عرض مشاركة واحدة
قديم 06-26-2014, 08:51 PM
المشاركة 20
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
"هل الإنسان نفسه إلا رداء بالغ الصغر أو على الأصح مجموعة كاملة من الملابس بكل زخارفها وزركشاتها ؟ أليست الديانة عباءة، والأمانة حذاء بلى بالوحل، وحب الذات معطفاً ضيقاً غاية الضيق، والغرور قميصاً، أليس الضمير إلا سروالاً (بنطلوناً) يستر الخلاعة والقذارة، ولكن من السهل نزعه لخدمة الخلاعة والقذارة كلتيهما ؟ فإذا وضعت بعض قطع الفراء الرخيص أو الثمين في موقع معين من الرداء فإننا بذلك نصنع قاضياً وحكماً ومن ثم فإن بعض الشاش والأطلس الأسود بعضهما إلى بعض بشكل مناسب يصنع لنا أسقفاً(86)".
وجرت إستعارة الرداء هنا بدقة ورقة. أن بيتر (الكاثولوكية)، ومارتن (اللوثرية والأنجليكانية) وجاك (الكلفنية) تسلموا، ثلاثتهم، من أبيهم وهو يحتضر، ثلاثة أردية جديدة متماثلة (كتباً مقدسة) إلى جانب وصية توجههم كيف يلبسونها، وتحرم عليهم إبدالها، أو إضافة خيط واحد إليها أو إنتقاص خيط واحد منها ووقع الأبناء الثلاثة في غرام سيدات ثلاث: "دوقة المال"، أي الثراء، و"آنسة الألقاب الفخمة" أي الطمع، و"كونتيسة الكبرياء" أي الغرور، ولكن الأخوة الثلاث، رغبة منهم في إرضاء هؤلاء السيدات، يعمدون إلى إحداث بعض التغيير في أرديتهم الموروثة. ولما بدا لهم أن التغييرات تتعارض مع وصية أبيهم، أعادوا تفسير الوصية بتأويلات صادرة عن علماء ومثقفين. أما بيتر فقد أراد أن يضيف حواشي وأهداباً من الفضة (البذخ البابوي). وسرعان ما أتضح للعلماء الثقاة أن لفظة "الهدب أو الحاشية" في الوصية تعني عصا المكنسة الطويلة. وهكذا إختار بيتر الحواشي الفضية، ولكنه حرم على نفسه عصا المكنسة الطويلة "السحر") وفرح البروتستانت (المحتجون) حين وجدوا أقسى الهجاء والنقد يوجه إلى بيتر: إلى شرائه قارة كبيرة (المطهر- مكان تطهر فيه نفوس الأبرار بعد الموت بعذاب محدود الأجل) ثم بيعه (أي المطهر) في أجزاء متفاوتة (صكوك الغفران) المرة بعد الأخرى، والى علاجاته الناجحة الخالية من الآلام عادة (القفازات) للديدان (أي وخزات الضمير)- وعلى سبيل المثال: "اإمتناع عن أكل شيء بعد العشاء لمدة ثلاث ليال، وألا تخرج على الإطلاق ريحاً من الجانبين دون سبب واضح(87)"، وكذلك وجه النقد إلى بيتر لإبتداع "وظيفة الهمس" (أي الإعتراف) "لخير وراحة المصابين بوسواس المرض أو الذين أرهقهم المغص" و"ووظيفة التأمين" (أي مزيد من الغفران)، "المخلل البالي المشهور (الكاثوليكي) ويعني به "الماء المقدس"، على أنه من الضعف والإنحلال. وحيث تزود بيتر بهذه الوسائل والحيل الحكيمة فإنه ينصب نفسه ممثلاً للرب، ويصف فوق رأسه قبعات ذات تاج عال. ويمسك في يده بعصا يختال بها، وإا رغب الناس في مصافحته، قدم لهم "كأن كلب مدرب تدريباً جيداً" قدمه(88). ويدعو بيتر إخوته إلى الغداء، ولا يقدم لهم غير الخبز، ويؤكد لهم أنه ليس خبزاً بل لحماً، ويدحض إعتراضاتهم ويقول "لإقناعكما بأنكما لستما إلا شخصين أحمقين جاهلين عنيدين أعميين حقاً"، لن أستخدم إلا حجةً واحدةً: والله إنه لحم ضأن طيب طبيعي مثل أي لحم ضأن في "ليندهول ماركت"، صب الله عليكما اللعنة الأبدية إذا صدقتما غير ما أقول(89)".