عرض مشاركة واحدة
قديم 01-17-2011, 12:15 AM
المشاركة 12
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


رواية "الساعات"



رواية "الساعات The Hours "2002 تأليف "مايكل كننجام Michael Cunningham، الحائزة جائزة "بوليتزر" لنفس العام.

تناولت الرواية آخر يوم في حياة "فرجينيا وولف". لعب المؤلف لُعبتَه الذكيّة حين استعار تقنيّة وولف في بنائها الدراميّ ووظفّها في تشكيل روايته عنها. فتذكّر القارئُ أسلوبَ وولف اللا سرديّ اللا تراتبيّ في معالجة نصوصِها حيث الأحداث تتجاور وخطُّ الزمن أفقيّ، فيخلو القصُّ من تيمة السَّرد الخطيّ التقليديّ الصاعد الذي تتنامى فيه الأحداثُ مع التصاعد الزمنيّ.

تتناول الرواية (الساعات) الأخيرة في حياة فرجينيا وولف عبر رصد يوم واحد في حيواتٍ ثلاث عبر ثلاثة عصور، ومن خلال ثلاث نساء لا تعرف الواحدة منهن الأخرى حيث تفصل فيما بينهن حواجز رأسية/زمانية وحواجز أفقية/جغرافية، وليس من جامع بينهن سوى رواية "مسز دالواي" ووردة صفراء تتكرر في مشاهد عديدة:

كلاريسا: محررّة صحافيّة من الزمن الحالي(زمن كتابة الرواية) عام 2002. ( وهي بطلة رواية "مسز دالواي" ذاتها).

لورا: ربّة منزل في الزمن اللاحق للحرب العالمية الثانية مباشرة عام 1951.
ثم الخَّيط الرابط بينهما، شخصية فرجينيا وولف ذاتها في عام 1923 أثناء محاولتها الشروع في كتابة روايتها الأشهر "مسز دالواي".

لقطة المفتتح في الرواية عام 1941، وهو العام الذي أنهت وولف فيه حياتَها عن طريقِ إغراق نفسِها في نهر " أووز"، المجاور لمنزلها الريفي ببلدة سُسيكس. رسم المؤلف مشهد الانتحار بالتفصيل، وبعدها يعود بالزمن إلى الوراء ليرصدَ لحظاتٍ حميمة وخاصّة في حياة وولف؛ تلك اللحظات التي فيها تمسك بقلمها لتكتب.

ينتقل السرد بعد ذلك مباشرة إلى عام 1951. إحدى القارئات ( لورا) تطالع رواية "السيدة دالواي"، وعلى مقربة منها ابنها الصغير ريتشارد ، الذي سيغدو أحد أهم شخوص العمل الأدبي في الحقبة الثالثة من الزمن عام 2002.

ثم ينتقل السرد مباشرة إلى الزمن الراهن (يحيلنا ذلك إلى تقنيّة وولف في التوازي الزمني)، فنجد السيدة دالواي ذاتها(كلاريسا) تعدُّ الترتيبات لإقامة حفل تكريم لذاك (الصغير) ريتشارد الذي أصبح الآن شاعراً مشهوراً غير أنه أُصيبَ بأزمةٍ نفسية نتيجةَ إصابته بمرضٍ خطير ، مما يدفعه إلى القفز من شرفة منزله المنعزل البائس يوم تكريمه في حفلٍ أُقيم على شرفه ولم يحضره أبداً.

سيمضي السرد في الرواية بالتوازي بين الأزمنة الثلاثة، ليرصد السيدات الثلاث كلٍّ في عصرها وحسب ظروف وشروط عصرها.

استعاد الروائيّ "كننجام" معبودته الأدبية "فرجينيا وولف" للحياة، ناسجاً قصتها في تواشج ذكيّ مع امرأتين أكثر معاصرةً (كلاريسا – لورا).

في أحد صباحات لندن الرماديّة عام 1923 تصحو فرجينيا على حُلمٍ كئيب ومتكرر، سوف يقودها هذا الحلم إلى الشروع في كتابة روايتها الجديدة "مسز دالواي". تبدو حزينةً لأنها اِنتُزِعت من منزلها الذي تحب في بلوومز بيري، ولا يخفف من حزنها واضطرابها حنوّ زوجها المحب ليونارد الذي أخذها إلى المنزل الريفيّ الهادئ علّها تُشفى من انهيارها العقلي. تجاهد أن تكبحَ عصفَ عقلِها الذاهب نحو الجنون وتحاول السيطرة على أفكارها لتكتب.

