عرض مشاركة واحدة
قديم 10-28-2011, 03:37 PM
المشاركة 1097
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
صدام حسين

أسطورة القرن العشرين

ما زلت اذكر تعليق المرحوم د. عبد اللطيف عقل المتخصص في مجال علم النفس الاجتماعي حول شخصية صدام حسين وردة فعله على القصف المزلزل لبغداد بآلاف الطائرات حيث خرج إلى شوارع بغداد ذلك الصباح وألقى خطابا يقطر عنفوانا وتحديا وشجاعة...ومن ضمن ما قاله يومها الآية الكريمة "الذين قال لهم الناس أن الناس قد حشدوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا"...فجاء تعليق د. عبد اللطيف عقل انه لا يوجد حاليا علم نفس يمكن أن يفسر جسارة وجرأة وعنفوان هذا الرجل.

لكن اليوم ربما نستطيع أن نفهم من أين جاءت تلك الصفات القيادية الاستثنائية بل وكل سمات وصفات صدام حسين العبقرية والأسطورية في كثير من جوانبها.

يأتي ذلك الفهم من واقع فهمنا لسيكولوجية الأيتام ومن اثر اليتم في صناعة السمات والصفات الشخصية، وذلك حسب نظريتي في "تفسير الطاقة الإبداعية"...حيث يمكن الجزم بأن الصفات القيادية العبقرية هي انعكاس للنشاط الذهني، والذي يكون أعلى كلما وقع اليتم في سن مبكرة.

وواضح أن أعظم اثر لليتم يحدث إذا ما وقع موت الأب قبل الولادة...وذلك استنادا إلى ما يمكن ملاحظته من سيرة حياة العباقرة الأفذاذ.

وهذا ما يشير ويؤكد على أن العلاقة بين فجيعة اليتم والأثر الواقع على الدماغ هي علاقة غير واعية، وليس كما يظن البعض...أي أن الأثر يكون أعظم كلما كان توقيت فجيعة اليتم أبكر، وبغض النظر عن الكيفية التي يحدث فيها ذلك الأثر وهل هو قضية كهربية أو كهرومغناطيسية أو هرمونية أو وجدانية أو غير ذلك. رغم أن هناك مؤشرات بزيادة حادة في النشاط الكهربي للدماغ نجدها عند من يصاب بفجيعة اليتم.

ولو أننا دققنا في سيرة حياة كل من مات أباه قبل الولادة لوجدناه استثنائيا في كل شيء يخصه حتى ولو لم تتوفر له الظروف المناسبة ليتمكن من إخراج طاقات ذهنه المتفجرة على شكل مخرجات إبداعية وعبقرية...وسوف نجد حتما كل من توفرت له الظروف الداعمة والمساندة والمناسبة بأنه قد تحول إلى عبقرية استثنائية فذة نادرة مثل نيوتن الذي يعتبر أب لكل العلوم على الإطلاق.

وعليه يمكن فهم من أين جاءت صفات صدام حسين الإبداعية والقيادية العبقرية الأسطورية.

نعم، إن ما صنع صدام حسين هو يتمه المبكر جدا...بل هو يتمه قبل الولادة تحديدا وهو كما قلنا أعظم أشكال اليتم أثرا...ويؤدي إلى أعلى نسبة من الطاقة الذهنية التي يمكن أن تتشكل وتخرج في وقت لاحق على عدة إشكال إبداعية وقيادية وأحيانا تصرفات سلبية ذات وقع واثر عظيم مزلزل قد توصف في مجال القيادة بالدكتاتورية والدموية وما إلي ذلك من أوصاف...ولا شك إن كان الوالد قد قتل قتلا ولم يمت موتا طبيعيا فيكون لذلك اثر أعظم.

لقد ولد صدام حسين في بوتقة من الألم الشديد لان أباه مات أو ربما قتل قبل ولادته، لكن ذلك الألم تضاعف عندما تزوجت أمه فأصبح لطيم (فاقد الأب بالموت والأم بالزواج من رجل آخر)، وربما كان زواجها هربا من الفقر...لكن الفقر ظل يلاحقه فالمعروف أن صدام حسين قد عاش مع أمه وإخوته في بيت بسيط في قرية العوجة، يتكون من غرفة واحدة ذات أرض طينية، غير مزودة بالاحتياجات الأولية كالمياه الجارية، والكهرباء، ويقال أن صدام قد حكى لأمير إسكندر كاتب سيرته الذاتية بقوله "لم أشعر أنني طفل أبدًا، كنت أميل للانقباض وغالبًا ما أتجنب مرافقة الآخرين".
لقد عاش صدام حياة قاسية جدا، وهو يعترف بأن طفولته كانت شقية وهو يعزو ذلك للفقر...وقد دفعه ذلك الفقر للعمل في طفولته المبكرة في مهن مثل بيع البطيخ في القطار كي يُطعم أسرته.

