عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2012, 10:46 PM
المشاركة 328
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع ،،


وعليه، فلعبة النسيان تتكون من سبعة فصول تتجاذبها ثنائية الإضاءة والتعتيم. وتتخذ الرواية طابعا واقعيا وذاتيا ووطنيا وفلسفيا. ويمكن إجمال دلالات هذا العمل الإبداعي في المضامين الموالية حسب الفصول السالفة الذكر:
يرسم الكاتب في الفصل الأول( في البدء كانت الأم) صورة مثالية للأم، هي لالة الغالية سيدة الدار الكبيرة بفاس القديمة. وسميت بهذا الاسم؛ لأنها غالية لدى كل الناس ولدى الجيران ونساء الدار بالخصوص لمركزها وأهميتها الاجتماعية ودماثة أخلاقها وطيبوبتها. وهي أم الجميع بلا استثناء. هي أرملة غادرها زوجها قبل الخمسين، تزوجته لالة الغالية وهي صغيرة السن. وكان بعلها يتاجر في الكتان والملف، وربحه وفير؛ بيد أنه ينفق معظمه في الثياب والأكل والتعطر بأحسن العطور، ويكثر من الأفراح والولائم. وكان الزوج من أصل أندلسي استوطنت عائلته فاس منذ القديم. أما أب الغالية فهو فلاح بدوي معروف بالورع والتقوى. ولالة الغالية أم لولدين: الهادي والطايع وبنت أكبرهما سنا( نجية). رفضت الأم الزواج مرة أخرى لتربي أولادها وتعلمهم. ولم يترك لها الزوج سوى قبض كراء البيت والدكان الذي كان أخوها الطيب يأخذ منه ما هو في حاجة إليه دون أن تحتج عليه أو تنتقده في ذلك.
كان وجه لالة الغالية مدورا صبوحا، وبسمته ذكية، وجه ممتلىء بالحياء. إذ تحترم لالة الغالية العادات والتقاليد والشرائع، تكثر من الزيارات وصلات الرحم، طيبة ومؤمنة تزور الأهل والجيران والأقارب والأولياء الصالحين وتتبرك بالأضرحة وتتوسل بالشرفاء، كما أنها تحب كثيرا أولادها وأخاها سي الطيب وأمها العجوز. وهي كثيرة الإحسان والكرم والسخاء، ودودة مع الأهل والآخرين وبشوشة ومواسية وناصحة ومحترمة؛ ولا ننسى كذلك أنها مثال للصبر والتجلد ومواجهة الأمور والمصائب، تحملت مسؤولية الأسرة منذ أن ترملت واعتنت بالتدبير المنزلي، وعلمت ولديها: الطايع والهادي، بينما تكلفت ابنتها نجية بالطبخ والكنس والخياطة.
وكانت الأم كذلك مواسية لجيران الدار الكبيرة حيث أصبحت فيها هي الكل في الكل، وسيدة الدار تعطف على الجميع وتحن عليهم وتنصح النساء وتدعوهن للفطور وقضاء الوقت في الحديث، ولاسيما أمر انتقالها إلى الرباط لتزويج ابنتها نجية ومساعدتها في تربية أولادها وإنجاز الأمور المنزلية بعد اختيارها زوجة من قبل الشاب السوسي بفضل وساطة الشريف الصديق الوفي لزوج لالة الغالية وصديقا مخلصا كذلك للسوسي في الرباط.
وقد شكلت الأم ذكرى عظيمة بالنسبة لابنها الهادي بعد وفاتها إذ لم يعد يطيق الحياة بعد فقدانها؛ لأنها رحم الدفء والأمومة والطفولة والحياة السعيدة. وبعد موتها أصبح يحس الهادي بالاكتئاب والوحدة والضياع والاغتراب الذاتي والمكاني. وصارت مشاهد الأم وذكرياتها تلازم الهادي أينما حل وارتحل، يحس بحضورها وحنينها الخفي ووجودها في حياته. إنها ذلك الطائر النادر والواحة الظليلة. وكانت الأم كذلك نبراسا وضاء ينير حياة نساء الدار الكبيرة، ويدخل عليهن الفرحة والسعادة وحيوية العيش ودفء الطيبوبة. بيد أن وفاة الأم أثر على كل أفراد الدار الكبيرة ومزق القلوب وأثار الأشجان بعد دفنها في التراب لتحضر لديهم في شكل ذكريات ومشاهد واستيهامات وأطياف.
