عرض مشاركة واحدة
قديم 05-30-2012, 03:48 PM
المشاركة 732
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي

سَطْوةُ الفِكْرةفِي "طيُور الشَّارع الكَبير" لهُدى إدريس( ) فرج الحوار كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة

par La romancière Houda Driss, mercredi 19 mai 2010, 09:03 ·
سَطْوةُ الفِكْرة
فِي "طيُور الشَّارع الكَبير" لهُدى إدريس( )
فرج الحوار
كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة

تمهيد
عمَّ يبحث القارئُ في الرِّوايات الَّتي يقرأها؟ لماذا يُتمُّ قراءة بعضها وَيعزف عن إتْمام بعْضهَا الآخرِ؟ مَا معْنى حديث القرَّاء عن الإعجاب وعكسه مُقترنًا بالنُّصوص الرِّوائيَّة؟ هل الإعجاب موقفٌ انطباعيٌّ أم فنيٌّ؟ وهل تثير كلُّ النصوص نفس الانطباع عند كلِّ القرَّاء؟ هذه الأسئلة، وغيرُها مِمَّا لا يتَّسع له هذَا المقامُ، وثيقة الصِّلة بمسألة تلقِّي النَّص الأدبي، وهي تُفيد أوّلا أنَّ عمليَّة التلقِّي هذه هِي عمليَّة مُعقَّدة، وتُفيد ثانِيًا أن هذه العمليَّة تتحدد وفقًا لاعتبارات قيميَّة تَختلف من قارئ إلى آخر، فليس مَا يبحث عنهُ القارئ العاديُّ هو نفسه ما يبحث عنه القارئُ الباحثُ، خاصَّة إذا تعلّق الأمر بروايات حديثة من إنتاج كتَّاب مبتدئين، كما هو الحال مع رواية "طيور الشَّارع الكبير"، موضوع هذه المُداخلة.
في مُقوِّمات الخطاب القيمي
نُشير بدايَةً إلى أنَّه لا وجُود لقارئٍ نَموذجيٍّ يُمكن اعتماد "قراءته" لروايةٍ مّا بدُون تَحفُّظ، وهُو مَا يُفيد أنَّ الاخْتلافَ هُو أساسُ الخطاب النَّقدي عُمومًا، والخطاب القيميٍّ (Discours axiologique) منْه علَى وجْه الخُصوص، لاسيما إذا اقتُصر فِيه علَى الجوانب الذَّوقيَّة، في إطار ما يسمَّى بالنَّقد الانطبَاعِي. وحتَّى عندما يتعلَّق الأمر بالاعتبارات الفنِّيّة الصِّرف، الْمحدِّدة لما اصطُلح على تسمِيَته بأدبيَّة النَّصِّ، فليْسَ يَخْلُو الأمرُ من اخْتلافٍ فِي المواقف والأحْكَام. وقد سبقَ أَن أشرنا إلى أنَّ مسْألة القيمةِ في الخطَاب النَّقدي هِي مسْألةٌ معقَّدة، وأسبابُ ذلكَ كثيرةٌ لا يتَّسع لها هذا المقام، نقف على اثْنينِ منهَا.
أمًّا السَّببُ الأوَّل فَيعُود إلَى أنَّ قيمةَ بعِض النُّصُوص الرِّوائيَّة، وخاصَّة منهَا مَا يَهمُّ النُّصُوص المَرجِعِيَّةَ أو المؤسِّسَةَ، تبدُو كمُعطًى مادِّيٍّ مُتحَقِّق فِي النُّصُوص ذاتِهَا، وعلَى أسَاسِهِ يُتَحدَّث عنْهَا باعتِبَارهَا من روائع الأدب الإنْسَانِيِّ، كما هُو الشَّأن لـ"دون كيشوت"، و"ألف لية وليلة"، أو مؤلَّفات بلْزاك، وفْلُوبير، وزولا، وبْروست، ونجيب محفوظ في العالم العربي. والسَّببُ الثَّانِي يَكمُن فِي طبيعة القيمة نفْسهَا من حيْثُ هِيَ خطابٌ ذاتيٌّ بالأسَاسِ ولو ادَّعى الموضُوعيَّة والحيَاد. فَمَا هي إذن الشُّروط الَّتي يَجبُ أن تتوفَّر فِي النَّص وتَتحدَّد قيمتُه بِمقتضَاها؟ سنُحاول فِي إطَار رَدِّنَا على هذا السُّؤال الإحالة مباشَرة على رواية " طُيُور الشَّارع الكبير"، فَنُشير بدَايَة إلَى أنَّ جنْسَ الكاتب وسنًّه ومهنتَهُ، فِي هذهِ الْحالة بالذَّات (وهيَ من الاعْتبَارات الَّتي لا يلْتفتُ إليْهَا الخطابُ النَّقدي اليوم)، يُمكن أن تَكتسبَ بعض القيمَة في نظَر القَارئِ المُطَّلع على الإنتاج السَّرديِّ التُّونسيِّ المعَاصر. ويزداد هذا الانطباعُ تأكُّدًا بالْمُقارنة بينَ هذه الرِّواية وغيْرها من الرِّوايات الّتي صاغَها كتَّاب هُم، بِفعل الاخْتصَاص والمهنَة، أوثقُ صلةً بِالأدب مِمَّن يَمتَهنُ الطبَّ، أو المحاماةَ كما هُو الحال بالنِّسبة إلى هُدى إدريس.