واضح أن تلك الحياة القاسية فجرت طاقة ذهنية هائلة في دماغ صدام. وقد وفر له الانتقال للعيش مع خاله طفلح في العام 1947 الرعاية والتعليم والبيئة المناسبة نسبيا، فتبلورت تلك الطاقات في اتجاهات إبداعية وقيادية عبقرية نادرة، على الرغم أن التحاقه بالمدرسة تأخر إلى سن الثامنة أو العاشرة.
وقد تحول صدام بفعل تلك الرعاية من طفل بائس كما تُظهر صورة له التقطت في الطفولة المبكرة، لتظهر صورة أخرى التقطت له في سن الخامسة عشرة شابًّا وسيمًا أكثر هدوءاً وسعادة له ابتسامة جذابة ووميض في عينيه الصغيرتين، وهو يغازل الكاميرا.

وخلاصة القول،،،
لقد جاء صدام إلى الحياة ولم يجد أبا..فكان لذلك أثرا مهولا على دماغه فتفجرت فيه طاقات ذهنية لا حدود لها...ولكن تلك الطاقة تضاعفت بفعل الفقر، وقسوة ظروف الحياة، ثم زواج الأم من رجل آخر...ويبدو أن زواج الأم من رجل آخر هو اشد العوامل تأثيرا بعد اليتم على طاقات ذهن الطفل كما يقول د. عبد اللطيف عقل عن نفسه، والذي تيتم في سن السادسه وتزوجت أمه من رجل آخر...فكان ذلك عنده أعظم مصادر الألم.

المهم أن صدام حسين وبفضل كل تلك المآسي امتلك طاقات لا يمتلكها إلا البعض من إقرانه الذين تيتموا قبل ألولادة. وحيث أن خاله تكفل به وعلمه ورعاه وساعده على الانخراط في المجتمع من أبوابه الواسعة...نجد أن تلك الطاقات في معظمها قد صنعت من صدام حسين شخصية قيادية كرزمية فذة، ولكنه كان في نفس الوقت مبدعا متعدد المجالات...شاعرا وروائيا وخطيبا مفوها.

فكان صدام حسين أسطوريا في شبابه من حيث الجرأة والقدرة على تنفيذ عمليات جسورة جدا ضمن نشاطاته الحزبية، وربما ان ذلك كان ترجمة لطموحه المبكر في الوصول إلى أعلى المراتب القيادية..مدفوعا بطاقات ذهنه.

وكان أسطوريا في حنكته وقدرته على التأثير والفعل والتخطيط والمناورة والخداع والقسوة والقتل بهدف الوصول إلى منصب القائد العام...وقد فعل ذلك بفطنة عالية ليتربع في زمن قياسي على العرش حاكما كرزميا مهيبا دكتاتوريا مطلقا، يرهبه القاصي والداني.

وكان أسطوريا في انجازاته حتى قبل وصوله إلى منصب القائد العام، فقد تمكن في زمن قياسي من تحقيق انجازات غير مسبوقة في مجالات التعليم ومحو الأمية والعمران والزراعة والصناعة وبناء قوة عسكرية ضخمة ومحترفة حتى أوصل بلاده لإطلاق صاروخ إلى الفضاء الخارجي، ليكون استكشاف الفضاء إحدى الجبهات التي اقتحمها بعبقريته الفذة وقدرته المهولة على التحفيز وتحقيق الانجازات الاستثنائية والاعجازية.

وكان أسطوريا في انتصاره على الجيوش الإيرانية العظيمة والتي كان يقودها ويحركها يتيم آخر امتلك بدوره قدرات كرزمية أسطورية، ولو انها كانت اقل حدة، هو الإمام الخميني...وما يجعل ذلك الانتصار أسطوريا مدويا انه جاء بعد انتصار الثورة الإيرانية على الشاه مباشرة، أي أن الاندفاع الثوري والحماس، والمعنويات التي كانت تملكها تلك الجيوش كان كفيلا بأن يضمن لها احتلال العالم... لولا أن صدام حسين بقدراته القيادية الفذة وقف أمامها سدا منيعا ودفعها للاستسلام والانكفاء.