ويتعرض الفصل الثاني لشخصية " سي الطيب "، وهو أخ لالة الغالية، كان يقطن معها الدار الكبيرة، تزوج مرتين: الأولى توفيت وكانت طيبة مع الهادي. ويعد ذلك تزوج من " فاختة" التي جعل الهادي حياتها تعاسة وشقاء، ولم ترتح منه إلا حينما سافر مع أمه إلى الرباط. وسمي سيدالطيب بهذا الاسم لطيبوبته ودماثة أخلاقه. فهو ذو قامة مديدة وجسد ممتلىء ورجل فحل يلبس جلبابا شفافا في الصيف وجلبابين صوفيين خلال الشتاء. وهو عاقر لذلك تبنى ابن أخته لالة الغالية( الهادي) وأحبه كثيرا. وكان سي الطيب مسؤولا عن لالة الغالية. وهو الذي يقبض الكراء ويراعي الأولاد. ومهمته هي الحياكة والإتقان في العمل. وسهراته مابين المساجد وحلقات ترتيل الأمداح النبوية ورياض الجنان للنزهة والاستمتاع والمقاهي للعب الورق والتلذذ بالحياة وعطر الأشياء والأجساد. وقد اشتغل مع ابن الأخت الكبيرة لالة عايشة في تهريب القماش والكتان من الدار البيضاء بعد أن كسدت سوق الحياكة في فترة الحرب. وبعد ذلك صار بائعا للثياب في حانوت ملأها له ابن أخته بحي فاس الجديدة؛ إلا أن سي الطيب أدى به الإفلاس إلى أن يضحي بالربح ورأس المال بسبب مغامراته النسائية خاصة مع المرأة اليهودية المكتنزة التي أنفق عليها كل ما يملكه وجعلته يميل على اللذة وشرب كؤوس المتعة وسهرات الملحون والأندلسي.
ويلاحظ على سلوكيات سي الطيب التناقض؛ إذ يجمع بين عبادة الله وتقواه واللهو والمجون. فإلى جانب الجذبة الصوفية والمروءة ودماثة الأخلاق ومعاملة الجيران الحسنة واتصافه بالكرم والسخاء وحبه الشديد للوطن وميله إلى الفكاهة والنادرة. وكان في المقابل ماجنا ومغامرا يقبل على الحياة مختلسا منها لحظات الزهو بعيدا عن زوجته التي حولت حياته وحيات الهادي إلى جحيم. وبعد أن أخذ يحبو فوق الخمسين عاد إلى البيت وغدا أكثر استقرارا ورجع إلى مهنته الأولى، وجعل يداوم على المسجد وحلقات الذكر والأمداح.ويستدعي في نفس الوقت أصدقاءه للعب الكارطة. ولا يكون في أوج السعادة حتى تحضر أخته لالة الغالية وابنها الهادي لزيارته من الرباط. كل زيارة تكون احتفالا يغمر جميع سكان الدار. وتعترف كل نساء هذه الدار بطيبوبة الرجل ووداعته وملاطفته ومشاكسته لهن، والتوادد مع أولادهن وأزواجهن، ويتعاطف مع الجميع ،ويساعد الكل، ويقاسم جيرانه فرجة التلفزة، ويقدم لهم النصائح والتوجيهات السديدة.
أما الهادي فمكانة الطيب في نفسه كبيرة جدا، إذ أحبه حبا شديدا ولم يحس بهذا الحب إلا بعد وفاة خاله، فكانت وفاته فاجعة مأساوية. وأصبحت صورة " سي الطيب" لا تفارق الهادي، وتحضر مرتبطة دائما بالطفولة والأحلام عبر لحظات التذكر والاسترجاع. فثلاثون سنة مازالت صورة سي الطيب تغرس بطيبويتها في ذاكرة الهادي أروع المشاهد وأعظم المواقف الإنسانية.
وفي الفصل الثالث( ما قبل تاريخنا) يستعيد الهادي ما قبل تاريخه أي ما ورثه منذ طفولته من أحداث وذكريات شكلت تطور حياته الفردية عبر عمليات الاسترجاع والتذكر واستعادة لحظات المدرسة واللعب والمغامرات والمظاهرات. وعلى الرغم من كون الهادي في العقد الثالث من عمره، فهو مازال يتذكر طفولته في فاس أولا، والرباط ثانيا، لايمكن أن يتخلص منها لما تركته من رواسب في لاشعوره وذاكرته الحية؛ لأنها مثل الدم في الشرايين والحضور المستمر في إيقاع الغياب الأمومي.
