عرض مشاركة واحدة
قديم 06-09-2014, 05:21 PM
المشاركة 2
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
دخل إلى مكتبه وضع رأسه بين كفيه ضغط بقوة كأنه يعصر من دماغه آلامه ، يحاول أن يقنع نفسه المجروحة أن لا يد له في مصابها ، فالمدير له من الخبرة ما يجعله يتفطن للذين تتضرر الشركة جراء تصرفاتهم غير المسؤولة ، وشطحاتهم غير الناضجة . حاول عزل شخصية ناصر المحبة عن رئيس الشركة وقائد السفينة التي إن غرقت كانت وبالا على مئات العمال والمستخدمين . تنهد بعمق و نفّس ربطة عنقه و هو يحاول أن يجد تبريرا لهذا الذي يحصل في أول يوم من عمله . كان أبوه يوصيه في أيامه الأخيرة بالمؤسسة خيرا ، مراجعة الحسابات و احترام قرارات الإداريين و أصحاب الاختصاص ، آه لو يستطيع أبوه الكلام اليوم لما غالبه هذا القرار الجائر في حق أقرب الناس إلى قلبه من كل الذين وقعت عليه عيناه في هذا العالم الذي لا يحبه ، و يكره مساطره ، بل وجد في العام الماضي راحة و هو يعيش على الهامش ، حيث يسكن كوخا بجانب البحر يطربه خريره عند المد والجزر ، يستمتع بحلاوة رمال الشاطئ . يغادر مع البحارة بعد منصف الليل لتتم العودة مع بزوغ النور ، كان للبحر طعم خاص ، تجعل ريحه المنعشة بدنه طريا و مشاعره عذراء كل يوم ، يرمي بكل تأوهاته هناك في فضاء اليم ويعود هادئا آمنا مطمئنا ، يتجه نحو السوق يوزع الصناديق على الباعة و يضع الباقي في محل التبريد ثم يغادر عند قدوم الشمس كي يعود مساء عند المغيب ، يكون أمامه اليوم كله ، فيه يستريح وفيه يرقص على إيقاعات موسيقي الطبيعة ، فيه يعانق مياه البحر عوما ، فيه يجد لنفسه المتعطشة للمرح مخرجا من تلك العوالم التي آلمته منذ الصغر ، يبتعد عن كل الذي تحمله تلك الكتب التي كان يسهر الليالي لاستكشاف مخزوناتها ، يعتقد في قرارة نفسه أن كل أولئك العظام و كل هؤلاء العباقرة ، ليسوا سوى أشخاصا عملوا على تعقيد الحياة البسيطة ، بل يرى كل تمظهرات التطور ما هي إلا عقبات توضع في وجه الناس البسطاء و الأطفال الصغار ، يتمعن بعمق ما جدوى الدراسة لمدة قد تصل إلى العشرين سنة ، هل العيش يحتاج إلى كل هذا الزمن المهدور ، و الحمل الثقيل ؟ هناك في فناء البحر وجد الطبيعة تتكلم قاموسا جديدا ، قاموسا عذريا ، قاموسا هادئا ، و هناك وجدت الأسماك لنفسها متنفسا رغم غياب الهواء في القاع . كان جسده هزيلا عندما كان في قاعة المدارس ، وهنا في الفضاء الرحب تمدد وتمطط و تضخم ، أيقن أن العقل مأساة الإنسان فهو من قزم بنيته العملاقة ليتحكم فيه ، إن الإنسان كتلة صراع بين العقل والجسد ، تميل فيه الغلبة للعقل و معها ينهار الجسد والعواطف حيث ميولاته العذرية . زفر زفرة حادة ، يرى عواطفه يكبتها ويقتلها فقط لإعطاء سطوة العقل مكانته المرموقة ، إنها الموازين المختلة ، والاستغلال والاستبداد ، يرى حبيبته تنهار أمامه صاغرة ، و لا يقدم على فعل فقط لأن المنطق لا يزاوج بين العقل والعاطفة ، كم كان هناك حرا طليقا يوم رمى بالصندوق في وجه اللص الذي تجاسر عليها ، كان بائع الكزبرة من أيقظ في نفسه تلك الشجاعة ، إنه نسخة لإنسان متحرر بعد طول صراع ، خبير بمفاصل الحياة ، يقرأ التصرف بسرعة ، إنه إنسان طبيعي يعرف قاموس الجسد العذري حيث تطفو العواطف والميول . لو كان قربه اليوم لكان مصير المدير مختلفا . إذ ذاك سيكون معها و يفتح لها صدره و يختارا العيش البسيط على إيقاعت الطبيعة .
