عرض مشاركة واحدة
قديم 12-19-2011, 02:42 PM
المشاركة 157
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
هاني الراهب الكاتب المجدد الذي اختار هوية المثقف الإشكالي
.... حاول كتابة الرواية وهو في الرابعة عشرة من عمره ,بعدها كتب (المهزومون) بنوع من الجنون وخلال ثلاثين يوما متتاليا مقتحما وبجرأة نادرة عالم الرواية العربية وعالم المحرمات العربية الثلاث(الجنس,الدين, السياسة) ,ونال في العام1961 جائزة مجلة الآداب البيروتية عن هذه الرواية التي ستعلن عن ولادة روائي سوري جديد ستكون له مكانته الروائية والأدبية والنقدية الهامة ,ذلك كان الروائي السوري الراحل (هاني الراهب)(رحل في 6/فبراير/2000).

ولد هاني الراهب في قرية (مشقيتا) باللاذقية عام 1939 ,درس الأدب الإنجليزي في الجامعة الأمريكية في بيروت ونال شهادة الدكتوراه من بريطانيا, مارس التدريس لسنوات في جامعة دمشق , واثر ظروف عديدة سافر الراهب إلى دولة الكويت في الخليج العربي,عاد إلى دمشق وتوفي فيها اثر مرض عضال أصابه,مارس كتابة الرواية والقصة والنقد الأدبي, له ثماني روايات وثلاث مجموعات قصصية صدرت آخرها بعيد رحيله.

يعتبر هاني الراهب أنموذجا للروائي المجدد والمتجدد, عمل على تطويرالرواية السورية من خلال اشتغاله وبحثه الدؤوب عن التعبير الروائي والتقـنية الروائية واقتصاد اللغة , فالتوتر اللغوي عنده يستمد نسيجه من تصور موحد للغة باعتبارها هيولى لاتزال في حالة الصيرورة,وفي هذا قال الراهب يوما : (ما دامت الرواية ظاهرة تكاد أن تكون حديثة العهد في تراثنا الأدبي, فينبغي أن يحتويها بناء لغوي وأسلوبي جديد), وقد كان لكتاباته تأثير مميز على الرواية العربية شكلا ومضمونا وشكلت علامة بارزة في مسيرة الرواية العربية المعاصرة وتطورها.

بعد روايته الأولى (المهزومون) يقول الراهب:خفت خوفا شديدا من الشهرة أن تؤثر على إجادتي لكتابة النص فرحت أعمل على تكثيف النص لغويا و بنيويا إلى درجة أن الفصل الأول من روايتي الثانية(شرخ في تاريخ طويل) أخذ سبعة أشهر والرواية كلها استغرقت سبع سنين بدل شهر واحد,هذا هو قلق المبدع الحقيقي المسكون بالهواجس الحياتية والروائية والأسئلة الوجودية وحسب تعبيره (نحن سكان مدن الأسئلة).

شكلت روايته (ألف ليلة وليلتان) واستفادته من التراث القصصي الشعبي واللغة والتقنية الروائية التي كتبت بها الرواية وبنية السرد المميزة والتي تدل على رغبة الراهب في التجريب والتجديد ,شكلت انعطافة هامة في مسيرته الروائية, فهي ذات طموح فني وتقني كبير للسيطرة على الحقيقة التاريخية, وعنها يقول الروائي والناقد السوري نبيل سليمان: (يقترب أسلوب هاني الراهب في هذه الرواية من أسلوب الروائية الإنجليزية (جين اوستن).

في الحرص على تقديم العادي ودقة النثر وهجائيته الحادة) فهاني الراهب كثير الاهتمام باللغة والأسلوب الروائي.

وقد حاول الراهب فيها أن يحكي قصة ثلاثين شخصا على الأقل وكل واحد منهم يظن نفسه قائما بذاته إلى أن تلطمه هزيمة حزيران (يونيو) فيكتشف أنه جزء صغير من مجتمع مهزوم وعمر هذه الهزيمة ألف عام , ولهذا لم يستطع الراهب تقديم هذه الرؤية عبر تقنيات السرد والوصف والحوار والحبكة المحكمة وخاصة الحبكة , ذلك أن المجتمع الذي ه زم هو مجتمع متفكك ,منقسم على نفسه, وقد تمثلت الرواية في بنيتها شكل هذا المجتمع, والزمن فيها هو زمن تجاوري أو تزامني ,وعنها يقول الراهب: (أحسست بالثقة الكافية لتقديم حطام رواية , أنا مدين إلى حد ما إلى بنية (ألف ليلة وليلة) التي تحكي ألف حكاية) ,لكن البحث الأساسي بالنسبة له ظل يلاحق بنية جديدة للرواية سماها البنية الجماعية , وسنجد في روايته (التلال) تقديمه للعبة زمنية وبطريقة خاصة , حيث رأى فيها حاجة ماسة لعنصري الأسطورة والرمز, واعتبارهما التقنية الأنجع في التعبير عن شمولية التجربة , ويؤكد فيها على مقولته الأساسية في العمل الروائي وهي أن شكل وبنية التجربة التي يكتب عنها يفرض شكل وبنية الرواية.

