عرض مشاركة واحدة
قديم 01-18-2012, 12:20 AM
المشاركة 210
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
بدايات تجربته الدينية


1) الذكر والإنشاد:
مرت عليه أيام كان في بعض منها يتردد على حلقات الأذكار. صبياً كان فاستهوته زاوية في حي العقبة كانت تابعة لواحد من أقارب أمه. يجتمع فيها رجال بقيادة شيخ تتمايل لحيته مع الإيقاعات المتسارعة لذكر الله. وسمح له صوته الرفيع بالتفرد مرة بالإنشاد فلقي استحساناً، إلا أنه مع تكرار سقوط عدد من المشتركين بالذكر أرضاً وانتشار الزبد على الأفواه، اتخذ وليد موقفاً من التردد على الزاوية إذ لم يكن عنده تفسير لحالة من أسكره الذكر.

2) الدعاء:
في حين أن والده كان أكثر توازناً واعتدالاً في طقوسه الدينية، فمثلاً كان يحدث في ليلة النصف من شعبان، أن تجتمع الأسرة حول الوالد وهي تردد الدعاء بورع:
«اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب.
شقياً أم محروماً أو مطروداً أو مقصراً علي في الرزق.
فامح اللهم بفضلك شقاوتي وحرماني وطردي.
وإقتار رزقي».

كما اعتاد أصدقاء والده من الشيوخ زيارة العائلة في لقاء مسائي، وحدث مرة أن كان وليد يقدم الشاي للضيوف، فنظر إليه واحد من الشيوخ الأقرب إلى والده وهو يتناول الكأس وقال: «حدثني يا بني عن الدعاء الذي تختتم به صلاتك عادة»، فوجد نفسه يجيبه دون تفكير: «عادة يا عمي، أدعو الله أن يمنحني نعمة الرضا». توقف الشيخ محدقاً به، وما لبث أن وضع كأس الشاي على مسند المقعد وقال بتساؤل المحقق: «من أين أتيت بهذا الكلام الكبير؟»، ثم بإلحاح «من علّمك هذا؟»، وإلى والده يسأله: «لابد أنك يا شيخي علمته»، فكان الجواب «لا لم أفعل وهذه أول مرة أسمع فيها هذا الدعاء». وقال الشيخ الأزهري للآخرين: «ألا تجدون هذا الدعاء أكبر من قدرة صبي». وعاود السؤال إليه: «وهل تقول لنا ما معرفتك بالرضا؟»، فكان رده كسابقه بعفوية: «أن ترضى بما قسمه الله لك»، وأضاف بعد تفكير: «الرضا هو السعادة».

3) السماع:
وفي رمضان، كانت مديرية الأوقاف تستضيف في شهر الصيام قرَّاء معروفين من مصر لإحياء ليالي القرآن في الجامع الكبير الذي يمتلئ عادة بآلاف المصغين بخشوع، فشهرة أولئك القرّاء الكبار تعادل عند الناس تقديرهم لمغنين كأم كلثوم وغيرها.

وكان الشيخ مصطفى إسماعيل واحداً من أشهر الذين استجابوا للدعوة، ومن الذين لبّوا دعوت إلى الإفطار في بيت وليد، فكانت أمسية رمضانية سجلت في تاريخ الأسرة علامة. وبات وليد بعد تلك الزيارة يتابع الإذاعة المصرية لتكون له المتعة الروحية في تلاوات عدد من القرّاء، كما قدمت له الموسيقى الكلاسيكية مثلها وهو يتابع برنامجها في الإذاعة السورية. وكما كان يدرك الأهمية البالغة لمقرئين هما الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل أوصلا جوهر المعنى القرآني في تلاواتهما، عرف وليد القيمة الروحية لموسيقى موزار وبتهوفن وفيفالدي وغيرهم. وأدى ذلك إلى التقاط العلاقة الوثيقة بين القرّاء العظام والموسيقيين الذين أجمع البشر على دورهم في الارتقاء بهم إلى شيء وجد وليد له اسماً وهو «نشوة الفرح». ويوم قرأ وليد عن الشيخ محمد رفعت أن هوايته كانت في الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية بواسطة آلة التسجيل الأسطوانية والتي لم يكن يمتلكها في الوطن العربي إلا قلة قليلة، أدرك وليد الكثير عن اللقاء الخفي بين الطرح المبدع للعقيدة الدينية والفن.

