عرض مشاركة واحدة
قديم 02-24-2024, 01:11 AM
المشاركة 9
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
الخلاصة.
بعد التمهيد البريطاني الكبير وَصُنع البيئة المناسبة لتفعيل المشروع بدأ التنفيذ الفعلي بتجنيد حاخامات القدس لكي يقوموا بدورهم أيضا، وعلى الفور بدأ الحاخامات بشرح الموضوع لليهود في الشام، وقام حاخام القدس الأكبر بإرسال رسالة إلى الملكة (فيكتوريا) ملكة إنجلترا ومعها حجاب واقي من الشرور كهدية تقدير ودعاء من يهود العالم عام 1849م، وقام روتشيلد بتسليم الحجاب والرسالة للملكة وإعلان مطالبهم التي تمثلت في الآتي:
• إعلان قبول يهود العالم للحماية البريطانية
• التوجه برجاء للحكومة الإنجليزية أن تسهل لليهود استعمار فلسطين.

وفجأة وقعت واقعة قدرية أخرى دفعت الحوادث دفعا لزيادة حماسة بريطانيا وأوربا للمشروع الصهيوني عندما قامت الحرب في شبه جزيرة (القرم) -وكما يقول هيكل – إن الحرب كانت تعبيرا عن دفع الحوادث دفعا بعد أن أدت معارك القرم إلى تدفق هجرات يهود البلقان إلى أوربا الغربية طالبين يد العون من أبناء ديانتهم هناك.
ثم يضيف هيكل:
"كانت الحوادث أيضا هي التي دفعت إلى القمة في بريطانيا بجيل جديد من الساسة الإنجليز لم يكونوا أقل حماسة من أسلافهم، حيث تناوب على رياسة الوزارة البريطانية في إنجلترا اثنان من الساسة هما (جلادستون) البروتستانتي و(دزرائيلي) أول وآخر يهودي يتولى رياسة الحكومة البريطانية
باختصار يشرح لنا مفكرنا الكبير هيكل أن الحوادث القدرية التي وقفت خلف إحياء المشروع الصهيوني في بدايته من حيث تفجر المشكلة اليهودية في أوربا، تكررت أيضا بشكل أكثر تأثيرا عندما تفجرت حرب القرم التي زادت من فداحة الهجرة اليهودية داخل أوربا الغربية.
ثم كانت الحادثة القدرية الأشد في أن الساسة البريطانيين الذين خططوا للمشروع الصهيوني وهم (شافتسبري) بمعتقداته الإنجيلية التي تؤمن بضرورة دفع اليهود للتوطن بفلسطين، و(بالمرستون) رئيس الوزراء الطموح الهادف لتحقيق أحلام بريطانيا في الشرق.
هؤلاء الساسة تركوا مقاعدهم في مراكز اتخاذ القرار البريطاني ليأتي في أماكنهم من هم أشد حماسة للمشروع الصهيوني من سابقيهم.
وهما (جلادستون) الذي كان إنجيليا مثل (شافتسبري)، و(دزرائيلي) الذي كان يهوديا أصلا.
"

أما الواقعة التي أراها من وجهة نظري أشد من كل الحوادث السابقة لها، وكان لها الدور الأعظم في بدء توطين وإنشاء المستعمرات اليهودية فعلا في فلسطين.
فهي واقعة موت الخديو (سعيد) والي مصر، ليتولى بعده الخديو (إسماعيل) عرش مصر كأول أحفاد (محمد علي باشا)، حيث أن إسماعيل هو ابن (إبراهيم) باشا ابن محمد علي.
فلم يحدث في تاريخ مصر المعاصر أن قامت في مصر دولة عظمى مثل (دولة محمد علي) امتلكت في سنوات قليلة نهضة علمية وعسكرية هائلة، وتمكنت من الوصول بحدودها إلى منابع النيل.
ورغم ذلك تنهار الدولة على يد والٍ مثل إسماعيل فيما لا يزيد عن عشر سنوات.
