عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
14

المشاهدات
6549
 
محمد الشرادي
من آل منابر ثقافية

محمد الشرادي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
155

+التقييم
0.04

تاريخ التسجيل
Aug 2014

الاقامة

رقم العضوية
13134
09-13-2014, 03:25 PM
المشاركة 1
09-13-2014, 03:25 PM
المشاركة 1
افتراضي أيقونة من رخام بارد
أيقونة من رخام بارد

عندما يعبق الزقاق برائحة المسك، يدرك الجميع أن هاجر عائدة من عملها،لتملأ المكان بهجة و بهاء.تجحظ أعين التجار في جوف دكاكينهم، و الصناع في رحم ورشاتهم، و رواد المقاهي الذين يحتلون قارعة الشيطان،تنتصب أعينهم على طول الطريق آلات تصوير ترصد تضاريس الجسم الندي لهاجر في أدق تفاصيله، و تتماهى مع حركاته التي تقطر لذة، و شهوة.ثم يرخون العنان لمخيلاتهم و لألسنتهم ... لينعتوها بأسماء كل ربات الجمال، و لأن الجبة التي تتناغم مع روعة أردافها، تكشف عن ساقين رشيقتين كانهما من قوارير،أجمع معظم – شيوخ النظر – على أنها بلقيس و هي تدخل صرح سليمان.
صابر زوج هاجر، اشتهر لدى عامة الناس بالتواضع، و دماثة الأخلاق، حتى أن هاجر لا تكف عن تذكيره بأنها تحبه حتى الموت، لكنها تهيم أكثر بروحه النقية الصافية.
كلما عبر صابر الزقاق، كانت عيناه تنظران إلى الأرض، كمن يبحث عن شيء مفقود، و لا يرفع رأسه إلا لأداء تحية، أو رد سلام. سكان الحي يحسون نحوه بشعور غامض، هو مزيج من التبجيل، و الحسد،لأنه الوحيد من بين كل الرجال في المدينة برمتها يستطيع أن يقول "أنا أتزوج امرأة حقيقية"
رغم الجمال الذي ينضح به جسم هاجر. يبدو أن عطبا ما يسكن هذه الفتنة المتحركة. حين تمر أمامك تبدو مهزوزة الدواخل، و لا تتمتع بأي ثقة في النفس. و تعلو وجهها كآبة مزمنة. تتحاشى ما استطاعت نظرات الناس، و الاختلاط بهم، حتى لا يجرح كبرياءها كلام طائش.تزعزع في قلبها الإيمان بأنوثتها. مرات عديدة وقفت أمام المرآة عارية، لترى نفسها خارج نفسها، و عندما تتيقن من بهائها، تتساءل:
- كيف لهذا الجسد الذي يفيض جمالا، أن يكون عاجزا على أن يهب الحياة؟
تبادرها المرأة في المرآة قائلة:
- لست خجولة حين أصارحك بحقيقتك،أنت مجرد وهم... بيداء قاحلة... طاووس لا يليق إلا للزينة.أنت خيمة بدون أوتاد، سرعان ما ستطوح بك رياح الرغبة الدفينة في أعماق صابر. و في أحسن الأحوال ستكونين الخيمة الثانية،بعد خيمة جديدة تعرف كيف تصنع أوتادها.و زوجك يريد أرضا خصبة يحرثها فتنبت الزرع.
تحاول هاجر أن تظهر بمظهر مخالف لما يختلج في أعماقها، و ترد على المرآة.
- يعيش صابر معي سعادة لا توصف، و أمنحه متعة لا يطالها الكثير من الرجال، و أنا متيقنة...
قاطعتها امرأة المرآة :
- أجل تحملين و جها يفتن، و تمتلكين جسدا جبارا، يشعر صابر بالضعف أمام بديع صنعه، لكنك مجرد أيقونة من رخام بارد، مظهرها جميل، و باطنها ميت...انظري إلى عيني صابر حيث يعشش حزن أزلي، و يعيش تمزقا حادا بين حبه الكبير لك، و رغبته في ذرية تمنحه لقب الأب...الرجل لا يحب المرأة الخلاقة فحسب، بل يحب أيضا البقرة الولود.
تلفح خدودها المتوردة دموع مالحة حارة، لتجهش بعد ذلك ببكاء مر، ثم ما تلبث أن تستجمع قواها، و على المرآة تقبل عينيها المليحتين،سلاح الدمار الشامل في هذا الكيان الباهر.نظرة واحدة منهما في اتجاه صابر تجعله ينهار كليا، و يخر على ركبتيه أمامها ، و يقبل يديها الناعمتين.
يعذبها تحمل صابر. يداري رغبته بلباقته المعهودة، ويتفانى في حبها حتى لا يشعرها بأي نقص. لكن هيهات أن تخفى على عينين باهرتين تلك المعاناة الخرساء. تربت في أعماقها عقدة ذنب اتجاهه. جعلتها مدمنة على العلاج لعل المعجزة تحدت ، و تسعد زوجها المثالي.