4) التأمل:
من الجدير ذكره حادثة جرت له في مرحلة دراسته الثانوية، وهي حادثة في منتهى الأهمية، فهو يذكر أثناء قراءته لكتاب «حي بن يقظان» لمؤلفه ابن طفيل. تساءل آنذاك عن معنى اكتشاف الفتى (حي)، الإنسان الوحيد في جزيرة منعزلة عن العالم، لمعنى الخالِق نتيجة التأمل الطويل، وبعد أن فقد الغزالة التي كانت أماً له ورعته منذ البداية. كانت معاينته للفضاء من حوله كوة دخل منها النور الذي أضاء وجود الله دون أن يكون له سند يهديه إلى الحقيقة.

ويذكر في حديث له مع والده، وهو يسأل عن حي بن يقظان الذي عثر على كتابه في مكتبة البيت، أنه علَّق على قدرة الفتى الوحيد في الاهتداء إلى حقيقة الله، ولم يكن في الأصل نبياً. وجاء في رده تأكيد على المقولة الإسلامية التي انطلقت من أن الإسلام هو دين الفطرة، وهي جوهر الأديان. وقال له أن الوصول إلى هذا الجوهر يتعلق بفهمنا لما هي عليه الفطرة، بمعنى أن الإنسان أصلاً يهتدي إلى إيمانه بالخالِق دون مساندة من أحد بل إن الفطرة هي نقطة البداية.
موقف الشيخ الأزهري من الفن


أعلن الأخ الأوسط عدنان عن رغبته في شراء جيتار، جمع ثمنه من أعمال صيفية مأجورة في مستودعات الميرة، وكان ذلك فرصة لإظهار اندفاع الوالد إلى إبداء رأيه الذي يؤيد الفن، وكان العزف على آلة من الأعمال الفنية التي تستحق أن يكون لها معلم. ويعتقد الوالد أن فرصة العزف على آلة العود تسمح بالعثور على مدرب لها بما قد يشكل صعوبة مع آلة الجيتار غير الشائعة.

لم يتأخر موعد حضور معلم العود الشيخ بكري الكردي وهو الذي أصبح أستاذ أخيه، وكان يتابع دروسه اليومية على ضوء كتاب «الصباغ» الذي دونت فيه نوتات الموشحات والسماعيات والقدود. كان الشيخ بكري يعمل في الجامع الكبير مؤذناً أو خادماً، إلا أنه عرف بين أهل حلب على أنه موسيقي وله مؤلفات من الأغاني المتداولة والأناشيد الدينية يتداولها رجال يحيون الأعراس والموالد.
ميوله الأولى وعلاقة المسرح بالسينما في رأيه


