عرض مشاركة واحدة
قديم 04-03-2016, 01:07 PM
المشاركة 61
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة
:


اما المرأة الثالثة من ضمن قائمة النساء اللواتي منحنني البهجة والسعادة والمسرة في طفولتي المبكرة، وعوضنني قليلا عن حنان الام المفقودة على الرغم من حياة البؤس والشقاء التي كن يعشنها فكانت خالتي فاطمة، وهي الأقرب الي من ناحية الام، وهي الأخت الشقيقة الوحيدة لأمي، والدليل المادي الوحيد على انني اتيت من رحم امرأة، ولم أكن مقطوعا من شجرة، وهي المصدر الوحيد الذي شكل لدي تصورا عن صورة امي وما كانت عليه من حيث الشكل، لأنني لم اشاهدها ولم اشاهد لها حتى صورة، فقد ماتت امي ولم تترك واحدة، فكانت هيئة خالتي فاطمة اقرب شيء الي صورة امي في نظري، رغم انهم كانوا يؤكدون لي بأن خالتي فاطمة لم تكن تشبهها بشيء من ناحية الشكل..

وكانت هذه الخالة الأكثر حنانا، والاقرب الي نفسي، وكأنها الام البديلة بحق، لكنها كانت غارقة في مشاكلها حتى الثمالة وأحيانا كانت تبدو وكأنها في عالم آخر...

واذكر ان من بين اول الصور التي انطبعت في ذاكرتي عندما بدأت اعي ما يدور حولي في طفولتي المبكرة كانت صورة مؤلمة من احدى صور المعاناة الشديدة التي اختبرتها خالتي فاطمة هذه، والتي اظن ان حياتها التي عرفتها فيها كانت بمثابة صفحات من الألم المتواصل، ولا يبدو ان حياتها التي عاشتها قبلي كانت اقل الما، سواء كان ذلك في طفولتها المبكرة حيث أصبحت يتيمة الام في وقت مبكر ثم في حياتها زوجها الأول التي يبدو انها كانت اقرب الى شقاء مستديم يغيب عنه البسمة والامل كونها حياة ظلت خالية من الأطفال، لان زواجهما لم يكن مثمرا، وربما ظن زوجها انها كانت عاقرا، ففي تلك الأيام كانت المرأة تتحمل المسؤولية عن عدم القدرة على الانجاب حتى لو كان العيب في الرجل، كما اتضح لاحقا بفضل الاكتشافات الطبية والتي شطبت كثير من الاساطير، ومنها اسطورة مسؤولية المرأة عن انجاب البنات ليتبين لاحقا بأن المسؤول هو الحيوانات المنوية للرجل، وان المرأة بريئة من تلك التهمة التي الحقت بالنساء العار على مدى أجيال واجيال عديدة وكانت تتسبب لهن بكثير من الألم والمعاناة، كما تبين بأن أسباب العقم عند الرجال لا تقل في عددها عن تلك التي عند المرأة، لكن المرأة كانت تتحمل المسؤولية في كل الأحوال، وغالبا ما كانت تدفع هي ثما غاليا قد ينتهي بزواج ثاني وثالث ورابع، وقد ينتهي بانفصال وطلاق بائن في ظل محاولة الذكر المستميتة انجاب ذرية تحمل اسمه من بعده ...

لقد كان ذلك الحدث المؤلم هو حدث طلاقها من زوجها الأول حسن الذهيبة، وهو واحد من أبكر الاحداث المؤلمة التي سجلتها ذاكرتي على الاطلاق، وأول موقف اذكر فيه خالتي فاطمة، فلا اذكر مثلا انني زرتها في بيت طليقها الأول ابدا، وكأن الم طلاقها أيقظ الوعي لدي، فكانت تلك اللحظات شديدة الألم من اول الاحداث المسجلة في ذاكرتي وصندوقي الاسود...