ويثور الإخوان، ويستخرجان "نسخاً حقيقية" من الوصية (ترجمة الكتاب المقدس باللغة الوطنية)، ويشجبان بيتر على أنه محتال دجال. وبناء على هذا طرد بيتر أخويه من داره، ولم يستظلا بسقفه منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا(90)". وسرعان ما دب النزاع بعد ذلك بين الإخوة: إلى أي حد ينبذون أو يغيرون من أثوابهم الموروثة. ويعتزم مارتن، بعد ثورة غضبه الأولى، أن يلتزم جادة الإعتدال. ويتذكر أن بيتر أخوه. أما بيتر، فإنه على أية حال يمزق ثوبه إرباً (شيع كلفنية). ويصاب بمسات من الجنون والغيرة. ويستطرد سويفت ليصف عمليات الريح (ويقصد بها الوحي والإلهام) عند العولسيين)- نسبة إلى عولس إله الريح "ويعني بهم" الوعاظ الكلفنيين. ويسخر كثيراً- سخرية لا يجوز نقلها هنا- من ألفاظهم الأنفية الحادة ومن نظرياتهم في القضاء والقدر، وتقديسهم الأعمى للنصوص المقدسة(91).
والى هنا، لم يصب مذهب الكاتب- المذهب الأنجليكاني إلا اليسير من الجراح، ولكن سويفت يسترسل في القصة، ويغير الأثواب إلى رياح، ومن الواضح أنه ينتهي إلى أن كل الديانات والفلسفات- لا لاهوتيات المنشقين فحسب- ليست إلا أضاليل وأوهاماً كاذبةً سريعة الزوال.
"إذا إستعرضنا الإنجازات العظيمة التي تمت في العالم ... مثل تكوين الإمبراطوريات الجديدة عن طريق الغزو والفتح، وإبتداع ونمو مذاهب جديدة في الفلسفة، وإستنباط أديان جديدة ونشرها، فلسوف نجد أن الذين قاموا بهذا كله، ليسوا إلا أشخاصاً هيأت لهم عقولهم الطبيعية أن يقوموا بإنقلابات كبيرة، بفضل غذائهم وتعليمهم، ومزاج معين سائد، بالإضافة إلى تأثير خاص للهواء والمناخ ... لأن عقل الإنسان المستقر في مخه، لابد أن ترهقه وتغمره أبخرة ورياح صاعدة من القوى والوظائف الجسدية الدنيا لتسقي المخترعات وتجعلها مثمرة(92).
ويسترسل سويفت في تفصيل فسيولوجي لا يمكن ذكره، لما بدا له أنه مثال رائع لإفرازات داخلية تولد أفكاراً قوية، ومن ذلك "المشروع الكبير" لهنري الرابع: ذلك أن ملك فرنسا لم يوح إليه بشن الحرب ضد آل هيسبرج ويستحثه عليها إلا تفكيره في الإستحواذ في طريقه على امرأة (هي شارلوت مونمورنس) التي حرك جمالها في الملك عصارت مختلفة "صعدت إلى مخه(93)" وهذا هو بالمثل ما حدث بكبار الفلاسفة الذين حكم عليهم معاصروهم بحق بأنهم "فقدوا عقولهم": "ومن هذا الطراز كان أبيقور، ديوجين، أبوللونيوس، لوكريشس، ياراسلسوس، ديكارت، وغيرهم، ممن كانوا على قيد الحياة الآن، ...لتعرضوا في هذا العصر المتميز بالفهم، لخطر واضح، خطر فصد الدم، والسياط، والأغلال، والحجرات المظلمة والقش (في السجون) أما الآن فقد يسرني أن أعرف كيف أنه من الميسور أن نعلل لهذه التصورات والأفكار، .. دون إشارة إلى الأبخرة التي تتصاعد من القوى والوظائف الجسدية الدنيا، حيث تلقي ظلالاً معتمةً على المخ، فتقطر أو تتساقط مفاهيم لم تضع لها لغتنا الضيقة بعد أسماء غير الجنون أو الخبل(94).
