عرض مشاركة واحدة
قديم 10-14-2014, 12:04 PM
المشاركة 1212
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع ...والان مع العناصر التي صنعت الروعة في الرواية رقم 62- السقا مات يوسف السباعي مصر



- وسط كل أعمال يوسف السباعي الرومانسية والوطنية تبقى رواية "السقا مات" بمثابة درته الفريدة ..

-ليس فقط بسبب تكوينها المتقن

- وشخصياتها الساحرة

- ولكن لأنه أضمر فيها معضلة الموت المكتوب على كل الكائنات..

- تدور أحداث الرواية في عشرينيات القرن الماضي وسط أحياء شعبية تفوح بتقاليد مصر العتيقة ..بالتحديد في حي الحسينية حيث يقع صنبور المياه الحكومي القائم في زوايا درب السماكين ..يقف أمامه صف طويل عريض من النسوة ذات الصفائح والرجال ذوي القرب ..أحدهم هو المعلم شوشه بطل هذه الرواية الذي يجمع أفضل خصائص ابن البلد بشهامته ورجولته وكريم عنصره رغم ضيق الرزق وكدح المهنة ..صلب العود رغم نحوله ..متدين لا يضيع صلاة ، رزين طويل الصمت ، يغلب عليه الحزن والتفكر ..ويولي اهتماما خاصا بشجرة تمرحنة في السراي المجاور لسبب سوف يتضح فيما بعد .

- أما ابنه سيد فهو مجرد صبي في التاسعة من عمره ..شديد الحيوية إلى حد آسر ..مفردات عالمه الطفولي الساحر هي مشاكسة الشيخ كفتة صاحب الكتاب الذي ذاق الويل من شقاوته ..وتسلق أشجار السراي المثمرة لجمع البلح الأحمر والجوافة وزعامة مجموعة من الصبية " حرشه وزكي الحدق " يلعبون الكرة الشراب والبلي الذي يحصده دائما ..أما مشاكله المستعصية فمحاولة الفرار من غسيل الوجه بالصابون الذي يؤلم عينيه رغم إصرار جدته الكفيفة التي ترعاه بعد وفاة أمه ( يعني يتيم؟!) .


- كانت سعادته لا توصف حينما قرر أبوه المعلم شوشه إخراجه من الكتاب لتلقينه مبادئ مهنة السقا ..كان فخورا برجولته الوليدة ويحاول تقليد الكبار بلهجة رجولية خشنة مثيرا عاصفة من الضحك حيثما ذهب ..وفي مسمط الحاجة زمزم بدرب عجور كان تعرفهما على الشيخ شحاته ..ذلك الكهل لطيف الملامح بشوش الوجه الذي يرتدي جلبابا من الدمور وجاكتة قديمة ..وفي قدميه حذاء بال مربوط بالدوبارة ..وفوق رأسه طربوش أسود منهار الجوانب مائل على حاجبه الأيسر في عياقة لا تتناسب مع مظهره المثير للرثاء ..وكان ذلك الرجل الذي لا يملك من مظاهر الأفندية غير الطربوش والجاكتة لا يكف عن مغازلة الحاجة زمزم بتلعيب حواجبه بطريقة آلية منتظمة هازا رأسه في شبه أسف وطرب : يا ميت ندامة على اللي حب ولا طالشي !.

- تأثير تلك المغازلة على المعلمة الضخمة الجثة كان ظاهرا بتمايلها طربا وضحكتها الناعمة نسبيا وهزة رأسها المعصوب بعلامة الرضا ..لكن ذلك لم يشفع له وقت الجد حينما حان تبين إفلاسه عند دفع الحساب..ولم ينقذه من براثن المعلمة المخيفة غير شهامة المعلم شوشه الذي دفع له حسابه لتنشأ علاقة صداقة متينة بينهما تصل إلى حد استضافته في الدار .

