عرض مشاركة واحدة
قديم 01-18-2012, 12:18 AM
المشاركة 209
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وليد إخلاصي
مقدمة

جبلاً ارتفع من عمق هذه الأرض، والجبل في تكونه وارتفاعه، وامتشاقه عنان السماء، يعرف جيداً، ويدرك تماماً رفاقه الجبال، فالجبل لا يتكون في الوديان، ولا في السهول، بل يتكون وسط الجبال، ومن هنا نعرف أنه جبل يسمو بقمته وسط الجبال. هكذا، كان وليد إخلاصي، الذي جمعه مقعد الدراسة ذات يوم مع صباح أبو قوس الذي أصبح اسمه صباح فخري، الأب الروحي للقدود الحلبية، وكذلك، في ثانوية التجهيز كان من المقربين له، والذي لا ينقطع عن التواصل معه، صديقه الذي تعرف إليه في القاعة الكبيرة المخصصة لأغراض متعددة كالرسم، وهو من أصبح فيما بعد الفنان التشكيلي لؤي كيالي، كما كان زكي الأرسوزي أحد أساتذته، وكذلك الشاعر سليمان العيسى، وفي الإنكليزية كان أستاذه فاتح المدرس، كما عاصر أستاذاً كبيراً في حلب حين كان طالباً في الثانوية، وهو صاحب موسوعة حلب، وأغاني القبة، إنه العلامة خير الدين الأسدي.


كان وليد إخلاصي كبيراً منذ أن كان صغيراً، وهذا الصغير الكبير، كان يعرف التحدّي بشراسة دفاعاً عن إبائه وكرامته، وما كان لهذا الصغير الكبير، إلا أن ينتظر يوماً يقول فيه للعالم: «أسمع ضربات قلبي على الورق، والعالَم حسناً أصغى، ومازال يصغي إلى نغماته العميقة التي تنزل كنهر هادر من أعالي الجبال!!».

سيرته الذاتية

ولادته

الده هو الشيخ الأزهري أحمد عون الله إخلاصي وقد عُيِّنَ مديراً لأوقاف إسكندرونة فأخذ أسرته المكونة من زوجة وولدين هما نزار الكبير وعدنان الصغير، وذهب بهم إلى إسكندرونة تاركاً حلب والزوجان مازالا في قمة الحيوية والشباب، وها هي الأم تحمل في بطنها ثمرة جديدة. وجاء الابن الثالث وهو المسمى «وليد» الذي أطل على الحياة ليلة السابع والعشرين من أيار للعام 1935.
الانتقال إلى حمص وولادة أخته هند


كان قرار انتقال الوالد إلى عمله الجديد قد ابتدأ مفعوله في يوم من العام 1937، فاتجهت بهم السيارة إلى مدينة حمص التي سيدير فيها والده أوقاف المدينة.


وما أن مرت سنوات أربع على قدوم وليد إلى الدنيا ليكون الابن الثالث في أولاد الأسرة، حتى كان التوقيت في أن يصبحوا أربعة أخوة، وهكذا كان احتفال الأسرة بقدوم المولود الجديد مع استثناء، فقد كان القادم بنتاً.

كما أن استضافة هذا الكائن ذهب بوقار الأب فكان يحملها بين ذراعيه منادياً «هند..هند» ويدور بها في أرجاء الصالون مكرراً ترحيبه بها وشاكراً الله على تلك النعمة وداعياً الجميع إلى التوجه بالامتنان إلى فضل الله على الجميع. وظل الشيخ في صلواته يتوجه إلى السماء بالامتنان لمنحها أسرته تلك الهدية الغالية.
لقاؤه الأول مع ما يُسمَّى بالموت


لقد ابتدأ الطفل (وليد) يسمع حكايات وإشارات عما يسمى الجنود الفرنسيين وقسوة احتلالهم للأرض السورية التي كان يعتقد أنها تدل على الإسكندرونه وحمص فإذا هي تدل على ما هو أكبر من المدن التي احتضنته.


كان هناك جار لهم في العمارة المجاورة وهو شاب جميل بقامته اللافتة للنظر وبسماحة وجهه، فهو إذا قابل واحداً من أطفال الحي داعبه بمودة ورحب به، وكان يطيل في زيارته لبيت عائلة وليد، فيعلم وليد أنه يتبادل مع والده محبة خاصة، كان اسمه مصطفى السباعي. وذات يوم، تدفق الناس نحو العائلة وهم يحملون جسداً تمزق صدره. والأكف ترفع جسد جارهم (ابن الحسامي)، وقد تدلت ذراعاه، ودخل التكبير والتهليل عمارة الشاب الذي قيل إن رصاص الدمدم قد أودى بحياته. ذلك المشهد كان أول معرفته بأمر اصطلح على تسميته بالموت. وصحح والده الكلمة بأنها الشهادة.


