عرض مشاركة واحدة
قديم 12-24-2011, 11:52 AM
المشاركة 180
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الموضوع: قراءة لكم عن الاديب الطيب صالح : من هو مصطفي سعيد في رواية موسم الهجرة الي الشمال
· Mujahid‎

من جريدة الشرق الأوسط - 11 ابريل 2007

الخرطوم: جريزلدا الطيب

كاتبة هذا المقال جريزلدا الطيب، هي فنانة بريطانية وباحثة في الأدب الأفريقي بلغت اليوم ثمانيناتها. كانت قد تزوجت من عبد الله الطيب، الكاتب السوداني الراحل المعروف، وعايشت الحقبة التي تستوحي منها رواية «موسم الهجرة إلى الشمال أحداثها وأبطالها» في السودان كما في لندن. وهذه الباحثة تكتب اليوم، مفككة الرواية، باحثة عن أصول أبطالها في واقع الطيب صالح، لا كدارسة أكاديمية فحسب، بل كشاهد حي على فترة، لم يبق منها الكثير من الشهود. انها قراءة مختلفة ومثيرة لرواية لا تزال تشغل النقاد...

جيل اليوم يعرف الطيب صالح من خلال كتاباته الروائية والمقالات، ومعلوماتهم عن حياته، تعتمد على مقولات وفرضيات، معظمها غير صحيح، تحيط بفلك هذا الكاتب المشهور وروايته ذائعة الصيت «موسم الهجرة إلى الشمال».

وهذه المقالة تغطي فجوة زمنية مهمة، تقع بين جيل قراء ومعجبي الطيب صالح الجدد وجيلنا نحن. فأنا أنتمي الى جيل قديم انطفأ عنه البريق، ولكنه عرف الطيب صالح شخصيا في شبابه، وكذلك عرفت الأشخاص والأحداث التي شكلت، على الأرجح، خلفية لـ«موسم الهجرة الى الشمال» لأنها كانت رابضة في وعي المؤلف. والدراسة هذه هي عملية تحليل لمعرفة مفاتيح رواية «موسم الهجرة الى الشمال»
roman a_clef بدلا من الفكرة السائدة عنها في المحيط الأدبي كسيرة ذاتية للكاتب كما في دراسة سابقة للناقد رجاء النقاش الذي تعرّف على الطيب صالح في الخليج عندما كان الأخير يعمل هناك، وفي غيرها من الدراسات النقدية لنقاد تبنوا نفس التحليل رغم أن معظمهم لم يتعرّف على طبيعة الحياة في السودان أو في بريطانيا!

وندعي من طرفنا، أن مصطفى سعيد بطل رواية «موسم الهجرة الى الشمال» ليس هو الطيب صالح، ولا يستعير جانباً مهماً من سيرته؟ فمن يكون هذا البطل الروائي اذاً؟

هذا سؤال مثير ليس علينا أن نجفل من إجابته، ولكن دعونا أولاً نؤسس تحقيقنا على أن مصطفى سعيد ليس ولا يمكن أن يكون سيرة ذاتية للكاتب. الطيب صالح ذهب الى المملكة المتحدة عام 1952 لينضم الى فريق القسم العربي بالـ«بي بي سي» حيث ظل يعمل هناك على مدى 15 عاما، قام فيها بأعمال متميزة وبدأ وظيفته كمؤلف. ولكن الحقيقة أنه لم يدرس أبدا في أي جامعة في المملكة المتحدة، بينما مصطفى سعيد بطل الرواية يفترض أنه ذهب الى المملكة المتحدة في منتصف العشرينات، وحقق نتائج أكاديمية رفيعة ونجاحا باهرا. وفي الحقيقة أنه لا يوجد سوداني ذهب الى المملكة المتحدة في العشرينات، وهي واحدة من الأحداث المدهشة في الكتاب. ولكن في الثلاثينات ذهب الى المملكة المتحدة كل من الدرديري إسماعيل ويعقوب عثمان لدراسة القانون.

