عرض مشاركة واحدة
قديم 07-30-2019, 02:43 AM
المشاركة 17
تركي خلف
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: سيميوطيقا الثقافة
• الحبكة الثقافية:

تحيلنا الحبكة، عند لوتمان، على القصصية والأفعال والأحداث السردية التي تنجزها شخصيات مركزية ومحورية أساسية (الرواية البطولية الكلاسيكية)، أو شخصيات هامشية منبوذة، كما يظهر ذلك جليا في الرواية البوليفونية التي تحدث عنه ميخائيل باختين في كتابه (شعرية دويستفسكي)[21]. ومن هنا، فالحبكة السردية هي تلك الأفعال التي يقوم بها البطل، ويعجز عنها الآخرون، مثل: اقتحام الحدود البنيوية لفضائه الثقافي الخاص به نحو نطاقات ثقافية غيرية. أي: إنها سلسلة من الأفعال التي تؤديها الشخصيات المحورية، بتجاوز حدود نطاقها الثقافي الخاص نحو نطاقات ثقافية أخرى. ويعد كل اختراق فعلا، وتشكل سلسلة هذه الأفعال والاختراقات ما يسمى بالحبكة السردية الثقافية داخل النصوص الإبداعية، سيما الروايات منها.

• سيمياء الترجمة:
يعد يوري لوتمان من الرواد الأوائل الذين أسسوا سيمياء الترجمة من خلال التوقف عند مبدإ اللاتجانس. ومن المعروف أن الترجمة فعل ثقافي، بواسطته تتفاعل الثقافات وتتناص وتتواصل. وتعد الترجمة أيضا أس الفعل الثقافي، وأساس سيمياء الكون. وترتكز على مبدإ اللاتجانس على مستوى النسق اللغوي والثقافي والسيميوزيس. إذ لكل لغة بنيتها الثقافية واللسانية الخاصة بها، وما الترجمة إلا أداة إجرائية وثقافية لنقل المعاني من لغة إلى أخرى، أو بغية تقريب التجارب الإنسانية بفضل النقل والتحويل والتسنين.

وعليه، " فبنية سيمياء الكون تعد لاتناظرية. يجد اللاتناظر تعبيرا له في اتجاهات الترجمة الداخلية التي تجعل كثافة سيمياء الكون قابلة للاختراق. تعد الترجمة آلية للوعي الأولي. إن فعل التعبير عن مصطلح داخل لغة مغايرة للغة الأصل يعد سبيلا للوصول لفهم هذا المصطلح. ومادامت اللغات المختلفة لسيمياء الكون تعد لامتناظرة سيميوطيقيا، بمعنى أنها خالية من التطابق الدلالي المتبادل، فإن كلية سيمياء الكون يمكن أن تعتبر بمثابة مولدا للأخبار"

ويعني هذا كله أن الترجمة خير دليل على ثراء سيمياء الكون؛ لأنها تعبر عن عمليات ثقافية، مثل: التواصل، والمثاقفة، والتبليغ، والتفاعل الثقافي، ومبدإ الاختلاف، وتبادل المعلومات والأخبار.

• آلية الحوار الثقافي:
يعد الحوار الثقافي -حسب لوتمان- من أهم الآليات الإجرائية التي تعتمد عليها سيمياء الكون، وهي أساس الفكر والترجمة. ويعني هذا أن النسق السيميائي الثقافي يستلزم فعل التواصل بين الملقي والمستمع أو بين الباث والمستمع. وعلى الرغم من وجود اللاتناظر السيميائي بين البنيات والعناصر، فإن الحوار أساس هذا اللاتناظر على صعيد اللغات والثقافات والطبقات والبنى الاجتماعية. وأكثر من هذا، فالترجمة هي بمثابة حوار متناوب بين اللغات المتشابهة أو المختلفة على مستوى الوضعية التواصلية أو التبادلية أو الثقافية. ويتحقق الحوار في سياق المحبة والصداقة والتعايش والتعاون والتكامل، ولا يتحقق حين وجود الإقصاء والنبذ والكراهية والتطرف. وفي هذا، يقول لوتمان: " لقد سبق أن أشرنا بأن الفعل الأولي للفكر هو الترجمة. يمكن الآن أن نذهب أبعد من ذلك ونقول: إن الآلية الأولية للترجمة هي الحوار. يفترض الحوار اللاتناظر، لاتناظر يجب، بادئ ذي بدء، أن يدرك من خلال الاختلافات الملازمة للبنيات السيميوطيقية (اللغات) التي يستعملها المشاركون في الحوار، وبعد ذلك، من خلال الاتجاهات التناوبية التي يسلكها تدفق الإرساليات. يشير هذا العنصر الأخير إلى أن المشاركين في حوار ما، يتحولون، بالتناوب، من وضعية البث إلى وضعية التلقي، وأن الخبر يتداول وفق قطائع لامتصلة منفصلة بمسافات.