يذكر وليد إخلاصي في سيرته الذاتية: «لم يقتصر تعلقي بالمسرح على حفلات المدرسة، بل كنا أحياناً مع رفاق وهواة نقدم مسرحية في دار عربية، فالمتفرجون يكونون عادة من أهل الحي وبعض المعارف، وأما الجيران فيطلون من أسطحتهم على الإيوان الذي يكون عادة خشبة المسرح». ويضيف قائلاً: «وكما هو حالي مع المسرح، فإن ميلاً خفياً لأن أكون حكواتياً يمكن الاعتراف به. وكنت ألجأ أحياناً إلى رواية حادثة للأصدقاء من حولي مملحّة بالخيال والإضافات، فسقوط أسنان صناعية لمعلم أو قريب يصبح سيرة مملحّة مبهَّرَة ليصبح سقوط الأسنان دليلاً على عقاب إلهي لذاك الذي يظلم بتصرفاته. ويبدو أن افتتاني بخيال الظل وأنا أتابع فصوله في دكان من حي قديم، وتعلقي بأبطاله (كركوز وعيواظ وبكري مصطفى) وهم يتحركون وينطقون من خلف القماش الأبيض، قد جعلني أكن تقديراً للرجل الذي يحرك الجلود والذي لم أره أبداً، وهو يؤدي أدوار الشخصيات فينطق الواحد منها وفقاً لطباعه، فكأن التنوع الذي يقوم به ذلك الرجل غير المرئي هو الذي وضع أساس المحبة للعبة المسرح التي أظنها أظهرت للعالم ما أصبح اسمه السينما».
قصة السيد صقّال والحوار بين الأديان


كان لوالده صديق قريب إلى نفسه بالرغم من اللقاءات القليلة بينهما في مقهى المنشية التي استمرت كحديقة بالرغم من محاصرة العمارات لها فكانت تنمو مع السنين في قلب المدينة، لتبقى من الأماكن القليلة التي يلجأ إليها الرجال لتبادل الأحاديث تحت ظلال الأشجار الضاربة جذورها في الأرض منذ عقود. وكان الصديقان مع آخرين يجتمعون في حلقة من الود وتبادل الأخبار والأفكار، بينما حلقات تجمع أخرى يتنافس أفرادها في لعب الطاولة أو الورق. وكان يسمح لوليد أحياناً بمرافقة والده إلى المنشية فيستمع إلى تحليلات حول أحداث العالم أو إلى شعر قديم يردده واحد من أهل الحلقة مؤكداً في نهايته على أن شعر هذا اليوم ما عاد كما كان في الماضي، وكان ذاك الصديق إذا ما كان حاضراً يعلق بقوله أنهم يجب ألا يغالوا كثيراً في إظهار الكمال في الماضي فتطوُّر الزمن يمنح أهله قدرة على التفوق أيضاً.

كان السيد صقال مسيحياً من عائلة قديمة في حلب، فلم يعرفوا عنه سوى أنه غير متزوج بالرغم من تجاوزه الخمسين، وإن لم يذكر لهم الوالد عن عمله شيئاً. وغطت محبة الوالد له على تفاصيل عنه بعكس أصدقاء آخرين علمت الأسرة عنهم الكثير. وقد أخذت تلك المحبة شكل الدموع في عيني والده وهو يأتي متأخراً على غير عادته اليومية في العودة من عمله الوظيفي. كان اشتراكه في تشييع صديقه الصقال هو سبب التأخير. وفي ذلك اليوم رأى وليد والده يبكي بحرقة وهو يذكر مصابه بفقد صديق له. وكان وليد لا يتخيّل أن رجلاً مثله يبكي. حزيناً بصمت ظل والده لفترة بعد رحيل صديقه وكان أيام العزاء يقف في الكنيسة مستقبلاً وفود المعزين على أنه أقرب الناس إلى الفقيد.

