عرض مشاركة واحدة
قديم 12-24-2011, 11:41 AM
المشاركة 177
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي

الطيب صالح في مرآة جورج طرابيشي النقدية
سماححكواتي
ثقافة
الاثنين 29-6-2009
حظي الروائي السوداني الطيب صالح «الذيرحل عن دنيانا مؤخراً» باهتمام نوعي في مؤلفات الناقد والمفكر والمترجم السوري جورجطرابيشي، ترجم هذا الناقد المولود في حلب عام 1939 أكثر من مئتين وعشرين كتاباً عنالفرنسية إلى العربية
تضمنت ترجمةالأعمال الكاملة لكل من فرويد وسارتر وماركس وهيجل، إلى جانب عشرة مؤلفات في النقدالإجرائي التطبيقي للرواية العربية، كان حظ «صالح» وافراً منها، إذ درس طرابيشيروايته الثانية «موسم الهجرة إلى الشمال» 1966 في كتابين من كتبه، هما «شرق وغرب،رجولة وأنوثة»«1» 1977 والمثقفون العرب والتراث، التحليل النفسي لعصاب جماعي«2» 1991
ولعل كتاب «شرقوغرب»من أبرز الكتب التي عرفت القارئ العربي بروائي من أقصى الجنوب العربي، فالطيبصالح ولد في مركز مروى المديرية الشمالية للسودان، عام 1929 ودرس في وادي سيدناوتخرج من كلية العلوم في الخرطوم، ثم مارس التدريس، إلى أن عمل في الإذاعةالبريطانية في لندن، حيث نال شهادة في الشؤون الدولية، كما شغل منصب ممثل اليونيسكوفي دول الخليج بين عامي 1984-1989 وقد غلب الطابع الشعبي السوداني على ماقدم منأعمال روائية بدءاً بروايته الأولى «عرس الزين» 1962 مروراً بروايته الثانية «موسمالهجرة إلى الشمال» 1966 ورواية «مريود» ورواية «نخلة على الجدول» وانتهاء برواية «دومة ود حامد».‏
ويبدو أن نشرروايته موسم الهجرة إلى الشمال منجمة في مجلة «حوار» اللبنانية، قدم هذه الروايةإلى القراء العرب على نطاق واسع بعد عامين من نشرها أي عام 1968، مما دفع بالناقد «رجاء النقاش» إلى نشرها من جديد عام 1969 في دار الهلال التي كان يترأسهاآنئذ«3».‏
وقد سبق طرابيشيإلى دراسة الطيب صالح بكتاب وضعه مجموعة من النقاد اللبنانيين عام 1976 بعنوان «الطيب صالح عبقري الرواية العربية»، أي قبل صدور كتاب طرابيشي بعام واحد، كماتزامن مع صدور كتاب «المغامرة المعقدة» لمحمد كامل الخطيب «4» لكن أهمية كتاب «شرقوغرب» تكمن في المنظورين الجديدين اللذين تناول بهما الرواية مبتعداً عن التوصيفوالأحكام النقدية السريعة التي قدمها الخطيب في كتابه آنف الذكر، نتيجة للعددالكبير من الأعمال الروائية التي درسها في هذا الكتاب.‏
حاول جورجطرابيشي تفسير هذا الإقبال النقدي على دراسة رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» فيالنصف الثاني من السبعينيات بصدورها في أوج الاعتمال الداخلي للهزيمة الحزيرانية،فحظيت بكل القبول لدى القراء العرب، ولاغرو أن تكون شخصية بطلها قد أغرت المئات- وربما الآلاف- منهم بتقمصها والتماهي معها، باعتبارها شخصية حاملة لهوية قوميةوجمعية «5».‏