منذ سنيه الأولى عرف الهادي بالدلال والشيطنة والمشاكسة خاصة عندما تبناه سي الطيب وزوجته الطيبة الأولى لكونهما عاقرين، فاحتضناه وعاملاه بحنان ودفء ودفء العطف ولبيا له كل ما يرغب فيه، وأصبح ولد الدار الكبيرة الأول، فلا يمكن لأحد أن يغضبه أو يزعجه حتى أمه لالة الغالية.
ويتسم الهادي بالوسامة وشعره المدلل ( الفريزي) على عكس أخيه الطايع الذي لم يحظ في أول الأمر بتلك التسريحة الشعرية الإفرنجية الجديدة، وأصبح الهادي مثار إعجاب بنات الدار يحاولن تقبيله واللعب معه. وكم كانت للهادي من مغامرات صبيانية مع بنات الحي ( مثل بنت أحد الفقهاء المتزمتين، وبنات الدار الكبيرة، والبنت الملثمة التي أخذت منه جلابية" لملف" ومغامرات شيطانية في " المسيد" والمدرسة والحومة. وكان يقضي معظم وقته في لعب الكرة أو الصراع مع أبناء الحي والعراك معهم بالأيدي أو الحجارة. وعندما رحل الهادي إلى الرباط حمل ولعه بالعراك والتحدي. لكن سي إبراهيم فرض عليه وعلى أخيه الطايع تربية صارمة تتمثل في العمل والاجتهاد والعبادة. وكان الهادي يقضي أوقاته في المراجعة والقراءة. إذ اطلع على أعمال جورجي زيدان والمنفلوطي والفونس دوديه. ولا ننسى أن نذكر اهتمامه بالشؤون الحزبية وحضور دروس الدين في الجامع الكبير وإعجابه بالفقيه العلامة المدني بالحسني أثناء إلقائه لدروس الحديث وتمكنه من الإلقاء وإفادة الناس. وشارك الهادي مع أخيه الطايع في المظاهرات والإضرابات الوطنية بعد نفي جلالة الملك محمد الخامس إلى مدغشقر وكورسيكا بحماس وطني لا نظير له.
وبعد مرور سنوات الطفولة والمراهقة مازال يتذكر وفاة أمه الثانية زوجة سي الطيب عندما كانت جسدا أبيض يغسل ليوارى في التراب. وكثيرا ما كان إيقاع الجسد أو بياضه الناصع يذكره بالموت ومغسل المرأة الطيبة التي دللته كثيرا كأنه أمه الحقيقية وليست لالة الغالية، ولاسيما أن هذا التذكر ينتابه أثناء قضاء لحظات المتعة الجسدية مع المراة الأجنبية التي لقيها بالمكتبة، وكان حديثها حول العالم الثالث والذي أدى إلى التجاذب الجسدي. وكان هذا الجسد الأبيض يوحي للهادي- الضائع بين الخمرة وشهوة الخطيئة- بالموت وطفولته بفاس بين أحضان سي الطيب وحنان فاس، وسكانها المنشرحين الذين يقضون أوقاتهم في العمل ولعب الكارطة والغناء والمرح والنزهة في الحدائق العمومية. إنها طفولة مدينة الرحم والأمومة والعطاء والسخاء. وهكذا، فمن خلال الجسد والذاكرة تستعاد الطفولة والتاريخ والمراهقة، ويتداخل الحاضر مع الماضي وينجذب الشعور إلى اللاشعور، ويتقاطع العبث مع الوجود الطفو لي والأمومي من خلال ثنائية الموت والحياة.