في الزمن الراهن، وعلى نحوٍ متوازٍ، يومٌ صحوٌ من أيام شهر يونيو في بلدة "جرينيتش" في لندن، كلاريسّا فون، التي تخطّت الخمسين بعامين، تعدُّ الترتيبات من أجل حفل تكريم يقام على شرف حبيبها القديم ريتشارد، الشاعر الذي فاز بجائزة أدبية كبرى والذي ينتظره موتٌ بطيء إثر إصابته (بالإيدز). وعلى الجانب الثالث، في لوس أنجلوس عام 1951، "لورا براون" ، ربّة البيت التي تنتظر طفلاً، تشعر باضطرابٍ وإحباط غير مبرريْن. يتملكها إحساسٌ عدميّ ويائس كلما حاولت أن تجد مبرراً لوجودها خارج دور الأم والزوجة، سوى أنها مع هذا، تفعل ما في وسعها من أجل الترتيب لعيد ميلاد زوجها، لكنها لا تستطيع التوقف عن متابعة قراءة رواية "مسز دالواي" لفرجينيا وولف.

لقطات سريعة خاطفة لحياتيّ هاتين المرأتين وخطٌّ عريض وأساسيّ يتقاطع معهما يمسُّ حياةَ وولف ذاتها فتتشكلُ شبكةٌ دراميةٌ واحدةٌ تجدلُ حيوات تلك السيدات الثلاث بخيوطٍ تتقاطع مع رواية "مسز دالواي" من ناحية، ومن ناحية أخرى اشتراكهن في البحث عن "لحظات الوجود" الحقيقية، تلك اللحظات الثمينة التي يحاول فيها المرءُ أن يقبضَ على شيء من التحقّق أو يجد مبرراً مقبولاً لحياته. حول ذلك المعنى يقول كننجام في روايته على لسان كلاريسا: "من هدايا الحياة الصغيرة لنا ساعةٌ هنا أو ساعة هناك، حين تحنو الحياةُ فجأة –برغم كلِّ العقبات والتوقعات– لتتفَتحَ طاقة نورٍ وتمنحنا كل الأشياء التي حلُمنا بها طويلاً."
فيما يتجول كننجام بين النساء الثلاث، عبر انتقالاتٍ ناعمة غير مفتعلة، تلتقط وولف، في نهاية الفصل الأول، قلمَها لتخطَّ جملتها الأولى في الرواية: "قالت السيدةُ دالواي إنها سوف تشتري الورود بنفسِها.

"Mrs. Dalloway said she wouldbuy the flowers herself."


في بداية الفصل الثاني (نفس لحظة كتابة الجملة السابقة)، تمرُّ عين "لورا" على هذا السطر تحديداً، فتبدو سيماء الابتهاج على وجهها، ربما لفكرة الورود وربما لكونها موشكة على حال استغراق وشيك مع رواية بقلم فرجينيا وولف التي تعشق كتابتها.

على الجانب الآخر، يصبح يوم كلاريسا (ابنة الزمن الحالي) انعكاساً مرآوياً ليوم السيدة دالواي (بطلة رواية وولف وابنة أوائل القرن الماضي)، مع مسحة تحديثية تناسب زمن الألفية الثالثة (وتلك هي اللعبة الخطرة التي لعبها المؤلف من تعديلِ زمنِ رواية وولف وما يستتبعه هذا التعديل الزمنيّ من تغييرات في الأحداث التي أساءت في بعض الأحيان إلى رواية وولف "مسز دالواي" إلى حدٍّ ما من وجهة نظر بعض النقاد)، ولكن يبدو أن المؤلف أرادَ أن يخرجَ من أسرِ زمن وولف ليفتح مجال الإلهام على مصراعيه ويفيد من تقنيات العصر الحديث وكذا ليخلقَ ثراءً درامياً على خطِّ الزمن.


كلاريسا تعلم أن رغبتها القوية في منح صديقها القديم (المصاب بالإيدز في رواية "الساعات" والمصاب بصدمة القذيفة من الحرب العالمية حسب رواية وولف "مسز دالواي") حفلاً رائعاً ومتقناً كي يرفع من روحه المعنوية أمرٌ سوف يبدو مبتذلاً وغير مقبولٍ بالنسبة للجميع. رغم ذلك فقد كانت موقنة أن ذاك الحفل ضرورةً نفسية ووجودية ربما تسدُّ ثغرةً في باب اليأس المشرّع على مصراعيه أمام الشاعر الذي ينتظر نهايته الوشيكة. غير أنه سيرفض حضور الحفل حين تذهب لدعوته قائلاً: ".. لكن سيظل عليّ مواجهة الساعات، الساعات التي ستعقب الحفل"، ثم يباغتها ويقفز من الشرفة ليغدو الانتحار هو الخط الرئيسي في الرواية منذ المشهد الأول.