والواقع أن القدر فعلا هو الذي حكم بمثل هذه النهاية العجيبة، لأن محمد علي رغم أنه تلقى الهزيمة من التحالف الأوربي الكاسح ضده إلا أنها لم تكن هزيمة بالمعنى الكامل وإنما هي أقرب للتعادل حيث استقل محمد علي بمصر فعليا، واستكمل فتوحاته في العمق الإفريقي وبقي جيشه قوة عسكرية لها حساب يدعمها أسطول قوي.
كما امتلكت مصر خليفة له يماثله قوة هو ابنه وولي عهده وقائد جيشه (إبراهيم باشا) الذي لم يكن يقل أبدا عن أبيه في خبرته العسكرية والسياسية وإدراكه لتغيرات السياسة الدولية، لكن مع الأسف انهارت صحة (محمد علي) في أخريات عمره وأصيب بأعراض داء (السعار) رغم أنه لم يصب منه أصلا بعدوى
ولهذا اعتزل وتولى مكانه إبراهيم باشا للحكم نيابة عنه، لكن القدر أيضا تدخل بموت إبراهيم باشا في حياة أبيه، ليتولى بعده (عباس) باشا و(سعيد) باشا على الترتيب
وكلاهما كانا أبعد ما يكون عن رجال الدولة، ومع الأسف لم يكن هناك في أبناء محمد علي من يمكن أن يماثله قوة وخبرة إلا (طوسون) الابن الأكبر و(إبراهيم) وكلاهما مات في حياة أبيه، وكانت المعضلة الكبرى أن سياسة عباس وسعيد فتحت الباب أمام النفوذ الأجنبي في مصر ليصبح بلاط الحكم مُخْتَرقا من الأوربيين
وهو الذي أدى فيما بعد لكارثة موافقة الخديو (سعيد) على مشروع إنشاء قناة السويس بعد إلحاح صديقه (فرديناند ديلسيبس) والذي لم تقتصر كوارثه على أن المشرع كان باتفاقية مجحفة للغاية أضاعت حق مصر في المشروع حيث امتلكت الشركة الفرنسية نصف القناة دون أن تتكلف شيئا أصلا، فضلا على أن اتفاقية المشروع التي مَثّلَت انتهاكا صارخا لسيادة الدولة على جزء من أراضيها
بالإضافة إلى تجنيد واستعباد الآلاف من المصريين للعمل بالسخرة في حفر القناة
لم تقتصر كوارث المشروع على هذا، بل كانت كارثته الكبرى أن القناة فتحت الباب لمطامع الدول الأوربية في مصر بأضعاف مضاعفة نظرا لأن قناة السويس قدمت حلا عبقريا لاختصار المسافة البحرية بين أوربا وشرق آسيا مما يعني أن مصر أصبحت أكثر أهمية بمراحل مما كانت عليه، بعد أن أصبحت قناة السويس أهم مجرى ملاحي في العالم للتجارة الدولية.
وهذا السبب تحديدا هو الذي دفع (محمد علي) لرفض مشروع قناة السويس رفضا باتا لنفس السبب، وقد كان رفضه عبقرية حقيقية تدرك جيدا أنه مهما كانت منافع المشروع فإن خطره أعظم لأن المشروع سيدفع أوربا للتحالف مرة أخرى على مصر بغرض السيطرة التامة عليها هذه المرة.
وهو ما تحقق بالفعل.
ليأتي الوقت الذي تحققت فيه الواقعة التي قلنا عنها أنها الأخطر من سابقيها في التأثير على نمو المشروع الصهيوني، ألا وهو تولى الخديو (إسماعيل) حكم مصر.
وكانت شخصية إسماعيل شخصية شديدة الاختلال النفسي، يشعر بالانحدار والضآلة بشدة تجاه أوربا وقصور الحكم فيها مع شعوره بالاحتقار لمصر والمصريين، وعندما جاءته فرصة الحكم -الذي لم يكن يتوقعه في الأصل-ازدادت حالته ضراوة، فأصبح يرى نفسه أعلى من مصر والمصريين وأقل من الأوربيين.