ويحيل عنوان الفصل الرابع ( ثم يكبر العالم في أعيننا) على التغير الذي طرأ على شخوص الرواية ولاسيما الهادي الذي انتقل من فاس الطفولة، المدينة الرحم أو الواحدة الموحدة إلى الرباط حيث سيكتشف عالما آخر مليئا بالمتناقضات، عالم الأشخاص والأشياء قوامه الاختلاف والتنوع والتعقيد، وبعد ذلك يبدأ الفصل بتمرد السارد أو راوي الرواة على الكاتب، إذ أراد أن يتدخل في السرد ليقوم بمهمة التنسيق والتوجيه والتحكم في دفة السرد وإضاءة الأحداث أو إخفاءها وتعتيمها وتصحيح الأخطاء التي قد يرتكبها الكاتب أو تشويه الصورة التي يريد تزيينها، أي أن راوي الرواة سيتدخل ليفضح اللعبة السردية بكشف ألغاز البناء الروائي والتعددية الأسلوبية ويبرز الجوانب الشعورية واللاشعوريةالتي تنطوي عليها الشخصيات الروائية من خلال الربط الخاص بالعام. وبذلك يفرض راوي الرواة شروطه على الكاتب لمواصلة الحكي عبر التدخل في المسار الحكائي لتقويم الشخصية وفهم أبعادها الذاتية وظروفها الموضوعية.
ومن المواضيع التي تم تسليط الضوء عليها من قبل راوي الرواة " الإغراءات الجنسية" التي كان محورها الهادي الوسيم أثناء طفولته، حيث كان الولدان يلاطفونه خاصة الفتى البقال السوسي بالقرب من الدار الكبيرة، وقصة " الضب" الذي فض بكارة تلميذة عند انصرافها من المدرسة بوحشية وفضاضة. وأصبحت صورة الفتاة العارية راسخة في ذاكرة الهادي تغيب وقتا وتحضر عندما يشاهد الأفلام الإيروسية كالفيلم الياباني بباريس الذي ذكره من خلال مشاهده الشبقية بالضب بعد عشرين سنة.
ومن شخصيات هذا الفصل "سي إبراهيم" الذي يناهز عمره الستين. وهو من مواليد " آيت باها"، لم يدخل المدرسة قط، ولكنه يداوم على الصلاة وارتياد المساجد. قضى سي إبراهيم حياته راعيا في سوس. وبعد سنوات الجفاف والقحط قرر السفر إلى الرباط وذلك بفضل الشريف الذي أقنع أباه ليتركه يرحل بحثا عن العمل والرزق. وقد نزل إبراهيم بالرباط وأقام عند ولد عمه. وأصبح ماسحا للأحذية، وبعد ذلك خادما في مقهى" بار هنريس" قرب محطة القطار. وبعد مدة تعارف سي إبراهيم على الشريف الذي زوجه لالة نجية، المرأة الطيبة الصبورة. وسي إبراهيم رجل مخلص لا يتدخل فيما لا يعنيه وساذج وطيب السريرة. بيد أنه شديد الصرامة في تربية أولاده وتعامله مع أولاد لالة الغالية( الطايع والهادي)، يكثر من النصائح والمواعظ ويتشدد مع النفس قبل الغير. وسي إبراهيم كذلك مثال للتقوى والعمل والجد. وقد اشترى منزلا وبدأ في استثمار مدخراته. وأنجب أحد عشر ولدا وبنتا. وبعد ثلاثين سنة من الدأب والكفاح، انتهى بحياة مستورة وشريفة. يتأقلم فيها مع الواقع على الرغم من المتناقضات وتنوعها المعقد.
هذا وإن سي إبراهيم يثير فضول الهادي والطايع خاصة عندما يقص عليهما سيرته وبطولاته وحكاياته، حيث يجنح كثيرا إلى التخريف والتخييل والتهويل بسبب استرجاعه لأفلام شاهدها أو أحلام منامية أو أحلام اليقظة ليثأر من المعتدي؛ ولكنه واقعي يحس بالعجز والضعف والجبن( مثال: ضربه للأمريكاني بالمطرقة أثناء وجوده بالبار). وهكذا أصبح سي إبراهيم عند أولاده رمزا للصرامة والغموض والدأب والبساطة في الحياة والاقتصاد في المعيشة.
أما عن لالة نجية فهي زوجة سي إبراهيم ابنة لالة الغالية، زوجها الشريف صديق أبيها الوفي من سي إبراهيم وسنها لم يجاوز الخامسة عشرة. ومن خصالها الحياء والخجل والرزانة والتعقل والصبر وطاعة الزوج والسهر على خدمة الأسرة بكل مافيها. وسي إبراهيم يعتني بها ويحرص على تعليم أولادها ومساعدة الطايع والهادي أخوي نجية. وكانت زوجة سي إبراهيم تشبه أمها في الطيبوبة ودماثة الأخلاق والصبر والرحمة والحنان وتدبير شؤون المنزل والإكثار من النسل والعمل على تربيتهم بمساعدة أمها التي لم تأت من فاس إلا لذلك.