وما أزال اذكر حينما عادت الي بيت جدي صالح، وهي طليقة طلقة بائنة، وقد احضروا لها صندوقها البني والذي كان يعد جهاز المرأة في ذلك الزمن، وبديل عن الخزائن الحديثة التي كانت تضع المرأة فيه اشيائها الخاصة...والدموع والتعاسة والحزن كانت تلفها وتلف من حولها على ما الت اليه حالها...
عادت خالتي فاطمة طليقة بعد ان افنت زهرة شبابها في خدمة ذلك الرجل الجاحد، لأنها لم تنجب فتزوج غيرها لعله ينجب من الثانية، وكانت هذه الثانية فتاة أصغر سنا، واسمها ذيبة وهي ابنة ذيب القره زوج عمتي نوفه من زوجته الأولى، ويبدو ان عيشة خالتي فاطمة عنده أصبحت لا تطاق مع قدوم ضرة مرشحة للإنجاب، ولكن حسن الذهيبة هذا مات بعد ذلك بسنوات، ولم ينجب ذرية تذكر، وما تزال زوجته الثانية تسكن في بيته القديم وحيدة كشجرة في صحراء قاحلة...

وكانت حياة خالتي فاطمة في بيت جدي صالح بعد الطلاق الأول صعبة، وقاسية، واظنها كانت قد تعرضت لصدمة عصبية طاحنة، نتيجة لما حصل لها من جفاء وجحود، وحزنا على شبابها المفقود الذي افنته في خدمة ذلك الرجل، وبسبب غياب الولد، وهول صدمة الطلاق مما استدعى تدخلا طبيا لتهدئة اعصابها وإعادة الاتزان لها...

ولم تمر سوى سنوات قليلة بعد حادثة طلاقها الأول حتى أصيب جدي صالح بجلطة دماغية اقعدته لعدة أشهر، وما لبث ان فارق الحياة لتبقى خالتي فاطمة، انيسة ارملة جدي الثانية آمنة السالم، تسكن معها، وتواسي بعضهما البعض على ما آلت اليه حالهما، خاصة بعد ان تزوج كافة أبناء وبنات زوجة جدي الثانية آمنة السالم، وبقيت هي وخالتي فاطمة في بيت جدي يعشن في دائرة من الألم بانتظار الموت ليس أكثر والذي كنت اسمع زوجة جدي ترحب بقدومه باستمرار...

لكن الامل ابتسم فجأة من جديد لخالتي فاطمة بعد ذلك بسنوات قليلة ولو على استحياء، حيث تقدم للزواج منها اخ زوجة ابيها آمنة السالم، واسمه الحاج احمد السالم، وكان عجوزا مسنا بل كان أصغر أبناؤه أكبر منها سنا، وقد أراد من زواجه منها امرأة تخدمه وتغسل ملابسه، لعله يمضي شيخوخة صالحه كما قالوا، لا يحتاج فيها الى زوجة ابنه، ولا خدمة بناته ولا أحد غيرها...وظني ان ذلك الزواج قد رتب على عجل بسبب العلاقة العائلية المتشابكة والتي سهلت الأمور وجعلته واقعا ملموسا، فكان زواج خالتي فاطمة الثاني والذي انتقلت على أثره الي بيت زوجها الثاني العجوز احمد السالم...

لكن هذا الزواج الثاني لم يدم طويلا ولو انه اثمر زيارة الى بيت الله الحرام في رحلة حج بصحبة زوجها الثاني وما لبثت الأمور ان تفاقمت فحصل الطلاق الثاني لتعود خالتي فاطمة من جديد الي بيت ابيها وهي مكسورة الخاطر من جديد...وعلى الرغم انني لا اعرف على وجه التأكيد سر هذا الطلاق الثاني لكنه اشيع حينها بأن الحاج احمد السالم أراد الذهاب الى الحج من جديد بعد ذلك بعام او عامين على ابعد حد فطلقها بطلب من ورثته، وكي لا ترث من رزقه شيئا إذا مات في الحج خاصة انه عند سفره للحج في تلك المرة كان أقرب الي الموت منه الي الحياة...فعادت خالتي فاطمة طليقة للمرة الثانية لتكمل ما تبقى لها من سنوات عمرها المريرة الى جوار زوجة ابيها اخت طليقها الثاني آمنة السالم، والتي ما لبثت ان ماتت لتبقى خالتي وحيدة في منزل جدي لسنوات أخرى قليلة اضافية...