وقد تخيَّر وليد، بعد أشهر، مناسبة يسأل فيها والده عن أمر ظل يحيِّره لأيام. كان الوالد يقرأ في كتاب وضعه جانباً ليستمع إلى وليد يقول: «أعلم أن صديقك الراحل كان قريباً منك، وكلنا أدركنا أنه كان بمثابة أخ لك. صحيح أنه مسيحي، إلا أنني سمعت أقوالاً عنه لا أعلم صحتها». وقال الوالد: «وما الذي سمعته عنه؟». تابع وليد: «ولا أعلم إن كانت ظالِمَة أو ملفقة». ومع استجماع شجاعته قال: «يقولون إن السيد صقال لا يؤمن بالله». فوجد والده يجلِسه بقربه، ويقول: «اعترف لي بنفسه مرة، ولم أسمع منه بعد ذلك، أنه لا يؤمن بالله». فكان صمت لا يجرؤ وليد على اقتحامه، إلا أنه بعد قليل هتف: «وهذا ما يحيرني في لقاء مؤمن بملحد على الصداقة». فجعل الوالد يتحدث بحنان وكأن صديقه مازال قائماً: «كان واحداً من أشرف الرجال الذين عرفتهم في حياتي. أميناً على حقوق الناس. صادقاً في علاقاته ووعوده، ويحمل الاحترام للناس ولا يفعل شيئاً يضر بأحد بل يسعى إلى المنفعة لغيره». وقال الوالد وهو يستوي في جلسته على الأريكة: «إسمع يا بني، الإيمان أمر يخص علاقة الإنسان بخالقه، ولسنا نحن الذين نملك الحق لنحكم على أحد، الله هو الذي يفعل. الله خلقنا، الله يحكم علينا». واقترب من وليد متابعاً: «أريد أن تعرف أن الإنسان المؤمن ليس بمنزلة يصنِّفُ فيها البشر على مقاييس رؤيته للأمور. خلقنا الله ولسنا هنا في هذه الرقعة الصغيرة من الكون الوحيدين من خلقه. ألواناً مختلفة خلقنا، والنعمة هي التي ينالها أحدنا في هداية الله، فهو يهدي من يشاء، وأعلم يقيناً أن المرحوم قد هداه الله بنقله من عالم عادي إلى ملكوت الخير الذي كان يسبِّح».
التكية الإخلاصية ومفهوم التعصب


اصطحب الوالد وليداً في رحلة لم يكشف عنها. ومن الجانب الشرقي للقلعة انحدرا من أول حي باب الأحمر باتجاه باب الحديد الذي مازال باقياً من بوابات السور القديم. توقفا قبل خطوات من سوق النجارين. وقال الوالد وهو يشير إلى باب مغلَق: «انظر إلى ما هو مكتوب»، فتلاقَت عينا وليد بنقش حجري بارز يبرز كلمتين تدلان على اسم الدار وكان «التكية الإخلاصية». وهنا قال الوالد: «إن جدنا منذ أربعة قرون كان يعيش في هذه التكية متصوفاً. وأما الأطباء الذين حدثتك عنهم فهم من أحفاده». وكأنما هدفت تلك الرحلة القصيرة إلى دعم قوله في العلاقة ما بين دراسة الطب والدفاع عن الإسلام. آنذاك قال لوليد وهم يهمّان بالعودة: «يمكن لك أن تكون في المستقبل صلة الوصل بين العلم الذي يمثله الطب وبين الإيمان الذي يمثله الإسلام»، وأضاف: «لا يمكن لمستقبلنا أن يكون قوياً ومؤثراً في العالم إلا في بناء جسر بين العلم والدين».

وفي البيت أخرج الوالد من مكتبته كراساً يحمل عنوان «التعصب» للشيخ محمد عبده، وفيما كان وليد يقلِّب صفحاته كان يقول إن الشيخ لم يتوقف يوماً عن الدعوة إلى العلوم الحديثة كي تكون مع الإسلام الطريق الذي نسلكه، وفي دعوته إلى نبذ التعصب بل محاربته كان يؤكد على أهمية العلم للإنسان المؤمن. وقال إن التخلص من التعصب هو أول الدرجات المؤدية إلى الحداثة، وإن مقاومة التعصب ستظل دوماً ذلك الرمز الذي يدل على أن المرء كائن حديث.

