عرض مشاركة واحدة
قديم 06-20-2011, 11:59 AM
المشاركة 9
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مكونات العبقرية؟
المصدر : الانترنت مع الشرك لكاتب المقال على جهده .

منذ قديم الأزمان كان الناس يعتقدون بأن هناك علاقة بين العبقرية والجنون. وكانوا دائما يتحدثون عن العبقري بشيء من التهيب والوجل، فهو شخص غريب الأطوار معقد الشخصية يختلف عن جميع البشر، والواقع أننا إذا ما استعرضنا أسماء كبارا لكتاب وجدنا أن معظمهم _ان لم يكن كلهم.كانوا يتميزون بتركيبة نفسية خاصة وغير طبيعية بل إن بعضهم دخل في مرحلة الجنون الكامل. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: هولدرلين ونيتشه، وجير ار دونيرفال، وانطو نين ارتو، وفان جوخ، وغي أو دو موباسان، وفيرجينيا وولف، وشومان، والتوسير،(1) الخ..

وقد طرح أحدهم على الكاتب الفرنسي اندريه موروا هذا السؤال: هل جميع الروائيين مجانين أو عصابيون؟ فأجاب الكاتب الكبير: لا الأصح أن نقول أنهم كانوا سيصيرون جميعهم عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين.. فالقصاب يا سيدي، هو الذي يصنع الفنان، والفن هو الذي يشفيه(2). وكان جوابا مقنعا ورائعا. فالواقع انه لولا العصاب لما كرس أشخاص من أمثال بلزاك أو ديستويفسكي أو فلوبير أنفسهم لفن الكتابة. ولولا أنهم نجحوا في هذا الفن وقدموا لنا روايات خالدة لما نجوا هم أنفسهم من مرض العصاب. هذه هي الدائرة المغلقة التي تجمع بين الابداع والمرض أو بين العبقرية والجنون. ولكن السؤال المطروح هو: لماذا يسقط في ليل الجنون حتى أولئك الذين أبدعوا ابداعا كبيرا؟ لماذا لم يحمهم الابداع _ أو الانتاج الابداعي _ من الجنون؟ فلا أحد يشك في أن نيتشه من كبار الفلاسفة، ومع ذلك فقد جن بشكل كامل في أواخر حياته وظل مجنونا لمدة أحد عشر عاما حتى مات سنة 0 190، ولا أحد يشك في أن هولدرلين هو واحد من أهم الشعراء في العالم، ومع ذلك فقد أمضى نصف عمره تقريبا في بحر الجنون... والواقع انه تصعب الاجابة عن هذا السؤال، ولكن ربما التقينا به في مرحلة لاحقة، مهما يكن من أمر فإننا نظل متفقين مع اندريه موروا على القول بأن الفن يشفي من العصاب بشكل عام، ولولاه لجن معظم أولئك الكبار الذين سجلت أسماؤهم على صفحات التاريخ، ويكفي أن نستعرض سير حياتهم التي كتبت بعد وفاتهم لكي نتأكد من ذلك، وتكمن عظمتهم بالضبط في أنهم تجاوزوا عصابهم أو عقدتهم النفسية المتأصلة عن طريق الابداع. فلا ريب في أن الابداع يحرر من العقد ويعطي الشخصية ثقة بنفسها.
لماذا أتحدث عن هذا الموضوع الآن؟ ولماذا اخترته للكتابة في هذه الدراسة المطولة، وكان لهذا عدة أسباب:
أولها أنه كان يعتمل في نفسي منذ زمن طويل. وثانيها انه يمثل نوعا من"التابو" أو المحرمات فيما يخص الثقافة العربية. فلا أحد من الكتاب العرب يجرؤ على الاعتراف بأنه مصاب بعقدة نفسية معينة أو بعصاب معين. نقول ذلك على الرغم من أن هذا الأمر أصبح شائعا ومعترفا به لدى الكتاب الغربيين ولم يعد يثير أية حساسية، ولذلك فإني سأقصر دراساتي هنا على تاريخ الثقافة الغربية لكيلا أحرج أحدا. وثالثها، وربما أهمها، من أجل تبديد ذلك الوهم الشائع والمخيف الذي يحيط بكلمة عصاب، أو عقدة نفسية، أو جنون. فعادمنا لا نتجرأ على فتح هذا الملف والتحدث عنه، فإنه سيظل محاطا بالغموض والأسرار والمخاوف. والواقع أن الجنون بالمعنى الذي نقصده، أي الجنون الابداعي، ليس مخيفا الى مثل هذا الحد بل ربما كان محببا وقريبا الى النفس. وهو على أي حال لا يؤذي أحدا، اللهم الا صاحبه... وكان يمكن أن استخدم محله كلمة التوتر الداخلي أو المعاناة أو الاضطراب النفسي الذي يدفع الى الابداع ويحل عن طريق الابداع. فالشخص المتوازن كيا، أي التافه والغبي لا يمكنه أن يشعر بأي حاجة للابداع..

