الموضوع: عيون حامية
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
11

المشاهدات
5642
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
10-25-2014, 08:17 PM
المشاركة 1
10-25-2014, 08:17 PM
المشاركة 1
افتراضي عيون حامية

عيون حامية



فجرا و تحت ظلال العتمة شق طريقه جهة البحر ، يملأ رئتيه هواء نديا فتتسارع خطواته وتلهث دقات قلبه كعشيق يتوجس أن يفوته لقاء الحبيبة . تترادف الصور المملة في ذهنه المثقل بهم المصير، و تأففاته تزداد سخونة و تتعرق جبهته المتقدة كعين حامية .
خنجره المدرج بالدماء يحتضنه جرابه ، أذناه تجسّان نبض الطريق ، فسمعه اليوم حديد ، يتلقف دبيب النمل من وراء جدر الظلام ، انخلع رشده عندما هبت كلاب راسية قرب مطرح البلدة ، فأخذ يلوح بسلاحه ذات اليمين والشمال ، يتعالى ضجيج النباح و تقترب منه الجماجم الصلدة الممتدة أنوفها فيتخيل أفواهها المرصعة ببيض أسنان حادة مكشرة متأبطة لشر مستعر، و لمعان يبرق من عيونها يدق مسامير الخوف في جسمه المنهك. كلّت يده اليمني فشد عضدها بيده اليسرى ، تفطن أنها تزداد شراسة ، لكأن هذه المناوشة تحض نشوتها و ترفع من بسالتها ، تيقن أنه يصارع ثيرانا هائجة ، إنه متادور تخونه المهارة ، يضجره أن تشتم الكلاب خوفا دفينا تشرنق في أعماقه . بدأت الأنوار تتسلل من وراء حجب العتمة ، وأخذت تنكشف له مواقع أسراب القطيع الغازي ، رأى كومة أحجار هناك خلف هذا السرب المقتحم ، يجب أن يصل إليها ، كلما فر من الموقعة تضاعف حماسها و ابتعد عن الذخيرة التي ستنجيه من هذا المأزق . أغلق عينيه و عض على طرف جلبابه و اقتحم الكلاب فتراجعت وتغيرت نبرة نباحها لكأنها تتالم من هذه الثورة المفاجئة ، كانت تلك الثواني كافية ليأوي إلى ركن شديد ، وقبل أن يسترجع العدوّ أنفاسه بدأت القذائف تلاحقه ، و خطوات المحارب تتعملق وراء أنينه المتناسل . أخيرا تخلص من هذه الحرب الجانبية التي استهلكت بعضا من طاقة كان في أمس الحاجة إليها ليصل إلى سفينة الخلاص .
رجعت الصور إلى ذهنه فأحس رعشة قاصمة تفتك بكيانه ، تمنى لو كان طريقه مرصوصا بقطعان الغابة ، فينتقل من حرب إلى حرب بدل الاختلاء بهذه النفس اللوامة التي تحول بينه وبين الاستمتاع بالنصر الكاسح الذي حظي به . فعدوه اللدود الذي قطع عنه نعم الحياة ، فغادرته النشوة و خاصمته اللذة ، و طلقه الحب ، و أضحى فريسة للآلام والأحزان والبغضاء ، يستحق هذه الذبحة من هذا الخنجر المنقوش . هكذا هم بمحادثة نفسه لعله يسترجع بعضا من طراوته :" نعم إنه خنزير يجب أن يلقى مصيره هذا ، ما أعظم ما أحسست به و أنا أفصل رقبته عن جسده ، و الدماء تنبجس من نحره كعين حمراء حامية . نعم المباغثة تلك الضربة القاصمة التي أفقدته وعيه ، ليسهل علي ّنحره أمام عين مصباحي الجيبي ، كانت نشوة النصر تغمرني وأنا أواصل طريق رحلتي مبتعدا من تلك الدماء التي سرت بغزارة منذ الثلث الأخير من الليل ." تذكر المصباح فبحث في جرابه و لم يجده ، نسي وجوده عندما هاجمته الكلاب ، لكنه رماها بشيء قبل أن يستل خنجره. أصبح الصباح و انتشرت الأضواء فلمح بصره شيئا متكئا على الجانب الغربي لصخرة عظيمة على البحر ، لوح بيده عندما بدأ القارب رحلته ، جرى جريا سريعا متخلصا من الجراب والجلباب ، استوقفه رجل قرب الصخرة قائلا :
ـ لماذا تأخرت ، ألم يحضر معك مسعود ؟
رد عليه وعيونه مشدودة إلى المركب الذي ابتعد عن الصخرة بثلاثين مترا:
ـ هذا المتعوس هو من أخرني ، كنت أنتظره ليرافقني في هذه الرحلة الدامية.