ولمثل "هذا الخلل أو التحول في المخ بفعل الأبخرة المتصاعدة والقوى والوظائف الجسدية الدنيا" يعزو سويفت كل الانقلابات أو الثورات التي حدثت في الآمبراطورية والفلسفة والدين(95) ويخلص إلى أن كل مذاهب الفكر عبارة عن رياح من الألفاظ، وأن الزجل العاقل لا ينبغي له أن ينفذ إلى الحقيقة الباطنة للأشياء، بل يقنع نفسه بالسطح أي بظواهر الأشياء، وبناء على هذا يستخدم أحد التشبيهات اللطيفة التي ينعطف إليها دائماً: "رأيت في الإسبوع الماضي امرأة سلخ جلدها، ولن تصدق أنت بسهولة إلى أي حد تغير شكلها إلى أسوأ مما كانت(96)".
إن هذا الكتاب الصغير المخزي الذي وقع في 130 صفحة، جعل من سويفت في الحال "سيد الهجاء"- أو كما سماه فولتير: رابليه آخر في صورة متقنة. إن القصص الرمزي أو المجازات إتسقت إتساقاً حرفياً مع معتقده الأنجليكاني التقليدي. ولكن كثيراً من القراء أحسوا بأن الكاتب متشكك، إن لم يكن ملحداً. أما رئيس الأساقفة شارب فإنه أبلغ الملكة آن أن سويفت لم يفضل الكافر بشيء كثير(97). وكان من رأي دوقة مالبورو الصديقة الحميمة للملكة، أن سويفت: "حول، منذ زمن طويل، كل الديانة إلى "قصة حوض الإستحمام" على أنها وباعها دعابة. ولكنه كان قد إستاء من أن "الأحرار" لم يكافئوه بالترقية في الكنيسة على ما أظهره من غيرة شديدة على الدين بهزله الدنس، ولذلك سخر إلحاده ومزاحه ومرحه في خدمة أعدائهم(98)".
كذلك نعته ستيل بأنه كافر، ووصفه نوتنجهام في مجلس العموم بأنه عالم لاهوتي "من العسير أن يشك في أنه مسيحي(99). وكان سويفت قد قرأ هوبز، وهي تجربة ليس من اليسير نسيانها. ذلك أن هوبز كان قد بدأ بالخوف، انتقل إلى المذهب المادي، وانتهى بأن يكون (محافظاً) يناصر الكنيسة الرسمية.
وكان لرجال الدين قليل من العزاء في أن سويفت أخرج مؤلفاً في الفلسفة:
"إن مختلف الآراء الفلسفية انتشرت في أنحاء العالم، وكأنها أمراض طاعون أصابت العقل، كما انتشر صندوق بندورا الأوبئة التي تصيب الجسم، مع فارق واحد، هو أن الطاعون لم يترك شيئاً من الأمل في القاع إن الحقيقة خافية على الناس، قدر خفاء منابع النيل، ولا يمكن وجودها إلا في "بوتوبيا" (المدينة المثالية)(100).
ومن الجائز أن سويفت، لأنه أحس بأن الحقيقة لم تقصد للبشر، نبذ في إصرار شديد كل الفرق الدينية التي ادعت أن مذهبها "هو المذهب الصحيح". وازدرى الرجال الذين زعموا- مثل بانيان وبعض الكويكرز- أنهم رأوا الله أو كلموه. وانتهى، مع هوبز، إلى أنه ضرب من الانتحار الاجتماعي أن نترك لكل إنسان الحرية في أن يصنع عقيدته أو مذهبه بنفسه، حيث لن تكون نتيجة ذلك إلا عاصفة هوجاء من السخافات يصبح معها "بيمارستانا" أو مستشفى للأمراض العقلية. ومن ثم عارض سويفت حرية الفكر، على أساس أن "جمهور البشر مؤهل للطيران قدر ما هو مؤهل للتفكير(101)". واستنكر التسامح الديني، وظل لآخر حياته يؤيد "قانون الاختبار" الذي قضى بإقصاء غير أتباع الكنيسة الرسمية عن كل الوظائف السياسية والعسكرية(102). واتفق مع الحكام الكاثوليك واللوثريين على أنه يجب أن يكون للأمة عقيدة دينية واحدة. وحيث أنه ولد في إنجلترا، ومذهبها الرسمي هو الأنجليكاني، فإنه رأى أن الإتفاق العام الكامل على اعتناق هذا المذهب أمر لا غنى له عنه لعملية تمدين الإنجليز ونشر سويفت في 1708 بعض القطع: "أحاسيس رجل يتبع كنيسة إنجلترا"، "والدليل على أن إلغاء المسيحية في إنجلترا قد يستتبع بعض المتاعب والمشاكل والمزعجات "وكان آنذاك في طريقه من الأحرار إلى المحافظين".