وكان وليد قد نال شيئاً من معرفة الحداثة عبر القراءة، إلا أن الوالد قدّم له معرفة أوسع في شرحه لمفهوم التعصب ليس عند أتباع دين ما، بل كذلك في الأفكار والأحزاب، فكأنه في ربط محاربة التعصب بالحداثة يدل على فكرة ستصبح واحدة من الثوابت التي تغرس أقدامها في أرض وليد، وقد كان لهذا فعله في إقبال وليد على كتب التاريخ وعلم الاجتماع والنفس والفلسفة، فكان يعمِّق من يقينه بأن التنوع في ألوان المعرفة هو البناء السليم للتفكير. كما أن ملاحقة سِيَر الشخصيات الإنسانية في التاريخ تدعم تكوين مدرسة الانفتاح، فالمرء في قراءته تلك السِيَر يكتشف الأثر العميق الذي أحدثه أصحابها في حياة البشر. كونفوشيوس وسقراط، عمر بن الخطاب، والعز عبد السلام وابن رشد، غاندي وجان جاك روسو وتولستوي وبوذا، موزارت وبيتهوفن ودافنشي. الأنبياء والمصلحون والمجتهدون. شعراء وروائيون ومسرحيون، مناضلون وزعماء دول وحركات ثورية. قائمة من الأسماء التي تفتن المرء بأعمالها المبدعة وشجاعتها، والتي ستتحول إلى خميرة تنضج المشاعر في أرجاء هذا العالم، ويصبحون كالتضاريس في الأرض المنبسطة يتطلع إليها الزمن بإعجاب وتقدير كنتوءات استثنائية في زمن عادي.
موقفه من التجمعات السياسية والدينية


كان وليد ما يزال في الثانوية عندما تلقّى دعوة دينية فظهر أنها دعوة سياسية في قالب ديني ينحو منحى رجعياً، وبالتالي ما كان منه إلا أن غادر المكان، ثم تلقى دعوة أخرى للمشاركة في اجتماع للحزب الشيوعي وكلتا المشاركتين أحبطته إلى أقصى درجات الإحباط عندما أراد الحوار، والحوار بالنسبة له كان سؤالاً أو تساؤلاً، فكان المشرِف على الجلسات أو المحاضِر يرفض أية إمكانية للسؤال أو الحوار ويدعوه للاستماع فقط مما جعل وليد يتمرد آنذاك، ووليد يذكر في سيرته حول ذلك: «تنامت عندي في تلك الأمسية الشاردة جملة من المشاعر وهي تنوس بين حلقة السقيفة (الدينية) والاجتماع الشيوعي، فكان القرار الذي اتخذته في نهاية المطاف قسماً أمام نفسي بألاّ ألتحق يوماً بأي تجمع سياسي أو ديني، فلا أكون ملتزماً به بل أظل مراقباً له. وكأنني وصلت إلى حقيقة أن جميع الأحزاب لها ما يبرر وجودها، وأما عن وجودي فليس له من طريق إلا ما أؤمن به من حقيقة قد تكون هنا أو هناك، فكأنما الحرية هي التي تلزم الإنسان بمجتمعه ووطنه، وأن الحر هو من يحافظ على قدرة التساؤل المستمر».
النضج


وعن ذلك يقول وليد: «في البيت، ومع خلوتي بدأت أتلمس آثار الأيام السابقة في دفعي إلى شيء من النضج المبكر، وأفكر بأن الوقت حان لأتعامل مع نفسي والآخرين بكثير من التوازن اللائق بشاب صقلته تجارب مبكرة، إلا أنني لا أستبعد عن تحقيق رغبة في التوجه إلى من استهان بفعل التساؤل الذي كنت أعتقد أنه السبيل إلى اكتساب المعرفة فأقول له من أعطاك الحق لتقرر ما هو حق».
قصة طرده من المدرسة في صف البكالوريا