وأوَّل ما يلفتُ الانتبَاه فِي "طيُور الشارع الكبير"، مِمَّا له صلةٌ بِمَا تقدَّم، جمال الأسلوب (رغم ما اتَّسمت به الرِّواية من مُباشَرة فِي مستَوى المواطن الحواريَّة)، بَل وشعريَّته الواضحة أحيانًا عند حديث الرَّاوي عن هواجس البَطلة "نَجلاء" بصُورة خاصَّة. ولعلّ ذلك يُفسّر بأنَّ الكاتبَة شَاعِرَة بالأسَاس، وبإيمانها بألاّ حُدود بيْن الأجْناس الأدبيَّة الَّتي تُمارسُها. والأمر الثَّاني اللافتُ للنظر فِي الرِّواية، وهُو في تقديرنَا من سماتِهَا الإيجابيَّة البارزةِ، انْحسَارُ الخطابِ الأَخلاقويِّ فيها إلى حدٍّ بعيدٍ، وذلكَ فيمَا يَتعلَّق بمسائِل حسَّاسة جدًّا من قَبيل الخيانة الزَّوجيَّة، والعلاقات المثليَّة، الرِّجاليَّة والنِّسائيَّة منْها علَى حدِّ السَّواء. هذه "الظَّوهر"، الَّتي تُقدَّم عادةً على أنَّها من السُّلوكات الاجتِماعيَّة الشَّاذَّة، تناولتْهَا الرواية باعتِبَارها من الظَّواهر الإنسانيّة الطَّبيعيَّة، ليْسَ بالإمكان التَّعريضُ بِهَا أو تَجريمُهَا لأَنَّ فِي ذلك نيْلاً من الشَّرط الأساسِيِّ الَّذِي ينْهضُ عليه الوجُودُ الإنْسَانيُّ، والمتمثِّلِ فِي الحريَّة. يقول الرَّاوي بِهذا الخُصُوص: "لَم تكُن [نَجلاء] لِتستوعب في تلكَ الفترةِ القصيرةِ كُنه علاقته [شقيقِها] بأكرم. لَيسَ من السَّهل أن تفهم سرَّ ذلك العشقِ الَّذي يَجمع بينَ شَخصينِ من نفس الجنسِ، والَّذي يُسمَّى في مجتمعنا، وحتَّى في المجتمعاتِ الغربيَّة، "شُذوذا". كان الأهمُّ لديْها أن يَكون شقيقُها سعيدًا( )". وهكذَا توصَّل الرَّاوي إلى قَناعَةٍ مفَادهاأنَّ الْحرامَ ليْسَ في مَا دأب المجتمعُ على إدانته عرفا وقانُونًا على أنّه "مرض مُعد خطيرٍ"( ) أو باعتبَاره مِمَّا يقَعُ في مَجال "الحرام والانحراف"( ). وهِو بذلكَ يُغلِّب الهامشَ على القاعدةِ ويَقلبُ سُلَّم القيم رأسًا علَى عقِبٍ إذ يُقَرِّر أنَّ القيَم السّائدةَ لا تَخرُج عن دائرةِ "النِّفاق الاجتِماعي"( ).
