عرض مشاركة واحدة
قديم 04-07-2016, 01:53 PM
المشاركة 63
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:
ومن النساء الاخريات اللواتي غمرنني بعطفهن وحبهن وعوضنني ولو بالقليل من الحب المفقود بفقد الام كانت خالتي عائشة، وهي اخت لامي غير شقيقة، واخت شقيقة لخالتي حلوة زوجة ابي الثانية، وكانت خالتي عائشة متزوجة من يوسف الرضا من عائلة شقور، وهو رجل كما عرفته لاحقا طيب الى ابعد الحدود، كريم، ومضياف، مقل في الحديث، لا يكاد يتحدث الا إذا سؤل فيأتي جوابه مختصرا ومصحوبا بابتسامة وعلى استحياء، وقد ظل على طبعه الكريم الودود المضياف حتى شاخ...

ويبدو ان خالتي عائشة كانت قد تزوجت قبل وفاة امي فلديها ابنتان أكبر مني سنا واحدة اسمها رحاب وهي أكبر بناتها ورائدة وهي الثانية في الترتيب، وظني ان هذا هو السبب الذي جعل جدي يدفع بخالتي حلوة لتكون الزوجة الثانية لابي بعد وفاة امي وليس هذه الخالة...

واتصور ان خالتي عائشة كانت الأقل تعاسة من بين النساء اللواتي عرفتهن في طفولتي المبكرة فقد كانت تعيش حياة هانئة لولا غياب زوجها شبه الدائم للعمل في الكويت، وكانت تعيش في بحبوحة مالية لان زوجها كان قد سافر الي الكويت مبكرا، وربما في مطلع خمسينيات القرن الماضي، وكانت تسكن في منزل واسع، جميل مبني على الطراز الحديث من الاسمنت والحجارة، وتلفه من كافة الجوانب حديقة واسعة مزروعة بأشجار مثمرة من كل الأصناف...

ثم انجبت أبنا ذكرا أسمته رضا على اسم جده رضا الشقور، وكان أصغر مني ببضعة أشهر، وهو قريب الشبه بي، وله مثلي شعر أشقر، ووجه مستدير، وهو بشوش يبدو مرحا سعيدا في كل الأحوال...

وربما ان وجوده وغياب الزوج في الكويت بشكل شبه دائم كان سببا في كثرة ترددي على منزلها، خاصة انني لطالما وجدتها امرأة مدهشة، تفكر بصورة عبقرية، وتجد عندها حل لكل مشكلة، وظني انه كان يمكن ان تكون مخترعة، لو سنحت لها فرصة التعليم، وتوفرت لها الوسائل اللازمة للاختراع، فلطالما اخترعت أشياء بسيطة كنت الاحظها حولها حيث كانت تستخدمها في بيتها المحيطة، او اقترحت حلول لمشاكل لا تخطر على بال....

وكانت تفكر بطريقة استراتيجية عجيبة، وتناقش في السياسة، والاقتصاد رغم انها امية لا تقرأ ولا تكتب، وكانت تتخذ مواقف سياسية حازمة، فكانت مثلا من اشد أنصار الرئيس العراقي صدام حسين، في فترة الحرب العراقية الإيرانية...

واذكر من المواقف الصعبة التي ربطتني بها وبابنها رضا في طفولتي المبكرة وانحفرت في ذاكرتي، وربما كان عمري عندها خمس سنوات لا أكثر، وكان ذلك الموقف حادثة مروعة، حصلت لابنها رضا، حيث كانت في زيارة لنا في أحد المرات، وكان برفقتها ابنها رضا، واذكر يومها اننا كنا وبرفقة والدي وخالتي حلوة في ارض لنا قريبة اسمها جنانة الرما، وهي ارض كانت مزروعة بأشجار المشمش، واللوز، والاجاص، والتين، والكرمة، واتصور ان الموسم كان ربيعيا فقد احضر والدي يومها الي تلك الأرض البقرات لتأكل من حشاش الارض...

وكنت انا ورضا نلعب سويا وتلفنا سعادة غامرة...وكنا في لحظة معينة نقطف ثمار اللوز من شجرة لوز تقع على جانب ارض أبو الراضي المنخفضة مسافة لا تقل عن ثلاثة أمتار في الموقع الذي كنا فيه، وتفصل ارضنا عن ارضه سلسلة من الحجارة أقيمت على صخرة صلبة، وكان اي سقوط من ذلك الارتفاع يشكل خطرا حتميا وربما مميتا...

