عرض مشاركة واحدة
قديم 05-05-2012, 11:44 AM
المشاركة 19
زهراء الامير
فرعونيـة من أرض الكنانـة
  • غير موجود
افتراضي
[TABLETEXT="width:100%;background-color:gray;border:10px solid silver;"]
بوسطن 11 كانون الثاني 1921

يا ميّ

ها قد بلغنا قمة عالية فظهرت أمامنا سهول وغابات وأودية , فلنجلس ساعة ولنتحدث قليلاً . نحن لا نستطيع البقاء هنا طويلاً لأني أرى عن بعد قمة أعلى من هذه وعلينا أن نصل إليها قبل الغروب , ولكننا لن نترك هذا المكان إلا وأنتِ فرحة , ولن نخطو خطوة إلا وأنتِ مطمئنة .

قد قطعنا عقبة صعبة المسالك , قطعناها بشيءٍ من التلبك , وإني أعترف لكِ بأنني كنت ملحّاً لجوجاً غير أن إلحاحي كان نتيجة مقررة لشيءٍ أقوى مما ندعوه إرادة . وأعترف لكِ بأنني لم أكن حكيماً في بعض الأمور ولكن أليس في الحياة مالا تبلغه أصابع الحكمة ؟ أليس فينا ما تتحجر الحكمة أمامه ؟ ولو كانت اختباراتي يا ميّ تماثل بوجه من الوجوه ما اختبرته في ماضيّ لما أعلنتها , ولكنها جاءت جديدة غريبة وعلى حين غفلة . ولو كنت إذ ذاك في القاهرة وأظهرتها لكِ شفاهاً وبصورة بسيطة مجردة خالية مما في الشخصيات من المرامي الذاتية لما حدث بيننا سوء تفاهم . ولكن لم أكن إذ ذاك في القاهرة , ولم يكن لدي من وسيلة إلا المراسلة – والمراسلة في هذه "المواضيع" تلبس أبسط الأمور ثوباً من المركبات وتسدل على وجه المجردات نقاباً كثيفاً من الكلفة . فكم مرة نريد أن نبدي فكرة بسيطة فنضعها في ما يتيسر لنا من الألفاظ , تلك الألفاظ التي تعودت أقلامنا سكبها على الورق , فينتج عن كل ذلك " قصيدة منثورة" أو " مقالة خيالية" . أما السبب فهو أننا نشعر ونفكر بلغة أصدق وأصح من اللغة التي نكتب بها . نحن بالطبع نحب القصائد المنثورة والمنظومة ونحب المقالات الخيالية وغير الخيالية , بيد أن العاطفة الحية الحرة شيء والبيان في المراسلات شيء آخر . مذ كنت صبياً في المدرسة وأنا ابتعد بقدر استطاعتي عن التعابير القديمة المتداولة لأنني كنت ولم أزل أشعر بأنها تخفي الفكر والعاطفة أكثر مما تظهرهما , ولكن يبدو لي الآن أنني لم أتملص مما أتبرم منه – يبدو لي أنني كنت منذ سنة ونصف سنة حيث كنت وأنا في الخامسة عشر , ودليلنا على ذلك ما أثمرته رسائلي من سوء التفاهم .

أقول ثانية أنني لو كنت في القاهرة لوقفنا أمام اختباراتنا النفسية وقوفنا أمام البحر أو أمام النجوم أو أمام شجرة تفاح مزهرة . ومع كل ما في اختباراتنا من الغرابة فهي ليست بأغرب من البحر أو من النجوم أو من الشجرة المزهرة , ولكن من العجائب أننا نمتثل ونستسلم إلى معجزات الأرض والفضاء وفي الوقت نفسه نستصعب تصديق ما يظهر في أرواحنا من المعجزات .