ولا يوجد أخطر من تلك النوعية من الشخصيات التي تدفعها الأقدار للرياسة بينما لا تتناسب مؤهلاتهم ولا توازنهم النفسي ولا طبيعتهم على الصعود السريع لقمة الحكم، لأنها في الأصل شخصيات تعودت على التبعية لا على الاستقلال، والنظر للأكثر قوة على أنه الأفضل والأعلى حتى لو كان عدوا.
لذلك تكون عقليتهم القاصرة ونفوسهم المتدنية سببا في تدمير أوطانهم طبقا للحكمة العربية الشهيرة التي تقول:
(وما في الظلم مثل تحكم الضعفاء)
فالانهزامية تسيطر على تلك النوعية –مهما امتلكت من القوة – لذلك فهم يوجهون أنفسهم لمن يشعرون أنهم أقوى منهم فيتخذونهم مثلا وقدوة طبقا لمقولة ابن خلدون.
(المغلوب مولع بتقليد الغالب)
وكان إسماعيل من تلك النوعية لا يحمل انتماء دينيا أو قوميا للحضارة الإسلامية، ويشعر بالانتماء والانبهار لأوربا بكل تقاليدها الإباحية وعنصريتها المقيتة، لذلك أعلن عن أهدافه التي كان أهمها هو تحويل مصر إلى قطعة من أوربا في الشكل الخارجي والقشرة الحضارية لا في القوة والنفوذ فقد كان على عكس أبيه وجده لا يشعر مطلقا بالعداء تجاه أوربا.
وليت أن شعوره بالضعف والضالة أمام الأوربيين كان في مسألة تفوقهم العسكري أو نفوذهم العالمي، بل كان انبهاره مُنْصَبا فقط على القصور والأبنية الضخمة وحياة الترف والبذخ الهائل التي كانت سببا في وقوع الثورة الفرنسية لكون رفاهية القصور والأبنية العملاقة كانت تتم على حساب طبقات الشعب المطحونة في أوربا بذلك العهد.

واتجه إسماعيل من فوره إلى سياسة تجميع الأموال من أي مصدر وكل مصدر فزادت الضرائب في عهده لأرقام خزعبلية واستمرت تنمو عاما بعد عام طيلة حكمه.
واستوزر لأجل ذلك وزيره (إسماعيل المفتش) الذي ولاه الوزارة المالية، ولم تكن مهمة (المفتش) هي إدارة المالية المصرية بل كانت مهمته الرئيسية هي إدارة أموال مصر للخزانة الخديوية وحدها والحرص على تنفيذ رغبات إسماعيل الترفيهية.
ولم تكف الميزانية المصرية هذا الإنفاق المهول الذي صرفه إسماعيل على إنشاء القصور الضخمة في كل مكان في مصر، وإنشاء الحدائق والنوادي والمتنزهات في كل شبر من المدن الكبرى حتى بلغت عدد قصوره واستراحاته أكثر من مائة قصر واستراحة في كافة أرجاء مصر!
وكان أول قصوره هو بناء قصر (عابدين الشهير) كمقر حكم هائل له، وهذا القصر تتصاغر أمامه قصور القياصرة والأكاسرة من حيث المساحة الرهيبة له ولحديقته وللتحف الرهيبة التي ملأ بها أرجاء القصر وكانت كل تحفة منها يعادل ثمنها ثمن إصلاح أحوال قرية كاملة من الفقر.
وقد بلغت التكلفة النهائية لقصر عابدين 700ألف جنيه إسترليني للبناء فقط، بينما بلغ ثمن التحف من اللوحات الفنية لكبار فناني أوربا، والتماثيل المرمرية، والديكورات الذهبية، حوالي 2مليون جنيه مصرd.
وقد زادت تكلفة بناء القصر عن الميزانية الموضوعة له بمقدار 28000 جنيه إسترليني بسبب هذه التحف، بخلاف مبلغ هائل آخر لإصلاح ما أفسده الحريق الذي شب في القصر عام 1879م.