ذات مساء ربيعي ، وهي في وكر من أوكار الشعوذة،تجلس أمام "شوافتها" المفضلة،التي شجعتها على التشبث بجذوة الأمل، مهما كانت باهتة. جعلتها تعتقد أن هذا الجسد الإلهي، لا يمكن أن يكون قفرا.إنه بركان نائم ليس إلا،عاجلا أو آجلا ستتحرك بأحشائه حمم عاطفة الأمومة، وتنفجر في فناء البيت ذرية.و لأن وصفاتها السحرية المليئة بالعقاقير العجيبة لا بد أن تؤتي أكلها، سيما و أن "الشوافة" جربتها- أو هكذا أوهمتها - مع نساء كثيرات، و أعطت نتائج مضمونة.
في ذلك اليوم الربيعي،و بعد أيام طويلة من العلاج، أمرتها لأول مرة أن تخلع ملابسها كاملة، و تتمدد على سرير البركة!!إنه يوم التشخيص النهائي، و إعلان النتائج. بعد همهمات، وغمغمات، و تراتيل غير مفهومة، و أبخرة غمرت الغرفة بروائحها، ودخانها، أطلقت " الشوافة" زغرودة قوية.ربتت على كتف هاجر.هنأتها بتحقق حلمها، و سألتها بثقة بالغة عن جنس الجنين الذي ترغب فيه. ردت هاجر بعينين تفيضان فرحا:
- أرغب في أن يكون الجنين بنتا رائعة الجمال.
اندهشت "الشوافة" لكلامها، و قرصت شحمة أذنها قائلة:
- يا لك من ساذجة!تثبيت الخيمة يحتاج إلى وتد كامل.
لم تعر هاجر أي اهتمام لكلامها...لبست ملابسها بسرعة... وانطلقت كالسهم في اتجاه منزلها...لم تشعر كيف عبرت الزقاق، و لا كيف أصبحت في فناء البيت، وجها لوجه مع صابر. أخبرته بالحدث الهام في حياتهما. انهار على الأريكة ...صبت عليه ماء باردا...استفاق من غيبوبته...عانقها عناقا قويا...و ضعت خدها على خده، و انخرطا في بكاء طويل...
وقفت أمام صابر... ماذا تفعل؟ أترقص؟ أتغني؟ أتزغرد؟أتفتح النافذة و تصيح بأعلى صوتها لتخبر العالم بحملها؟
لا تدري.أمعنت النظر في زوجها ثانية...انقضت عليه...ضمته إلى صدرها...أحست هذه المرة بحرارة جسده. كانت دائما تجده مقرورا، كجرم جفته الشمس، و الحرارة.وضعت رأسها على كتفه:
- ياه يا صابر، كنت أحس بك تداري دموعك. كم عذبتني بنظراتك الحزينة. تمنيت مرات لو أن" ميدوسا" أعارتك عينيها،و حولتني إلى تمثال من صخر فأرتاح و تستريح.
يقبلها صابر من أرنبة أنفها الشامخة، و يهتف:
- ليتك يا هاجر كنت قادرة على التحول إلى صابر، حتى تقفي بنفسك على مقدار حبي لك. أطفال الدنيا، الذين يعيشون الآن، و الذين ماتوا، و الذي سيخلقون على مر السنين ،لا يساوون عندي شعرة في مفرق رأسك. تكفيني قبلة من ثغرك الريان...تكفيني بسمة ...نظرة... فأكون لك زوجا ...أخا...و عبدا طول العمر.
ضمته إلى صدرها بكل ما أوتيت من قوة. مسحت الدموع من مقلتيها الآلقتين، و هي تحدث نفسها ( انتهى وقت القلق،و الإحساس بالضعف. ازداد وجودي رسوخا في قلب صابر بعد أن نجح بطني في إنبات أول الأوتاد، و البقية لا شك ستأتي. علي أن أرفع رأسي، و أنظر إلى الجميع بفخر. علي أن أمزق خيوط الكآبة التي نسجت في أعماقي مستوطنات شاسعة من الوجع. الكآبة خطر على الجنين. لا بد أن أغرق نفسي في بحر من السعادة. أريد لفاكهة عمري أن تستقبل الحياة ببسمة،و ليس بصرخة)
استبدت بصابر رغبة جامحة في الخروج. تجول في الزقاق، و رأسه مرفوع. ينظر إلى وجوه، لأول مرة، يمعن النظر في قسماتها. يوزع التحيات، والابتسامات على الجميع بسخاء كبير.صبيان الحي كفراشات خرجت للتو من شرنقاتها تحف به...تهنئه، و يرمي لها بحبات الحلوى التي يخرجها من جيبه.
أرادت هاجر أن تتفرج على زوجها و هو يتلقى التهاني.مدت يدها لتفتح النافذة...سقطت من سريرها...ارتطمت مع الأرض بقوة. أنعشت السقطة دماغها. تذكرت أن صابر مسافر إلى العاصمة لإحضار التحليلات،و الفحوصات الطبية، التي أجرتها،و لم تكن لها الجرأة الكافية للذهاب في طلبها.أغلقت النافذة،و هي تردد:
- ليت صابرا يأتيني بخبر يثلج صدري.