كتب هاني الراهب روايتي (خضراء كالمستنقعات) و(خضراء كالحقول) وهو في حالة وعي متأزم بعد انهيار الإتحاد السوفييتي وانهيار التقدم العربي وانهيار النظام الإقليمي العربي, أحس وكأن كل شيء ينهار, وقد انعكس هذا الإحساس على أدواته الفنية وأسلوبه في الكتابة (بدأت ألعن اللغة التي استخدمتها خلال ثلاثين عاما , كانت باهرة لغة شعرية , لغة ارتيادية , لغة تقدمية...لكن الشعر والتقدم والارتياد كله انهار, فلماذا أنا محتفظ بهذه اللغة التي باتت الآن وكأنها مجرد زينة, مجرد حلية...) لذلك سعى الراهب لكتابة رواية بلغة ميتة, تحت ضغط جملة من الظروف الذاتية الداخلية والخارجية , وعكف على كتابة مجموعة من الروايات الصغيرة بعنوان (كل نساء المدينة) وعندما صدر منها (خضراء كالمستنقعات) ظن البعض أنها رواية قائمة بذاتها واستغربوا وضعها على هذه الحالة, لقد كان لديه طموح روائي أن (خضراء كالمستنقعات) ستليها خمس خضراوات تكمل الحلقة وتصدر ذات يوم في رواية واحدة.

لا يعتبر الراهب نفسه كاتب قصة قصيرة , وهو يقول أنه إذا نجحت عندي بعض القصص وهي أربع أو خمس قصص فهذا بالصدفة, ويعتبر نفسه كذلك قصير الباع بها وي فضل تسميتها بالأقصوصة, وهو يعبر على الدوام عن عدم استيائه من هذا الموضوع ,فقد كان يكتب القصة كنوع من استراحة المحارب بين رواية وأخرى(عندما أعايش الحياة وأرى فيها أو ألتقط منها ما يمكنني التعبير عنه تعبيرا أدبيا , لا يخطر في بالي أن أفعل ذلك عن طريق الأقصوصة وإنما عن طريق الرواية), وقد كتب الراهب خلال حياته ثلاث مجموعات قصصية (المدينة الفاضلة) و(جرائم دونكيشوت) و(خضراء كالعلقم) والأخيرة نشرت بعيد وفاته عن دار الكنوز الأدبية التي ستعيد طباعة كل أعماله الإبداعية وترجماته ودراساته المختلفة, وقد كتب معظم قصص المجموعة الأخيرة بين مطلع الثمانينيات وأوائل التسعينيات, وقد تميزت القصص فيها بالحبكة المحكمة وبلغة متفردة ومميزة استطاع عبرها أن يدخل إلى أعماق الشخوص ويستنبط دواخلها الإنسانية والتباسات ضياع فرصها في الحياة دون أن يبتعد فيها عن الهم القومي والاجتماعي لتلك الشخوص, لقد كان الراهب هنا حكاء بارعا خفيف الظل وعميق المعنى.

رواية (التلال) التي نشرت عام 1989 في بيروت,رواية جديدة في بنائها الفني ورؤيتها للعمل الروائي, وهي تسقط من حساباتها الحوار وتستعيض عنه بالدلالات ,فيها جرأة غير عادية,فهي تتناول عالمين متناقضين ظاهريا عالم الأسطورة والأحلام والرغبات والهواجس المول دة من عذابات المجتمع وقحله كما يصفها الروائي حسن حميد وفي الجانب الآخر هناك عالم التاريخ الواقعي تماما والمعروف, والتلال رواية تهز الداخل الجواني عند القارئ وتحثه على التعامل معها بأكبر جدية ممكنة, إنها حفنة من التاريخ والواقع والأسطورة , غنية بإحساس كاتبها بأهمية النص الأدبي ودوره في الحياة, , ففي (التلال) عدة أزمنة متداخلة يفجر بعضها الآخر , فهناك الزمن التاريخي المشار إليه مباشرة في الرواية (الحرب العالمية الأولى والثانية, وعام 1946 ) وهناك الزمن النفسي الذي يبدو جليا في العديد من شخصيات الرواية ,وهناك الزمان الأسطوري(الذي تمثله فيضه) وهناك أيضا ما أسماه الراهب زمن اللازمان والذي يمثله الدراويش, وهي رواية تتكلم عن العرب ,عن تجربة التقدم في تاريخ الأمة العربية المعاصر, وهي لا تخص قطرا عربيا دون آخر, وكمعادل روائي فقد وضع الراهب مكانا يتكون مما هو عام ومشترك , وكذلك أسماء الشخصيات والبلدان ذات الدلالة الخاصة والمستمدة من تاريخ المنطقة , وقد رأى الراهب في روايته هذه رهان حياته الأدبية , وكان يطمح أن تكون لها أجزاء لاحقة تكملها.