فتح النافذة لعله ينتعش بريح قادمة من البحر يتأمل هذه المدينة الصاخبة يتأمل صواعدها بأعناقها المشرئبة نحو أعالي الفضاء ، حتى البنايات تواقة لاستنشاق عبير الطبيعة و رافضة لازدحام فرض عليها فرضا مقيتا ، أليس الكون فسيحا بما يكفي لاحتضان هؤلاء الذين يحبون التدافع في الزحام ، لكنه العقل من سيطر عليهم و فرض عليهم قواعده المليمترية . وحال بينهم وبين فسحة وهناء هناك ، يستظلان بوريقات الأشجار في الغابات ، يرتشفان كؤوس الشاي في خيام الصحراء ، و يطلان على الفضاء في أعالي الجبال .

" ياله من يوم ثقيل ! " هكذا قال ناصر وهو طوال اليوم يراجع السجلات المكدسة أمامه دون أن يستوعب كل تلك الجداول و المنحنيات ، تبسم حانقا على سنوات الدراسة البعيدة كل البعد عن الممارسة الفعلية ، إنه الآن لا يفقه شيئا في هذه القيادة التي أسندت له يتأمل قائلا : " كان الله في عونكم أيها الركاب عندما يسوق حافلتكم من لم يتمرس بعد على القيادة . ألم تكن حبيبتي أولى الضحايا ؟ هل هناك ما يعادل هكذا مأساة ؟ " فكر أن يطل على سوق السمك لكن مزاجه ليس صافيا ولا يظنه سيكون صافيا يوما ، كما أنه لا يحب الرجوع إلى الوراء ، فالعودة إلى الخلف إهانة للمستقبل وتشكيك بالذات و خياراتها مهما كانت غير صائبة ، فجرح العودة إلى الوراء لا يندمل ، كان أبوه يقول له عندما أحس أنه توجهه التعليمي لم يعد مشوقا كما كان يعتقد :" انت مخبول يا ولدي فلا استمرارية بلا عناد و مكابرة ، فالكل لا يحبون أعمالهم ، فقط يرفضون الاستسلام والعودة إلى الوراء ، فقاوم ستنتصر " لم يجد بدا من المقاومة رغم ما استنزفته من طاقته ، فأحس منذ ذلك اليوم أن القوانين التي وضعت للحياة تغلف و تحتضن ظلما عظيما .

هي في متاهة معتمة تخوض : " يا لهذا الذي كسر ضلوع اللص و هو حثالة ، كيف وافق على طردي بهذه السهولة وهو في أعتى المناصب ، ترى الفضيلة رديفة الضعفاء ؟ ترى المنصب يركب صاحبه منذ يومه الأول ؟ مخبول أنت يا قلبي ، تعلقت بالأعالي ، كنت أتحاشى أن أحبه منذ رأيت هيأته و عدم اهتمامه بمظهره ، كنت أتحاشى أن أنزل من رتبتي رغم وضاعتها و أشارك رجلا يعتمد فقط على بنيته الجسدية لكسب قوته ، كنت تائهة يومها في تساؤلات عديدة ، أحاول من خلالها قهر مشاعري التي لا تزداد إلا اتقادا كلما هممت بكبسها و إحكام الطوق حولها ، و اليوم رأيت كم كنت مخطئة ، إنه ابن رئيس مجلس الإدارة ، بل الرئيس بعينه يعوم في الملايين ، و يمتلك رقاب الكثير من البشر ، أين أنت يا صالحة من هذا ؟ " لم تجد غير الدموع مؤنسا ومواسيا لهذه المعادلة الجديدة كلما خرجت من متاهتها أسرعت بالعودة " يا له من يوم عصيب هذا الذي تكاثفت فيه الأحداث حد الصداع ، لكن ما الحل ؟ إنه العناد والمكابرة ، ألم تكن أمي معاندة جدا حتى مع الأقدار الصعبة ، ألم تتحدث معي طوال الأيام عن نضالها وكفاحها ، ألم يتكسر حبها على صخرة الواقع الفج والأعراف البالية ؟ ألم تسافر وتغادر الوطن لأعوام طويلة ؟ وهناك بنت بيتها و لقنتني أبجديات الحداثة و طعمت روحي بجميل الأصالة ، كنت مخبولة إذ رضخت بالعودة إلى وطني الأم ، لأكون ضحية بائع الكزبرة وحمال الأسماك ، و لص المحافظ النسائية ، و مدير لا يفهم في الإدارة غير العقاب . "