وهنا لجأ إلى الاقتراض الأوربي لتغوص مصر في عهده حتى أذنيها في الديون خاصة بعد أن حرصت أوربا على تمويله بكل ما يطلبه لأن سياسة الإقراض كانت سياستهم المفضلة التي أوقعت البلاط العثماني في حبائل أوربا بعد أن بلغت الديون الأوربية للعثمانيين قرابة 18 مليون جنيه إسترليني.
واستدانت مصر ضعف هذا الرقم من أوربا، لتقع الواقعة عندما عجز الخديو إسماعيل عن السداد وانهارت مالية البلاد، ورغم هذا أصر إسماعيل على أنه لم يخطئ بل رأى أنه أحال مصر لقطعة من أوربا فعلا، ووصل به العته إلى أنه أنفق على حفل افتتاح قناة السويس 2 مليون و400 ألف جنيه، كانت منها تكلفة بناء قصر ضخم للغاية كي تقيم فيه الإمبراطورة (أوجيني) ملكة فرنسا وزوجة (نابليون الثالث) لأن إسماعيل كان مغرما بها، فبنى لها قصرا يماثل قصر الحكم الفرنسي نفسه، لتقيم فيه فقط مدة استضافتها خلال حفل الافتتاح!
وبالطبع كانت النتيجة متوقعة، حيث لجأ للحل الوحيد الذي رأى أنه سينقذه من بعض التزامات الديون التي تورط فيها.
ألا وهو رهن حق مصر في قناة السويس لتصبح القناة بأكملها رهنا للأوربيين!

وقد كان إسماعيل يرغب في بيع حقوق القناة بثمن كاش مباشر وبشكل سري حتى لا ينقض الدائنون على ثمن القناة فيسلبونه منه.
ووصل الخبر إلى إنجلترا، ليجدها رئيس الوزراء (دزرائيلي) فرصة هائلة كي تضع إنجلترا قَدَمَها في مصر بشكل نافذ إلى جوار القدم الفرنسية الموضوعة بالفعل منذ تأسيس مشروع القناة.
ورغم أن الخزانة البريطانية لم تكن تحتمل تسديد الثمن الذي يطلبه إسماعيل وهو أربعة ملايين جنيه ذهبا.
فكان الحل أن قام دزرائيلي بمخاطبة (روتشيلد) راعي المشروع الصهيوني ورئيس أكبر عائلة من حيث الثراء في أوربا لتدبير مبلغ الصفقة، وكان دزرائيلي يدرك أن المبلغ كبير حتى على قدرات العائلة كونه سيكون ثمنا لمشروع واحد.
إلا أن دزرائيلي لم يكن يُقَدّر عبقرية روتشيلد الثعلبية حق قدرها، لأن روتشيلد بمجرد أن سمع بعرض القناة أدرك على الفور أن امتلاك إنجلترا لقناة السويس معناه أن بريطانيا ستقطع خطوة هائلة في طريق المشروع الصهيوني.
فالسيطرة المالية على مصر كفيلة وحدها بتحييد مصر عن التدخل في الشأن الفلسطيني وهو أقصى ما يتمناه كل كبار المشروع الصهيوني.
لهذا بادر روتشيلد بتدبير المبلغ لرئيس الحكومة في يوم واحد فقط.
وتم لهم ما أرادوا.

ورغم كارثية الصفقة على مصر إلا أن إسماعيل لم يكن قد تراجع أو ندم على سياسته المترفة التي أضاعت مالية البلاد على مشروعات لا فائدة منها.
فقام بتبديد المبلغ الهائل الذي استلمه، ليقوم دائنو مصر بتشكيل ما يُعرف بصندوق الدين المصري والذي كان من نتيجته أن أجبرت أوربا الخديو على تعيين وزيرين أجنبيين في الحكومة يمثلان بريطانيا وفرنسا، أحدهما وزير للمالية والآخر وزيرا للأشغال لتصبح مالية البلاد وأراضيها الزراعية وأبرز مشاريعها الاقتصادية محكومة من الخارج" "!
