عرض مشاركة واحدة
قديم 07-12-2013, 02:56 PM
المشاركة 4
صفاء الأحمد
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

إلى العُلا / ياسر علي .



جمع صفحات بحثه الذي استنزف كثيرا من وقته ومن مخزونه الفكري والمعرفي ، ضمنه باقة اجتهادات و نظريات حول طرق بلوغ المجد والنجاح ، لم ينس فكرة ولا قولة حكيم ولا عبرة ولا دراسة إلا أتحف بها رسالته التي يراها قيمة ، حفزه إعجاب أساتذته المؤطرين و معظم من يثق بهم بمنهجية تناول الموضوع وما يتضمنه من كنوز معرفية وإبداعات خلاقة . وصل اليوم المعلوم ، القاعة مكتظة مدرجاتها بالطلبة والأساتذة وبمعارفه وأصدقائه ، استوت لجنة التقويم على الكراسي والكل ينتظر إطلالته وهم متعطشون لما سيقدمه المرشح لنيل هذه الشهادة العليا ، منذ الصباح الباكر يحاول التركيز وجمع شتات نفسه التي تتبعثر على ضفاف الانتظار وتتشظى صلابتها كلما اقتربت ساعة الحسم ، من النافذة لمح سيارة صديقه السوداء ذات الزجاج الغامق الحاجب للرؤيا فملأ رئتيه هواء منعشا ، لبس بذلته الزرقاء التي اقتناها خصيصا ليظهر في أبهى حلة في هذا اليوم الذي لا يتكرر في العمر ، لف ربطة العنق السماوية اللون متدلية على قميصه الأبيض ، بقدر إضفائها رونقا على حلته الزاهية تزيد أنفاسه البطيئة اختناقا ، لكنه يحب التحدي والصمود ، أطياف النور المتدفقة من نافذة غرفته تشع من خلال حذائه الأسود ، أمه تطوف بمبخرتها أرجاء المنزل فيتصاعد دخانها ذو الرائحة الطيبة طاردا أرواحا شريرة تحب إفساد السعادة في قلوب البسطاء ، رشته بحبات ملح و هي تتمتم كلمات حفظتها عن ظهر قلب كما وصاها الفقيه ، أنهت طقوسها وارتدت جلبابها و بلغتها وسترت شعرها الأشيب بحجاب أسود فنادت طفلها : هيا يا بني فموعد المحاضرة يدنو وصديقك بالباب " لسعته القولة على مستوى قلبه الذي انطلق خفقانه المزعج ، أمام المرآة يسترجع أيام طفولته الأولى حين كان الظلام يغزوه خوفا ناهيك عن بغلة المقبرة وعنزة دور العبادة وكل تلك الشريرات ذوات المخالب والعيون الحمراء اللائي يتربصن بالصغار ، توجه إلى الثلاجة و أفرغ ماء مثلجا في جوفه مستردا نشاطه ، انحدر مع السلم معانقا صديقه ولسانه لا يستحلي الكلام ، أعطى الحقيبة لأمه التي قبلتها وحضنتها بينما وضع حاسوبه على رجليه ، وباله مشدود بابتهالات منبعثة من منشد بارع ماهر ترتقي به إلى رحاب السماء بينما العجلات بدأت في الدوران .
بالأمس أخضع نفسه لامتحان عسير ، تسلق مئذنة المسجد غير آبه بتلك العنزة المقيتة ، يتسلق الدرج بيديه ورجليه محاولا التماسك مجابها دوارا كثيرا ما حرمه من التمتع بتلك النظرة الفوقية ، تلك القدرة الملائكية ، ذلك الطيران في الآفاق ، ذلك المعراج الذي يستصغر مطبات الحياة ، كلما أطل خلسة من نوافذ الصومعة اختلت فيه الموازين وانقلب عالي الأرض سافلها ، لتجتاحه تلك الحمى الملعونة ، جف حلقه واصفرت ملامحه لا هو قادر على الصعود ولا الهبوط ، يستغيث بكفايته العلمية فيعرف تمام المعرفة أن ما يدور في خلده مجرد أوهام ، يعلم علم اليقين أن تلك التخيلات أضعف من أن تهتز لها الأرض و دعامات المئذنة ، لكن في الوقت ذاته يحس جبروتها و استعصاء تجاوزها والقفز عليها وقد استوطنت نفسه ، تذكر المجنون و حركاته وحواراته وانجرافه مع العوالم الخفية ، لطم خده ، فقالت أمه : " ضربة عين حاسدة ، خمسة وخميس عليهم " توقف صاحبه ، ترجلا من السيارة ، لامسته برودة آتية من البحر ، يسأله صديقه ، " ما بك ؟" يرد عليه : " لا بأس أنا بخير ، لن أستسلم " .
رجعا إلى السيارة فطمأن أمه أنه نسي دعوة واحد من أصدقائه المقربين ، وهو يقول في نفسه ، ما أحلى الكذب ، لولاه لما استطعنا الصمود ، سأحاول أن أكذب على نفسي لعلها تهدأ ، تسعة وتسعون ، ثمانية وتسعون ، سبعة وتسعون .... وهكذا استرسل في عد تنازلي لكن كلما اقتربت السيارة من الموقع استبد به الحال كما بالأمس كلما أصر على الصعود أفرغت معدته محتوياتها ، أحس بمغص شديد رغم أنه لم يتناول غير ماء وسكر فغلبه قيء خفيف كاد يلطخ بذلته وحذاءه ، بعض بقع صفراء تموضعت على حاسوبه ، قدم له صديقه منديلا ورقيا في صمت ، لحسن حظه توقفت السيارة فأسرع نحو الحمام ، متخلصا من إفرازات جسمه ، خلل وجهه الشاحب بالماء ، ناوله صديقه قطعة حلوى فالتهمها بنهم ، ساعده على شحذ همته واسترداد ألقه ، فتوجها إلى القاعة ، عند الباب قال : " دعواتك أمي " .
دخل من البوابة من حيث يرتفع على الجميع ، نظره لا يفارق حذاءه ، هذه الشرفة تكاد تعلو تلك الصومعة التي قهرها بالأمس ، رغم إصرارها على هزمه ، تذكر والده وهو يغادر الحياة : " لا تستسلم ، كن شجاعا ، كن قويا ، كن رجلا...... " أحس بنظراته تنهره ، رأى صرامة ملامحه ، سمع صوته ، فارتعب وارتعشت يداه وهو يبسط محتويات حقيبته ويهيئ حاسوبه ، رفع رأسه فتراءت له عيون محمرة على امتداد البصر تفترسه ، فهوى بعينيه مسقطا قلمه تحت المنضدة ، لعله يحظى ولو بلحظة خلوة مع نفسه ، سرعان ما عاد بعدها إلى الصورة ، المنشط ذكر بموضوع اللقاء ، وصاحبنا جاء دوره في الكلام ، نقر نقرات خفيفة على الميكرفون بأصبعه فسمعها تدوي على أغشية أذنيه أضعافا مضاعفة ، حنحن فانطلق صفير مزعج من مكبر الصوت أرغم الكل على غلق عيونهم وآذانهم ، فانطلق لسانه في غفلتهم يلتهم الصفحات ، و تحررت يداه مساهمتين في توضيح العبارات بمرونة نادرة ، فشخصت الأبصار أمام هذا الفيضان المعرفي ، وهذه القدرة الخارقة على البرهنة والاستدلال ، و تلك الموهبة الفذة في الخطابة و السيطرة على الموقف ، فاتضحت البيانات على شاشة عملاقة ، وقف الجميع تصفيقا وإعجابا.
في نهاية العرض ، بطلنا يرى عيني والده تبتسمان فرحا و هو يلوح بيديه كما فعل بالأمس من أعلى الصومعة و زغرودة أمه تحمل إليه بشرى النجاح مردّدة: إلى العلا إلى العلا .




أدرتُ ظهري للشفق ، وسرت بخطٍ موازٍ للنور ،
و كأنّ المغيب لا يعنيني !!