وكان أول ارتباط سياسي له- بعد ترك ثمبل- مع الأحرار، حيث بدا له أنهم أكثر تقدمية، ومن الأرجح أن يجدوا عملاً لرجل أكبر عقلاً وأقل ثراءً. وفي 1701 نشر كتيباً يناصر فيه حزب الأحرار وكله أمل في الظفر بشيء. ورحب هاليفاكس وسندر لند وغيرهما من زعماء الأحرار، بانضمامه إلى حزبهم، ووعدوه خيراً إذا تولوا الحكم. ولكنهم لم ينجزوا ما وعدوا، ويحتمل أنهم خشوا من أن سويفت رجل لا يسهل قياده، وأن قلمه سلاح ذو حدين، وفي رحلة موسعة من أيرلنده إلى لندن في 1705 كسب سويفت صداقة كونجريف وأديسون وستيل. وأهداه أديسون نسخة من "رحلات إلى إيطاليا" وكتب في عبارة الإهداء "إلى جوناتان سويفت، أحسن رفيق وخير صديق، أعظم عبقرية في زمانه يقدم خادمه الذليل، المؤلف، هذا الكتاب(103)"، ولكن هذه الصداقة، مثل صداقة جوناثان مع ستيل وبوب، لم تدم، وأتت عليها نيران سويفت المتقدة أو ثورته المتصاعدة.
وفي زيارة أخرى لدينة لندن، تسلى سويفت بتدمير منجم دعي. ذلك أن جون بار تريدج، الإسكافي، أخرج كل عام تقويماً زاخر بالنبوءات المؤسسة على حركات النجوم. وفي 1708 نشر سويفت تحت اسم مستعار "إيزاك بيكرستاف" تقويماً تنافسياً. وكان من بين تنبؤات إيزاك، انه في الساعة الحادية عشرة من مساء يوم 29 مارس سيقضي بارتريدج نحبه. وفي 30 مارس نشر بيكرستاف في نشوة الانتصار رسالة أعلن فيها أن بارتريدج مات في ظرف بضع ساعات من الموعد المحدد في النبوءة، وذكر في تفصيل مقنع ترتيبات الجنازة. وأكد بارتريدج لمدينة لندن بأسرها أنه لا يزال حياً يرزق. ولكن إيزاك رد بأن هذا محض افتراء. وأدرك ظرفاء المدينة الخدعة. ورفع مكتب التسجيلات اسم بارتريدج من سجلاته أما ستيل فإنه اختار إيزاك اسماً لمحرر وهمي في صحيفة "تاتلر" عند افتتاحها في السنة التالية.
وفي 1710 غادر سويفت لارا كور مرة أخرى، موفداً عن الأساقفة الأيرلنديين ليطلب إلى الملكة آن أن تمد يد معونتها إلى رجال الدين الانجليكانيين في أيرلنده: ورفض جودلفين وسومرز، وهما عضوان من حزب الاحرار في مجلس المكلة، الموافقة على هذا إلا إذا وافق رجال الدين هؤلاء، على التخفيف من حدة "قانون الاختبار" والإرخاء من قبضته. وعارض سويفت بشدة التخفيف المطلوب. واكتشف الأحرار أنه كان "محافظاً" بالنسبة للعقيدة الدينية. وأعترف سويفت عملياً بأنه "محافظ" بالنسبة للسياسة أيضاً، حين كتب: "إني كنت أمقت دوماً هذا النهج السياسي ... ألا وهو وضع مصالح ذوي المال في مواجهة مصالح مالكي الأرض(104)". ولجأ إلى زعيمي المحافظين، هارلي وبولنجبروك ولقى ترحيباً حاراً، وأصبح بين عشية وضحاها "محافظاً" راسخاً. وعين محرراً لصحيفة المحافظين "إجزامنر". وأبرز أسلوبه بوضوح عندما وصف نائب حاكم أيرلنده- وهو من حزب الأحرار، وكان أديسون صديق سويفت سكرتيراً له:
"إن توماس إرل وارتون ... بحكم دستور غريب، قضى بضعة أعوام من سني اليأس التي تقدم بها عمره، دون آثار بارزة للشيخوخة في جسمه أو عقله. وعلى الرغم من مقارفته المستمرة لكل الموبقات التي تعتصر الجسم والعقل كليهما ... فإنه يذهب دوماً إلى الصلاة. ويتحدث حديث الفسق والفجور والتجديف على باب الكنيسة، فهو مشيخي في السياسة ملحد في العقيدة. ولكنه يؤثر الآن أن يفجر مع البابوية(105)".