يروي وليد في سيرته الذاتية هذه الحادثة: «كان أستاذنا لمادة الديانة قد جاء من دمشق، واعتدنا عليه منذ الأسابيع الأولى وهو يمزج المقرر بأحاديث جانبية شدت الطلاب إليه، فيتحول الدرس إلى متعة لنا وبخاصة إذا ما سمح لنا بالاستفسار عن موضوع أو إبداء الملاحظات. وكان الأستاذ بيطار طويل القامة تذكرنا لحيته السوداء المشذبة مع الطربوش الأحمر الذي لا يرى مع غيره بصورة لزعيم جماعة الأخوان المسلمين بمصر (حسن البنا)، وبالرغم من تعليقاتنا المتفرقة حول ذلك التشابه فإن أحداً من الطلاب لم يُشِر إلى ذلك في حضور الأستاذ. واستفاض الأستاذ ذات مرة في الحديث عن الموت. وذهب في تصوير قبض الروح وهو من اختصاص الملاك عزرائيل الذي يحمل بيده حبلاً، فكأن الموت يحدث بشكل أشبه بعملية الشنق المعروفة. ويوم يحين وعد الموت يلتف الحبل حول العنق لتنتقل الروح إلى بارئها في السماء». وهنا طُرح سؤال وليد، ودار حوار بين الأستاذ ووليد الذي أردف يقول: «ألا تعتقد يا أستاذي بأن مثل هذه الصورة البدائية للموت تعود إلى تفكير أسطوري أظنه انبثق عن المعتقدات اليهودية»، ويذكر وليد في سيرته ما يلي: «آنذاك هتف الأستاذ بيطار ساخراً: "وما هو البديل عندك أيها الشاب الفهيم، هيا حدثنا عن البديل". وكنت للحظات لا أملك أي جواب على سخريته، إلا أنني أُلهِمت فجأة بحل أقدمه، فقلت: "الجميع يعرف الكثير عن الهاتف، فنحن إذا أردنا الاتصال بأحد طلبنا من السنترال المركزي الرقم المطلوب، وهناك يقوم العامل في المقسم بوضع الفيشة في ثقب الرقم ليتم الاتصال بين الطرفين، وإذا ما انتهت المكالَمَة يعود العامل إلى سحب الفيشة. وهكذا هي الولادة والموت، وصل للروح بالجسد أولاً ومن ثم قطع الاتصال بين الاثنين فيكون الموت". انفجر الطلاب بالضحك، بينما الأستاذ واقف يتأملني بصبر أنهاه بهتاف ساخر: "وهكذا قام طالبنا العبقري بتصوير الله وكأنه مدير الهاتف"، ثم صاح غاضباً: "ألا تخجل من هذا التشبيه أيها الكافر، الويل لك"، وامتدت ذراعه وقد اقترب مني كي تسقط كفه على وجهي، فلم يكن أمامي سوى الإمساك بالذراع بقوة شاب أرد العدوان عني. فإذا به يصرخ بذعر: "وتريد أن تضرب أستاذك يا كافر"، وينفلت خارجاً من الصف وهو يردد: "لا يكفيه التجرؤ على الدين فيضرب أستاذه، الويل لك يا كافر».

إذن، بعد هذه الحادثة التي أوشكت أن تطرد وليداً من التجهيز الأولى وكافة المدارس السورية، انتهى الأمر إلى طرد الطالب وليد حتى نهاية العام الدراسي الحالي. وصلت الأحداث إلى مسمع الوالد فما كان من هذا الأخير إلا أن اجتمع بصديقه مدير الثانوية الذي استدعى بدوره أستاذ الديانة ليخرج الاجتماع الثلاثي عن قرار جديد. وأعلمه الوالد أن الأستاذ بيطار سيكون بانتظار وليد لتقديم الاعتذار الذي سيعقبه إلغاء طرده فيعود إلى الانتظام في دراسته كما الحال من قبل، فيكون ختام القضية سعيداً.