ما نود تحقيقه الآن هو أن مصطفى سعيد بطل متخيّل على عدة مستويات في ذهن المؤلف، مصطفى سعيد قد صنع من مزج عدة شخصيات التقاهم بالتأكيد الطيب صالح أو سمع بهم عندما ذهب لأول مرة إلى لندن عام 1952، ولكن قبل أن نمعن أو ننطلق في هذه الفرضية علينا أن ننظر الى شخصية البطل ونقسمها الى ثلاثة محاور:

مصطفى سعيد- الأكاديمي السوداني الذي يعيش في لندن.

مصطفى سعيد- «دون جوان لندن».

مصطفى سعيد - وعودته الى موطنه الأول.

يرجح ان مصطفى سعيد الأكاديمي هو شخصية «متكوّنة» من ثلاثة أعضاء في دفعة السودانيين النخبة الذين اختيروا بعناية، وأرسلوا بواسطة الحكومة السودانية عام 1945 لجامعات المملكة المتحدة، وكلهم يمثلون شخصيات بطولية في الوعي الوطني الباكر للسودانيين، أحدهم هو د. سعد الدين فوزي وهو أول سوداني يتخصص في الاقتصاد بجامعة أكسفورد، حيث تزوج فتاة هولندية محترمة ومخلصة وليست شبيهة بالفتيات في الرواية، وحصل على درجة الدكتوراة في العام 1953، وعاد الى السودان، حيث شغل منصبا أكاديميا رفيعا الى أن توفي بالسرطان عام 1959. ولكن قبل ذلك التاريخ في الخمسينات حصل عبدالله الطيب على درجة الدكتوراه من جامعة لندن في اللغة العربية وعيّن بعدها محاضرا في كلية الدراسات الأفريقية والشرقية بالجامعة نفسها، وقبلها بعامين تزوج من فتاة إنجليزية، ومرة أخرى ليست شبيهة بصور فتيات الرواية.

إذا هنا مزج الطيب صالح الشخصيات الثلاثة: سعد الدين وحصوله على شهادة بالاقتصاد من أكسفورد والدكتور عبدالله الطيب وتعيينه محاضرا في جامعة لندن. أما الشخص الأكاديمي السوداني الثالث الذي اقتبس الطيب صالح جزءاً من شخصيته لتمثل الصفة الثالثة عند مصطفى سعيد وهي «الدون جوان، الى حد ما، فهو الدكتور أحمد الطيب. هذا الرجل كان جذابا وشخصية معقدة ومفكرا رومانسيا، وكما حال الأكاديميين من جيله شغله الصراع النفسي بين حياته الحاضرة وإرثه القديم، كما كان مجروح العواطف ومهشما بالطموح السياسي ومنافسات الوظيفة لجيله. وكطالب يافع فإن أحمد الطيب كان معجبا جدا بـ د.هـ. لورنس وفكرة «الحب الحر»، ومن المحتمل أنه عند ذهابه الى إنجلترا كان يضع في ذهنه ونصب عينيه إمكانية إقامة علاقات رومانسية مع الفتيات الإنجليزيات. ولكن أول رحلة له للمملكة المتحدة كانت عام 1945-46 وهي فترة قصيرة، ولكن زيارته الثانية عام 1951-1954 أنجز فيها درجة الدكتوراه في الأدب العربي وتزوج من سيدة بريطانية. وقد فشل هذا الزواج والتقي أحمد بزوجة سودانية لطيفة والتي لحد ما تشابه حسنة- ولكن أحمد الطيب لم يستقر في زواجه، كما هو متوقع، وانتهت حياته في السودان فجأة وبطريقة غامضة ومأساوية. وهو بكل تأكيد معروف تماما الى الطيب صالح، وكان يعيش في لندن عندما ذهب إليها الكاتب لأول مرة.

وعامل آخر يجب أن يذكر في الربط بين الدكتور أحمد الطيب ومصطفى سعيد، هو أن أحمد الطيب كانت له علاقة وثيقة جدا بصحافي لامع شاب وهو بشير محمد سعيد، جاء من منطقة أو حياة قروية تشابه الى حد بعيد بيئة الراوي في «موسم الهجرة الى الشمال».