وانتظرت بريطانيا تتابع الحوادث كي تتدخل في الوقت المناسب، وبالفعل تدخلوا لإقالة إسماعيل ونفيه خارج البلاد وتولية ابنه الخائن الخديو (توفيق) مكانه ويكفي أن نعرف أن توفيق خان أباه أولا ورفض حتى إعادته من المنفى في مرض موته!
وبالتالي.
كان طبيعيا عندما تحركت الثورة وَعَبّر عنها الجيش بحركة (أحمد عرابي) كان من الطبيعي أن يستنجد توفيق بالبريطانيين الذين انتهزوا الفرصة وتدخلوا بأسطولهم في مصر بعد أن قاموا بمخاطبة السلطان العثماني لإصدار فرمان بخيانة عرابي!
فاستجاب لهم بالطبع.
في نفس الوقت الذي كان فيه توفيق والمنتفعين منه من طبقة الحكم ومعهم الجاليات الأجنبية تُرَوج لاعتبار (عرابي) خائنا للوطنية عندما طلب استقلال مصر من النفوذ الأجنبي، وتحرك عرابي بالجيش في تحالف مع قوى الشعب لإيقاف البريطانيين لولا أن تلقى الهزيمة في معركة (التل الكبير) عام 1982م، لتصبح مصر تحت الاحتلال الإنجليزي" "

وقد كانت الثورة العرابية حَدَثا مفصليا في التاريخ المصري المعاصر، وموجة من موجات تطور الحركة القومية التي بدأت مع الحملة الفرنسية واستمرت فاعلة في المجتمع المصري" ".
وقد احتوى ملف الثورة العرابية على بطولات خارقة ومشهودة من أبطال عدة، كان أبرزهم من الجيش البكباشي (محمد عبيد) صاحب الضربة الأولى في أحداث الثورة، وكذلك المناضل المصري الكبير (عبد الله النديم) أول وأشهر صحفي للكتابة الساخرة في مصر وأكثرهم تألقا في زمنه وأعلاهم مساهمة في القضايا الوطنية
من هنا نستطيع أن نقول بأن الدخول العسكري الإنجليزي لمصر والذي تسبب فيه إسماعيل حرم مصر والعرب من أكبر قوة كانت من الممكن أن تهدد استقرار المشروع الصهيوني في مرحلته الأولى.
لأن بلدا يقع تحت الاحتلال والقهر والسحق الإقتصادي لا يمكن أن نتخيل قدرته على التفكير أو التدخل لمناصرة قضية خارجية مهما كان تفاعله معها.
وظلت السياسة البريطانية والإسرائيلية منذ ذلك الحين قائمة على تلك المعادلة، وهي أن تكون مصر مثلما كانت الخلافة العثمانية، عبارة عن بلد مريض لا يسمحوا له باليقظة ولا يسمحوا له بالانهيار أيضا، بل المطلوب هو وجودها في حالة موت إكلينيكي مشغولة دائما بمشاكلها الداخلية.

رغم أن مصر لم تقع فريسة لتلك النظرية طيلة الوقت، خاصة بعد أن تفجرت المقاومة المصرية ضد الاحتلال الذي لم يستقر بمصر استقرارا كاملا، فقد واجه الاحتلال عند دخوله المقاومة العسكرية والشعبية المتمثلة في الثورة العرابية، ثم واجه تشكيلات مختلفة من فرق المقاومة السرية فضلا على النضال السياسي والشعبي على يد (مصطفى كامل) و(محمد فريد) الذي استمر حتى تبلور في ثورة 1919م بقيادة (سعد زغلول)، ثم تصاعدت الأحداث مرة أخرى مع إرهاصات الحرب العالمية الثانية وما تلاها حتى اضطر الجيش البريطاني لتجميع الفرق العسكرية في قواعد القناة بعيدا عن مصر من الداخل حتى رحيل الاحتلال عقب قيام ثورة يوليو.