ويتابع طرابيشيهذا التأويل في كتابه «المثقفون العرب والتراث» فيوازن بين شخصية بطلها «مصطفىسعيد» وشخصية «حامد القادوري» في قصة «زمن الهجرة والتمرد» التي تنوء تحت العقدةالحضارية حتى قاع اليأس والقنوط، في حين ان مصطفى سعيد استطاع أن يمد جسوراً تحتيةإلى لاشعور القارئ العربي، وأن يفتح له أقنية لتصريف ضغط العقدة الحضارية التيفعلتها الهزيمة الحزيرانية تفعيلاً منقطع النظير.‏
لقد رأى طرابيشيأن هذه الهزيمة عامل مهم من عوامل العصاب الحضاري الذي جسدته هذه الشخصية،وشخصياتأخرى في أدب هذه المرحلة، ومن هنا اتخذ هذا العصاب شكل غزو للبلاد التي غزته منقبل، وبذلك يتجلى تميزه عن غيره من شخصيات الهزيمة بأنه في حضيض «الخصاء» بالمعنىالتاريخي والحضاري استطاع أن يقلب المعادلة، فيغزو البلاد التي غزت بلاده.‏
وينسجم هذاالتأويل مع منهج طرابيشي في المزاوجة بين المنهجين النفسي والواقعي في النقدالأدبي، فقدم بعداً جديداً للعقدة الحضارية التي عانتها تلك الشخصية، وهو بعد جماعيجسده فرد بعينه، مما يفسر إعجاب النقاد والقراء العرب بهذه الشخصية.‏
ويبدو أن تفسيرالرؤية الرجعية للغرب تحت ضغط الهزيمة الحزيرانية قابل للنقاش، فالرواية صدرت قبلالهزيمة بعام، الأمر الذي يباعد بين الهزيمة والرضّة الحضارية التي عاناها «مصطفىسعيد» زمنياً، إلى جانب البعد الجغرافي للمكان الذي تدور فيه أحداث الرواية عنجغرافية الهزيمة، الأمر الذي يخفف من تأثيرها على أدب تلك المنطقة، مما ينفي هذاالتفسير، لاسيما أن طرابيشي لم يتكلم على إرهاصات أو تنبؤ بالهزيمة، إنما علىمؤثرات لها على رواية الطيب صالح وأدب السبعينيات عامة.‏
أما كتابه «شرقوغرب» ،«رجولة وأنوثة» 1977 فهو يقدم أبعاداً جديدة للرواية نفسها، تحت عنوان موسمالهجرة إلى الشمال، أو الجغرافية التي قلبت معادلة التاريخ» «6» وهي أبعاد حضاريةسياسية ونفسية.‏
يحلل طرابيشيحضارياً علاقة الشرق بالغرب، تلك العلاقة التي انقلبت جغرافياً إلى علاقة الجنوببالشمال، وقد جسدت هذه العلاقة جملة من المكبوتات والعقد التي اهتم طرابيشيبتحليلها نفسياً، للوقوف على دوافع الثأر الكامنة وراء سعي الشخصية الرئيسية «مصطفىسعيد» إلى اصطياد النساء الأوروبيات، متأثراً بالعقدة النفسية ذاتها التي رآها «فرانز فانون» في كتابه «معذبو الأرض» عندما حلل نفسية الزنجي الذي عانى آثارالاستعمار.‏
وقد رد طرابيشيهذه العقدة الحضارية إلى الشعور بالدونية الذي خلفه الاستعمار الانكليزي للسودان،من دون الإشارة إلى الرضة الحضارية التي خلفتها الهزيمة الحزيرانية التي تحدث عنهافي كتابه «المثقفون العرب والتراث».‏
لذا كانت هذهالعلاقة علاقة بحث عن التفوق، عبر الثأر من الغرب المتمثل بالمرأة الأوروبية، وقدأشادت الألمانية «روتراود فلاندت» بهذه الدراسة، لاسيما التحليل المعمق لدوافعالمثقف الشرقي «مصطفى سعيد» لهذا الثأر، بتحليل عقد هذه الشخصية ومكبوتاتها نفسياً «7».
