواردة في عملية التماثل هو "دانتي أليغيري" وخصوصا إذا ما برق في الذهن اسم عمله التأسيسي الضخم الكوميديا الإلهية بشقيه : الفردوس والجحيم . أما الشاعر الفرنسي الكبير بول كلوديل فهو يضع كافكا في مصاف "راسين" الذي يعتبره أعظم كاتب، وقد تكون هذه المقارنة شخصية أكثر منها موضوعية وعامة وبالتالي فهي أكثر "فرنسية" من سواها، الأمر الذي لا يغمط القيمة العالمية لأدب راسين من وجهة نظر شاعر كبول كلوديل ولكنه يبقى الأقل توفيقا بين المقارنات الأخرى.
من هنا، فإنه لمن قبيل المقاربة الواعدة و التقييم الموضوعي القول بأن كافكا كان يعتبر من بين جميع مجايليه وزملائه المبدعين الأوروبيين، عشية الحرب الأوروبية " العالمية" الأولى، الممثل الأبرز والمعبر الأدق عن روح العصر الحديث، عصر القلق والحروب والصراعات والاغتراب والتشيؤ الإنساني، عصر غزو وتدمير واستعمار الشعوب والأوطان الأخرى غير الأوروبية وصمود وصعود تلك الشعوب والأوطان المستهدفة بالعدوان الغربي.