فقال الرجل بغلظة :
ـ أين النقود ؟ وعيناه راسيتان على الخنجر الذي تقلده شعلان داسّا رزمة الأوراق النقدية في جيب معطفه مردفا : هات الخنجر ؟
دقت نواقيس الخطورة في جوف شعلان وهو يقدم سلاحه للغريب ، جف حلقه لكأنه في جلسة استنطاق ، تعجب كيف له أن يتجاهل مسح دماء الخنجر و استغرب لماذا لم يتخلص منه ليتفادى مواقف الشبهة .
ـ إنها دماء كلب حقير ، فالكلاب هاجمتني عند المطرح ، لو لم أكن مسلحا به لكنت فريسة سهلة .
صفر الرجل للمركب فتوقف عن الإبحار وأمر شعلان بالالتحاق به عوما .

أنعشته المياه الباردة ، فتخلص من ملابسه فور جلوسه على القارب ووضعها قبالة الشمس المشرقة ، كان هناك ثلة من المهاجرين مثله سلموا مصيرهم للمجهول ، استفزه تقوقعهم على أجسادهم ، لكأن السماء أطبقت عليهم ، ألم يحظوا في اللحظة ذاتها بفرصة بحث عن الذات ؟ ألم ينتظروا هذه الفرصة لأعوام كثيرة ؟ لماذا هذه النفس اللوامة تحرم الضعفاء من التمتع بلحظة النصر ؟ حاول أن يجر رفاقه إلى الحديث ، ليتشاركوا في وليمة تعبيرية تنجيه من الاختلاء بنفسه المسبدة ، فكلما امتنعوا عن الكلام جرفته أحداث يومه الحافل . يقف مسعود أمام عينيه المسدودتين ، يراه لايزال رفيقه الذي منحه شبه وصاية على حياته ، فمنذ التقائهما في رحاب المدارس كان السيد والمخطط و هو المنفد المخلص ، يتمتع بدهاء و ويفرض قوامه على الآخرين احتراما غريبا ، إذا نطق سمع الجميع و إذا قرر كان قراره الصواب ، وجد فيه شعلان ذلك الإمام القدوة ، ذلك الجبل الشامخ الذي يسند إليه ظهره ، كبرا و لم تتغير المعادلة ، فالولاء سيد الموقف ، رغم ما بينهما من صداقة و تقارب وحرص على بعضهما البعض لكن شعلان يراه دائما بمنظار الأخ الأكبر ، حتى في أموره الحميمية فمسعود هو من اختار له تلك الزوجة المليحة التي التقياها ذات ضحى في موسم عطلة وسفر ، وسرعان ما نمت بينهما تلك الرابطة السحرية ، فاعتبرها شعلان يومها من تستحق الوصاية عليه ، وهكذا بدأ ينفد أوامرها بأريحية ، ما يضايقه أن تلك الأوامر هي نفسها خطط مسعود الذي استطاع السيطرة على بيته بأساليبه الاجتماعية الخارقة ، و فنون التواصل الباهرة ، وخبراته المتعاظمة الكبيرة ، فكم مرة تساءل شعلان من أين يستمد صديقه هذه المهارات العجيبة لكأن كبير الجان يخصه بدروس من وراء الستار ، يرعبه أن كفته أصبحت أثقل بكثير فالفارق يزداد اتساعا بينهما ، بل لا يكاد يساوي جناح بعوظة أمامه .