كنت أعتقد يا ميّ , وما برحت أعتقد , أن بعض الاختبارات لا تحدث إلا إذا اشترك بها اثنان في وقت واحد . وربما كان هذا الاعتقاد سبباً أولياً لتلك الرسائل التي جعلتك أن تقولي لنفسكِ "يجب أن نقف هنا" الحمد لله لأننا لم "نقف هناك" . الحياة يا مي لا تقف في مكان من الأمكنة , وهذا الموكب الهائل بجماله لا يستطيع سوى المسير من لا نهاية إلى لا نهاية . ونحن , ونحن الذين نقدس الحياة ونميل بكل قوانا إلى الصالح والمبارك والعذب والنبيل في الحياة , نحن الذين نجوع ونعطش إلى الثابت الباقي في الحياة لا نريد أن نقول أو نفعل ما يوعز الخوف أو ما "يملأ الروح شوكاً وعلقماً" . نحن لا نريد ولا نقدر أن نلمس جوانب المذبح إلا بأصابع طهرت بالنار . ونحن إذا احببنا شيئاً يا ميّ نحسب المحبة نفسها محجة لا واسطة للحصول على شيء آخر , وإذا خضعنا خاشعين أمام شيء علوي نحسب الخضوع رفعة والخشوع ثواباً وإذا تشوقنا إلى شيء نحسب الشوق بحد ذاته موهبة ونعمة . ونحن نعلم أن أبعد الأمور هو أخلقها وأحقها بميلنا وحنيننا , ونحن – أنت وأنا- لا نستطيع حقيقةً أن نقف في نور الشمس قائلين " يجب أن نوفر على نفوسنا عذاباً نحن بغنى عنه " لا يا ميّ , نحن لسنا بغنى عما يضع في النفس خميرة قدسية , ولسنا بغنى عن القافلة التي تسير بنا إلى مدينة الله , ولسنا بغنى عما يقربنا من ذاتنا الكبرى , ويرينا بعض مافي أرواحنا من القوى والأسرار والعجائب . وفوق كل ذلك فنحن نستطيع أن نجد السعادة الفكرية في أصغر مظهر من مظاهر الروح , ففي الزهرة الواحدة نشاهد كل ما في الربيع من الجمال والبهاء , وفي عيني الطفل الرضيع نجد كل ما في البشرية من الآمال والأماني . لذلك لا نريد أن نتخذ أقرب الأشياء وسيلة أو مقدمة للوصول إلى أبعدها , كما أننا لا نريد ولا نقدر أن نقف أمام الحياة ونقول مشترطين "أعطنا ما نريد أو لا تعطينا شيئاً – إما ذاك وإما لا شيء" لا يامي , نحن لا نفعل ذلك لأننا نعلم أن الصالح والمبارك والثابت في الحياة لا يسير كما نشاء بل يسيرنا كما يشاء . وأيّ مطمع لنا وسبعة آلاف ميل تفصلنا , في إعلان سر من أسرار أرواحنا سوى التمتع بإعلان ذلك السر ؟ وما هي غايتنا من الوقوف بباب الهيكل سوى مجد الوقوف ؟ ماذا يا ترى يبغي الطائر إذا ترنم والبخور إذا احترق ؟ أو ليس في هذه النفوس المستوحدة سوى المنازع المحدودة ؟

ما أعذب تمنياتك لي في يوم مولدي وما أطيب أريجها . ولكن اسمعي يا مي هذه الحكاية الصغيرة واضحكي قليلاً على حسابي! شاء نسيب عريضة أن يجمع " دمعة وابتسامة" في كتاب , وذلك قبل زمن الحرب , وشاء أن يحشر مقالة " يوم مولدي" بين تلك القطع الضئيلة , ورأى أن يضع التاريخ مع العنوان ولم أكن حينئذ في نيويورك , فأخذ يبحث – وهو بحّاثة لا يكل ولا يمل – حتى وجد تاريخ ذلك اليوم البعيد باللغة الانكليزية فترجم " JANUARY 6 th " إلى " 6 كانون الاول"! وهكذا خصم من سني حياتي سنة وأخر يوم مولدي الحقيقي شهراً ! ومنذ ظهور كتاب دمعة وابتسامة حتى اليوم وأنا أتمتع في كل سنة بيوميّ مولدي , الأول أوجدته غلطة في الترجمة أما الثاني فلا أدري أي غلطة في الأثير أوجدته ! وتلك السنة التي سُرقت مني – يعلم الله وأنتِ تعلمين أنني اشتريتها غاليةً , اشتريتها بنبضات قلبي , اشتريتها بسبعين وزنة من الألم الصامت والحنين إلى ما لا أعرفه , فكيف أسمح لغلطة في كتاب أن تسلبني إياها ؟