وسر الوزراء "المحافظون" بها الهجاء اللاذع الذي يشبه القتل، فعهدوا إلى سويفت بكتابة فذلكة "سلوك الحلفاء" (نوفمبر 1711)، كجزء من حملتهم لإسقاط مالبورو وإنهاء حرب الوراثة الإسبانية، واحتج سويفت بأن الضرائب الاستثنائية التي فرضت لتمويل الحروب الطويلة ضد لويس الرابع عشر يمكن خفضها بقصر إسهام إنجلترا في الحروب على البحر، وأوضح بأجلى بيان شكوى مالكي الأرض من أن عبء نفقات الحرب وقع على عاتقهم أكثر مما على عاتق التجار وأصحاب المصانع الذين كانوا يستفيدون من الحرب. أما بالنسبة لدوق مالبورو فقد قال سويفت "هل كان من حسن الرأي شن الحرب، أو لم يكن ؟ ...وأوضح بأن الدافع إلى الحرب، هو الرفع من شأن أسرة بعينها، وبعبارة موجزة أنها حرب لحساب القائد ووزارة الأحرار، وليست حرباً لحساب الملك والشعب(106) وقدر الكاتب رواتب مالبورو وتعويضاته بنحو 540 ألف جنيه "وهذا الرقم دقيق(107)". وبعد شهر واحد سقط مالبورو وصورت الدوقة زوجته الجريئة الصريحة وهي الوحيدة في إنجلترا التي كان لسانها حاداً لاذعاً، مثل لسان سويفت- صورت في مذكراتها المسألة من وجهة نظر الأحرار، فقالت:
"أن السيدين المحترمين مستر سويفت ومستر بريور أسرعا فعرضا نفسيهما للبيع ... وكلاهما من الموهوبين القادرين، وهما مستعدان لتسخير كل ما لديهما لخدمة أية فرية مخزية طالما كانت المكافأة مجزية. لأن كليهما لا يبالي بحمرة الخجل ولا بالسقوط أو الانزلاق من أجل مصلحة سادتهم الجدد(108).
وكافأ المحافظون تابعيهما الجديدين: فعينوا ماتيو بريور في منصب دبلوماسي في فرنسا حيث أبلى بلاءً حسناً. ولم يحصل سويفت على أي منصب ولكنه كان صديقاً حميماً وثيق الصلة بوزراء المحافظين، فاستطاع بذلك أن يحصل لكثير من أصدقائه على وظائف تدر مالاً وفيراً ولا تقتضي عملاً كثيراً. وكان مثال الكرم والعطف على من لم يعارضوه أو يهاجموه. وزعم فيما بعد أنه أهدى لخمسين شخصاً أكثر خمسين مرة مما أهداه أليه سير وليم ثمبل(109). وأقنع بولنجبروك بمساعدة الشاعر جاي Gay وألح على وجوب استمرار الوزارة في دفع الراتب الذي كان الأحرار يدفعونه لكونجريف. ولما طلب بوب جمع بعض التبرعات لمعاونته على ترجمة هوميروس، أمر سويفت كل أصدقائه وكل طلاب الوظائف بالتبرع، وأقسم "أن المؤلف لن يشرع في الطبع قبل أن يجمع له ألف جنيه(110)" وغطت شخصيته على مكانة أديسون في الأندية، وكان في كل ليلة تقريباً يتناول العشاء مع العظماء. ولم يكن يطيق من أحدهم أية سمة من سمات التعالي عليه. وكتب يوماً إلى ستيللا "إنني مزهو متكبر إلى حد أني أجعل اللوردات يأتون إلي ... كان مفروضاً أن أتناول العشاء في قصر أشبيرنهام، ولكن هذه السيدة المنحطة القذرة لم تعرج علينا لنصحبها في عربتها، ولكنها أرسلت في طلبنا فحسب، ولذلك أرسلت إليها إعتذاراً(111)".