فمصر لم تستسلم لمحاولة التقزيم ومحاولات إبعادها عن القضايا القومية العربية، إلا أن محاولات الغرب لتكتيف مصر داخليا أصبحت استراتيجية ثابتة منذ ذلك العصر، بذل فيها الغرب قصارى جهده حتى اليوم" "
ولكي ندرك خطورة التقدم الذي أحرزه المشروع الصهيوني باحتلال مصر فيكفي أن نعلم بأنه في سنة الاحتلال نفسها عام 1982م، قام البارون (روتشيلد) بتنظيم أول هجرة جماعية كبيرة لفلسطين وبهذه العملية ارتفع عدد اليهود في فلسطين من ثمانية آلاف إلى أربعة وعشرين ألفا دفعة واحدة.
فهل يتخيل القارئ مدى التأثير الذي أحدثه إبعاد مصر عن الساحة الشامية" "
وليت الأمر اقتصر على هذا.
فعقب الفوج الجماعي الهائل الذي دخل فلسطين بدأت عائلة روتشيلد في جمع التبرعات والمساهمات لشراء أراضي شاسعة في فلسطين تحت ستار شركة كبرى للأعمال الزراعية!
وتحت رعاية الاحتلال البريطاني قامت شركة روتشيلد خلال عشر سنوات فقط بإنشاء مستعمرات استيطانية كبيرة بلغ عددها 20 مستوطنة تراوحت مساحة الواحدة منها من (2750فدان) إلى (460) فدانا بإجمالي مساحة بلغ أكثر من عشرين ألف فدان.
بخلاف إنشائها في نفس الفترة مستوطنات أصغر حجما على الأراضي الفلسطينية بل والأردنية أيضا.

ونستطيع أن نقول بأن الاحتلال الإنجليزي لمصر فتح المجال على مصراعيه لتطور الصهيونية فكريا وعمليا على الأرض.
فأصبحت الخطوات التنفيذية أكثر جرأة، وأصبحت الأفكار أكثر صراحة.
فإلى جوار إنشاء (روتشيلد) المستوطنات السابق ذكرها في فلسطين، امتدت عيونهم داخل مصر أيضا باعتبار خضوعها للاحتلال البريطاني وسيطرتها على مقدرات البلاد في وجود حكومة عميلة بالكامل مثل حكومة الخديو توفيق.
فقام (روتشيلد) عام 1891م، بمشاركة عملاق مالي آخر من اليهود هو (دي هيرش) ومعهما يهودي ثالث هو السير (أرسنت كاسل) لإنشاء مؤسسة زراعية أخرى برأس مال خرافي 2 مليون جنيه إسترليني –بمقاييس ذلك الزمان-وكان من نتاج المشاركة إنشاء شركة (وادي كوم أمبو) في صعيد مصر والتي امتلكت أراض شاسعة المساحة في مدينة (كوم أمبو) بأسوان.
ولم تكن تلك الخطوات الحثيثة تجاه مصر والعراق الذي خضع للسيطرة الإنجليزية بعد ذلك إلا تمهيد لمد أنف المشروع إلى أراضي البلدين، إلى جوار الأراضي اللبنانية والأردنية.
ولكن المد هنا لم يكن أبدا بغرض توطين اليهود ضمن المشروع الصهيوني، وإنما كان هذه المرة بغرض فتح المجال لتهجير وطرد الأعداد الفلسطينية الهائلة نحو مستعمرات خاصة يتم إنشاؤها في سيناء المصرية بغرض منح الدولة اليهودية مساحة امتداد آمنة الحدود!
وهنا نتوقف قليلا أمام تلك المشاهد.
حيث نلاحظ من خلال التخطيط أن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي اليوم إنما تقوم على استراتيجية عتيقة جدا بدأت مع الاحتلال الإنجليزي لمصر، ولا زالت تلك الاستراتيجية ممتدة الخطوات حتى اليوم!