أحسن المؤلف توظيف تيمات فكر وولف التي تجلّت في روايتها السيدة دالواي وكذلك في مقالة "غرفة تخصُّ المرء" ليصنع حبكةً محكمة من التوازيات الزمنية والبشرية.

وبالرغم من محاولة مؤلف الرواية "تمجيد" وولف عبر روايته إلا أن التغييرات التي صاغ خلالها روايتها "مسز دالواي" (من أجل جعلها متسّقةً والزمن المعاصر الذي كُتبَت فيه) قد حملت وجهين، أحدهما إيجابيّ والآخر سلبيّ.


ففي حينٍ، فتح المؤلف قوسَ الزمنِ على اتساعه فمنحَ روايته ثراءً تقنيّاً ومعاصراً لم يكن يتاح له لو أنه احترم زمن الرواية الأصلية لوولف في أوائل القرن الماضي، ومن ثم استفاد من (عصرنة) الشخوص لخلق دراما جدلية نتجت عن التباين الزمانيّ بين نساء من أزمنة مختلفة.

غير إنه على الجانب الآخر أضعف جلال رواية "مسز دالواي" حين غسل عنها زمن الحرب الكونيّة الأولى بكل ما غلّف تلك المرحلة من شجن واشتباكات وتداعياتٍ سوسيولوجية وسياسية وانقسامات نفسية لمعاصري ذاك الزمن. وجازف بالاصطدام مع قراء وولف المعاصرين الذين أحبوا رواياتها بكل مفردات ذاك الزمان الجميل (لأن كلَّ ماضٍ هو جميل بالضرورة). كما أن استبدال إصابة الشاعر بالإيذر عوضاً عن إصابته بصدمة عصبية من جراء انفجار قذيفة في الحرب على مقربة منه، يعدّ إساءةً بالغة لرائعة وولف الروائية. (هذا في رأيي على الأقل).

ربما كان من الضروري على قارئ رواية الساعات أن يكون على دراية بأسلوب كتابة وولف الروائية حتى يتسنى له فهم "الساعات" بسهولة، وفحص مفرداتها الجمالية من حيث البناء الدرامي وتوظيف الأحداث. فتلك الرواية هي تجسيد لفلسفة وولف التي صاغتها في إحدى رواياتها على لسان إحدى شخصياتها (غير أنها خانتها في حياتها بانتحارها) حيث تقول: "ليس بوسعك أن تجد السلام الداخلي، بتجنب الحياة".

رواية الساعات، كما يقول الناقد كيري فريد، هي ترنيمةُ وصلاة تضفر بين الوعي بما تمنحنا الحياة من جمال وما ترزأنا به من خسارة، وتؤكد ما يحاول كننجام أن يثبته دائماً خلال أعماله، وقد صرّح به غير مرة، أن الفنَّ أكثر رحابةً وثراءً من مجرد "عالم من الموجودات" التي نرى.

يُذكر أن الرواية تم تحويلها إلى فيلم في ذات العام من إخراج "ستيفن دالدراي"، جسدّت فيه دور فرجينيا وولف الممثلةُ الأمريكية الجميلة "نيكول كيدمان"، وبرع الماكيير في نحت ملامح وولف بدقة وأنفها المميز على وجه كيدمان حتى أن المشاهد يستطيع بالكاد البحث عن ملامح كيدمان الحقيقية في وجه وولف بطلة الفيلم. وجسّدت دور لورا براون الممثلة "جوليان موور"، بينما لعبت دور كلاريسا فون الممثلة "ميريل سترييب"، وجسّد "إيد هاريس" دور ريتشارد سبتيمس.


القفز فوق سلّم الزمن والانتقال المباغت بين فصول العرض والتقاطع المشتبك مع الوقت والشخوص هي أهم تقنيات وولف في البناء الروائيّ وهي التيمة ذاتها التي لعب عليها المخرج في بناء دراما فيلمه الذي فاز بأوسكار.

يقول الناقد الأدبيّ "برناديت جاير" من ولاية "أرلينجتون": رواية "الساعات" تُعد أحد أجمل الروايات المعاصرة التي قرأتها، ومن السهل أن ندرك لماذا حصدت بوليتزر. ويظهر تميُّز العمل في نجاح المؤلف في تناول الأمر من منظور المرأة حيث نلمس كيف اخترق دواخل روح هاتين السيدتين، واستطاع أن يستلهم ويستقرئ كيف كانت تفكر وولف أثناء عملية الكتابة وماهية حوارها الداخلي".


* * *

يتبع
.
.
.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)