من أجل الاستئناس بهذا الموضوع يستحسن بنا أن نعود الى الماضي لكتابة مقدمته التاريخية. يبدو أن افلاطون كان أول من انتبه الى هذه النقطة عندما قال بأن العباقرة يغضبون بسهولة ويخرجون عن طورهم. انهم يعيشون وكأنهم خارج الزمن والوجود، وذلك على عكس الناس العاديين. ولكن أرسطو_ تلميذ افلاطون _ هو الذي نظر لهذه العلاقة بشكل فلسفي محكم. وقد طرح هذا السؤال: لماذا يبدو جميع الرجال الاستثنائيين من فلاسفة وعلماء وشعراء وفنانين أشخاصا سوداويين؟ نلاحظ أن أرسطو يستخدم كلمة الرجل الاستثنائي بدل العبقري، والسوداوي بدل المجنون. والواقع انه أقرب بذلك الى تصورنا الحديث. فنحن لم نعد نقبل بكلمة العبقري أو العبقرية بسهولة، وانما نفضل عليه تعبيرا أقل ضخامة أو أسطورية. ولم نعد نستخدم كلمة الجنون المرعبة وانما كلمات حديثة أخرى من اختراع الطب النفسي كالاضطراب الذي يصيب المزاج ويجعله حساسا جدا أو متحفزا جدا. ويقول أرسطو بأن السويداء تبتديء بميل الانسان الى الوحدة والعزلة والتأمل ثم تنتهي أحيانا بالصرع أو الجنون أو حتى الانتحار. ولكنها لدى المبدعين الكبار تتوقف عموما عند حد معين لأن الابداع يلجمها أو يوقفها عند حدها. ثم جاءت الثقافة الرومانية -اللاتينية بعد أرسطو واليونان وأخذت منه هذه الفكرة. ولذلك شاع المثل الذي يقول: لا يوجد شخص عظيم بدون حبة جنون ! واذا ما انتقلنا بعدئذ الى القرن الثامن عشر، أي الى عصر التنوير، وجدنا ان ديارو هو الذي بلور هذه الفكرة الشائعة التي تربط بين العبقرية والجنون. يقول هذا الفيلسوف الفرنسي:"آه: ما أكبر العلاقة بين العبقري والمجنون. فكلاهما يتميز بميزات خارقة للعادة إما باتجاه الخير واما باتجاه الشر. فالمجنون يسجن في المصح العقلي والعبقري نرفع له التماثيل !..(3) ثم جاء القرن التاسع عشر وتأسس علم الطب النفسي لأول مرة على أسس حديثة. وأكد على وجود هذه العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون. فالشخص العبقري لا يمكن أن يكون طبيعيا على طريقة الناس العاديين. يقول عالم الطب النفسي الكبير ايسكيورول بأن الشخصيات الكبرى في التاريخ هي شخصيات"مرضية" ويضرب على ذلك مثلا لوثي وباسكال، وجان جاك روسو، الخ... وقد استعاد هذه الفكرة بعده طبيب نفسي أقل شهرة هو"لولوت" الذي كتب السيرة الذاتية المرضية لشخصيتين كبيرتين هما: سقراط وباسكال وكان عنوان الأولى:"شيطان سقراط" والثانية"تعويذة باسكال" فالعبقري في رأيه شخص ممسوس أو مسكون من الداخل من قبل شيطان العبقرية. وقد عرفت العرب هذه الفكرة في الماضي عندما تحدثوا عن"وادي عبقر"،والالهام وشيطان الشعر... وقد أراد هذا الطبيب النفساني أن يستخدم حالة سقراط وحالة باسكال من أجل كتابة تاريخ الهلوسات. فالشخصيات الاستثنائية مهووسة بشي ء ما