ولالة نجية مثال للطف مع نساء الجيران خاصة لالة كنزة وأولادها. ولما انتقلت إلى منزلها الجديد حافظت على ذلك الوصال الحميمي وصلة الرحم وتبادل الزيارات. وكان الهادي يميل كثيرا إلى أخته نجية، إذ ينظر إليها على أنها أم ثانية تحمل قسمات الأم الحقيقية، بله الألفة التي تجمعها منذ الطفولة وحبه العميق لها حبا شعوريا غامضا ودفينا مبعثه طيبوبة الأخت ودماثة أخلاقها وحسن نيتها في الآخرين. وكم كان الهادي منبهرا بصورة أخته العظيمة وفلسفتها في الحياة القائمة على الرضى والقناعة والتضحية و التفاني في خدمة زوجها وأولادها وحب الآخرين.
أما الطايع فلا تختلف طفولته عن طفولة الهادي لاشتراكهما في اللعب والمدرسة والمغامرات والمظاهرات. فإذا كان الهادي مجدا في دراسته، والدليل على ذلك حصوله على شواهد جامعية عليا، فإن الطايع قضى عشرين سنة في النضال الحزبي والنقابي والكفاح الوطني ودافع كثيرا عن شعارات جماهيرية وشعبية. بيد أن هذه السنين التي كرسها الطايع للفعل داخل الميدان لم تعد عليه بالنفع ولا بالانتصار. فقد خان رؤساء الأحزاب والنقابات وأطرها الفاعلة القضية وغازلوا السلطة وضاع المناضلون الصغار. فيالها من نتائج مفجعة!ويالها من حسرة تنخر ذاكرة الطايع الذي ثار على نضاله وأوهامه واقتنع أخيرا بلا جدوى العمل السياسي واختار مهنة التدريس، وتزوج من معلمة كانت تشاركه همومه وآماله وطموحاته المستقبلية. وتخلى عن الماضي والذاكرة الوطنية بمفهومها السلبي، وبدأ في تجربة أخرى بمثابة خلاص حقيقي له من أزماته الذاتية والموضوعية يتمثل في قراءة الإسلام وعبادة الله وأداء الصلاة وانتظار الموت والاهتمام بشؤون المنزل والأولاد.
وكم كان الطايع مختلفا مع الهادي أخيه الصغير الذي أنفق عليه الكثير من أجل أن يتابع دراسته الجامعية على عكس الطايع لم يستكملها. إذ اكتفى بالشهادة الابتدائية لينخرط في العمل ليساعد أمه. وما يتذكر من طفولته حبه لخديجةابنة الجيران، بنت خالته كنزة كما يناديها حيث كانت له معها لحظات رومانسية انتهت بزواجها بفقيه تحت ضغط والدها.
هذا وقد ضحى الطايع بكل شيء من أجل الوطن والصالح العام. وكم كانت خلافاته حادة مع الهادي الأناني والعابث الذي لا يبالي بالدين ولا بفلسفة الزواج، يتكيف مع الواقع بعيدا عن الفعل والنضال. ويرى الهادي أن احتجاجات أخيه الطايع نتاج للفشل والأوهام التي عاش من أجاها دون أن يعرف حقيقة الأمور ويختبر الواقع عن قرب ليكشف زيف الادعاءات ونفاق الشعارات السياسية. وما الدين سوى ملجإ يهرب إليه الطايع لينسى كل شيء ويقطع صلته مع الماضي الدفين.
وتبين تطورات الظروف وتوالي العقود على مدى ثورة الهادي والطايع وتمردهما على الواقع المرير الذي انحرفت فيه القيم والمقاييس وتخلخلت العلاقات الإنسانية، بينما حاول سي إبراهيم ولالة نجية أن يمتصا هذا الواقع وأن يتكيفا معه" كأنهما اسفنجتان، فلا يبدوان على خلاف معه-على حد تعبير الكاتب – ظلا في أحشائه دوما، لكن كأنما عاشا مسورين داخل هذه الدنيا، تحرسها عناية خفية من أن تصيبهما شظايا الألم" .
