عرض مشاركة واحدة
قديم 05-30-2022, 01:55 PM
المشاركة 7573
عبد السلام بركات زريق
مشرف منبر الشعر الفصيح

اوسمتي
الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الثانية المشرف المميز الألفية الأولى الحضور المميز 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: مَجْمعُ الأمثال
3700

.... لَا غَزْوَ إلَّا التَّعْقِيبُ ....

يُقَال‏:‏ عَقَّبَ الرجلُ، وهو أن يغزو مرة ثم يثني من
سَنَتِهِ، قَالَ طُفَيل يصف الخيل:

طِوَالُ الهَوَادِي وَالمُتُونُ صَليبة
مَغَاويرُ فِيهَا للأريبِ مُعَقَّبُ

وأول من قَالَ ذلك حُجْر بن الحارث بن عمرو آكل
المُرَار، وذلك أن الحارث بن مَنْدَلَةَ ملك الشام -وكان
من ملوك سَلِحٍ، من ملوك الضَّجاعم- وهو الذي ذكره
مالك بن جُوَيْنٍ الطائي في شعره فَقَالَ:

هُنَالِكَ لَا أُعْطِي رَئِيسًا مَقَادَةً
وَلاَ مَلِكًا حتَّى يَؤُوبَ ابنُ مَنْدَلَهْ


وكانَ قدْ أَغارَ على أرض نجد، وهي أرض حُجْر بن
الحارث هذا، وذلك على عهد بَهْرَام جور، وكان بها
أهل حُجْر، فوجد القومَ خُلُوفا، ووجد حُجْرًا قد غَزَا
أهلَ نَجْرَان، فاستاق ابنُ مَنْدَلة مالَ حُجْرٍ، وأخذ امرأته
هندَ الهنود، ووقع بها فأعجبها، وكان آكلُ المُرَار شيخًا
كبيرًا، وابنُ مندلة شابًّا جميلًا، فَقَالَت له‏:‏ النَّجَاءَ النجاء
فإنّ وَرَاءك طالبًا حثيثًا، وجمعًا كثيرًا، ورأيًا صليبًا، وحزمًا
وكيدًا، فخرج ابنُ مندلة‏ مُغِذًّا إلى الشام، وجعل يقسم
المِرْبَاعَ نهاره أجمع، فإذا كانَ الليل أسْرِجَتْ له السُّرُجُ
يقسم عليها، فلما رجع حُجْر وجَدَ ماله قد اسْتِيقَ، ووجد
هندًا قد أُخِذَتْ، فَقَالَ‏:‏ مَنْ أغار عليكم‏؟‏ قَالَوا‏:‏ ابن مَنْدلة،
قَالَ‏:‏ مذ كم‏؟‏ فَقَالَوا‏:‏ مذ ثماني ليال، فَقَالَ حُجْر‏:‏ ثمان في
ثمان، لَا غَزْوَ إلَّا التعقيب، فأرسلها مثلًا، يعني غزوةَ الأَوَّل
والثاني.
قُلتُ‏:‏ قوله ‏"‏ثمانٍ في ثمانٍ‏"‏ يعنى ثمانَ لِيال أدخلت في ثمانٍ
أخرى؛ إذ كانت غزوة نَجْرَان كذا، فقرنت بمثلها من هذا
الغزو الآخر، أو أراد ثمان ليال في إثْرِ ثمان ليال، يعني أنه
سبقه بثمانِ ليالٍ حين أغار على قومه وسيلحقه في ثمانِ ليال.
ثم أقبل مُجِدًّا في طلب ابن مَنْدَلة حتى دفع إلى وادٍ دون
منزل ابن مَنْدَلَة، فكَمَنَ فيهِ، وبعث سَدُوسَ بن شيبان بن
ذُهل بن ثَعْلبة، وكان من مَنَاكير العرب، فَقَالَ له حُجْر:
اذْهَبْ متنكرًا إلى القوم حتى تعلم لنا عِلْمَهم، فانطلق
سدوس حتى انتهى إلى ابن مَنْدلَة وقد نزل في سَفْح الجبل،
وأقد نارًا وأقبل يَقْسم المِرْبَاع، ونثر تمرًا، وقَالَ‏:‏ مَنْ جاء بِحُزْمَة
حطبٍ، فذهب سدوسُ فأتى بحزمة حطب وألقاها على
النارِ، وأخذَ قَبْضَةً من تمر فألقاها في كِنانته، وجلس مع القوم
يستمع إلى ما يقولون، وهند خَلْفَ ابن مندلة تحدثه، فَقَالَ
ابن مندلة‏:‏ يا هند ما ظنك الآن بحُجْر‏؟‏ قَالَت‏:‏ أراه ضاربًا
بجوشنهِ على واسطة رحله وهو يقول‏:‏ سِيرُوا سِيرُوا لَا غَزْوَ
إلَّا التعقيب، وذلك مثل ما قَالَ زوجها سواء، ثم قَالَت هند
لابن مندلة‏:‏ والله ما نام حُجْر قطٌّ إلَّا وعُضْو منه حي، قَالَ
ابن مندلة‏:‏ وما علمك بذلك‏؟‏ وانتهَرَها، قَالَت: بلى كنت له
فارِكًا فبينما هو ذات يوم في منزل له قد أخرج إليه رابعًا،
فضربت له قبة من قِبابه، ثم أمر بِجُزُرٍ فَنُحِرَتْ وبشاءٍ
فذبحت، فصنع ذلك، ثم أرسل للناس فدعاهم فأطعمهم،
فلما طعموا وخرجوا نام كما هو مكانه، وأنا جالسةٌ عندَ بابِ
القُبةَ فأَقبلت حَيَّة وهو نائم باسِطٌ رِجلَهُ، فذهبت الحية
لتنهشَهُ، فقبض رجله، ثم تحولت من قبل يده لتنهشه، فقبض
يده إليه، ثم تحولت من قبل رأسه، فلَمّا دنت منهُ وهو يغطُّ
قعدَ جالسًا، فنظر إلى الحية، فَقَالَ‏:‏ ما هذه يا هند‏؟‏ فقلت‏:‏ ما
فَطِنْتُ لها حتى جلست، قَالَ‏:‏ لَا والله، وذلك كله بمَسْمَع
سدوس، فلما سمع الحديث رجع إلى حُجْر فنثر التمر من
الكِنَانة بين يديه، وقَالَ:

أَتَاكَ المُرْجِفُونَ بأمْرِ غَيْبٍ
عَلَى دَهَشٍ وَجِئْتُكَ بِاليَقِينِ

فلما حَدَّثه بحديثِ امرأته مع ابن مَنْدَلة عرف أنه قد صَدَقَهُ،
فضرب بيده على المُرَار - وهي شجرة مرة إذا أكلت منها الإبل
قَلَصَتْ مَشَافِرُها - فأكل منها من الغَضَب فلم يضره، فسمته
العرب ‏"‏آكلَ المُرَار‏"‏ ثم خرج حتى أغار على ابن مَنْدلة، فنذر
به ابن مَنْدَلة فوثب على فرسه، ووقف، فَقَالَ له آكل المُرَار:
هل لك في المبارزة‏؟‏ فآيُّنَا قَتَلَ صاحبه انقاد له جند المقتول، قَالَ
له ابن مَنْدَلة‏:‏ أنْصَفْتَ، وذلك بعين هند، فاختلفا بينهما
بطعنتين، فطعنه آكلُ المُرَار طعنةً جَنْدَله بها عن فرسه، فوثبت
هند إلى ابن مندلة تفديه، وانتزعت الرمح منْ نَحره وخرجت
نفسهِ، فظفر أكل المرار بجُنْدِه، واستنقَذَ جميعَ ما كَان ذهبَ به
منْ ماله ومال أهل بلَاده، وأخذ هندًا فقتلها مكانه، وأنشأ يقول:

لِمَنِ النارُ أُوقِدَتْ بحَفِيرِ
لَمْ يَنَمْ غَيْرُ مُصْطَلٍ مَقْرُورِ

إنَّ مَنْ يأمَنُ النِّسَاء بشيء
بَعْدَ هِنْدٍ لِجَاهِل مَغْرورُ

كلُّ أُنْثَى وَ إنْ تَبَيَّنْتَ مِنْهَا
آيةَ الحبِّ حُبُّهَا خَيْتَعُورُ