- وهناك نتعرف على مهنته العجيبة ..مطيباتي جنازات ..يرتدي بذلته السوداء ويلبس الفوطة الحمراء على وسطه – طباعة العرقسوس – ويمسك في يده القمقم ويمشي أمام الجنازات من باب الافتخار حتى يزف الميت لمدفنه ..بعدها ينال نصف ريال من متعهد الجنازات ..وقع ذلك كان ثقيلا على المعلم شوشه الذي بدأ يشعر بالرهبة من صديقه المخيف الذي حاول أن يشرح له فلسفته الخاصة عن الموت والحياة .

- " إن وجه الأرض متغير وكل الكائنات محدود أجلها ببداية ونهاية ..هذا المقعد ، تلك اللبلابة ، هذه القطة ..هذا الجلباب ..لكن الإنسان يتملكه الغرور فلا يريد أن يذهب في هدوء ويأبى أن يقارن نفسه بالقطة والمقعد والجلباب ..يكره الموت ويأبى قبوله ويرفض تعوده وترويض نفسه عليه ..في بداية عمله بمهنته كان بكاؤه يشتد عند رؤية الميت رغم سخرية الزملاء القدامى ..بالتدريج صار أقل تأثرا ثم لم يعد يبالى قط حتى ليسير في الجنازة وكأنه في نزهة مستغرقا في أفكاره الخاصة .

- بعدها بدأ التعود على النزول لداخل المقبرة عازما أن يهزم في نفسه مخافة الموت ..في المرة الأولى تملكته الرجفة حينما لامس لحم الميت البارد وجسده اليابس ولكن بعد لحظات هزم الخوف واقنع نفسه أنه يحمل فخذة خروف أو دجاجة مذبوحة ..أليس كلاهما جسد ميت من لحم وعظم ؟..وحتى المقبرة لم تعد تمثل له سوى مجرد قبو تحت الأرض مليء بالعظام والجيف ..في تلك اللحظة التي أعلن فيها انتصاره على رهبة الموت صار يعتبر نفسه أشجع إنسان في العالم ..لقد احتقر الموت فاحتقر – تبعا لذلك – الحياة ."

- حينما انتهى الشيخ شحاته من محاضرته الحارة على صديقه الجديد المعلم شوشه فوجئ بالدموع تنساب على وجنتي الرجل الجلد الصموت في أخاديد وجهه المغضن ..لطالما عذبه تفكيره المتواصل في الموت الذي حصد زوجته الحبيبة منذ تسع سنوات وهي تلد ابنه الوحيد سيد ..ولطالما سهر الليالي يسأل نفسه ، ويسأل السماء والنجوم أيضا : لماذا ماتت ؟..بل لماذا نولد إذا كنا سنموت حتما ؟

- من كان يصدق أنها ستموت ؟ بجسدها القوي ووجهها النضير وثغرها الباسم وعينيها الضاحكتين المتلألئتين وشجرة التمر حنة التي زرعتها بيدها الرقيقة في حديقة السراي وكانت سبب تعارفهما ..من يصدق أنها تقبع في حفرة رطبة مظلمة بباطن الأرض مسلوبة الحركة فاقدة الحياة لتصبح بعد حين هيكلا أكله البلى وعظاما نخرها السوس ؟..كان يسأل نفسه في يأس فيستعصى الجواب حتى دخل شحاته أفندي في حياته بمهنته المخيفة وفلسفته العجيبة .

- وتمر الأيام بالجميع بتفاصيلها الكثيرة التي تصنع الحياة ..وأصبح شحاته أفندي ضيفا دائما ومصدر سرور لا ينقطع للأسرة التي يغلب عليها الصمت والوجوم في غيابه..

- لقد أحبه الكل لشخصيته البشوشة وحبه الواضح للحياة ..سيد وجده صديقا كبيرا يقوم بتعليمه العزف على الناي ويصنع له الطائرات الورقية والكرة الشراب ويبتاع له - من وقت لآخر - أطايب الطعام حينما ينفحه متعهد الجنازات بمنحة سخية ..الجدة الضريرة أحبته من صميم قلبها الطيب المتسامح ..والمعلم شوشه وجد فيه صديقا مخلصا مقبلا على الحياة رغم حرجه من غزله للنساء ..وفي كل مرة يعتذر بأنه لا يملك نفسه حينما يرى صنف الحريم ..على الفور يقوم بتلعيب حواجبه ويبدأ فورا في الغزل " أموت في الملبن أبو قشطة ، هز يا وز "..وعبارات من هذا القبيل ..