توسطت الشمس زرقة السماء و توسط المركب زرقة الماء ، بينما القوم لا يزالون في صمتهم مستكينون و في غمرة حيرتهم يعمهون ، كان مسعود من يريد أن يبعده إلى أقاصي الأرض ، بعد أن غنم كل ما ورثه من أبويه اللذين قضيا في رحلة جوية ، هناك في السماء تبخرت حياتهم و في هذا البحر تناثر رماد أشلائهم قبل أن يبلغ شعلان سن الرشد . كادت دمعة تسقط من عينه رغم إصراره على كظمها مخافة الانهيار أمام رفاقه الصامتين عندما حدق نحوه صغيره بعد منتصف الليل و هو يحمل خنجره المنقوش الذي نحر به زوجته ، كانت عينا الصبي حلقتين استغنيتا عن الرمش يملأهما الرعب ، وضع يده الباطشة عليهما و مرر المدية بخفة فانتفض الصغير واقفا على السرير وخرير الدماء امتزج مع آخر زفرات الروح ليعود بعدها إلى النوم هادئا مطمئنا . سرت رعشة جسده المرهق الذي لم يذق طعم النوم طوال الليل ، بل يتنقل عبر عيون الدماء الساخنة . يتحدث إلى نفسه بصوت مسموع :" أليست تلك عدالة ؟ إلى متى يتحمل أهل الإيباء توازنا غير عادل في الطبيعة ؟ إلى متى يكون العنف مباحا للبعض يمارسه كشرب الشاي ، و رد كيد العدوان في نحره جريمة نكراء؟ إلى متى ستظل مطالبة الضعفاء بمزيد من التحمل ؟ " رد عليه واحد من الركاب : " صحيح يا أخي صحيح !! " هناك فقط تذكر أنه في رحلة إلى حيث يستطيع ضمان عدالة أبدية ، حيث يعيش الإنسان على سجيته الأولى خاليا من الأحقاد والضغائن والعصبية . نظر إلى رفاقه فوجد عيونهم راسية على جسده العاري وبعض قطرات دم لا تزال على حذائه ، قام ليرتدي سرواله وقميصه عندما سأله واحد منهم : " ألم تحس بالبرد طوال اليوم ؟" فقال بجفاء : " ترى فيكم من قدم لي ثوبا و رفضته ؟ كلنا حثالة الحثالة !!" و لما رأوا في عينيه غضبا معتقا طأطأوا رؤوسهم ، فكل في نفسه ما يغنيها عن الخصام ، تفكيرهم منشغل بنجاح هروبهم و سلامة رحلتهم .
كان الليل بهيما حين بدأ سباق العوم نحو شاطئ الأمان ، فالمركب لن يستطيع التقدم ، بل سيبدأ رحلة العودة إلى الديار ، و الربان خيرهم بين التولي أو الزحف ، كلهم فضلوا العبور إلى حيث الجمال ، إلى حيث الأحلام الطازجة ، إلى حيث الفضيلة .
كما بالأمس لم يقتحم النوم حصونه المنيعة فثورته المارقة ما استوعبها عقله ، بل يعتبرها جسما غريبا دخيلا بعثر أنساق ذهنه وثوابت شخصيته المسالمة ، رجة عملاقة حدثت في كيانه لكن لا بأس فالنسيان كفيل بوأد أحلك التحولات ، و سبيل الحرية ليس مفروشا بالورود الفيحاء ، لا تزال عينا زوجته ترمقانه ، و تحملان بعضا من خيانة ، و عينا الصبي رغم شعاع البراءة فيهما فوكر الرذيلة منبتهما ، لم يعمل إلا على كنس دنس تاريخه المريض ، و حذف صفحة موصومة بالفشل . رغم ذلك فلايزال في قلبه أكثر من سؤال على صواب خياراته ، أخذته غفوة عند مجيء الفجر .
استفاق على نداء زوجته ، وجدها حية ترزق ، وابتسامتها العذبة تبشره بوجود صديقه مسعود في المنزل منذ ساعة ، نظر إليها نظرة حزينة ، كان مسعود يحتضن الصبي الودود ، عندما التقت عيون الصديقين أومأ كل منهما لصاحبه تحية ، فقام مسعود قائلا : "أنا في انتظارك خارج المنزل"
شرب كأس حليب بارد و غسل وجهه و لبس بذلته و طاف أرجاء المسكن الذي تحول إلى ملكية صديقه ، نظر نظرة نحو زوجته وابتسامة صفراء ابيضت بها أسنانها ، و نظر نظرة بائسة نحو الصبي الذي لوح بيده مودعا والده . في السيارة كان الصديقان يستمعان إلى أغنية كلاسيكية حزينة ، بادره مسعود : " اقترب موعد رحلتك خارج الديار " رد عليه شعلان بابتسامة فاترة : " ربما غيرت رأيي " لا يزالان يواصلان رحلتهما بموازاة شاطئ البحر عندما قال شعلان : " أشتاق للاستحمام ! "
ركضا كطفلين مشاغبين ، تراشقا بحفنات الماء ، والتحما كجبلين في مصارعة خشنة ، كانت قبضة شعلان على رقبة صديقه مؤذية ، أخرج رأسه من الماء دون أن يرخي كمّاشته ، بالكاد تسربت من حلق مسعود صرخة استغاثة ذهبت أدراج المحيط ، فشعلان غطسه غطسة أخيرة مقاوما انتفاضة جسد يصارع الموت ، سكنت الجثة أخيرا ثم طفت على موجة مرتدة تجرفها نحو أعماق اليم .