لا تدري _ حتى هي _ كنها بالضبط. وهذا هو سر عبقريتها. وفي عام 1859 كتب"مورو دوتور" _ وهو طبيب نفساني. دراسة تحليلية لشخصية الشاعر جيرار دونرفال الذي كان قد انتحر قبل وقت قريب. وأثبت فيها أنه كان مصابا بتهيج هومي دوري، هو السبب في ابداعه. فحالة الابداع هي حالة هوسية يبلغ فيها التهيج حده الأقصى. ولو أن الشعراء والكتاب العرب تحدثوا لنا عن حالتهم النفسية أثناء عملية الابداع لقدموا لنا اضاءات مهمة عن العلاقة بين التوتر والابداع. ولكنهم لا يتجرأ ون على ذلك خشية أن ينعتوا بالجنون !..

نقول ذلك على الرغم من أن بعضهم قد انتحر بسبب هذه المعاناة المتوترة جدا، ونضرب عليهم مثلا الشاعر الكبير خليل حاوي. لكن الشعراء والمفكرين الأوروبيين لم يعودوا يخشون من ذلك بعد أن أزال التحليل النفسي تلك الهالة المرعبة التي كانت تحيط بالجنون والأمراض النفسية والعقد. بل إن بعضهم يفتخر بها للدلالة على مدى ابداعه وعبقريته ثم من أجل التمايز والخصوصية. والواقع ان مفكري أوروبا وشعراءها وفنانيها قد دفعوا ثمن تشكل الحداثة باهظا. فمن نيتشا الى بودلير الى رامبو الى هولدرلين الى انطو نين أرتو الى ميشيل فوكو الى لويس التو سير الى اد غار ألان بو الى فيرجينيا وولف الى كافكا الى لوتريا مون، نجد أن القائمة طويلة، طويلة من أولئك الذين جنوا أو عانوا أو انتحروا.. نعم أن هناك علاقة بين التوتر النفسي والابداع، ولكن ليس كل عبقري مجنونا، وليس كل مجنون عبقريا، فالعلاقة بينهما أكثر تعقيدا مما نظن. وهذا ما سنتعرض له تفصيلا فيما يلي:

يقول بعضهم بأن هناك نوعين من العبقريات. فهناك العبقرية الصاعقة، أي التي تنفجر انفجارا عفويا كالشلالات والينابيع، أو حتى كالزلازل والبراكين (وهذه هي حالة رامبو مثلا أو هولدرلين أو حتى نيتشه بل وخصوصا نيتشه ). وهناك العبقرية الهادئة، المتدرجة التي تصنع نفسها عن طريق الصبر والمثابرة والعمل المتواصل (وهذه هي حالة فلوبير مثلا). ولكن العبقري في جميع حالاته يكون عادة كائنا لا اجتماعيا، يميل ال العزلة والوحدة والهامشية. لنضرب على ذلك مثلا محسوسا حالة الشاعر الفرنسي الكبير: آرثر رامبو. يقول بول كلوديل عنه: كان رأمبو صوفيا في الحالة المتوحشة، أي في الحالة القسوى. كان نبعا ضائعا يتفجر من أرض ريانة. واما جان كوكتو فيقول عنه هذه الكلمات الصائبة: لقد سرق رامبو جواهره من مكان ما. ولكن من أين؟ لا أحد يعرف. هذا هو السر (بالطبع فإنه يقصد بجواهره قصائد»). لقد تحول رامبو الى أسطورة تستقمي على التفسير. فلم يعرف التاريخ عبقرية مبكرة مثل عبقريته انه كالشهاب الذي ما إن اشتعل حتى احترق ! من المعلوم ان اشعاره كلها كتبت خلال أربع سنوات: أي من سن السادسة عشرة الى سن التاسعة عشرة !.. هل يعقل أن يولد عبقري في مثل هذه السن المبكرة؟ ولذا رأي بعضهم أن القدرة الالهية هي التي ألهمته وفجرت في جوانحه العبقرية الشعرية التي تتجاوز كل عبقرية في اللغة الفرنسية، اذا ما استثنينا بودلير. راح رامبو يمثل في تاريخ الشعر الفرنسي الطهارة البكر، أو البراءة الأصلية التي لا تشوبها شائبة. لقد اخترق رامبو سماء الشعر الأوروبي كالنيزك المارق: أي بسرعة البرق.