كان اندماجها في هذا الوسط عسيرا ، يوم مات والدها عزمت أمها على العودة إلى الوطن ، أخوها فضل الاستقرار هناك كمسير لمتجر والدهما ، أمها تخلت عن وظيفتها مكتفية بتقاعد نسبي ، وهي استكملت دراستها و قررت مرافقة أمها و تبحث لها عن استقرار في مسقط رأس والديها و الأزمة تلف بلاد المهجر ، و فرص النجاح تزداد في بلادها . تغيرت نظرتها إلى وطنها جملة وتفصيلا ، كانت أيام العطل تقدم صورة كاذبة عن مشاعر الحب والصفاء و التعايش ، إنه صراع طاحن من أجل العيش ، صراع بين الفقراء ، صراع بين النساء في توافه الأمور ، صراع لا يتوقف ، مع الجيران ، في الأسواق ، في الشوارع ، أينما وليت وجهك زكم السب والشتم مسمعك و تلقيت ضربات تحت حزامك ، وطعنات من وراء ظهرك . اليوم تأكدت أن الهجرة هي الحل من جديد كما هربت أمها ذات يوم من حب فاشل ، عليها أن تبحث هي أيضا عن موطئ قدم آمن لا يبخسها حقها ، تبني فيه مستقبلها بعيدا عن هذا الصراع الأجوف . تأملت الوطن يفر منه أبناؤه تباعا ، يا لها من صورة لو فتحت الحدود ، سترى الجحافل تغادر رغم عشقها لهذه الأرض ، لكن شيئا فيها يقض المضجع والراحة ، ليس الخبز وحده ، ليست الرغبة منفردة ، ليست الكرامة و ليس الأمن ، قد يكون الفرد يفر من ثقافة غير قادر على التحرر منها ، وربما أسلوب حياة لم يعد صالحا .
جمعت حقائبها فجاءت أمها تتوسلها أن لا تتسرع في اتخاذ القرار ، فبكت بكاء مريرا " أتعلمين يا أماه لأول مرة أحس نفسي مرتبكة ، ولو استرسل الأمر على هذا النحو سأفقد صوابي كلية ، أتعلمين كم كنت طموحة ؟ كم كنت واثقة من خطواتي ؟ من امتص كل مدخراتي من الصمود ، من عراني من قدراتي دفعة واحدة ، يا أماه ليس للمسألة علاقة برغبة ، بل مجرد انقاذ لروحي من الضياع " صمتت الأم برهة وقالت " إنه التاريخ يعيد نفسه يا بنيتي ، أتعلمين أنني مذ فكرت بالرجوع كنت خائفة عليك ، كما كنت خائفة على نفسي من عدم الاندماج ، يا بنيتي هي الحياة لا تقاس دوما بالنجاح والفشل ، أحيانا نصمد فقط و نتقبل عواقب الخيار و ربما المتاح ، يا بنيتي كنت حانقة كما أنت يوم رفضت عائلته زواجنا ، فثرت و ذهبت إلى أقاصي الأرض ، لا أخفيك أنه طوال غربتي فقدت نفسي التي كنت أعرفها ، التي من أجلها قمت بخياراتي ، لولا صالحة و أخوها حامد ما استطعت الصمود و مواصلة المشوار ، كانت ضريبة الغربة قاسية فقدت فيها تاريخي و صداقاتي و جزءا كبيرا من كياني ، لولا أيام العطل التي تحيي صلتي بجذوري لفقدت كل شيء ، لولا أبوك المثابر لكنتم على شاكلة أبناء الضواحي حيث الجريمة والانحراف ، يا بنيتي لم تكن الحياة يوما سهلة ، يا بنيتي علينا أن نقرأ من تجارب الآخرين لكي لا نضطر كل يوم للبداية من جديد . أنا فخورة بك و لك كامل الاختيار . "



كنت سأقتصر على النص الأول ، و لما رأيتها لم تنل إعجاب أحد عقدت العزم على تطويلها لعلها تكون عند حسن الظن هههههه . و أتمنى لكم خبلا ممتعا .