وأهمُّ ما فِي هذا الموقف أنَّه يُشكّكُ فِي مُسلَّمةِ "الجنْس"، الَّتي تنْبنِي، فِي المنظُور التَّقليديِّ، على مُعطياتٍ بيُولُوجيَّة ثابتَةٍ، وتُحيلُ بِذلكَ عَلَى مفاهيم "الْجنْدر" (Gender) و"الكوير" (Queer)( ) الَّتي تتحدَّد بِمُقتضاهَا الهويَّة الجنسيَّة للكَائنِ البَشَرِيِّ، فيُمكنُ التَّأكِيدُ علَى أساسهَا أنَّ كلَّ من لهُ مظهَرُ الرَّجل ليْسَ رجُلاً بالضَّرورة، وكلَّ من لهُ مظهَر المرأة ليْسَ امْرأةً بالضَّرُورة، كمَا هُو الحَالُ فِي الرِّوايةِ مَعَ "أَكْرم" وَسُندس".
ووجهُ الطَّرافةِ فِي هذا الموضُوع بالذَّات أنَّ السُّلوك الَّذِي يُصَنَّفُ "في بلدٍ عربيٍّ مُسلم" كسُلُوكٍ منافٍ "لتعاليم الدِّين والخلُق الحميد"( )، ويُحرم مُتعَاطِيهِ تبعًا لذلكَ من حقِّ الوجُود والكلام، يَتحوَّل في رواية هدى إدريس إلى اسْتحقاق قانُونيٍّ يُجاهرُ به المتعَاطُون لهُ عَلَنًا ويُناضلُون من أجل إقراره وإضفاءِ الشَّرعيَّة عليه. هَذَا هُو علَى الأقَلِّ ما يُسْتشَفُّ من حديثِ "أكرم" لوالدته، إذ يقُول مُخاطبًا "نَجلاء": "حَاولتُ أن أجعَلها تُدركُ بأنَّ ذاك هُو قدري وأنَّني سعيدٌ به، وأنَّ سعادتي لن تكتمل إلاَّ إذا رضيت عنِّي وقبلت باخْتلافي"( ). ويَندرجُ في هذا السِّياق نفسِه حديثُ نجلاء عن "العادةِ السريَّة"، وهيَ، في المنظور التَّقليدي، من السُّلوكاتِ الذَّميمَةِ باعتبارهَا مُنافيَة للقَواعد الأخلاقيَّة والصحِّيَّة، فتقُول مُسَفِّهةً هَذَا الرَّأيَ، مُتحدِّثةً عن زميلٍ لَها ضبطته يُمارسُ هَذا الفعل في مكتبه: "لستُ من مُعارضي مُمارسَة الرِّجال والنِّساء لتلك العادة، الَّتي أثبت العلم فوائدها النَّفسيَّة، ولكن ألم يكن من الأجدر أن يُمارسها في بيته؟"( ).
نَخلُص مِمَّا تَقدَّم إلى أنَّ إيمان الرَّاوي بالاختلاف كَمبدإ مؤسِّسٍ للتَّوازن الفيزيُولوجي والنَّفسي، يُناقِضُ جذريًّا المنظُور التَّقليدِيَّ الَّذي يُكرِّس، إلى حدِّ التَّقديس أحيَانًا ومن مُنطلقَاتٍ غيبيَّةٍ خارجَة عن نطاقِ السُّؤال والمُناقشة، سُلُوكاتٍ مُعيَّنة تُقدَّم علَى أنَّها مِمَّا يُحتِّمُه النِّظام الطَّبيعِيُّ، أو من المورُوثات الَّتي باتت بِمنزلة الحقائق الأزلية.
وفِي هذا السِّيَاق بالذَّات يتنزَّل حديثُ نجلاء عن علاقتِها بوالدهَا إذ تُشَكِّكُ فِي كونه، كما يقتضيه العُرف السَّائد، مثال "الاستقامة والأخلاق"( )، وَيتنزّل أيضا حديثها عن مُؤسَّسة الزّواج والطَّلاق فَتتساءلُ بِهذا الخُصُوص: "هل ينبغِي أن تسيل الدِّماء [...] حتَّى يُصبح قَرار الطَّلاق مشْرُوعًا ومُبرَّرًا؟"( )، أو عنْدما تُصَرِّح مُخاطبَة عشيقَها أنَّهَا "رافضَةٌ لمبدإ الزَّواج ثانية" وأنَّ عَلاقتهُما الحُرَّةَ "جميلَة ومُريحة جسديًّا وروحيًّا" لكليهما( )ِ، وَعن الحُبِّ كَمُمارسَةٍ تَسلُّطيَّة تسْتهدفُ امتهَانَ المرأةِ بصُورةٍ أساسيَّةٍ، فتُشيرُ فِي هذا الصَّدَد إلَى أنَّ بعضَ النِّساءِ يُمارسْنِ معَ أزْواجِهِنَّ "باسْم الحبِّ السَّفر اليوميَّ في دهاليز القهْرِ والإذلال والعبُوديَّة"( ).