ثم هجر بيته وقويته وشعره، بل وتنكر حتى لشعره وراح يعيش حياة مغامرته المعروفة، في بلاد العرب _ في عدن واليمن. هذه هي العبقرية المتوحشة أو المتفجرة: بداية مبكرة إبداع خاطف، نهاية قبل الأوان. أما الروائي مارسيل بروسة صاحب"بحثا عن الزمن الضائع" فكان يرى أن العبقرية تجيء بشكل مفاجيء، أي في اللحظة التي لا نتوقعها. انها تنفجر كالأشراق المباغت، أو هالالهام الصاعق. وعندما يقول ذلك فإنه يعرف عما يتحدث لأنه شهد تلك اللحظة وعاشرها فبقية المبدعين الكبار. أما الشاعر سان جون بيرس فيصف تلك اللحظة بأنها"الصاعقة العذراء للعبقرية"، ويعترف كبار الكتاب بأنهم ليسوا هم الذين يكتبون أفكارهم، وانما أفكارهم هي التي تكتب نفسها من تلقاء ذاتها، أو من خلالهم. وأتذكر بهذه المناسبة الحكاية التالية التي حصلت لي في جامعة دمشق. كنا في عام 1974- 1975 طلابا في قسم الدراسات الأدبية العليا. وحان الناقد احسان عباس يأتينا من بيروت مرة أو مرتين في الشهر لكي يلقي علينا دروسا نقدية حول الشعر الحديث. ولكن قبل التوصل اليه راح يتحدث عن الشعر الكلاسيكي السابق له، شعر بدوي الجبل وجيله.

وقال لنا بأنه سمع مرة بدوي الجبل يقول بأنه ليس هو الذي يكتب أشعاره، وانما هي التي تكتب نفسها بنفسها، فهي تجيئه وهو ماش أو نائم أو صاح وتنزل عليه كالالهام. ويجد نفسه عندئذ وهو"يدندن" بها كما هو على غير علم منه. وما عليه عندئذ الا أن يسجلها بسرعة على الورق قبل أن تتبخر وتضيع.. وأتذكر أن احسان عباس قد أبدى بعض الشكوك فيما يخص هذه النقطة واعتبرها أحدى مبالغات الشعراء. ولكني الآن، وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على هذه الحكاية، أميل ال تصديق بدوي الجبل أكثر من ذي قبل، دون أن يعني ذلك إنكار دور الصنعة والجهد في انتاج القصيدة. فالمبدعون الكبار ينفجرون بالابداع انفجارا. ربما لحان يعتمل في داخلهم ويختمر لفترة طويلة، ثم تجيء فجأة لحظة الحسم التي لا يختارونها هم، وانما تختار هي نفسها بنفسها رغما عنهم. مهما يكن من أمر فإن انفجار اللحظة الابداعية قد يجيء بعد مرور الكاتب بأزمة، أو مباشرة بعد الصحو والخروج من الحلم: أي في حالات التنويم المغناطيسي تقريبا، والهلوسة، أو احلام اليقظة.