وقد اجتهدطرابيشي -إلى جانب ماسبق- في دراسة صورة المرأة الأوروبية في هذه الرواية، ليجدفيها صورة نمطية حرصت الإيديولوجيا الرجعية للرواية العربية على إسباغها على المرأةالأوروبية غالباً، مما يجعلها صورة لاتفصح عن حقيقة المرأة الأوروبية، بقدر ماتفصحعن إيديولوجيا المثقف الشرقي الذي اختزل الغرب إلى امرأة، بدافع الثأر لشرقهالكليم، ولدونيته الحضارية والثقافية.‏
إن تحليل عقدةالدونية والتفوق، قادته إلى دراسة دوافع التعويض، بهدف الكشف عن العقد الشعوريةواللاشعورية التي تتحكم بموقف شخصية مصطفى سعيد، ومن ورائها المثقف الشرقي المتبنيلشرقيته من أوروبا ومن الغرب عامة، وقد حاول إبراز التجليات الفنية الجمالية للعقدالنفسية، بتجاوز إطارها الفردي، إلى عصاب إيديولوجي لمجتمع بأكمله، إيديولوجيالاواعية جمعية، تتحكم بعلاقة الشرقي بالغرب، الأمر الذي يجعل عصابه اختزالاً لعصابمجتمع الشرق وأزماته، ومن هنا، ينتقد طرابيشي أية محاولة يقوم بها «مصطفى سعيد» للتسامي والتفوق، بطريق قلبه ضعفه الثقافي إلى سادية جنسوية، مما قاده إلى تحليلفصام هذه الشخصية وانقسامها بين العقل والروح، فكان برأيه إنساناً فرويدياً يحمل فيداخله غريزتي«الإيروس» أي غريزة الحب، «التاناتوس» أي غريزة الموت«8»، من دون أنيكون واعياً لهذا الفصام، مما يفسر رغبة مصطفى سعيد بتدمير الحضارة الأوروبيةوامتلاكها في آن معاً.‏
اهتم طرابيشي فيآخر هذه الدراسة بلغة الرواية المشحونة بطاقة رمزية عالية، منتقداً ألفاظ الاصطيادوالافتراس التي جسدتها هذه الرواية، لكنه بالغ في تفسير المرموزات، مغفلاً المستوىالواقعيللرواية.‏
وهكذا قدمطرابيشي دراسة اجتماعية عنيت بالعلاقات الحضارية بين الشرق والغرب مقارنياً،كماعنيت بتفسير العقد والمكبوتات تفسيراً نفسياً فردياً وجمعياً بطريق التداعيات الحرةالفردية، التي عادت إلى طفولة مصطفى سعيد، مما يجسد طريقة فرويد في التحليل النفسيالتي ترد العصابات إلى الحياة الطفلية، مع العلم أن طفولة تلك الشخصية نشأت في ظلالاستعمار، وتثقفت ثقافته.‏
لقد عني طرابيشيبالدراسة النفسية الداخلية للشخصيات الفنية، وتجاوز ذلك بالجمع بين علم النفسالفردي لآدلر وعلم النفس الجمعي ليونغ، إلى جانب عنايته بالإنسان الفرويدي، فكانتدراسته النفسية داخلية خارجية أيضاً، في مواطن الربط بين البيئة النفسية الداخليةللشخصيات الفنية، والبيئة الاجتماعية المحيطة بها، مع ربطه أحياناً بينها وبينالمبدع.‏
ولعل هذا مايميزهذه القراءة النفسية الاجتماعية لرواية الطيب صالح من القراءات النفسية الأخرىللرواية نفسها، ولروايات أخرى، فرصد العقد النفسية والعصابات اللاشعورية للشخصياتالفنية، قد يقود إلى نتائج متشابهة، نظراً لتشابه العقد النفسية، وتماثل أسبابهاودوافعها علمياً، لكن ربط طرابيشي هذه العقد الفردية بالمحيط الاجتماعي يسهمإسهاماً كبيراً في تقديم قراءة نفسية مختلفة ومتميزة، نظراً لاختلاف المحيطالاجتماعي للشخصيات الفنية بين عمل وآخر، مما يجعل هذه الدراسة جادة وأصيلة فيبابها، لايغض من أهميتها التشابه الذي أشار إليه نبيل سليمان في كتابه «مساهمة فينقد النقد»«9» مع كتاب محمد كامل الخطيب «المغامرة المعقدة» لأن دراسة طرابيشي أكثراتساعاً في درس هذه الرواية وفق المنهج النقدي المقارن، المدعوم بالمنهج النفسيوالمنهج الواقعي الاشتراكي، تناولاً ينسجم مع مضمون الرواية المتنوع بمحمولاتهالحضارية والنفسية والإيديولوجية.‏