رواية الفكرة
بِناء علَى ما تقدَّم يُمكنُنا القولُ إنَّ رواية هُدى إدريس، رغم انْتصَارهَا الظَّاهر لِقضايا المرأة، وتركيزها على أوضَاعهَا ومكانتِها فِي مُجتمعٍ "مَا زالَ يُرسِّخ دُونيَّة المرأة" بسبب انشداده المرضيِّ إلى قيَم الماضي البعيد، لاَ تَتنزَّل فِي إطار مَا يُسَمَّى بالأَدبِ النِّسْويِّ (Féministe). صَحيح أنَّ هَذهِ الروايَة تُدِينُ بشَكْل واضح كلُّ الممارسَات الهَادفة إلى الحطِّ من شَخْصِ المرأةِ، لاَ بصِفَتِها ممَارسَاتٍ ذُكُوريَّةٍ ولكن بصفتِها مُمَارساتٍ اجتمَاعِيّةً بالأساس، مُركِّزة على المُحافظة الَّتي تبلُغ "درجةَ التَّخلُّف"( )، وَصَحيحٌ أنَّها تُدينُ النَّظرةَ النَّمطيَّة الَّتي تَختزلُ المرأة في دَوْريْ زوْجة طيِّعةٍ وفيَّة و"طاهيَةٍ مُمتَازةٍ"( )، وصَحيح أنَّ بطلة الرِّواية "تُحَاربُ من أجل حرِّيَّة المرأة وحقِّها في امتلاكِ جسدها ومصيرها"( )، وتَسعَى إلى إقرار حقَائِق بديهيَّة من قبيل أنلَيْسَ "جسد المرأة فقط [هُو الَّذي] يُثِيرُ الشَّهوة"( )، داحضَةً بِذلكَ لَعْنَة الفتنةِ الَّتِي تُلْحَقُ بِالمَرأةِ وبِمقتضَاها حُكم بنفيِهَا مادِّيًا ورمزيًّا من الفضاءِ الاجتماعي، وهِيَ تَرُوم أيْضًا تَحريك سواكن فكْر المَرْأةِ "القَانع بلُقمةِ المُسلَّمات"( ) خَاصَّةً أنَّ الظُّرُوفَ مهيّأة لِذلكَ إذا ما اعتبَرنا "السِّنينَ الضّوئيَّة الَّتي اختزلتهَا المرأة التُّونُسيَّة من عُمر الكفاح بفضْل أَفكاره [الطَّاهر الحدَّاد] الثَّوريَّة"( )؛ كُلُّ هذا صحيحٌ وَيُؤكِّدُ الطَّابعَ النِّضَالِيَّ النِّسْوِيَّ للرِّوَايَةِ، ولَكنَّ انْحيَازَ الرواية الكَاملَ واللاَّمشْرُوطَ لقِيمِ الحرِّيَّة والانْعتاقِ، ونبْذَهَا لمنطقِ الإقصاءِ والإدانة تَحت مُبرِّراتٍ أخلاقيَّةٍ ودينيَّةٍ واهيَةٍ، يَجْعلُ منهَا دُسْتُور الحريَّةِ والاخْتِلاف بامْتِيَازٍ، تُريدُ الحريَّة للجميع لأَنَّهُ لاَ معْنَى لوجَع "المرْءِ [الفرْدِ أو الجنْسِ] أَمَامَ أوجَاعِ الإنْسَانيَّة"( ).
