عرض مشاركة واحدة
قديم 02-11-2015, 02:48 PM
المشاركة 1308
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع ...والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 85- أجنحة التيه جواد الصيداوي لبنان


- في سرد أقرب إلى الحكي في روايته ( صارنا على الليسته ) ، تتمدد حياة رجل على أبواب السبعين، يرثي حياته، يتهكم أحياناً، وبسخرية طوراً، وبحزن في أكثر الأحيان. وهذا الرجل السبعيني يروي سيرة ذاتية، ومن يعرف كاتبها "صرنا على الليستة" جواد صيداوي، يدرك كما لو أن الكاتب نفسه يروي حياته، إزاء ذكريات مع أصدقاء، وحياة بين مدينة النبطية التي كان فيها في زهو شبابه، وبيروت التي تشهد في هذه الأيام استسلامه لمصير لا يعرف متى يدخل عليه ويأخذ الحياة منه.

- وما يؤكد أن الحكاية حياة الكاتب، ما يقوله عن المعاناة التي تنتاب الكاتب أثناء الكتابة "متى استبدت الكتابة بالكاتب أنسته حركة الزمن واقتلعته من واقعه لتنقله إلى الواقع المتخيّل الذي يعيش فيه أشخاص الرواية، فيشارك التعيس منهم تعاسته، والسعيد سعادته، والشجاع شجاعته والخامل خموله والتائه ضياعه... إلخ.

- يعيش الراوي نديم الصافي وحيداً في بيته في شارع مار الياس في بيروت، بعد أن افترق عن زوجته المصرّة على البقاء في باريس حيث عاشا فترة الحرب الأهلية، معاً، هناك، وبعد توقف الحرب لم يعد مبرراً أن يبقى في الغربة، وهو الكاتب والفنان والحزبي والسياسي الذي يريد أن يكون فاعلاً في الوطن عوض أن يعيش غريباً في بلاد الآخرين.

- ترفض الزوجة، ربما من أجل أولادها الذين باتوا في المدارس الفرنسية، فيأفل راجعاً إلى الوطن ليعاني من وحدة ملولة تتكرر أمام عينيه كل يوم، بل كل ساعة، ثم يطرق الموت باب أقرب أصدقائه، فإذا بهذا الموت يذكره أنه هو الآخر بات على الليستة كما ذكره عادل محمود زميله في التدريس وزميل المرحوم السيد بديع، وثلاثتهم رفاق مدينة واحدة لم يفترقوا إلا لماماً بسبب ظروف الحياة، والشيخوخة هي إنذار للنهاية، بمتاعبها وأمراضها ومعاناتها حيث يغدو جسد الانسان "شبيهاً بقصر كبير لم يعد باستطاعة صاحبه، الذي أفقرته الأيام أن يشغل غرفه وقاعاته جميعها".

- وعندما يروي لصاحبه الآلام التي بدأت تنتابه في العصب والقدم والجسم كله. يذكره هذا ساخراً: الخير لقدام، أمامك، إذا نسيك الموت، تلف الأسنان، وتقرّح المعدة، والتهاب البروستات، وانسداد الشرايين، وارتعاش الأطراف، والطرش، والعمى... وو. وفي طقوس التشييع يعاني مع صاحبه من الحر والتعب، فتتداعى الأفكار على رأسه فـ: خير الميت دفنه.

- وإزاء مشاهدة الموت، والصديق الراحل، يتداعى الراوي إلى ذكرياته هنا وهناك، فعندما كان شاباً كان يفعل كل شيء بهمة الشباب في السياسة في المجتمع في الأسرة في الحب، دون أن يتخيّل أن الموت ذات يوم سيطاله، وإذ به الآن يرى ما آلت إليه حاله مذكراً صاحبه لها قائلاً: شق مائل ولون حائل، كما قالت الحكمة، فيجيبه: وعقل زائل. وهذا ما يدفعه هنا إلى التساؤل الفلسفي: هل الموت نهاية أم بداية؟ إنه السؤال الأزلي الذي يستمر بدون جواب إلى أبد الآبدين، ومع ذلك يترنم بقول أبي العلاء المعري:
فموت ثم بعث ثم حشر حديث خرافة يا أم عمرو
ويعلّق على بيت أبي العلاء قائلاً: هذا حكي... هذا شعر... إسمع:
أتترك ها هنا الصهباء نقداً لما وعدوك من لبن وخمر؟
خرافات يا طويل العمر خرافات.