ولكن هذه الحالات الابداعية نادرة، ولذلك يحاول بعض الكتاب اثارتها في أنفسهم عن طريق تناول المخدرات أو شرب الكحول.. نضرب عليهم مثلا نيتشه أو بودلير أو سارتر في عصونا الحاضر. فقد عرف عنهم تناول هذه"المنبهات" من أجل إيقاظ وعيهم الابداعي وتحريكه. ولكن العملية خطرة وقد تؤدي الى نتائج مزعجة. ولذلك يمكن القول بأن أفضل اللحظات الابداعية هي تلك التي تجيء بشكل طبيعي لا مصطنع. وهي لحظات قصيرة وخارقة، ولكن تأثيرها يتجاوز الدهور، يكفي أن نفكر هنا ببعض هذه اللحظات الاستثنائية التي غيرت وجه التاريخ: ليلة 10 نوفمبر 1619، حيث نزل الالهام على ديكارت وتوصل الى الحقيقة. ثم يوم 13مايو1797، أي قبل ما يزيد على 200 سنة حيث نزل الالهام على الشاعر الألماني الكبير نوفاليس. ثم صيف 1831 حيث يشهد جوته فترة الهام مكثفة.. ولكن انفجار هذه اللحظات العبقرية في وعي أصحابها لا يمر عادة بسلام. وانما يدفع ثمنه غاليا أحيانا. صحيح أنه يحرر الشخصية من عقدها واوجاعها، صحيح انه يحلق بها في الأعالي، أو أعلى الأعالي ولكنه يسقط الى الحضيض بعدئذ. ثم تظل دائما متأثرة به، حتى لكأنها تثن تحت وطأته. فليس كل الناس يستطيعون تحمل الالهام، خصوصا إذا ما كان منفجرا كالحمم من أفواه البراكين، خصوصا اذا ما نزل كالصاعقة. ولكن عدد الأشخاص الذين يشهدون مثل هذه اللحظات الاستثنائية قليل في التاريخ. لنتوقف هنا قليلا عند لحظة ديكارت من أجل تشريحها من الداخل ومحاولة فهم أبعادها. من المعروف أن الفيلسوف الفرنسي كان في بداية شبابه شخصا ضائعا لا يعرف ماذا يفعل بحياته. كان مغامرا يذهب من بلد أوروبي الى آخر لكي يطلع على"كتاب العالم" كما يحب أن يقول: أي لكي يقرأ العالم ويطلع عليه كما تقلب صفحات كتاب، وقد انخرط في جيش أحد الأمراء في هولندا. وعندما اختلى بنفسه في غرفته في المعسكر جاءته الاحلام الثلاثة المرعبة التي هزته هزا وكادت تودي به (4). ولكن العناية الالهية شاءت أن تكون هداية له نحو الحقيقة التي يبحث عنها دون علم منه. لقد كانت ليلة ميلاد تلك التي عاشها وينيه ديكارت في العاشر من نوفمبر، ولولا حلم الله وعفوه لقضت عليه. وهكذا ولدت فلسفة ديكارت بعد مخاض شديد البأس. ونتجت عن تلك الليلة المنهجية العقلانية التي حكمت كل أوروبا طيلة ثلاثة قرون (أي حتى اليوم بشكل من الأشكال. انظر المنهجية الديكارتية. أو العقلانية الديكارتية ). وأما نوفاليس فقصته مختلفة. فقد شهد لحظة الالهام الشفري في 13 مايو 1797، وشعر بفرح لا يوصف وحماسة خاطفة دامت عدة ثوان فقط. ولكنها أضاءته من الداخل بشكل لم يسبق له مثيل. وابتدأ عندئذ يكتب أشعاره الخالدة. هكذا نجد أن الالهام جاء بعد لحظة غير طبيعية، لحظة تفوق كل اللحظات. ومن يعشها أو يذق طعمها لا يعود ينسدها. والواقع أن هذه اللحظة جاءت بعد فاجعة حقيقية أصابته. فقد ماتت خطيبته وحبيبة عمره"صوفي" بمرض السل وعمرها لا يتجاوز الخمسة عشر ربيعا. ثم مات أخوه بعدها مباشرة. وقد اعتملت الأشياء في داخله واختلجت وتفاعلت حتى انفجرت أخيرا في لحظة الهام مدوية وهكذا يدفع ثمن العبقرية باهظا. يقول نوفاليس في تفجعه على حبيبته التي ماتت في عمر الزهور"رحت أنحني" وراح نفسي يبدد القبر وتراب القبر. وأصبحت القرون ثواني وشعرت بحضورها، كدت ألمسها، شعرت بأن القبر سوف ينشق عنها فتخرج منه حية معافاة كما كانت، كما كنت أعرفها.."(5)، وقد كتب كل أعماله الشعرية في الأعوام الثلاثة التي تلت تلك اللحظة لحظة انفجار الالهام والعبقرية في داخله. وما لبث أن مات هو أيضا بمرض السل عام 1801 وعمره لا يتجاوز الثلاثين عاما.