هَذا الوله الحارق، الًَّذِي لا يُهَادن إطلاقًا، هُو ما أضفَى على النَّصِّ طَابَعَهُ الانتِهَاكِيَّ (Transgressif) وجعَلَهُ يَقطعُ الصلة نِهائِيًّا بذهنيَّةِ التَّقْديسِ والقَدريَّة، وذلك انطلاقا من مبدإ يُقرِّر بِكلِّ وُضوح أنْ لا شَيْءَ ولاَ أحدَ فَوْقَ النَّقد والْمُحاسبَةِ. أمَّا التَّسَامُح الَّذي يتعاملُ بِهِ الرَّاوي معَ مظَاهِر الاختلافِ، الموْسُومةِ تقليديًّا بالشَّاذة، فَمَردُّهَا فِي اعتِبَارنَا إلَى نَظْرةٍ مُغَايرةٍ للْكائنِ البَشرِيِّ وبِمكامِن العتْمة فيهِ (La part maudite)، وهِيَ نظْرةٌ تُؤدِّي حتْمًا إِلَى مُراجَعاتٍ قيميّةٍ جِذْريَّةٍ، وخاصَّةً لِمقُولَتيْ الخَيْر والشَّرِّ الَّلتيْن تَحْكُمان منظُومة القيمِ الاجتماعيَّةِ، وتُحوِّلان الحيَاة فِيه إلَى "مَسرحيَّة هَزليَّة – دراميَّةٍ يعيشُها النَّاسُ" يَخشَى فيها كُلُّ أحدٍ الآخَرَ، وَيَتَوجَّسُ "خيفَةً مِنْ ردِّ فعلِهِ"، فَيُعدِّلُ كُلُّ واحِد تصرُفاته وخِياراتِه المصيريَّةَ عَلَى هَوى الآخَرِ، لأنَّ "الآخر غُول [و]الآخر مُفزع". والنَّتِيجةُ الحتْمِيَّةُ لِهَذَا الخَوفِ الهَوَسِيِّ منَ الآخَر، يضِيفُ الرَّاوِي، هيَ أنَّنَا لاَ "نعيشُ الحيَاة خالصَةً" وأنَّ وجودنا لاَ "يكون ملكًا لَنَا"، وإنَّما يُضْحِي "وُجودا افتراضيًّا نعيشُه بوكالَةٍ، بتفْويضٍ منَ الآخرين"( ).
خاتمة
بناءً علَى ما تَقَدَّم يُمكنُ القَول إنَّ روايَة "طيور الشَّارع الكبير"، بغضِّ النَّظر عمَّا قد يكون اعتَراهَا من هناتٍ فنِّيَّة باعتبَارهَا باكُورة إنتاجِ كَاتبتِهَا، هِي روايَة مُهمَّة من دُون أدنَى شكٍّ لأنَّها تُصوِّر بدقَّة تناقضات المجتمع التُّونسيِّ الرّاهن الَّتِي ستُفضي حتْمًا إلى تَحوُّلاتٍ جذريَّة فِي مستَوى القيَم الضَّابطةِ لَهُ. والرِّوايَة بِهذا الاعتبَارِ روايَة منشَدَّة بتصْمِيمٍ واقْتِنَاع إلَى المُسْتقْبلِ، مُرَاهِنَة عَلَيه، وَهِي لِنفْسِ هَذا السَّبَب تَتَنزَّلُ فِي صُلْبِ الْحداثَةِ. وَالطَّريفُ فِي الأمْرِ أَن يَصْدح صَوْتُ امْرأةٍ بِحقِيقة أن لا وُجُودَ خارج التَّاريخ وأنَّ لكُلِّ زمان قيمَهُ، فِي مجتمعٍ لاَ يَزَالُ يُنكرُ حقَّ المرأة فِي الوُجُود والكلام. وقَد يَكُونُ منَ المُفيدِ أنْ نُؤكِّدَ، أُسْوةً بالأبِ جون فونْتَان عندمَا كتبَ مُنوِّهًا بِروايَة "طرشْقانة" لِمسعُودة بُوبكر، أنَّه ليْسَ مِمَّا يُثيرُ الدَّهشَة أنْ تَكُونَ الْمَرْأة هِيَ أَوَّلَ مَنْ يتَجَرَّأُ عَلَى انْتِهَاكِ الْمُحرَّمِ"( ). والمَرأةُ، إذ تضْطلعُ بِهذا الدَّور فِي المجتمعَاتِ العَربيَّة الإسلاميَّةِ، إنَّمَا تَتولاَّه من مُنطلقِ أنَّهَا الرَّمْز الأبْرز للذَّاتِ المُنسحقةِ المبتُورةِ، فَهِي لِذلكَ "تُؤمنُ بِحريَّة الآخَر وتَحْتَرمُ الاخْتِلافَ"( ) لأنَّ هَذا الإيمَانَ هُو سبيلُهَا الوحيدُ إلَى الوُجُود والتَّحَقُّقِ