وإذا عدنا لشخصية الدون جوان عند مصطفى سعيد، فان الطيب صالح لم تكن لديه مبررات عظيمة أو مقنعه لإلقاء نفسه على أجساد النساء الإنجليزيات كانتقام من الإمبريالية لوطنه. أولا، ولنقل بأمانة أن الإمبريالية المذكورة في الرواية ليست بهذا السوء، فإذا كان البريطانيون قد احتلوا السودان وإذا ما كانت لديهم مغامرات في أجزاء من هذا البلد، فذلك لأن التركيب الاجتماعي في تلك المناطق يسمح بإقامة مثل هذه العلاقات بل وحتى يشجعها، ولكن الاستعماريين البريطانيين لم يؤذوا النساء في شمال السودان الإسلامي، لذا فإنه ليس هناك تبرير منطقي لهذا الإنتقام. وترينا الرواية ان الفتيات الإنجليزيات كن ينظرن الى الطلاب الأفارقة كظاهرة مثيرة جديدة تسبح في أفق حياتهن الجنسية والإجتماعية. وفي رأيي أن الكاتب النيجيري شينوا أكليشي تعامل مع هذا الوضع في روايته
No longer at ease وبطلها «أوبي» بطريقة أكثر واقعية وقابلية للتصديق من رواية مصطفى سعيد، الذي تعامل مع الوضع العام كله وكأنه حقيقة إجتماعية في ذلك الزمان. ولذا علينا هنا توضيح الأمر. ففكرة أن إعجاب النساء البيض بالرجال الأفارقة تتبع لأسطورة الرجل الأفريقي القوي جنسيا، هذه الفكرة موجودة لدى العرب أنفسهم، ومؤكدة في بداية رواية ألف ليلة وليلة فشهرزاد مهددة بالموت من زوجها الملك شهريار الذي خانته زوجته الأولى مع عبد زنجي.

كما هناك توضيح آخر يجب أن يوضع في الإعتبار، أن ذلك الجيل من الفتيات والنساء البريطانيات اللواتي تعرّفن على الطلاب الأفارقة في بلادهن في تلك الفترة هن بنات لأمهات حاربن طويلا لأجل المساواة مع الرجل وتخلصن مما يسمى بـ«عقدة أو أسطورة الرجل القوي». ولكن بلا وعي منهن فإن هؤلاء الفتيات كن يبحثن عن الذكر «الجنتلمان»- أو الحمش باللهجة المصرية، وهو الرجل الذي يوافق أدبياتهن وما قرأنه في «روايات جين آير» و«مرتفعات ويزرنج» ونموذج الرجل الغريب الأسود، وهذا ما جعلهن يتوقعن أن يجدنها عند الرجال الأفارقة الذين يبدون واثقين من أنفسهم وقوتهم وشجاعتهم وحمايتهم للمرأة وقناعتهم الثابتة بأنها المخلوق الضعيف الذي يحتاج الى الحماية! وهذا ما فشل الطيب صالح في تصويره. كما أن الفتيات البريطانيات اللواتي أقمن علاقات مع الطلاب الأفارقة كن يعملن على مساعدة هؤلاء الطلاب في بحوثهم الجامعية وكتابتها باللغة الإنجليزية الرصينة. لذا فليس الشكل الخارجي الجذاب لمصطفى سعيد هو الذي قاد الفتيات الإنجليزيات لأن يقعن في غرامه من أول وهلة!

ولحسن الحظ أنه لم تكن هناك قضية جنائية لرجل سوداني قتل فيها سيدة بريطانية أو عشيقة، ولكن كانت هناك قصة مأساوية حدثت في الخمسينات تناقلتها الصحف بتغطية واسعة، كانت القصة بين فتاة بريطانية تدعى ناوومي بيدوك وفتاها السوداني عبدالرحمن آدم، كان الإثنان يدرسان بجامعة كمبريدج ونشأت بينهما علاقة عاطفية. وقام والد الفتى بزيارة مفاجئة الى إنجلترا وعارض هذه العلاقة والزواج المخطط له بين الشابين، مما أعقبه انتحار الفتى بالغاز، ومن ثم انتحار الفتاة ناوومي بعده بأيام وبنفس الوسيلة. وكان والدها العطوف المتسامح بروفسور دان بيدو قد ألقى كلمة حزينة في التحقيق، تعاطف فيها مع قصة حب ابنته وأنه كان يتمنى لها زواجا سعيدا. وهو خطاب يشبه في عاطفيته الذي ألقاه والد الفتاة التي قتلها مصطفى سعيد في روايته للمحكمة.

