عرض مشاركة واحدة
قديم 02-11-2024, 06:45 AM
المشاركة 4
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

* رحلة الصعود وبداية ظهور أفكاره.
رحلة صعود نابليون لمقعد الإمبراطورية لم تكن سهلة لكنها بدأت فعليا بعد انتصار تولون وترقيته إلى رتبة الجنرال وهو بعد في سن الخامسة والعشرين، مما أثار عاصفة من السخط والغضب في أعماق قادة الجيش الفرنسي الجديد الذي تحكمه الثورة، فحاول خصومه استغلال بطش نظام الحكم الثوري الذي يحكم بالحديد والنار ففي تلك الفترة العصيبة التي تكون في أعقاب الثورات غالبا
ونجحوا وقتيا في الزج بنابليون في زمرة المغضوب عليهم لكن شعبية نابليون وعبقريته كان لها أنصارها أيضا وهم من تمكنوا من كشف المؤامرة عليه وإخراجه من سجنه
حيث ظهرت الحاجة الملحة لنابليون بعد أن ضاق النظام الثوري الفرنسي ذرعا من ممارسات النمسا عدوته اللدود، فتم إعلان الحرب على النمسا وحلفائها وتم انتخاب نابليون لقيادة الحملة رغم صغر سنه بعد أن شهدت له التقارير العسكرية بالامتياز، ومنها شهادة أستاذه وقائده السابق الجنرال (دوتيل) الذي شهد له بالنبوغ فتغلبت العبقرية على الروتين
وبالفعل قاد نابليون الحملة على النمسا عام 1794 م، وانتصر فيها انتصارا مذهلا كعادته، وثارت من جديد ثائرة الخصوم ونقموا عليه عند كبار قادة الثورة وخوفوهم من طموح نابليون غير المحدود، مما قَلّص احتفالات النصر المتوقعة بعمله الكبير بحجة الأوضاع الأمنية، وكانت الأوضاع الأمنية في حالة تردى كامل من ممارسات القمع الوحشي لنظام الثورة واتخاذهم تهمة عداوة الثورة كمبرر للبطش
ونظرا للدور الأوربي الغربي في التأليب فقد لجأت بريطانيا وحلفاؤها لمحاولة ضرب الثورة من الداخل باستغلال التيارات السياسية الانتهازية مما تسبب في حالة تطاحن تطور إلى ما يشبه حرب أهليه تمت مواجهتها بالقوة المسلحة من النظام الفرنسي الجديد

ووجد خصوم نابليون الفرصة مواتية لتحطيم شعبيته الساحقة بين جموع الشعب عن طريق العمل على إصدار أمر عسكري مباشر لنابليون كي يقود إحدى الحملات العسكرية لإخماد الثورة المضادة في غرب البلاد ...
وكان هدفهم أن يضعوا نابليون القائد الشعبي في مواجهة الشعب.
ولم يكن نابليون القارئ والمثقف الكبير بغافل عن تلك الخديعة والهدف منها، فرفض الوقوف في وجه الشعب وذهب لوزير الحربية يطلب قيادة حملة عسكرية ضد العدو الإيطالي الذي يعبث بحدود البلاد، فرفض الوزير بعنف وناقشه نابليون بقوة ولم ينجح في إقناعه وغادر مكتب الوزير إلى بيته معتزلا العمل وبالفعل تعرض لفترة قاسية نفذت فيها موارده حتى فكر بالهجرة خارج فرنسا
ثم تدخل القدر لصالح نابليون بعد سقوط الحكومة العرفية للبلاد وبالتالي تغير وزير الحربية وكبار قادة الجيش الفرنسي، وتم ابتداع نظام حكم جديد وهو مجلس الدولة الفرنسي (الديركتوار) وتم استدعاء نابليون لمكتب وزير الحربية الجديد الذي قام بتكريمه بصفة شخصية وسياسية عن دوره العسكري في مساندة الثورة وتولى نابليون بعدها قيادة الجيش الفرنسي على إيطاليا وحقق نصرا ساحقا حيث أسقط إيطاليا في ساعات محدودة وأيضا عاود الإغارة على النمسا ثم كلل انتصاراته بإسقاط النمسا كلها مما أثار رعب أوربا بأكملها من نابليون