أنا بعيد عن "الوادي" يا مي . جئت هذه المدينة – بوسطن – منذ عشرة أيام لعمل تصويري , ولو لم يبعثوا إليّ ببقجة من الرسائل الواردة إلى عنواني في نيويورك لعشت عشرة أيام أخرى بدون رسائلك , هذه الرسالة التي حلت ألف عقدة في حبل روحي , وحولت الانتظار , وهو صحراء , إلى حدائق وبساتين . الانتظار حوافر الزمن يا ميّ , وأنا دائما في حالة الانتظار . يخال لي في بعض الأحايين أنني أصرف حياتي مترقبا حدوث ما لم يحدث بعد , وما أشبهني بأولئك العمي والمقعدين الذين كانوا يضطجعون بقرب بركة " بيت حسدا" في أورشليم " لأن ملاكاً كان ينزل أحيانا في البركة ويحرك الماء فمن نزل أولا بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه". ( بيت حسدا : إشارة إلى اليعازر وقيامته من الموت في انجيل متى .)

أما اليوم , وقد حرك ملاكي بركتي ووجدت من يلقيني في الماء , فإني أسير في ذلك المكان المهيب المسحور وفي عيني نور وفي قدمي عزم . أسير بجانب خيال أجمل وأطهر لبصيرتي من حقيقة الناس كافة , أسير وفي يدي يد حريرية الملامس ولكنها قوية وذات إرادة خاصة , ولينة الأصابع ولكنها تستطيع رفع الأثقال وتكسير القيود . وبين الآونة والأخرى ألتفت فأرى عينين مشعشعتين وشفتين تداعبهما ابتسامة جارحة بحلاوتها .

قلت لكِ مرة إن حياتي مقسومة إلى حياتين وإني أصرف الواحدة منهما بين العمل والناس والثانية في الضباب . قد كان ذلك بالأمس , أما اليوم فقد توحدت حياتي وصرت اشتغل في الضباب وأجتمع بالناس في الضباب , وأنام وأحلم ثم استيقظ وأنا في الضباب . هي نشوة محاطة بحفيف الأجنحة , فالوحدة فيها ليست بالوحدة , وألم الحنين إلى غير المعروف أطيب من كل شيء عرفته . هي غيبوبة ربانية يا ميّ , هي غيبوبة ربانية تدني البعيد وتبين الخفي وتغمر كل شيء بالنور . أنا أعلم الآن أن الحياة بدون هذا الانجذاب النفسي ليست سوى قشور بغير لباب . وأحقق أن كل ما نقوله ونفعله ونفكر به لا يساوي دقيقة واحدة نصرفها في ضبابنا .

وأنت تريدين كلمة " نشيد غنائي" أن تحفر في قلبي ! تريدينها أن تنتقم لك من هذا الكيان الخافت الذي يحملني وأحمله . لندعها تحفر وتحفر وتحفر , بل لننادي جميع الأناشيد الغنائية الهاجعة في الأثير , ولنأمرها أن تنتشر في هذه البلاد الواسعة لتحفر الترعات , وتمد السبل وتبني القصور والأبراج والهياكل , وتحول الوعر إلى حدائق وكروم لأن شعباً من الجبابرة الفاتحين , وفي الوقت نفسه أنت ابنة صغيرة في السابعة تضحك في نور الشمس و تركض وراء الفراشة وتجني الأزهار وتقمز فوق السواقي . وليس في الحياة شيء ألذ وأطيب لديّ من الركض خلف هذه الصغيرة الحلوة والقبض عليها ثم حملها على منكبي ثم الرجوع بها إلى البيت لأقص عليها الحكايات العجيبة الغريبة حتى تكتحل أجفانها بالنعاس وتنام نوماً هادئاً سماوياً .

جبران خليل جبران

يتبع لاحقاً
[/TABLETEXT]