- ويعود نديم الصافي إلى بيروت بعد أن شيّع رفيقه إلى مثواه الأخير، وشعور الهرب من الموت وأجواء الموات تتلبس فيه دون جدوى "الموت محو للكائن من دائرة الوجود. بالأمس (كان) السيد بديع، واليوم غدا مجرد ذكرى، وغداً يطويه النسيان كأنه لم يكن. فـ: الموت الذي سلبه اليوم، صديقاً ودوداً، سلبه في الوقت عينه، الشعور الخادع بأنه عائش إلى أجل غير مسمى. وما هذا الارهاق الذي يعاني منه بعد هذه السفرة القصيرة، سوى دليل واضح على أن جسده، هذا الرفيق الأمين الذي واظب على وفائه قرابة سبعين عاماً، قد غدا عدواً ماكراً سوف ينتهي به الأمر إلى تدمير صاحبه "ثم: ان العقد السادس، في حياة الانسان هو المرحلة الأكثر خطراً، والموت لص ماهر يعرف متى يسرق الحياة".

- ويستعرض الكاتب الملتبس بالراوي حياته الملأى بالأحداث: أربعون عاماً من النشاط الحزبي والوطني والقومي قولاً وكتابة وسجناً وحرماناً، انتهت بدمار الوطن، وتدهور العالم العربي، وانهيار الأمل الاشتراكي، وسيطرة الفكر الظلامي الأسود على العقول والنفوس جميعاً، عدا عن التشتت العائلي، والضيق المادي، وجحود الأحبة وتنكر الأهل".

- ليس من شيء يعزّيه في هذه العزلة القاتلة بين جدران البيت متنقلاً بين الصالون وغرفة النوم والمكتبة وكتبها، فسخر من نفسه كمثقف، إذ يجد كل ما يحيط في هذا البيت سجنه وأسره: هل يكفي أن تغطي هذه الكتب جدران البيت كي يعتبر نفسه مثقفاً وكاتباً؟ ويتساءل: أهو كاتب حقاً؟ إن الكتابة بمعناها الكبير، انتقام من الذات وانتقام من العالم في آن معاً. انتقام من الذات في جنوحها نحو الدعة والتسليم. ورضوخها للنواميس المفروضة والحدود المرسومة. وانتقام من العالم، كما وصفه الفيلسوف الفرنسي موريس نادو "في قلبي العاري احساس دائم بالغربة عن العالم وطقوسه".

- وتتآكل الحياة بين يدي نديم الصافي، يحاول أن يتناسى ما ألم به من وحشة ومن فقدان الصديق، ومن إرخاء الموت رداء النهاية على حياته، فيتلصص من الشرفة على البنت الصبية الملأى بالأنوثة بصدرها العارم وساقيها المكشوفتين، والتي تتعمد أن تبرز له مفاتنها كلما رأته في الشرفة، فيتحسر على حاله، ويترك البيت مشياً إلى الكورنيش، كما لو أنه يودع العالم وهو يتذكر ويرى البحر الأزرق الشامخ في هدير موجه الصاخب، تبقى الأمكنة فيما هو ذاهب لا محالة آجلاً أم عاجلاً، فعبارة: صرنا على الليستة تظل متمسكة بأفكاره لا تريم، وكلما حاول نسيانها أو تناسيها تهبط على أفكاره وروحه بقوة لتذكره أن الآتي أعظم وأن الأيام الباقية معدودات.

- وأخيراً يستسلم نديم الصافي لقدره، مهما كانت الأحداث المقبلة فرحاً أو شؤماً، فالحياة ولادة وموت، وهي سنة الحياة وقدرها.

- رواية سردية، هي، كما لو أن كاتبها يرويها لأصدقائه، وهذا سر عفويتها، ومع أن الكاتب وقع في التكرار، خصوصاً الاستشهادات، والإقحام في مواقع أخرى، لكن هذا لم يمنع أن نقرأ في "صرنا على الليستة" نصاً متماسكاً يثبت دراية الكاتب في الكتابة، خصوصاً وأن له في السابق نحو ست روايات ومجموعات قصص ودراسات، تؤكد على احترافه، ولعلني لا أُحرج أو أحرج الكاتب إذا قلت انها قصة حياته بحذافيرها، ومشاعره وأحاسيسه تكاد تكون طبق الأصل عن مشاعر وأحاسيس الذين في عمره.


من مقال بقلم: ياسين رفاعية