وأما عن جوته فحدث ولا حرج. فهذا الرجل الذي يعتبر مفخرة ألمانيا كلها لم يعش قرير العين. ولم يخل من الأزمات والهزات النفسية المؤلمة على عكس ما نتوهم. هو أيضا دفع ثمن ابداعه، أو ثمن عبقريته، باهظا. وقد واتته الجرأة لكي يعترف في بعفى اللحظات بأنه مريض نفسيا، وبأنه يعاني معاناة هائلة لا يعرف كنهها ولا سببها. ولذلك استنتج أن هناك علاقة بين العبقرية وبين المرض النفسي أو العقد النفسية التي تصيب الشخصية. وربما لولا هذه العقد ومحاولة التغلب عليها لما كان الابداع. فالشخصية المريضة لا تستطيع أن تتوازن الا من خلال الابداع. فالتناقض بين المبدع والعالم يكون حادا جدا الى درجة أنه ينكد عيش الفنان ولا يدعه يستمتع بالحياة الا في لحظات قليلة. ولذا يمكن أن نقول في ختام هذه الدراسة ينبغي الا نحسد العباقرة كثيرا على شهرتهم، ففي بعض اللحظات يتمنون لو أنهم لم يولدوا.

تحدثنا عن العبقريات السريعة التي تلمع فجأة ثم تنطفيء كعبقرية رامبو مثلا. لكن هناك عبقريات من نوع آخر، عبقريات بطينة تتطلب وقتا طويلا وصبرا قبل أن تنضج وتتفتح. والواقع أن معظم العباقرة يتميزون بهذه الخاصية: الرغبة الكبيرة في العطر والمثابرة عل نفس الخط لفترة طويلة من الزمن. انهم لا ييأسون بسهولة ولا يتراجعون عن الهدف الذي وضعوه نصب أعينهم. يقول الفريد دوموسيه بهذا الصدد ما يلي: لا توجد عبقرية حقيقية بدون صبر. وبالتالي فإن العبقرية لاتتشكل بين عشية وضحاها، وانما هي خاتمة لمسار طويل عريض. ويرى بودلير أن الالهام لا ينزل علينا فجأة من السماء وانما هو بالاحري نتيجة للتدريب اليومي المستمر والمتواصل والدؤوب. نقول ذلك ونحن نعلم مدى القلق الذي يشعر به الكاتب أمام الصفحة البيضاء فهو لايستطيع أن يملأها الا بشق الأنفس، وأحيانا لا يستطيع أن يكتب جملة واحدة. وقد عرف أحد الكتاب الانجليز العبقرية قائلا بأنها نتيجة التعب والجهد بنسبة 99% ونتيجة الالهام بنسبة 1% فقط ! وهذا دليل على أن الجهد هو الأساس، وأما ما تبقى فيجيء بعد بذل الجهد لا قبله. مهما يكن من أمر فيبدو أن العناد هو أحدى الصفات الأساسية التي يتميز بها العباقرة. فالناس العاديون سرعان ما يملون بعد فترة من الزمن إذا لم يصلوا الى نتيجة. وأما العباقرة فيظلون ممرين على نفس الخط رغم كل الخيبات والعقبات حتى يصلوا الى نتيجة في نهاية المطاف. وطالما تحدث الناس عن أسطورة بلزاك وقدرته الرهيبة على العمل خصوصا ليلا. فقد كان يغلق النوافذ عليه بدءا من الساعة العاشرة مساء ثم يحضر"طنجرة" كاملة من القهوة ويبتديء الكتابة حتى الصباح دون توقف.