المكان عموما في روايات هاني الراهب إشكالي, فهو موجود ومحدد في بعضها,وفي الآخر مبهم , فنجد في رواياته الثلاث الأولى أن المكان هو دمشق, وفي الوباء هو اللاذقية, وفي بلد واحد هو العالم يبدو المكان وكأنه حارة عربية وفي التلال هو مدينة ,قد تكون دمشق أو القاهرة أو بغداد...

عندما س ئل الراهب ذات يوم عن مغازلته جائزة نوبل وموقفه منها أجاب: (بالنسبة لجائزة نوبل أنا لست مرشحا لها والذي كتبته حتى الآن هو ثماني روايات اثنتان منها فقط جديرتان بالقراءة والست الأخريات لابأس بهن ولدي كذلك مجموعتان قصصيتان, وهذه الجائزة إذا استثنينا منها الجانب المالي وهو جانب لعله الشيء الإيجابي الوحيد فيها , جائزة سيئة السمعة جدا نظرا لتدخل السياسة فيها بعيدا عن الاعتبارات الثقافية ومن ذلك بشكل خاص ترويجها قيما إمبريالية ورأسمالية لا تناسبني أنا العربي الذي أعتز بتراثي وحضارتي..), فشغل الراهب الروائي وترجماته الهامة واهتمامه بالأدب الصهيوني ودراسته بعمق شديد كان الشغل الشاغل لفكره وأدبه وحياته.

روايته الأخيرة (رسمت خطا في الرمال) حققت قفزة نوعية في مسيرة الراهب الروائية ففيها تحول المجاز اللغوي إلى مجاز بنائي تركيبي, ففيها يتداخل المحكي مع نصوص أخرى, في مزج التراث الشعبي مع الواقع الاجتماعي مع ثقافة الراوي وعصره والتي تنعكس جميعا في مستوى الكتابة,وفيها يرسم الراهب خارطة تراجيدية للواقع العربي وسط عالم يتفكك ويتقوض, وفيها يستخدم الروائي خيالا خارقا , ومع ذلك لا يمكن وصف الرواية بأنها خيالية أو فانتازية, فقد استطاع الراهب توظيف الفانتازيا توظيفا دقيقا لتكون خاضعة لعمل عقلي منظم ش يد من خلاله البناء الروائي المحكم والمتنامي وحيث تتداخل العوالم الحكائية الخيالية ببعضها وتتداخل شخصياتها.

فعالم الرواية هو عالم الدول العربية النفطية في لحظة حرجة وحاسمة من تاريخها وتاريخنا العربي بشكل عام,وهذه اللحظة هي بداية التسعينيات وحرب الخليج الثانية, وعنها يقول الدكتور حسان عباس : (معمار الرواية الفسيفسائي وتجاوره للأصوات والأدوار وأنماط الكتابة يؤكد رغبة الراهب بكتابة رواية أصوات يرتفع فيها مستوى الحكاية من مستوى المشهدية إلى مستوى المفهومية ), فعبر متاهات الرواية الدائرية يقارب الراهب سيرة أمة , ويرسم صورة قاتمة لحاضر لا يبعث على التفاؤل, وحيث الزمان يمتد عبر ألف عام وأكثر الشخصيات حرة في المكان , حرة في الزمان , ستبقى مشدودة إلى الصحراء كل ذلك عبر سخرية لا تثير ابتسامنا بقدر ما تزيد إحساسنا بالألم والمرارة.

إن زماننا هذا أخيولة هاني الراهب المدهشة يضعها بين أيدينا في (رسمت خطا في الرمال) كما يرى عباس فيها.

كان لدى هاني الراهب دائما شعور حاد بأنه ميت أو ربما يموت دون أن يتمكن من الإمساك على التغيرات العاصفة والعنيفة في شرقنا العربي , روائيا ودون أن يكتمل تعبيره عن هذه الرؤية, رؤية التقدم العربي وانكساره وإعادة إنتاج الطغيان بدلا عنه , وما الميل إلى تغيير التقنيات الروائية من رواية إلى أخرى سوى اختلاف الرؤية الذي يتطلب بالضرورة اختلاف الشكل,لكن الزمن والمرض العضال لم يعطيا هذا الجسد المقاوم وتلك الروح الوقادة والوثابة مزيدا من الوقت وفسحة الحياة , فثمة مشاريع مؤجلة وأحلام تنتظر التحقق, على الورق المتناثر على الطاولة وفي خلايا الروح والجسد والدم الذي لا زال حارا طازجا ونظرا فيما كتب الراهب وأنتج من روايات وقصص وترجمات ودراسات وأحاديث صحفية وتفاصيل حياة.