وينتهي هذا الفصل برصد المتناقضات التي كان يعيشها مغرب السبعينيات على جميع المستويات حيث يحيل على القبضة الحديدية للسلطات الحاكمة والظلم وانعدام العدالة الاجتماعية وعبثية الحياة وترداد الشعارات السياسية الجوفاء وطغيان السلطة ونماء جبروتها على حساب حقوق الشعب وتلذذه بالفقر المدقع وأمله الخائب في صراخه السيزيفي الضائع.
ويستعرض الهادي في الفصل الخامس ( قلت وكم يهواك من عاشق) مراهقاته الشبقية واشتعال لغة الجسد والشهوة من خلال تحريك الذاكرة واستدعاء المشاهد الجنسية والحياة الأبيقورية التي انغمس فيها إلى أخمص قدميه. ثلاثة فضاءات تشكل مسيرة كينونته الوجودية، وهي تتمحور حول العطش الجسدي وإشباعه عبر الارتواء الجنسي وارتشاف خمر النسيان واللذة. وهذه الفضاءات هي: القاهرة ومدريد وباريس. وهي تشكل الخارج أو الفضاءات المفتوحة التي كان فيها الهادي يعاني من الاغتراب الذاتي والمكاني لمواصلة دراساته الجامعية والاسترواح النفسي كذلك.
إنها مشاهد جنسية مرتبطة بفضاءات معينة. وهي فضاءات عاصمية ( القاهرة – مدريد- باريس) إدارية وسياسية. ففي القاهرة ضاجع الهادي امرأة اعتقد أنها ليست جميلة؛ ولكنه وجدها مرعبة في بشاعتها مادامت تضاجع مراهقا ورجلا وسيما. وكان هذا المشهد الجنسي عاديا وطويلا؛ بيد أنه لم يتطور، لذلك تخلص منه الهادي ليبحث عن خياله من جديد في شوارع القاهرة الغاصة.
وفي مدريد يتكرر المشهد الجنسي حيث يتعرف الكاتب على فتاة أو امرأة من باريس، وجهها الأبيض واللثغة المحببة، عندما تتحدث بالعربية تذكر الهادي بالطفولة ومدينة فاس مدينة البدء. وكانت عشيقته سخية، إ ذ جعل الكاتب من بيت إحدى الراهبات مرتعا للصراع الشبقي والارتواء اللحظي وتداخل الجسدين وتشابكهما للتعبير عن العطشين الدفينين بلغة الجنس و الخمرة.
وفي باريس تعرف الكاتب على امرأة مغربية من الدار البيضاء. وهي طالبة جامعية فقدت أمها أثناء مغرب التحولات، ولم تستطع أن تعيش مع زوجة أبيها فاختارت العزلة والقراءة، وجعلها الهادي مطية أفكاره وفلسفاته الوجودية والماركسية والفرويدية، وميدانا للشبقية والتنفيس والتعويض واسترواحا نفسيا خاصة أثناء تواجده طالبا بباريس، وقضى معها حياته البوهيمية العبثية في الاستمتاع والارتواء. وكانت بينهما مراسلات تشخص حبهما والرغبة الدفينة في الإشباع واللذة وتذكر لحظات الانجذاب والتآلف والعناق والانطفاء.وتعبر كل هذه المشاهد عن مدى إحساس الهادي بالوحدة والغربة الذاتية والمكانية أثناء مغادرة الوطن بعد انفصاله عن مركز الطفولة وذاكرة الأمومة. إنه يعيش لحظات الضياع بعيدا عن لحظات الفعل والمسؤولية كالتي عاشها الطايع أخوها. إن الهادي لا يؤمن بهذا الفعل المؤدلج. إنه يبحث عن العلم واقتناص الهوى والفرص لتحقيق ذاته للانغراس في تربة الحياة مادامت تنتهي بالموت. لذا على الإنسان أن يعيش لحظات الحاضر ليحس بوجوده وكينونته.