وكان في تلك الاثناء عجل لنا يرعى على مقربة منا، ولم نكن نستشعر منه خطرا، فلم نألفه شرسا، عدوانيا او انه يمكن ان يقوم بحركات مفاجئة ومؤذية... وكان ذلك العجل صغيرا في السن لكنه ضخم البنيان، وهو حتما ابن احدى الابقار الاليفة التي كان يملكها والدي...ولكن في لحظة ما اقترب ذلك العجل من ابن خالتي رضا، ولا اعرف إذا كان رضا قد استفزه بحركة منه ام لا؟ لكن ما كان من ذلك العجل الا ان نطحه برأسه، ودفعه بقوة شديدة، جعلته يطير من على فوق الأرض، ويسقط في الأرض المنخفضة المجاورة كل تلك المسافة الخطرة...

وطبعا قامت الدنيا ولم تقعد على إثر ذلك السقوط المروع، وخوفا على رضا، وما يمكن ان يكون قد أصابه...لكنه قام من وقعته المروعة تلك دون أي كسر او خدش ولم يبق من تلك الحادثة الان الا الخوف الذي انحفر في ذاكرته، وذاكرة كل من تواجد في تلك اللحظة هناك، إضافة الي ذكرى الواقعة المروعة التي ما نلبث ان نسترجعها وتحدث عنها بين فينة وأخرى عندما نلتقي...

وظلت هذه الخالة عائشة مصدرا من السعادة والهناء والعطف والحنان، واستمرت حياتها سعيدة هنية لا ينغصها شيء ربما سوى غياب زوجها في بلاد الغربة، وكانت قد انجبت طفلا آخر اسمته رضوان هذه المرة، وظل الحال على ذلك حتى أصبحت انا في الثالثة عشرة من عمري، حينما وقع زلزال العام 1967 والذي وضع حدا لتلك الحياة السعيدة التي كانت تنعم بها خالتي، حيث جرفت أمواج التسونامي الهائلة التي تسبب بها ذلك الزلزال عالمها الجميل وحياتها الهانئة، لينقطع فجأة ذلك المصدر من مصادر السعادة والحنين بالنسبة لي ومن دون مقدمات، وذلك حينما اتخذت خالتي عائشة قرارا عاطفيا، وانفعاليا، متسرعا، وعلى غير عادتها، اذكر ان والدي لم يقرها ولم يوافقها عليه، حينما استشارته في امره، محذرا إياها من عواقبه الوخيمة، وبأن موت الانسان في ارضه اهون عليه من اللجوء وعواقبه...لكنها ضربت برأيه عرض الحائط، وقررت الهجرة مع من هاجر من فلسطين على إثر ذلك الزلزال الهائل في رحلة لجوء الي الأردن اثبت الزمن صحة رأي والدي فيها...فقد كانت سنوات ما تلا الزلزال سنوات عجاف عانت فيها خالتي وعائلتها اشد المعاناة في ارض اللجوء والتشرد...وتحولت حياتها الهنية الي جحيم لا يكاد يطاق...

وكان مبررها انها ارادت اللحاق بزوجها في الكويت، ولكن زوجها عجز عن استخراج اذونات الدخول لها الي الكويت ربما بسبب الاحداث المتفاقمة، فما كان منه الا ان ترك عمله هناك، وانضم اليها في الأردن، حيث قاما على شراء ارض صغيرة في منطقة عوجان القريبة من مدينة الزرقاء، وأقاما عليها منزلا صغيرا متواضعا بما لديهم من مدخرات، والتي ما لبثت ان طارت جميعها ليعشوا بعد ذلك سنوات طويلة من الحرمان والالم بسبب الفقر، والعوز، وغياب الدخل، فقد تبع ذلك الزلزال موجات تسونامي هائلة اثرت على كافة مناحي الحياة في الشرق الأوسط ككل لكن الضرر الأكبر أصاب من هاجر وترك ارضه لتنقطع مصادر رزقه ويعاني الامرين في سبيل تحصيل لقمة العيش...

وفي تلك الاثناء ما لبثت خالتي ان وضعت طفلا جديدا ذكرا بعد أيام من رحلة لجوئها الى الأردن، وفي ظروف غاية في الصعوبة، أسمته فرج لعل الله كما كانت تقول يفرج عليهم الهم، والكرب الذي الم بهم على أثر اللجوء، ويعيدهم الى جنتها في ارض فلسطين...لكن الفرج طال انتظاره لتعيش هي وعائلتها سنوات طويلة من العذاب والحرمان...