بالمقابل، إذا كان هناك حوار خال من اختلافات سيميوطيقية، فإنه لامبرر لوجوده، وحين يكون الاختلاف مطلقا إلى حد أن المشاركين يلغون بعضهم البعض،فإن الحوار يصبح مستحيلا. اللاتناظر يجب -إذاً- أن يشمل درجة دنيا من الثبات.
ولكن هناك شرط آخر ضروري للحوار: هو الانخراط المتبادل للمشاركين في التواصل وقدرتهما على تجاوز الحواجز السيميوطيقية التي لايمكن تجنب انبثاقها. "

وعليه، يستلزم الحوار الثقافي، ضمن سيمياء الكون، وجود لغة مشتركة من جهة أولى، واستحضار أطراف التواصل المحورية: الباث، والمتلقي، والرسالة، من جهة ثانية، ووجود علاقات إيجابية تجمع الطرفين من جهة ثالثة.

• ثنائية المركز والهامش:
تنبني سيمياء الكون، ضمن مبدأ اللاتجانس، على ثنائية المركز والهامش. ومن ثم، يتميز المركز بوجود ثقافة متميزة ومنتشرة كونيا، وذات لغة قوية منظمة ومتطورة بنيويا ولسانيا، متسمة بوحدة النسق السيميائي. ويعني هذا أن اللغة الطبيعية هي أساس الثقافة الكونية. وفي المقابل، توجد لغات ولهجات أخرى لا تتسم بالخصائص نفسها على مستوى التقنين والتقعيد والقوة والتطور، على الرغم من حمولاتها الثقافية والهوياتية. وفي هذا السياق، يقول يوري لوتمان: "يظهر اللاتجانس جليا في العلاقة بين مركز سيمياء الكون وهامشها. في مركز سيمياء الكون، تتكون اللغات الأكثر تطورا والمنظمة بنيويا، بالدرجة الأولى اللغة الطبيعية لهذه الثقافة.

نستطيع أن نقول: إنه إذا كانت أية لغة (بإدماج هذه اللغة الطبيعية) لاتستطيع الاشتغال إلا بشرط أن تكون غارقة داخل سيمياء الكون، إذاً لاتوجد سيمياء كون تستطيع،كما أشار إلى ذلك إميل بنفينست، أن توجد بدون لغة طبيعية تلعب دور المركز المنظم. "

لكن قد تضمحل الأنساق اللغوية المركزية، وتحل محلها اللغات الفرعية، مع امتلاك قوة السيطرة داخل النسق السيميائي الكوني، مثل: لهجة فلورنسا التي صارت، خلال عصر النهضة، اللغة الأدبية الفضلى لإيطاليا، بعد أن كانت من قبل لغة مهمشة.

ومن ثم، لا يمكن للغة أو لثقافة معينة أن تمتد ضمن سيمياء الكون إلا باحترام القوانين المفروضة، وتمثل المعايير الأدبية والفنية والقيمية والسلوكية. ويمكن للمركز كذلك أن يتحول إلى هامش، والعكس صحيح أيضا.

وبناء على ما سبق، تتكون السيميوطيقا الكونية من مركز وهامش وحدود. ويعني هذا أن سيمياء الكون تضم مجموعة من اللغات التي تشكل المركز والهامش[25]. ومن ثم، يتسم المركز بالتنظيم والاتساق والانسجام والوحدة؛ مما يجعله أكثر رقيا وتمدنا وتحضرا؛ مادام يخضع للتقعيد والتقنين (لغة لها قواعد نحوية مثلا). وفي المقابل، هناك لغات فرعية أو هامشية أو مقابلة، تفتقد قوة المركز، وتعيش على الهامش، وتدخل في صراع تقابلي مع المركز المهيمن، كما هو شأن دول المركز ودول المحيط في مجال الاقتصاد.

لكن يمكن للأنظمة السيميوطيقية أن تتطور وتتحول داخل سيمياء الكون، حيث يصبح الهامش مركزا، والعكس صحيح أيضا. ومن باب التمثيل ليس إلا، فقد كانت اليونان مركز الحضارة والثقافة الإنسانيتين. في حين، كانت روما مركزا هامشيا. بيد أن هذا الهامش الجغرافي سرعان ما تطور ليصبح مركزا كونيا تشع منه الثقافة والحضارة والدين، بل تفرعت، عن لغته اللاتينية، لغات عالمية واكبت حضارات راقية ومتميزة، مثل: الحضارة الألمانية، والحضارة الفرنسية، والحضارة البريطانية...

الابتسامة هي قوس قزح الدموع