ويذكر وليد في سيرته الذاتية ما جرى على النحو التالي: «وجاءت لحظة الاعتذار في الموعد المتفق عليه. توجهت إلى المدرسة فإذا بمشهد غير مألوف لي، الممر الطويل إلى المبنى الكبير يحتشد على طرفيه أعداد من الطلاب، فأسمع من طرف أقوالاًَ تندد بالكفر وتنذرني بعقاب أليم، ومن الطرف الآخر يأتيني تحذير من أن أخضع للقوى الرجعية، فكنت أتقدم تتجاذبني المواقف المتضاربة دون أن تثنيني عن الالتزام بوعدي إلى الوالد. وظهر لي الأستاذ بيطار قادماً من الداخل. توسط مجموعة من الطلاب التفّت من حوله على الدرجات الثلاث وقد انتصبت قامته واقفاً على أعلاها. كنت قد عرفت عن جموع الطلاب على طرفي الممر، منهم من كان من جماعة الإخوان المسلمين وحزب الشعب والحزب الوطني، وفي المقابل كان طلاب من الشيوعيين والقوميين السوريين وحزب البعث الذي أُشهِرَ حديثاً في المدينة. وإذا ما وصلت إلى المدخل مقترباً من الأستاذ بيطار، مددت ذراعي لأصافحه وأنا أقول: "أعتذر عما فعلته"، فإذا هو يمتنع عن مد ذراعه ويهتف بصوت مرتفع: "أريد منك أن تُسمِعَ جميع من في المدرسة اعتذارك وندمك على ما فعلت"، فوجدت نفسي أتابع التزامي وأرفع صوتي: "أقدم اعتذاري للأستاذ بيطار"، فما كان منه إلا أن هتف عالياً: "وأنا أرفض اعتذاراً من كافر"، واستدار عائداً إلى الداخل، وهنا لم أملك نفسي من الصراخ غاضباً: "وأنا أسحب اعتذاري. أسحب اعتذاري. أسحب اعتذاري". وسيحدث ما لم تشهد المدرسة مثله، اشتبك طرفا الممر، فكانت العصي والجنازير تلوح في الهواء، والتهديدات المتبادلة تتصاعد في الجو. ولم يكن لي من ملجأ أبتعد فيه عن العنف سوى اللجوء إلى داخل المبنى. وحضرَت الشرطة في وقت قياسي، اقتحمت المدرسة وفرقت المتعاركين، فكان يوم لا أنساه». وهذا كان يومه الأخير في الثانوية حتى آخر العام الدراسي.
الفشل في اجتياز امتحانه الأول


يقول وليد حول هذا: «ما من تعليق على فشلي في الامتحان. وإن كانت عيون الأهل تحاول أن تخفي شيئاً من الأسى. لم يكن هناك لوم من أحد أو إشارة إلى تقصير بل كانت كلمات والدي لا تحمل سوى نوع من العزاء: "الفشل في النجاح هذه السنة سيعقبه نجاح غداً، تلك هي لعبة الحياة يا ولدي، فلا تيأس". كان لم يبق مع والديَّ سوى أنا وشقيقتي، بعد أن غادر نزار إلى فرنسا وعدنان إلى مصر للدراسة، وكنت قد اعتزمت أن أتقدم إلى الامتحانات كطالب حر وأساعد والدي بعمل أحصل عليه، فالأعباء باتت ثقيلة ولابد من مساندة له. وحمل والدي البشارة بعد أن عثر لي على عمل لن يتعارض مع دراستي. أصبحت جابياً أجمع إيجارات من عدد من الأملاك المنتشرة في المدينة لصالح مديرية الأوقاف، فأحصل على نسبة مئوية كأجر لي على العمل الذي أقوم به في أول كل شهور ثلاثة. عشرات المنازل والدكاكين ودار للسينما واحدة، كانت تشكل القائمة فقمت بوضع برنامج للزيارات سمح بتنظيم وقت الدراسة. وهكذا شكلت الجباية علامة في سلسلة أعمالي بدءاً من مصنع الحلوى إلى تجارة سوق الجمعة وسوق بالستان والدروس الخصوصية الخائبة. وانتهت علاقتي بالجباية قبل شهر من موعد الامتحان، فتساوى عندي الليل بالنهار، فالنوم قليل والطعام يرافق الكتاب، ولم يعد هناك وقت لقراءة خارج المنهاج أو لمشاهدة فيلم مهما كان شأنه. وتحول سطح العمارة إلى مقر دائم للدراسة، فكان يتحول إلى مساحة أهرول فيها إبعاداً للنعاس وتنشيطاً للدورة الدموية بعد طول جلوس. وإذا ما أطلُّ على الشارع من تحتي في الليل المتأخر، تؤكد لي حركة السيارات والمشاة أن الحياة مازالت قائمة وأن الفائز في سباقها لن يتحقق له النصر إلا بمزيد من الإصرار وتحمل المعاناة. ومنذ اليوم الأول للامتحانات بدأت أشعر أن تجاوز المرحلة الصعبة يقربني حتماً من تحقيق أحلام المستقبل».
النجاح