حماة: المحطة الثالثة


كان قدوم العائلة إلى حماة في يوم من الأسابيع الأولى من العام 1940. وكانت دراسته الابتدائية في أول سنة في حماة. وما أن انقضت سنة أو أكثر بقليل حتى أعلن الوالد عن قرار جديد سيعيدهم إلى حلب. وكان الوالد فرحاً لقرار العودة إلى المدينة التي جاؤوا منها. حيث كان قرار نقل وظيفة الوالد قد وصل في الصباح.
مدرسة الحمدانية في حلب


قُبِلَ وليد في مدرسة الحمدانية طالباً في الصف الثاني. وكان اليوم في المدرسة يبتدئ عادة بتحية العلم. وعلى إيقاع الطبل يرتفع العلم السوري على السارية فترتص الصفوف أمامها يتقدمها أستاذ الموسيقى أو المدير بنفسه، ويبدأ التلاميذ يرددون النشيد الوطني «حماة الديار عليكم سلام»، فكان طقس الصباح يشكل جانباً من المحبة للوطن الذي ما زال يقبع تحت سيطرة الاحتلال الفرنسي الذي لا يتوقف عن نشر الجنود في معظم الأحياء وكأنهم شركاء في امتلاك المدينة التي لم تتوقف عن إبداء استيائها في السر والعلن.

ويذكر وليد قائلاً: «وبالرغم من مرور مئات السنين على بناء المدرسة، فقد تشققت جدران فيه ونمت أعشاب بين حواف بلاط الحوش، وسقطت زخارف سقف أو باب، فالمدرسة حافظت على هيبة تغنى بها الأساتذة والزوار. كانت الحمدانية مكاناً يعيش في الوجدان فيسعى إليه التلاميذ كل يوم بمحبة تعادل التعلق بالبيت والأهل. كانت الحياة الجميلة تتوزع بين البيت والمدرسة فلا تحمل العودة إلى المنزل سوى الرغبة في انتظار الذهاب إلى المدرسة».



مظاهر الفقر والضنك في حياة العائلة


لم تتلق والدته أية فرصة في التعليم. لم تكن تقرأ أو تكتب ولكنها حفظت آيات قصاراً من القرآن الكريم تنفعها في أداء صلواتها المنتظمة. وقد شهدت أيام الضيق المادي قدرتها في تدبير أمور أولادها المدرسية. كانت تعد الحبر لاستخدامهم، فكانت تذيب بلوراته في الماء الساخن لحفظ الحبر في زجاجة يملؤون منها محابرهم المصنوعة من التنك، كما أنها كانت تحيل الورق المستخدم للتغليف (ورق الصر) إلى دفاتر تخيطها بالمسلة، فقد كان ثمن الدفاتر في المكتبات يشكل عبئاً ثقيلاً. كما أن الوالدة لم تنقطع عن ترميم الكتب الممزقة فقد كان المتداول عند معظم التلاميذ والطلاب هو التبادل بين السابقين واللاحقين في السنة الدراسية.

أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية كان الاحتلال الفرنسي يسيطر على المحاصيل الزراعية كالقمح والشعير، ووضع نظام القسائم التي توزع على الناس المحصول وفق حصص شهرية من الطحين.
ولما كانت نسبة الشعير هي الغالبة في الطحين، كان الرغيف أكثر صلابة، وخصوصاً أن كل عائلة كانت تخبز الرغيف على نفقتها الخاصة، وهكذا اضطر الوالد بالاتفاق مع الوالدة إلى طحن البطاطا المسلوقة لتعدّل من قوام العجين، فساهمت في إظهار الرغيف بليونة أفضل.

كما أنهم أمضوا زمناً من حياتهم دون توفر مدفأة في البيت تردّ عنهم برد الشتاء، وكان المنقل هو الوسيلة الوحيدة لإرسال الدفء بجمراته التي تظل لامعة إلى فترة من الليل ليخمد بريقها بعد ذلك.
وفي اجتماع عائلي عقب العشاء، أعلن الوالد عن حصوله على مدفأة قديمة، وكانت المدافئ تعمل آنذاك بالحطب. وكان لدخول واحدة إلى البيت فعل السحر، فكانوا يمسحون عليها بأيديهم غير مصدقين.

