عرض مشاركة واحدة
قديم 03-03-2014, 01:08 PM
المشاركة 15
روان عبد الكريم
كاتبـة مصـريّـة
  • غير موجود
افتراضي
خديجة
تغيرت بى الحياة هذا الصباح , وقد اشتعلت بى جذوة الأمل ويا لها من جذوة ، اشاعت الدفء فى جوانحى التى اشتاقت للقاهرة حينما تراءت لى فوق طيف الخيال وديعة ساكنة من فوق حديقة الأزهر بمأذنها المضيئة الفضية وشواهد القبور المظلمة وحركة السيارات الدائبة فى صلاح سالم وفنادق النيل المشعة من بعيد والبيوت الساكنة الدافئة وصوت جدتى الحنون وهى تحمل لى فى مودة كوب الحليب كل مساء وصورة أبى وهو منهمك فى رسم هندسى ما فوق مكتبه ، كل هذه الصور اجتاحت خلايا عقلى وغمرتنى فى بحر من الدفء والحنين , كنت كالغريق الذى وجد مرساة نجاته ، لذا شرعت يدى فى نشاط وأنا أكاد أعدو فى الحديقة وقد تنفست أشجارها وزهورها فى الصباح الباكر الغارق فى رذاذ مطير حبيب لأول مرة أحب الطبيعة هذا الصباح .. صار المطر رفيق سعادتى بدلا من مستودع بكائى ، وقد حمل معه الكثير من الحلم لفتاة بائسة ضعيفة مثلى ، فطرت كعصفور صغير عبر الباب الحديدى الشامخ ، أدور صاخبة وأتنهد فى راحة مغمضة العين ملتفة الذراعين حول جسدى النحيل وقدماى تحتكان فى همس عبر الفناء الأملس فى اهتزاز غير عابئة بألم السقوط ثم أخطو بقدم واحد السلم الجرانتيى العتيق بينما تندفع قدمى الآخرى عبر الدرجة الأخيرة فى قفزات سريعة لأقع فى الحضن الدافئ لخديجة ، طباخة القصر السمينة القصيرة القامة الحنون ذات الخمسين خريفاً فوق خريف قضت منها الكثيروالكثير فى قصر ملك الطغاة غسان خورى .

وقد شممت من مريلتها رائحة الطحين المميزة ، فلبثت فى حضنها فينة أرتعش وهى تؤنبنى فى ضعف

- يا لك من طفلة كبيرة ، إنظرى لشعرك المبلل من رذاذ المطر
- بل أنها روحى التى بللها ورواها ندى الصبح

هتفت بها وأنا أدور حولها فى شقاوة تحبها هى وتفرج قليلا شرنقة الظلمة المحيطة بحياتى

- أحب المطر ، أحبك جوجى
وجوجى هو الاسم الذى أحببت دائماً منادة هذه السيدة الطيبة التى كثيراً ما رقت لحالى ولمحت فى عينيها العطوفة إلتماعة الدموع التى تخفيها بمهارة بعيداً عن الأعين

وكثيراً ما تسللت ليلاً إليها وهى تقف وحيدة فوق طناجرها العامرة دوماً لأنها المسئولة عن إطعام القصر وعمال الضيعة ، وكنت أسترق السمع إليها تدندن بشئ من أغانى فيروز ، أو تدعو خيفة لابن ضل عنها عله يعود يوماً وحين تلمحنى تزجرنى فى مودة خائفة ، لأعود لمأسرى ، ولا تنسى أبداً أن تخرج لى شيئا من الحلى الغارق بالفسدق والعسل تعده خصيصاً وتحفظه فى حالة مجيئ ثم تربت على يدى فى حزم وهى تضمها ضمة أم حانية وتدير وجهى حتى أستدير وأعود وأسمع دائماً صوتها خافتا يتمتم بالدعاء
وها هى تداعبنى
- يا كتلة العظام النحيلة ، علينا أن نكسوها بشئ من اللحم و......
وما لبثت أن توقف حديثها لدى الدخول الطاغى لغسان خورى وقد استيقظ مبكراً عن موعده
وتكسرت أشرعة الأمل التى ملأتنى على صخرة الواقع الرمادى الكئيب وهو يهتف بصوته العميق وقد ألم بحديثنا ويوجه كلامه للمرأة المسكينة

- لا أعتقد أن اسم جوجى يليق بك خديجة
فتحفزت فى عناد ووجه خديجة يستحيل تغضنا وأحمراراً وهى تومئ برأسها وتستأذن من غسان خورى للإنصراف
فأمسك بذراعها غير عابئة بالنتائج
بل يليق تماما وأردف فى لهجة الواثق لأكمل حديثنا المبتور