يقول وليد في سيرته الذاتية: «الراديو كان الوسيلة الوحيدة لمعرفة نتائج امتحانات شهادة البكالوريا، وما أن جاء المذيع على ذكر اسمي حتى قفزت في الهواء كلاعب في السيرك تحميه من السقوط شبكة الأمان، فكان احتضان والديَّ لي هو الأمان والسعادة التي غمرتنا في نهاية القلق الذي تسبب به الانتظار. وتجدد الفرح عندما عدت بعد يوم حاملاً العلامات التي حصلت عليها، والتي أهَّلتني، لدخول كلية الطب في جامعة دمشق. إلا أن التزامي بوالدي دفع بي إلى دمشق التي قصدتها لأسجل في السنة التمهيدية المؤهلة لدخول كلية الطب. وكانت المصادفة هي التي جمعتني لحظة وصولي بزميل الدراسة الذي سبقني في دخول الجامعة. وقد دفعه التباهي بدراسة الطب إلى اصطحابي مباشرة إلى الكلية ليقدمني إلى مبناها فكانت المشرحة في طريقنا فأدخلني إليها، وكأنها كافية ليكون الإنسان طبيباً. رائحة الكلوروفورم شكلت مع جثة عارية ذلك المشهد الذي سيغير الخطة التي رُسِمَت لي. تراجعت، لا يتملكني سوى القرار الذي اتخذته دون تفكير، فدراسة الطب لن تكون هي المستقبل بأي حال. وكان علي أن أنتسب إلى الجامعة في أي حال لأضع والدي أمام حقيقة الواقع، فكان التسجيل في كلية الآداب هو ما عزمت عليه. وكانت الدراسة في هذه الكلية لا تستوجب التزاماً بالدوام، وبهذا أستطيع أن أعمل لأساعد والدي. وبات الأمر واقعاً، وأصبحت أملك القرار لوحدي في رسم مستقبلي. وفوجئت بوالدي وهو يصغي إلى تفاصيل ما حدث في دمشق يعلّق بحزن خفي: "هو مستقبلك أنت يا بني، وأنت مؤهل لاتخاذ قرارك بنفسك". إلا أن أخي عدنان عبر اتصال هاتفي من الاسكندرية كرر دعوته للانتساب إلى الجامعة فيها، وأغراني بوصف الحياة الجامعية وكأنها حلم لأمثالي، وطلب مني أن أتقدم بأوراقي إلى مكتب البعثات المصرية في دمشق قبل ضياع الفرصة». وهكذا ذهب وليد إلى مكتب البعثات في دمشق ليقابل المسؤول هناك الذي رحب به وقال له أن علاماته تؤهله لدراسة الطب هناك، ولكن وليد ارتأى له أن يُسجِّل في كلية الزراعة في جامعة الإسكندرية، فلا يحقق النجاح فيها فيحق له بذلك الانتقال في السنة القادمة إلى كلية الآداب. وهكذا كان، فقد انتهى الأمر بوليد أن سجل في كلية الزراعة في جامعة الإسكندرية.