وفي حلب ارتفعت وتيرة الأزمات الاقتصادية يشارك في تأجيجها الاحتلال والحرب. فكانت السجادتان اللتان استطاع الوالد شراءهما أثناء إقامته في إسكندرونة، والسماور المصنوع من الفضة والذي كانت نيرانه تحافظ على صلاحية الشاي للشرب، شيئين ثمينين شكلا - أي السماور والسجادتان العجميتان - إحدى الحلول التي لجأ إليها الوالد لمواجهة الضيق والعسر.
دار الكتب الوطنية


شُيِّدَت دار الكتب الوطنية منذ سنوات، وكان موقعها في ساحة باب الفرج يواجه برج الساعة التي أقيمت أيام الحكم العثماني، فتحولا إلى علامة للساحة التي اختفى منها باب الفرج المندثر مع معظم أبواب السور الذي دافع عن المدينة لقرون عديدة. وكانت إدارة الاستخبارات الفرنسية قد وضعت يدها على الدار الأشبه بقصر أمير، فقامت البلدية باستئجار مبنى قديم على حدود مقبرة العبارة لتكون بديلاً لدار الكتب الوطنية.

وكان وليد يتردد على المكتبة تلك بين حين وآخر فيقرأ كتب الأطفال فيها، ويبدو أن مكتبة والده الصغيرة هي التي حفزته على القراءة لإعجابه بها وبتاريخه الذي كشفت عنه أعداد من مجلة «الاعتصام» كان رئيساً لتحريرها قبل أن يولد وليد. وقد توقفت تلك المجلة عن الصدور بأمر من الحاكم الفرنسي في أوائل الثلاثينات. وبات حلم وليد المبكر في أن يتمثل حياة الوالد، وهكذا أصبحت القراءة واحدة من الهوايات كاللعب بالكلال (الدحل الزجاجية) والجري وراء كرة القدم ومشاهدة الأفلام السينمائية.
أول عمل قام به


لم يكن المصروف الشهري الذي يحصل عليه من والده يكفي لشراء كتاب أو تسديد أجر له، وكذلك الحصول على تذكرة لدخول دار السينما. فقرر أن يعمل، وجاءت العطلة الصيفية لتكون الفرصة الأولى في كسب المال.

وقد قبِلَ قريب لجدته يصنع السكاكر بعد التوصية أن يعمل عنده. وكان المعمل في حوش داره التي تشكل دكان البيع واحداً من مداخله. سمح له عمره بمشاركة مجموعة النسوة ليعمل معهن في لف قطع السكاكر بالورق الملون، فكانت أجرة الكيلوغرام الذي ينجزه تدفع له مباشرة. ولا ينكر أنه كان بين فترة وأخرى يمعن النظر لثوان في الصبايا اللواتي لم يعرن اهتماماً لصبي مثله أو يخشين من نظرة تصدر عنه فيتصرفن في الجلوس بحرية أمامه، فالصبي كما يرددن أحياناً هو «ابن ناس».
ولم تدم له أيام العمل اليدوي طويلاً، فقد اختاره سيد العمل (سعيد) كي يستلم الصندوق في الدكان، وليكون المسؤول الوحيد في معظم الأوقات عن البيع بمفرده وإجراء تسجيل الدخول بدقة. وسيروقه ذلك العمل فيشعر بالفخر وقد بلغه قول المعلم يشيد بأمانته وحرصه على التعامل الجيد مع الزبائن.
عمله الثاني


لم يكد يترك عمله الأول، حتى استيقظت عنده لذة العمل المأجور. وبدأ يفكر في طريقة يحصل فيها على المال، وهكذا وجد نفسه يغامر بالتوجه إلى مخزن كبير للأدوات المنزلية يعاين محتوياته التي تزيغ البصر. مكث فترة يتنقل من ركن إلى ركن يقلّب النظر في الصحون والكؤوس والطناجر ومئات المواد الأخرى، فما كان من رجل ملتحٍ شد وسطه شال عجمي إلا أن توجه إليه، ودلت هيبته وهو يسأل عن طلبه على أنه صاحب المخزن.

أعلن وليد فجأة ودون تفكير عن رغبته في بيع أدوات منزلية على البسطة التي كانت شائعة في الشارع المجاور لسور الجامع الكبير. تفحصه الرجل بنظراته وما لبث أن مال بقامته عليه وهو يسأل عن المبلغ الذي يمتلكه ثمناً للبضاعة، فما كان من وليد إلا أن صرح بقدرته على الدفع بعد البيع، فاتسعت عيناه دهشة وكأنه يقول «وهل الأمر بهذه البساطة؟»، إلا أنه هتف بشيء من الاستياء «وهل تعتقد أن الأمور في السوق تمشي هكذا»، لاذ وليد بالصمت لعلمه بأن طلبه لم يكن منطقياً فدار على نفسه طلباً للمغادرة، فما كان من الرجل إلا أن استوقفه ليسأل عن اسمه وابن من يكون.