- جوجى ماذا لديك من طعام الإفطار
فنظرت لى بعتاب وضعف وقد أنكسر شيئاً فى روحها المرحة
وقد راق الأمر للعجوزالخبيث وهو يستعرض قوته الطاغية وتراقصت ابتسامة عابثة عبر وجهه وهو يقول
أيتها الصغيرة العنيدة فلتكن جوجى مادام جدك سيحظى برفتقك للإفطار ، ولم أكن أعنى هذا مطلقا ، أجلس مع الطاغية المستفز على مائدة واحدة وننعم بتلك الرفقة الصباحية الأسرية المبهجة أمر خارج تمامً عن محبط أفكارى ، فلم يحدث أبداً خلال العام الذى قضيته هنا بين هذه الجدران المهيمنة على روحى قبل جسدى أن تبادلت معه حديثاً مهذباً أو كلمة ودية فما بالك بالطعام وجهاً لوجه معه وقد تخيلت مئات المطارق تنهال على معدتى وتدكها دكاً مريعاً ، لكنى تذكرت جوجى وتذكرت فدوى وبسام وشيئا فى أعماقى ينبأنى بأن أستكين قليلاً وأنتظر فمن يعرف .. من يعرف
قلت
- لا بأس
وأنا أهمس لجوجى بشئ ما ، وهى تختلس نظرة سريعة مؤنبة لم تفت الرجل الواقف ممسكا ً بعصاه يدقها فى رتابة بصوت خفيض وتنصرف جوجى فى سرعة وقد ضاقت عينى العجوز وهو يرمقها فى شك
وقد وقفت أمامه فى أعتداد بالنفس لم يهزنى صوته الرنينى العميق يزفر فى وجهى

- ماذا تدبرين ؟
ويشير بأصبعه فى وجهى
حذار ناتالى فأنا أعشق عقابك
فعضتت على شفتى وقد أثارنى قلقه ببهجة

- لا تقلق مسيو خورى لاتقلق أبداً
قلتها وأنا أتجه لحجرة الطعام
من قال أن الإنسان لا يملك عينين خلف رأسه كاذب لأنى أحسست بسياط تلهب ظهرى وتحرقه
-----------------


حديث الكرز المر

كانت المرة الأولى التى أجلس على مائدة الإفطار مع العجوز ... الذى بد مستريحاً ومنتعشاً للغاية .. يحرث بطريقة مدربة لا تخلو من نهم طريقه فى الأطباق العامرة بالمربى والزبد والجبن و الكرز الأحمر القاتم ..وقد جلس بكل جبروته يأكل.... ولم يرهبنى حضوره هذا فقد كنت أكتنز له كراهية لا مثيل لها .. كراهية تجلب السقم للنفس ..غير أن لقاء بسام والأمل الذى شملنى هذا الصباح بالإعتراف بهويتى جعل شهيتى قوية للطعام وقد انتظرت حتى جاء طبقى المفضل الذى أوصيت جوجى به فى حديثنا الهامس منذ قليل
وقد انغمست آكل منه بكل لهفة وحنين ، والعجوز ينظر لى مستاءاً وهو يرتشف شيئا من العصير ويهتف بتأنيب
- متى تنسين أمر هذه البقوليات
- يسمى "فولاً" مسيو غسان ... وهو أساسى لدينا ، يبدو أنه يحتوى على ما يسمى هرمون السعادة
أمسك بمنديل ورقى ومسح فمه – و هو يقول باستغراب مفتعل
- لديكم... سعادة!!!!!
- أكملت وأنا أغمس اللقيمة فى الطبق
- هذه حقيقة علمية بعلمها الكثيرون
ضحك باستخفاف
- لذا يطلق عليكم الكثير (فوالين)
غصت الكلمة فى حلقى وأنا أبتلع معها الإهانة الماكرة التى تضمنت إعترافاً مختلساً بهويتى المصرية .. فأمسكت بالطبق وأنا أقول
- هؤلاء الفوالين هم من اشعلوا فتيل الحضارة و..
وقبل أن أكمل قرب طبق الكرز تجاهى وهو يقول فى مودة زائفة
- لا أحب أغضابك ناتالى ، تذوقى قليلا منه يا صغيرتى وسيغير مزاجك الكئيب
نظرت للكرز الأحمر القاتم يلمع فى وهن فى الطبق البللورى وأنا أهمس فى ضعف وشئ من الدموع يحرق عينى
- لا أحد يحب الكرز ، خاصة الصغار
ضحك فى خفة
- تقولين تفاهات .. أى تفاهات وهراء
-على النقيض مسيو خورى ، ينكهون به الدواء .. فنكره الطعم منذ الصغر ..
أحسست أنى رددت عليه كلامه
عقد بين حاجبيه وقبل أن يرد بكلمة "ناتالى" قلت محتدة
- ليست صعبة الأربعة أحرف على النطق
- ماذ!!ا؟
- ش ا د ن .. أعنى شادن
تنهد العجوز فى تعب لم يفقده شهيته النهمة وهو يرتشف عصيره مرة أخرى
وقال
- تملكين عناد "لوسى" ومكر "سيلين" ولكن كلتاهما لم يكن لديها شيئاً من ذكائك المتقد .. أنت الابنة الحقيقة لعائلة خورى ..
قالها وهو يضع الكأس فى قوة على المائدة
هتفت بى أعماقى هذا هو الجنون المطبق وتصارعت الكلمات فى أعماق وتموجت كالإعصار المكبوت وكأنها ترتسم فى دمائى وتسممها
"لعنة الله على خورى وعائلته " ولكنها بالطبع لم تتجاوز شفاهى التى غممت فى حيرة
سيلين .. من هى سيلين تساءلت والعجوز يغص بغته وقد فجأه سؤالى .. نم عنه تشابك أصابعه وتوتر جفنه الأيسر