- الرجل الذي يمتهن الموت كان شديد العشق للحياة ( هذا ما نقوله دائما ان الحياة تولد من رحم الموت) ..يعشق الكيف والنساء والطعام الجيد ، ويعيش اليوم بيومه دون أن يحمل هم الغد ..ويتعجب جدا من قهر المعلم شوشة لرغباته متسائلا : ما جدوى الحياة بدونها ؟.


- وبرغم إفلاسه المزمن فقد كان مستعدا لدفع خمسين قرشا كاملا ( وهو مبلغ باهظ بأسعار هذه الأيام ) من أجل سهرة حمراء مع عزيزة نوفل صاحبة الجسد الممتلئ الملتف في ملاءة تنحسر عن ثوب أحمر بدت منه ذراعان بيضاوان ناصعتا البياض وكشفت فتحة الصدر عن ملتقى الثديين المكتنزين فإذا ولت وجهها بدا ظهرها أشد تفصيلا وتفسيرا وإقناعا وإغراء واستدعاء ..

- من أجلها تفاوض مع القواد صاحب الشارب المفتول ، وذهب للعطار ليشتري جوزة الطيب وعود قرح وساوم الجزار على رطل كلاوي بتلو و(توضيبة ) من المخاصي والمواسير ، واقترض قطعة حشيش من زميله الشيخ سيد مخزن المخدرات المتنقل الذي يجلس ويتحرك ويتكلم وكأنه في غيبوبة دائمة ..و( خبط ) عدة جنازات مهلكة من مصر القديمة للمجاورين حتى هده التعب فنام قليلا ليستريح استعدادا لسهرته ..ذلك النوم الذي طال حتى أقتحم عليه المعلم شوشة غرفته فوجده ميتا .

- أجل ..مات مشيع الجنازات والساخر من الأموات دون أن يظفر بعزيزته !!!..

- كان وقع ذلك مروعا على الأسرة الصغيرة التي احبته .. في بادئ الأمر شعر المعلم شوشه بالخوف من دخول غرفة الميت ومن لمس الجثة لكنه تذكر قول صاحبه عن الأموات واحتقاره للموت واستخفافه بالجثث . وكمجاملة أخيرة قام بارتداء البذلة السوداء والفوطة الحمراء والطربوش إكراما لمشيع الجنازات في رحلته الأخيرة .. وعزم في نفسه على النزول للمقبرة محاولا أن يهزم رهبة الموت كما فعل صاحبه ..وبالفعل أمسك بالجثة رغم تلك الرجفة - التي هزته - من برودتها ولكنه همس لنفسه : لا تخش شيئا ..إنها لحمة ميت ..مثل فخذة الخروف أو الدجاجة المذبوحة . كانت معركة بينه وبين رهبة الموت ولكنه صمم على الانتصار قائلا لنفسه إنها أنقاض لم تعد لنا بها صلة ..مواد فانية متحللة لا فارق بينها وِبين أنقاض الدور وبقايا الأثاثات القديمة ، فعلام الرهبة ؟

- ولم يكد المعلم شوشة يسير أول خطواته داخل القبر حتى صدمت قدمه جمجمة ميت راحت تتدحرج على الأرض بصوت مكتوم فكانت قرعته للجمجمة هي دقة الهزيمة ..لقد أنهار الرجل تماما وجثا بالميت على الأرض ودفن رأسه بين كفيه واندفع في نحيب حاد .

- كلا ، ليست هذه العظام أنقاضا كأنقاض الدمن ..إنها آثار عزيز غاب ودلائل حبيب فقد ..فما أعز البقايا وأكرم الأنقاض !!!. وأسرع الرجال بوضع الجثة في مكانها وإخراج المعلم شوشة من المقبرة بعد أن انهارت مقاومته وتحطمت أعصابه .