ويحيل الفصل ما قبل الأخير( زمن آخر) على عودة الهادي إلى فاس عبر الاستذكار والاسترجاع واستدعاء الذاكرة لينقل لنا فضاء المدينة بأبعادها الحضارية والجغرافية والإثنوغرافية. كأن هذا الرسم المنقول صورة إشهارية أو لقطة سياحية. إنه يرسم تقاسيم المدينة ومظاهر العتاقة والأصالة فيها وما طرأ عليها من تمدين وتحديث وتحولات مست القيم والأخلاق والسلوكيات والناس بل الحيوانات كذلك. إذا انتقلت فاس من طابعها الفطري " البريء" الصافي إلى طابع التحديث المادي الاستهلاكي، كما تغيرت المرأة وأصبحت عصرية أكثر، كما تحول الشباب وتهافتوا على الموضات الجديدة المستوردة. فكل شيء تغير في فاس. إنه المكان في تفاعل جدلي مع تغير الزمان. ويستحضر الهادي وطنية فاس وصمودها في وجه الاستعمار وقراءة اللطيف في المساجد والكفاح الوطني ومظاهرات العمال من أجل الاستقلال، ويقارن كل هذا بفاس الحاضر، فاس الشعارات السياسية والأحزاب والبرلمان، بين فاس الصدق والأصالة، وفاس الزيف والكذب، وبين فاس القيم الوطنية والعراقة الحضارية والدينية وفاس التحولات والاستهتار بالقيم والنفاق الاجتماعي والسياسي.ومن الأمثلة على هذه التحولات على فاس الحاضر زواج ابن سي إبراهيم ولالة نجية " عزيز" من سعيدة. فبعد تخرج عزيز من كلية الحقوق، شعبة الاقتصاد، اشتغل في مكتب التسويق والتصدير وبذل جهدا كبيرا في شغله لإرضاء رؤسائه رغبة في الترقي وتحسين أوضاعه المادية. ولم يجد بدا من أن يتزوج من سعيدة الصيدلية من وسط متبرجز، أبوها مدير بنك تجاري لتحقيق التوازن الاقتصادي وتوفير مستقبل مادي زاهر على الرغم من كونها متوسطة الجمال وكبيرة السن. وتم العرس في فاس بدل الدار البيضاء للتقرب من الأهل والجيران والأحباب، وتخلل هذا الحفل مشاهد موسيقية أندلسية ورقصات النساء والرجال معا، واختلاط الذكور مع الإناث.
ومن المواضيع التي انصب حولها الحديث من قبل المدعوين: تزوير الانتخابات والوضعية السياسية المتردية، واستيراد الحبوب بسبب الجفاف، والبطالة وانعدام آفاق المستقبل أمام الجيل الجديد بعد حصولهم على الشواهد العليا، وانعدام التواصل بين الأجيال بصفة عامة، والسمسرة في الصفقات المخصصة للاستثمار الغربي والشرقي في المغرب، والتباين الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء كما يظهر ذلك من خلال افتخار زوجة المحامي بثوبها الجديد ( أنت عمري) الذي يساوي مليونا من الفرنك، وقد جلبه لها من دمشق أثناء دفاعه عن سمسرة استثمارية.
وكان الجدال حادا في الغرفة التي تجمع فيها الجيل الجديد مع الجيل الماضي، حيث فتاح وإدريس ونادية وعبد السلام وطلبة الآداب والحقوق والهندسة والطب. ودار حديثهم حول الواقع المغربي وآفاقه المستقبلية. فإذا كان الجيل الأول قد ارتبط بالماضي والوطن وعاش كالبشر الآخرين، فإن الجيل الجديد يرفض هذا الوطن بسبب الفراغ الذي ينخره، والبطالة التي تأزمه، كما أن مستقبله غامض. لذلك فلا خط يصل بين هذين الجيلين؛ لأن الجيل الأول بماضيه ولا مستقبل ينتظره، والجيل الجديد بلا ماض؛ ولكن بمستقبل. وكانت مقاربات الشباب للمشكل تنطلق إما من رؤية يسارية وإما من رؤية إسلامية كما هو الشأن لدى عبد السلام.
ولم تنته هذه الجدالات السياسية الحادة إلا بحضور العروس إلى الفيلا واستكمال الترتيبات الأخيرة كالأكل والشرب وتصوير العروسين بالفيديو والتجول بهما عبر أزقة المدينة احتراما لتقاليد الزفاف الفاسي.