كانت حياة خالتي فاطمة سفر من اسفار الألم، والتعاسة، والشقاء، لكنها كانت بالنسبة لي ام بديلة، ونبع حنان متدفق تحسه وتلمسه وتراه في كل شيء يصدر عنها، على الرغم من ظروفها الصعبة، والتي ما كان لجبل قاسيون ان يحتملها...

حتى انني كنت أحس بحاجتها الي وانا طفل صغير أكثر من حاجتي اليها...واذكر انها حاولت في وقت لاحق وهي على ما يبدو تستشعر دنو اجلها ان تمنحني خاتم ذهب هدية منها لي تعبيرا عن مدى حبها، وقد كنت في حينها ما ازل طالبا في الجامعة، لكنني رفضت بشدة اخذ هدية منها على أساس انها هي الاشد حاجة اليه والى غيره من الدعم والمساندة...وطلبت منها ان تبيعه إذا احتاجت المال لتقتات بثمنه بدلا من ذلك...

سنوات قليلة لاحقة مضت بعد ذلك انقطعت فيها عن الاتصال والتواصل معها وانا في بلاد الغربة لتموت خالتي فاطمة وحيدة وهي في منزل جدي...ورغم حزني وألمي على موت أقرب الناس لي من ناحية الام سرني انني لم أكن مضطرا لحضور دفنتها، فما كنت لاحتمل رؤيتها وهي تدفن، وقد فارقت الحياة، وسكنت سكنة الموت الابدي الذي كنت اخشاه واتجنبه في كل موقف، حتى انني لم اشاهد بشريا ميتا الا بعد ان تجاوزت الأربعين من العمر، وكان اول انسان ميت اقترب منه مضطرا وانظر الي وجهه وقد فاضت روحه الي بارئها اخي الكبير حمد والذي رافقت لحظات انهياره في المستشفى لحظة بلحظة ولما يزيد على أربعة اشهر اثر اصابته بانفجار دامي في البنكرياس مات على اثره شيئا فشيئا حتى فاضت روحه على اثر ذلك وبعد ان ضاق جسده بروحه الوثابة... فاسلم الروح كارها ولم يكن بد عندها من مواجهة الموت وجها لوجه في تلك اللحظة المريرة الصعبة التي زلزلت كياني...

ماتت خالتي فاطمة وانقطع أثرها في هذه الدنيا...ولا اعرف كيف كانت عليه حالها قبل موتها تفصيلا، لكنني سمعت بأنها كانت قد اشتكت من التهاب حاد في أحد اصابعها من شوكة صبر كانت قد دخلت فيه وتسببت في التهاب حاد تطلب على ما يبدو علاجا او تدخلا جراحيا... فاستشارت من حولها فأشار عليها بعضهم ان تضع يدها في فم جمل او ان تغرق اصابعها في لعاب جمل...لكن انى لها ذلك ونحن نتحدث عن ثمانينيات القرن الماضي حيث لم يكن يوجد جمل لا في القرية او حتى المناطق المجاورة...ويبدو انها استشارت أيضا جارهم الطبيب الشعبي المعروف أبو هارون فأخبرها بانها إذا لم تعالج الالتهاب فسوف تصاب بالغرغرينة ويضطروا لقطع اصبعها، وربما أراد ان يدفعها دفعا لمراجعة الأطباء، وقد انتشر الطب في ذلك العهد على نطاق واسع...لكنها خافت مما الت اليه حالها وحال يدها، وهالها ما سمعته من جارها الخبير الشعبي...ويقال ان ذلك تسبب في ارتفاع مفاجئ في ضغط دمها، اصيبت على اثره بجلطة دماغية فنقلت الى المستشفى لكنها ما لبثت ان فارقت الحياة ...تلك الحياة المريرة التي كان الموت ربما اهون حدث فيها...

يتبع،،