فقال بصوت منكسر أنه ابن الشيخ عون الله إخلاصي، ثم أضاف باعتزاز إلى أنه الأصغر بين أبنائه، فتغيرت ملامح الرجل وهو يقول «إذن فأنت ابن رجل نحبه ونجلّه». وأشار إلى عامل عنده أن يأخذ بيده ليختار ما يشاء من بضاعة دون ثمن مسبق، وقال له «تستطيع أن تسدد الذمة لتعود وتأخذ من جديد ما تريد».
خان الشربجي


كان بيت العائلة في منتصف المسافة بين دار الكتب الوطنية وخان الشربجي القائم في منطقة باب أنطاكية. وقد حول الفرنسيون ذلك الخان إلى معتقل يُحتجز فيه المعارضون للاحتلال والمنادون بالاستقلال بدءاً بالسياسيين المعروفين وانتهاء برجال من الأحزاب أو من أهالي الأحياء القديمة.

وكانت التظاهرات تمر عادة من ذلك الشارع الطويل وهي تتجه إلى مبنى المحافظ المشيد أمام القلعة، فكان مرور التظاهرة من مسافة قريبة من الأمور التي اعتاد على مشاهدتها عبر النوافذ، فإذا ما ابتدأ إطلاق النار تتوارى العائلة في الداخل خوفاً من رصاصة طائشة. وبات من المألوف أن يتقدم التظاهرة عادة رجل شعبي يخب بشرواله كزعيم وهو يحمل العلم السوري ملوحاً به كما يفعل مربو الطيور على الأسطحة. وعرف أفراد العائلة من ابنهم نزار أن اسم ذلك الرجل هو أبو صطيف.

كان حلم هذا الرجل يتجسد في وضع حد لأسطورة السجن (خان الشربجي) كما كانت مخاوفه على الناس من رصاص الدمدم، وكان ذلك الرصاص هو الذي فجر صدر أبو صطيف. فسقط الرجل قتيلاً، وكانت له جنازة فاقت أعداد المشاركين فيها أكبر تظاهرة عرفت من قبل. ولم يتوقف ذكره بين أفراد العائلة، وتذكره الجميع في همهماته السحرية وفي طريقة شربه للشاي، وفي القيام بخدمة الذين جاؤوا معه وكأنه صاحب الدار.
وأيضاً عنترة


كان عنترة واحداً من الأشقياء الذين يدخلون المهابة لمن يقابله من الأولاد فيحسبون له ألف حساب فما يجرؤ أحد على مخالفة أمر له. وبالرغم من أن عمره لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً فإنه ظهر لنا كرجل قوي يمكن له أن يرفع صبياً بين ذراعيه ويلوّح به في الهواء كدمية يتسلى بها.

وذات مرة، احتشدت مظاهرة كبرى في وسط المدينة، وعلى جسر النهر حوصرت مقدمة المظاهرة بين طرفيه، وقوبلت الحجارة المتساقطة على الجنود بالرصاص ينطلق من بنادقهم بهدف الإصابات المباشرة. مزقت رصاصات الدمدم صدور المتظاهرين، وكان أحدهم عنترة بنفسه وقد أصر على أن يكون في المقدمة.
السرتفيكا


كان حصول وليد على السرتفيكا بداية التحول في حياته. بين فراق الحمدانية والانتقال إلى ثانوية التجهيز الأولى التي تبدأ الدراسة فيها بالصف السادس، وهكذا شعر بالفرح والحنين في نفس الوقت، الحنين إلى الماضي، والفرح بأنه أصبح طالباً في مدرسة الكبار.
العلم بعيداً عن المدرسة


قرر الوالد أن تعلق ابنه بالقراءة يستوجب الاعتناء باللغة العربية. ولم يكن هناك من وسيلة إلا في قراءة القرآن الكريم وحفظ أكبر قدر من آيات السور يتلقنها على يد شيخ خبير يتقن التلاوة. وهكذا التحق صيفاً بمدرسة الحفاظ وهو ما زال في العاشرة من العمر.

وبات يقرأ على والده بعد ظهر أيام من الأسبوع صيفاً وشتاء. كان مجلد «نهج البلاغة» أمامه يقرأ في صفحاته بمتعة على الرغم من صعوبته فيوقفه الوالد عند مقاطع ليشرح ويفسر فيزداد وليد تعلقاً بالكتاب، وإذا يتابع القراءة بصوت مسموع كان يثني عليه أو يشعل سيجارته فيرسل دخانه الذي يفسره وليد على أنه راض عن التزامه. كان المؤلف للإمام عليّ وشرح الشيخ محمد عبده عليه، وقد لازمته متعه التعرف عليه لسنين طويلة، فحمل تقديراً آخر لوالده الذي سمح له بقراءة ذلك الكتاب.