بل حتى مشهد المحاكمة نفسه نستطيع ان نجد له من مقابل، فقد حدثت في العام 1947 قضية مشهورة جدا حيث قام حارس مطعم سوداني يدعى محمد عباس ألقي عليه القبض لإطلاقه النار على رجل جامايكي، وقد حكم عليه بالقتل الخطأ. وهذه القضية أثارت حساسية لدى المجتمع السوداني بلندن حيث أن كل السودانيين كانوا معتادين الذهاب الى ذلك المطعم في إيست إند ليتناولوا فيه الأطباق السودانية المحببة. وهذه الحادثة كان قد سجلها عبدالله الطيب في صحيفة «الأيام» التي تصدر في الخرطوم عام 1954.

وفي الحقيقة كانت براعة من الطيب صالح أن يقوم بخلط كل تلك الشخصيات والأحداث وإخراج عمل فني رائع منها. أما أكثر الجوانب المثيرة، والمحيطة بمصطفى سعيد فهي عودته لبلده كمواطن غير سعيد، وظاهرة عدم الرضا، وعدم التوافق مع المجتمع الأصل، كان قد تناولها عدد من الكتاب الأفارقة. وهي مشاعر يمكن الإحساس بها في الروايات
No Longer at Ease و The Beautiful one is not yet born و Morning yet inCreation و Not yet Uhuru. والقرية في الرواية شبيهة بقرية الطيب صالح التي قمت بزيارتها بمنطقة الشمالية، وهنا نجد السيرة الذاتية بالتأكيد قد دخلت في نسيج الرواية وتلاقي الأجيال هو حقيقي في القرى، إلا أن التعليقات التي قالتها المرأة العجوز في مجتمع محافظ كمجتمعات القرى يجعل المرء يتساءل من أين أتى الطيب صالح بهذه المرأة؟ وقصة حسنة وزواجها الثاني مناف للواقع حيث أن التقاليد القروية تمنح الأرامل الحرية في اختيار الزوج على عكس العذراوات.

وفي القرى حيث أن أي شخص له الحرية في التدخل في حياة الشخص الآخر وشؤونه وحيث الناس دائما في حالة إجتماع مع بعضهم البعض. ويمكننا تخيل مدى الفضول في قرية نائية تجاه كل جديد وافد. فمن الطبيعي أن شخصا مثقفا عائدا من أوروبا يريد أن تكون له مملكته الخاصة. وهذه الغرفة الخاصة بمصطفى سعيد شبيهة بغرفة كانت في حي العرب بأم درمان، وصاحبها هو المرحوم محمد صالح الشنقيطي. وهو شخصية سودانية لامعة ومن النخب المثقفة، وهو أيضا أول قاض وبرلماني ضليع تلقى تعليمه ببيروت، وقد جاء ذكره وذكر غرفته في رواية
BlackVanguard للكاتب السوري إدوارد عطية التي صدرت في الأربعينات، والذي كان يعمل في مخابرات الجيش البريطاني في السودان. وبالطبع كانت هناك الزيارات العديدة الى منزل محمد صالح الشنقيطي بعد تناول الشاي وبعدها بالتأكيد يذهبون الى الغرفة المهيأة بالأثاث في «الديوان»-الاسم القديم للصالون، المحاط بالزهور. وهي غرفة تبدو عادية من الخارج يهتم بها الشنقيطي يغلقها ويفتحها بنفسه، والكتب بها مرصوصة من الأرض الى السقف ومفروشة بالسجاجيد الفارسية الثمينة والتحف الرومانية. وهذه المكتبة الخاصة تشابه بصورة دقيقة غرفة مصطفى سعيد حيث يسمح للراوي بإلقاء نظرة على الغرفة، وتم إهداء محتويات المكتبة الى جامعة الخرطوم في الذكرى السنوية لرحيله.

وبذا نكون قد حققنا تركيبة الشخصية المعقدة لمصطفى سعيد، في هذه الرواية الشهيرة «موسم الهجرة الى الشمال» ليس استناداً فقط إلى وثائق قرأناها، وإنما إلى حقبة كاملة سنحت الفرصة ان أكون شاهدة على أحداثها.