وهكذا كان يشتغل خمس عشرة ساعة يوميا، بعد أن يبتلع عشرات الفناجين من القهوة. ولولا ذلك لما استطاع كتابة كل هذا الانتاج الضخم المتمثل بالكوميديا البشرية، وهو لم يعش أكثر من خمسين عاما ! نعم إن العبقرية بحاجة الى جهد جهيد، ولا تنزل علينا كهدية من السماء. يقول بلز ان في أحدى رسائله ال حبيبة عمره مدام فانسكا: ان حياتي تتلخص بخمس عشرة ساعة من العمل، وبالمحن والعذاب، وهموم المؤلف، وصقل العبارات وتصحيحها(6).

ولكن هذا التدريب اليومي المستمر والدؤوب لا يفسر لنا وحده سبب العبقرية. فهناك دارسون أكاديميون يشتغلون ساعات وساعات يوميا دون أن يتوصلوا الى أكثر هن مرتبة دارس جيد أو جامع مفيد للمعلومات، واذن فهناك سبب آخر للعبقرية غير الجهد والتعب: انه الموهبة أو شرارة الابداع. فهناك كتاب يمتلكونها، وآخرون لا يمتلكونها. ولذلك نسمعهم يقولون: هذا الكاتب موهوب،وهذا الكاتب عنده شيء، الخ... اذن فالعبقرية هي نتاج الموهبة والجهد في آن معا، وقد لا يكون حظ الموهبة فقط 1% كما قال الكاتب الانجليزي، وانما 50%.

بحان فلوبير يجسد في مجال الأدب، المثال الأعلى للمثابرة والمواظبة وبذل الجهد والتعب،. وكان يجلس وراء طاولته من عشر الى اثنتي عشرة ساعة يوميا لكي يستطيع أن يكتب رواية واحدد كل أربع أو خمس سنوات. ولذلك لم يكتب كثيرا: خمس أو ست روايات طيلة حياته كلها ما عدا"مدام بوقاري" رائعته الخالدة. انه يشبه المقلين في الشعر العربي القديم الذين اشتهروا بقصيدة واحدة أو عدة قصائد فقط. انه يشبه عبيد الشعر الذين لا ينفكون يصقلونه ويعيدون النظر فيه أياما وشهورا وربما سنوات. وطالما تحدث فلوبير عن عذاب الكتابة وكيف أنه يقني الساعات الطويلة. وأحيانا بضعة أيام، لكي يجد الجملة المناسبة أو حتى الكلمة المناسبة. وكم يلعن نفسه أثناء ذلك ويلمن الكتابة والأدب وكل شيء... وأذكر أني عندما زرت بيته الواقع في ضواحي مدينة"روان" على شواطيء نهر السين قبل بضع سنوات فوجئت بمدى التشطيب الذي بحان يمارسه على كل صفحة يكتبها. فلا تكاد تقرأ فيها شيئا واضحا من كثرة الحذف والتشطيب والاضافة والتصحيح أو التعديل، الخ.. وقد تحول منزله الى متحف يزوره الزائر متى يشاء كي يستمتع بالجو الذي كان يعيشه صاحب"مدام بوقاري" في القرن التاسع عشر. وعندئذ تستطيع أن تملأ عينيك بجمال الغابة المحيطة أو أن تراقب من النافذة مرور المراكب والسفن كما كان يراقبها فلوبير نفسه قبل قرن وهو جالس وراء مكتبه يسطر"مدام بوفاري"..

نعم ان فلوبير لم يكتب أكثر من خمس أو ست روايات في حين أن كتابنا العباقرة يتحفوننا كل عام أو حتى كار شهر برواية أو ديوان شعري أو كتاب فكري، الخ.. لماذا كل هذا الاستعجال يا اخوان؟ لماذا تحرقون الطبخة قبل أن تنضج؟ فلوبير كان حريصا على الا يصدر شيئا قبل أن يستنفد طاقته كلها فيه. يقول في أحدى رسائله الى عشيقته لويز كوليه:"لقد داخت رأسي وجف حلقي من كثرة ما بحثت عن جملة واحدة. لقد قلبتها على عشرات الوجود ونجرتها وحفرتها، ثم فوخت وندبت وشتمت حتى توصلت أخيرا اليها... انها رائعة، أعترف بذلك. ولكنها لم تولد دون مخاض وعذاب".