فى تلك اللحظة التى لم يحر فيها جواباً وقد علق سؤالى فى هواء الغرفة ..دخل تونى عراجى

وقد جلس على المائدة بعد إشارة من غسان وقال فى برود :-
كيف حالك أنسة ؟
نظرت إليه بنفور وأنا أمسك السكين وأمرره على الطبق فى صوت مسموع وبحدة فى تهديد صريح وأرفع رأسى فى قوة ... وقد جزلت كثيرا وأنا ألمح نظرة الذعر فى عيني هذا الجبان الذى تذكر حادثة الشرفة .. بينما ضاقت عينا العجوزوهو يرقب المشهد الطريف فى ابتسامة صفرواية مغمماً
فتاة شريرة وجلجلت ضحتكه الساخرة أنحاء المنزل وخاصة وهو يرى وجه تونى يمتقع امتقاعاً شديداً وأنا أنهض فى اعتداد وأغادرفى هدوء تتبعنى ضحكته الشريرة.
أغلقت الباب خلفى وأنا أخرج مرة أخرى للحديقة حيث جو الأخرس يقبع مزيلاً بعض الحشائش الضارة غائباً عن العالم فى جلسته المنحنية - يا لك من شخص طيب يا جو- .. بينما الرياح الجافة تهز زهر الإقحوان الأصفر وتطير زغبه الرقيق فى دوائر ... تمشيت حول حوض السباحة المترف وقد تموجت مياهه فى رتابة بينما نظرت للسماء الخالية سوى من بضعة شذرات سحابية خجول تستجديها الريح استجداءاً.... فتتمايل وتتجمع كى تهبط على الأرض الرؤوم ثم تتلاشى ... ضحكت فى استغراب للهو الطبيعة وقلت يا له من مطر كاذب بينما جو يمنحنى ابتسامة وادعة وهو يعطينى زهرة أوركيد برتقالية ويمضى حاملاً حقيبته القطنية الأثيرة .... بينما راحت عينى تتعلق بمنزل نادر رئيس الحراس لعل بسام أو فدوى يخرجان وقد جلست قرابة الساعة حتى تيبست أطرافى وداعب النعاس الخدر جفونى فى رقة ... ثم أفقت مذعورة على باب يصطفق فى حدة ... ونادر يمر بى بقامته الطويلة وبنيته القوية فى تؤدة دون أدنى كلمة بل إنه أدار وجهه حينما رأنى وأتجه إلى البوابة الرئيسية وهو يملى بعض الأوامر على الحرس ... لايحتاج الأمر الكثير من البراعة لأخمن أنها تخصنى وأن هناك شئ جرى فى بيت آل جارحى بعد زيارتى شئ غير سار بالمرة ... نظرت مرة أخرى للسماء وهالنى تلك السحب الرمادية الكئيبة تتجمع فوق قصر غسان خورى ...يينما أنشقت السماء عن ضوء لامع غمر منزل بسام وفدوى .. غممت – كثير من الشر---كثيرمن الخير وأنا أدلف عبر دهليز المنزل المظلم المؤدى لغرفتى

…………