- لكن الأيام منحته فرصة أخرى ..لقد جاء زميل لشحاته أفندي يعلنه بجنازة موشكة ..وحينما أخبره بموته وتجاوز الرجل صدمة النبأ طلب منه أن يحل محل شحاتة أفندي كمطيباتي جنازات ..وبسرعة وافق المعلم وارتدى البذلة السوداء والفوطة والطربوش لا لكسب مادي بل لدخول معركة ..لقد خسر الجولة الأولى وها هي تسنح له الفرصة لجولة ثانية وثالثة ورابعة .

- في البدء لم تكد عيناه تقع على النعش الملفوف في حرير أبيض حتى اندفع في نوبة بكاء عنيفة رغم نوبة الضحك التي أصابت بقية ( الزملاء ) الذين كانوا ينظرون إليه نظرة كل محترف متمكن في مهنته إلى مستجد غشيم يبدأ المهنة لأول مرة ..وحتى منطق الشيخ سيد ( مخزن المخدرات المتنقل ) بأن الميت مستريح أربع وعشرين قيراط بينما الأحياء في كد ونصب لم يقنعه ..

- وتوالت عليه جولات الصراع سريعة متتالية فقوت من مقاومته وزادت من صلابته ..في كل جولة كان يجد نفسه أهدأ أعصابا وأقل حساسية حتى أيقن أنه يسير في طريق النصر غير مبال بهمسات جيرانه الذين قالوا أنه يهوى الأحزان أو أصابته لوثة .
ومرت الأيام وأعتاد الكل ذلك فيما عدا ابنه سيد الذي تشاءم من تلك المسألة البغيضة التي يشتم منها رائحة الموت الكريه الذي أختطف صديقه الكهل شحاته أفندي فيما مضى بلا رجعة ..ولم تقنعه حجج أبيه الذي صارحه بأن هدفه الوحيد هو الاعتياد على وحشة الطريق التي سيقطعها يوما ما .. إنها مسألة ترويض لا أقل ولا أكثر ..كل جامد في الأرض أبقى من الحي فما أضعف مادة الحياة .!! . يموت الكل ويبقى الحي الواحد ..الباقي القوي.

- كل هذا لم يكن مقنعا لابن التاسعة الذي لا يتصور فقد أبيه بعد رحيل أمه ..وفي النهاية رضخ المعلم شوشة لدموع ابنه واعدا بالامتناع عن تشييع الجنازات ..ذلك الوعد الذي لم يعصمه من الموت بعد أيام قليلة حينما أصابته وعكة صحية ألزمته الفراش فتصادف انهيار المنزل عليه نتيجة لشق كبير في جدار البيت أهمل علاجه ليموت الرجل الكريم النفس تحت الأنقاض .

- كان مشهد الجنازة مؤثرا جدا ..لقد ارتدى الصبي الصغير عدة الشغل التي لطالما ارتداها أبوه ..دس ساقيه في البنطلون الطويل المهرول وأدخل ذراعيه في الجاكتة الواسعة الفضفاضة ووضع الطربوش على رأسه فهبط حتى استقر على أذنيه ليرى الناس قزما يهرول في بذلة سوداء فضفاضة وقد اندفع حاملا القمقم متخذا مكانه أمام النعش فغلبهم التأثر وتفجرت الدموع في عيون الرجال الشداد الغلاظ الذي يحملون الجثة في المحفة .

- وبدأت الجنازة سيرها والصبي على رأسها وقد بدا عليه التجلد لولا دمعتان تجريان في صمت على خديه وهو يسترجع قول أبيه منذ بضعة أيام :
" إنها مسألة ترويض لا أقل ولا أكثر ..كل جامد في الأرض أبقى من الحي فما أضعف مادة الحياة !!..يموت الكل ويبقى الحي الواحد ..الباقي القوي ".

من مقال : د امين الجندي
المصدر : القصة العربية