وكان أسطوريا في ثباته وصموده أمام الحصار الخانق والتهديد والحرب التي شنها عليه تحالف استعماري رهيب، ما كان لقائد أن يقف أمامه إلا صدام بشخصيته الاستثنائية، وصفاته وسمات شخصيته الفذة.

وكان أسطوريا في أسره...
وكان أسطوريا شجاعا في مواجهة حبل المشنقة...
وكان أسطوريا حين نطق، بصوت جهوري شجاع، كلماتة الاخيرة والتي حققت له المجد والخلود...لتظهر صورتة في اليوم التالي على وجه القمر!

وكان أسطوريا في أثره على مجرى التاريخ...فرغم خسارته المدوية في المعركة، ورغم شنقه...يمكن القول بأن صموده وما تسبب به هو وأتباعه وأنصاره من أذى ومتاعب وخسائر وجراح للاحتلال قد اسقط نظرية النظام العالمي الجديد، الذي كان يتم السعي والعمل على تنفيذها...كما أوقع الدول العظمى في أزمة مالية، بل ازمات، يبدو انه لا مخرج منها إلا الانهيار والهاوية...وهي تسير نحو ذلك بتسارع شديد.

لقد كان صدام حسين أسطوريا في قدراته ومدى تأثيره وهو اليتيم قبل الولادة...لكن طاقات ذهنه المتفجرة تلك جعلته أيضا وإذ صنعت منه حاكما، كرزميا، دكتاتوريا، مطلقا، شديد البأس، ومرهوب الجانب، جعلته يقع في عدة أخطاء أساسها ربما هو سوء التقدير والغرور والاعتداد بالنفس...وهي كلها محصلة لتلك الطاقات التي كانت تعتمل في ذهنه.

وربما أصيب، وكأي يتيم يمتلك مثل تلك الطاقة الذهنية المهولة، بنوع من جنون العظمة جعله يستصغر العظائم احيانا فكان كمن وصفهم المتنبي بقوله:

وتَصغُـر فـي عَيـنِ العَظِيـم ِالعَظـائِمُ

ولذلك نجده قد اتخذ احيانا قرارات جنونية شبه انتحارية وغير محمودة العواقب حتما...جلبت الكثير من المآسي والدمار.

وكل ذلك يعود سببه لما امتلك من طاقات..

والدارس للجوانب الأخرى من شخصية هذا اليتيم العبقري يجد انه كان يقول الشعر الجميل ايضا، والذي يشتمل على الكثير من خصائص شعر المتنبي، حتى ليظن الدارس بأن روح المتنبي قد استُنسخت فيه، وسوف تظل أبيات الشعر هذه التي نظمها خالده بخلود شعر المتنبي أو ربما أكثر:


لا تأسفن على غدر الزمان لطالما **** رقصت على جثث الأسود كلاب

لا تحسبن برقصها تعلو على أسيادها **** فالأسد أسد والكلاب كلاب

تبقى الأسود مخيفة في أسرها **** حتى وان نبحت عليها كلاب


ولا عجب في ذلك طبعا حينما نتذكر بأنهما (هو والمتنبي)، في (اليتم والفقر والبؤس) شرق.

ولو تعمق الدارس في كتابات صدام الروائية لوجدها عبقرية فذة حتما، وقد تشتمل على استشراف قد لا يُفهم في الزمن الحاضر...فهذا هو ديدن عقل اليتيم العبقري الذي يعمل دماغه بطاقة البوزيترون.

لقد عاش صدام حسين عيشة الأسود، وخرج من هذه الدنيا خروج الأسود...وسوف يظل ابد الدهر أسدا أسطوريا خالدا وقدوة يحتذي بها الأيتام...
والقائد المغوار يبقى سيدا أسد.... في حضرة الموت أو بعد القبر والعدم

ولن يتمكن احد من منع عودة انبعاثه في أجساد وأذهان ملايين الأيتام الذين خلفهم الاحتلال وهم يصهرون الآن في نفس بوتقة الألم والبؤس التي صنعته ابتداء، ويشربون من نفس الكأس التي شرب منها، فجعله كل ذلك عبقريا، فذا، وأسطوريا بكل المقاييس..وهم كذلك سيبعثون.

والسر طبعا يكمن في يتمه المبكر...

فاليتم منبت القادة العباقرة العظماء...إذا ما أحسنت تنشئتهم وتربيتهم وتعليمهم ورعايتهم وكفالتهم.