وينتهي هذا الفصل بحوار حاد بين راوي الرواة والمؤلف، إذ كاد أن يستقل السارد الجريء ليترك المؤلف وحيدا حائرا لا يلوي على شيء، ولا يعرف من أين سيبدأ حكيه وأين سينهيه، ويكون – بالتالي- السؤول الوحيد عن سرده وحكيه. وسبب هذا الصراع هو رغبة راوي الرواة في إخبار القارىء بخلافه مع المؤلف حول عدة قضايا ظاهرة وخفية، ومنها قضية تشطير الزمن إلى زمنين، زمن سي إبراهيم ولالة نجية والطايع والهادي، وزمن فتاح وإدريس ونادية وعبد السلام. بيد أن راوي الرواة يرى أنه زمن واحد يعاش بأوعية مختلفة، وأن الجيل الأول مازال ممتدا في الجيل الثاني، أي أن الماضي مازال حاضرا في الآني، فمن الصعب الفصل بين الماضي والحاضر. فكل واحد يكمل الآخر. ومن الصعب كذلك أن نحدد زمن شخوص الفصول السابقة بفترة معينة ومعظمهم ما يزال في النص حيا يتكلم" وهل يكفي سخطهم على الحاضر لنعلن انفصالهم عن هذا الزمان وناسه، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار معايشتهم لأبنائهم وبناتهم وأقاربهم، لا مجال للتردد، في نظري، إذا أردنا أن نصور الزمن الآخر من أن نفترض الامتداد والتداخل، ومن أن نجعل مظاهر الانقطاع أقل مما قد توحي به الأحداث " الخطيرة" والإحصائيات، وتبدل القيم".
ويقترح راوي الرواة على المؤلف بديلا سرديا هو متابعة تغيرات الشخوص من خلال أقوالهم وتصرفاتهم وأفكارهم بدل تقسيم الزمن إلى زمنين؛ لأن الزمن ديمومة سرمدية واحدة تعاش بقوانين وثوابت خاصة، فما الشخوص سوى كائنات تعاني من وطأة الزمن.
وامتد الخلاف أيضا إلى رغبة المؤلف في قراءة ما بين السطور لهذا الزمن الجديد مثل ( ثراء الملياردية)، والتبذير الكبير في الحفلات العامة والخاصة، والتعرض بكبار موظفي الدولة بسبب الرشوة والاختلاس ،وتصدير الفتيات إلى الخليج وبعض دول أوربا لجلب العملة الصعبة أو ترويجا في الداخل بشرط حصولها على الإجازة والتخصص في الدلك والرقص لإرضاء الزبناء للتخفيف من البطالة، وانحراف الشباب وعيشهم على إيقاع المخدرات. ويطالب راوي الرواة المؤلف بذكر الإيجابيات إلى جانب السلبيات. وما أكثر الإيجابيات في بلاد يقهر فيه الإنسان صباحا ومساء ونهارا وليلا. ويلعن ويسب بلا كرامة ولاشرف. وقد انتهى هذا الخلاف الحاد إلى التراضي بأن يتولى راوي الرواة الفصل المعنون " زمن آخر" بالسرد والرواية.
وفي الفصل الأخير( من يذكر منكم أمي) يحاول الهادي أن يسترجع ذكرى أمه من خلال لعبة الاستدعاء والتذكر والنسيان. تلك الأم التي أنهكها مرض القلب بسبب تحملها لهموم كل الناس. لهذا حاول الهادي أن يتناسى طفولته "الأمومة" من خلال تلذذه بالغربة، ومضاعفة ساعات الشغل والاجتماعات والسهر مع الأصدقاء، والبحث عن اللذة المباحة والمشاهد والصور الدفينة في المخيلة. وكثيرا ما ينهي هذا الحضور الأمومي بتقبيل يد الأم أو وجهها إعلانا لطاعته لها وحبه لها. إن فقدان الأم بالنسبة للهادي ضياع وأيما ضياع. إنه اغتراب وجودي. فالإنسان بلا أم كأنه بلا هوية ولا ماض وبدون حاضر كذلك. الأم هي كل شيء بالنسبة للهادي.
وهذه الأم هي التي كانت وراء تصالح الهادي مع الطايع أثناء اعتقال ابنه فتاح الذي اتهم بالتخريب، وذلك عندما استحضرت لالة نجية صورة أمها لالة الغالية تحثها على اتحاد الإخوة و تصافي القلوب وجمع الشمل، إذ طلبت من سي إبراهيم أن يصحب معها الهادي لزيارة الطايع لمشاركة أحزانه والوقوف معه في هذه الشدة. وفعلا، تم اللقاء الأخوي وعادت المياه إلى مجاريها؛ ليستسلم الهادي لمشاعر الأمومة ومساعدة الأهل والجيران والأقارب نيابة عن أمه لالة الغالية.