هناك خاصية أخرى يتميز بها العباقرة هي: حب الوحدة والعزلة والاستقلالية الشخصية. يكتب أحدهم: لقد قالوا عن العبقري بأنه يشبه المجنون. بمعنى أنه يولد ويموت وحيدا. انه شخص بارد، فاقد الحساسية لا علاقة له بالعواطف العائلية والتقاليد الاجتماعية. ولكن هذه مبالغة بالطبع. والواقع ان العباقرة يحبون العزلة من أجل التفرغ لابداعهم وانتاجهم، فلا تستطيع أن تبدع وأنت في زحمة الشارع أو في وسط البشر، ومن المعروف أن العلاقات العامة والاستقبالات والحفلات تأخذ وقتا كثيرا ولا تسمح للمفكر بأن يتفرغ لنفسه وأفكاره وتأملاته. ولذلك اشتهر المفكرون بحب الوحدة والحرص عليها. نضرب عليهم مثلا شهيرا ديكارت الذي غادر بلاده فرنسا هربا من المتطفلين والثرثارين الذين كانوا يلاحقونه باستمرار. وكان يشعر بسعادة كبيرة إذ يسكن في حي لا أحد يعرفه فيه، ويمشي في الشارع ولا أحد ينتبه اليه. فالشهرة أيضا مزعجة وينبغي أن يحمي الانسان نفسه منها. إن العبقري يتميز بالهامشية والعصيان وعدم الخضوع للتقاليد والأعراف السائدة مثله في ذلك مثل المجنون، ولكن الفرق الوحيد بينه وبين المجنون هو انه لا ينتهكها بشكل مجاني أو مبتذل أو غير واع. يضاف الى ذلك أن للعبا قرة عاداتهم التي يلتزمون بها وتصبح جزءا لا يتجزأ منهم. قلنا سابقا بأن بلزاك كان يسهر في الليل وينام في النهار. وهكذا كتب معظم مؤلفاته ان لم يكن كلها. وهذه الطريقة في الحياة تعتبر جنونا بالنسبة للانسان العادي. فالطبيعي أن تفعل العكس أي أن تنام في الليل وتشتغل في النهار. ولكن العبقري ليس انسانا ط يعيا. انه مهووس بمشروعه الى درجة المرض ومستعد لأن يضحي بكل شيء من أجله. وقد لاحظنا من خلال قراءة سير العباقرة أن معظمهم لا ينجبون الأطفال ولا يكرسون وقتهم لتربية عائلة. فمؤلفاتهم هي أطفالهم، وهم حريصون عليها مثل حرص الرجل العادي على طفله. فديكارت لم يتزوج، وكذلك الأمر بالنسبة لكانط، وسبينوزا، ونيتشه، وسارقو، وميشيل فوكو،الخ.. بالطبع فهناك استثناءات (هيجل مثلا). ولكن عموما فإن العبقري يكرس حياته لشي ء واحد فقط: هو انتاجه وابداعه. يضاف الى ذلك أن عادات العباقرة عجيبة وغريبة وتختلف عن عادات البشر. فمثلا ينسون أحيانا أن يأكلوا ويشربوا في في فترات الابداع، وينسحبوا من الحياة اليومية كليا لكي يضعوا انتاجهم مثلما تنسحب المرأة الحامل لكي تضع طفلها. وهكذا عاش مارسيل بروسة ومات عام 1922 ضمن ظروف بائسة في غرفة حقيرة لا تحتوي الا على سرير وكرسي وثلاث طاولات ! واما"فرانز كافكا" فكان أكثر شذوذا وغرابة أطوار. كان يفرض على نفسه عادات صحية عجيبة خوفا من المرض. وكان هوسه اليومي هذا ذد علاقة بهوسه الابداعي.

يتبع،،