وعدت انا لألتقيها من جديد بعد ذلك بسنوات، في منزلها هناك في جبل عوجان، الذي تحول الي مخيم جديد جل سكانه ممن هاجر على إثر ذلك الزلزال، مخيم غابت عنه المساعدات الاغاثية المعهودة...
وكانت تلك زيارات عابرة بعد ان انتهيت من دراستي الثانوية... فوجدتها ما تزال تعيش حالة البؤس والفقر الشديد...لكنها كانت هي وزوجها مضيافة، كريمة، حنونة كما عهدتها، بل هي نبع من الحنان...فتحت هي وزوجها لكل عابر سبيل من الأقارب أبواب بيتهم الصغير على مصارعه للإقامة فيه لحين انقضاء الحاجة، مثل المرور من والى الكويت او انجاز المعاملات التي كانت تتطلب البقاء في الأردن بضعة أيام...

وكانت هي بعبقرتيها المعهودة قد سعت الى تدبير شؤون الاسرة، فلم تستسلم لليأس والاحباط ابدا على الرغم من واقعها المرير وفقدانها لفردوسها منزلها الجميل في فلسطين... ودفعت بأبنائها الي بيع الترمس، والبليلة، الذي كانت تصنعه بنفسها، وقامت على تشجيع زوجها بفتح دكان صغير لبيع المواد التموينية، رغم غياب الجدوى، لان الظروف كانت صعبة على الجميع في تلك المنطقة السكنية التي أقيمت على عجل، بحيث غابت القوة الشرائية وظل الناس يعانون من غياب العمل وسطوة الفقر لسنوات طويلة لاحقة...

لكن خالتي تمكنت من تجاوز المحنة بصبرها وعقلها المدبر العجيب ورغم الألم نجحت في تحسين ظروفها عائلته المعيشية وحرصت على تعليم ابناءها وظل على ذلك الحال تكافح من اجل البقاء الي ان تبدلت الأحوال وانهي رضا دراسة في كلية المعلمين، وبدأ العمل موظفا في البنك العربي فرع الرصيفة، بينما تحسنت ظروف العائلة أكثر فأكثر عندما سافر ابنها الاخر رضوان الى أمريكا، والتحق الأصغر سنا في الجيش فعادت الحياة تبتسم لهم من جديد، لكن الم فقدان الوطن وفردوسها الجميل ظل ينغص عليها حياتها وكثيرا ما كانت تحاول ان تصنع بيئة كمثل تلك التي فقدتها في فلسطين، فزرعت أشجار تين، وعنب، ولوز، وشجرة كينايا، لكن حلمها بالعودة الي فلسطين ظل شغلها الشاغل وحلمها الذي ظل يراودها الي ان تحقق ذلك عن طريق تصريح زيارة بعد سنوات طويلة من الغربة والالم، تعادلت الحياة فيها مع الموت، وربما كان الموت فيها ارحم...

وحكاية خالتي عائشة هذه ربما تستحق ان افرد لها رواية كاملة بذاتها فهي حكاية شديدة الدرامية...حكاية امرأة عقلانية كانت تعيش في هناء وسعادة لتتخذ في موقف ضعف انساني قرارا انفعاليا خاطئا دفعت هي وعائلتها ثما غاليا له، فقد انهارت حياتها الجميلة المستقرة على أثر ذلك القرار الانفعالي، وكان نتيجته خروجها من فلسطين، جنة الله على الأرض، اشبه بخروج ستنا حواء من الجنة، وكانت الغربة اشد عليها وعلى عائلتها من نار جهنم لكن خالتي كانت تلاحق زوجها ولا ترافقه في ذلك الخروج ...وفي الغربة عاشت سنوات طويلة من الحرمان والفقر والتعاسة، واتخذت بيتا في مكان قريب من سيل الزرقاء المطل على بساتين غناء من المشمش والفاكهة الأخرى لعله يعوضها عن بعض الذي فقدته وهي عاشقة الارض والاشجار والازهار، لكن هذا السيل ما لبث ان جف واصبح مجرى للمياه العادمة الملوثة بمخرجات المصانع، لتموت الأشجار التي كانت تحف السيل جميعها ولم يبق لها اثر، وصار المكان اقرب الي الصحراء القاحلة، وملوثا على الأرض بالمياه العادمة وفي السماء بالغازات والاتربة المنبعثة من مناجم الفوسفات القريبة...

لكن الحياة اشرقت من جديد وتحقق حلم العودة ولو انه كان ناقصا، اعرجا، ومتاخرا بعد ان كانت عجلة الزمن قد دارت وطحنت تحت اسنانها سنوات عديدة... فلم يعد الاهتمام ينصب على العيش في فردوسها الجميل المفقود وانما اصبحت الغاية تجنب الدفن في بلاد الغربة...


يتبع،،،