وبعد أن تم تتويج نابليون فعليا كقائد لجيوش فرنسا والمتحكم بالأمور فيها قام بإظهار المذهب العلماني شيئا فشيئا
فرغم أن الثورة الفرنسية في الأساس قامت ضد التحالف الانتهازي بين رجال الحكم ورجال الكنيسة، وضد تسلط رجال الدين الكنسي بالخرافات على الشعب، إلا أن الشعب نفسه في فرنسا وأوربا لم يكن يريد تخليا عن الدين ذاته بل كان يريد التخلي عن كل ما اعتبره تَسَلطا في الأحكام، ولهذا لم يتم إعلان العلمانية الفرنسية بشكل مباشر وإنما تم هذا بشكل متدرج، لكن العقيدة الصليبية نفسها ظلت كما هي لم تمس بالتغيير الجذري الذي حدث في الحكم
وتكشف فترة نابليون أن الأحقاد والطبائع الصليبية المكتسبة من كتب الكنيسة الغربية العنصرية، والتي بلغ من عنصريتها أنها حاربت العقيدة المسيحية الشرقية رغم كونهم مسيحيون مثلهم، ثم تسلطوا بالحروب الصليبية والتحريضية ضد المسلمين، هذه العقيدة الصليبية لم تتغير بالاتجاه العلماني مطلقا، بعكس ما يظن أو يروج جهلة العلمانيين العرب.
ويتضح هذا بسهولة من خلال استقراء المنهج الإمبراطوري لفترة نابليون والذي سارت عليه فرنسا وأوربا كلها بعد ذلك بنسب متفاوتة.
حيث ورث نابليون الحقد والتاريخ الصليبي الفرنسي ضد الشرق الإسلامي وراثة كاملة رغم أنه من المفترض كان تاريخا وحشيا وقمعيا ينتمي لأسرة (البربون) الحاكمة في فرنسا.
لكن انقلاب الثورة الفرنسية على حكم الأسرة الحاكمة والكنيسة المتسلطة لم يكن انقلابا على العقيدة الغربية وتاريخها ضد المسلمين.
لذلك جاء نابليون ابنا مخلصا لنفس الميراث الفكري الفرنسي القديم، وكانت تقوده نفس الأفكار التوسعية التي قادت من قبله من الحكام تجاه الشرق.
لكن التعديل الذي أخرجه نابليون هو أن مشروعه الإمبراطوري كان فرنسيا خالصا يريد منه أن تسيطر فرنسا على مقادير القارة الأوربية أولا ثم تنطلق بحملتها لإنشاء إمبراطورتيها في الشرق.
وهو نفس المشروع العنصري الذي قاده (أدولف هتلر) تحت إيمانه بتفوق الجنس الآري على بقية الأجناس البشرية وحقه في السيطرة على أوربا والعالم.

ونجح نابليون في بلورة مشروعه الإمبراطوري غير التقليدي بعد أن استغل كافة قراءاته التاريخية والاستراتيجية المتعمقة وأضاف لها البعد الثقافي اللازم لتنفيذ مشروعه وضمان استقراره.
والمذهل أن مشروع نابليون كان مشروعا استراتيجيا وفكريا يعتمد على حقائق دامغة للتاريخ والجغرافيا يجعل من قارئ المشروع يظن أن القائمين على إعداده هي لجنة رفيعة المستوى من خبراء التاريخ والعسكرية والسياسة الدولية والأديان.

وقد اكتسب نابليون خبرته بفعل حشد الكتب والمراجع التي التهمها في شبابه الأول، وكان معظمها في التاريخ السياسي والديني للشعوب، ولا شك أن قراءة التاريخ هي أهم باب ثقافي يرتقي بالعقل إلى مسافات عالية جدا فوق سِنّه وخبرته.
وذلك يعود إلى طبيعة التاريخ نفسه باعتباره حاشدا بآلاف التجارب والوقائع والحوادث والشخصيات التي تعطي للإنسان أعمارا فوق عمره.
ولم يكتف نابليون بنفسه في هذا المجال، بل حرص على تدشين روح الفدائية والعسكرية والثقافة العامة لدى ضباطه وجنوده، وقام بتنمية الإيمان لديهم بالتفوق الفرنسي والحرية التي نتجت عن الثورة الفرنسية ومبادئها
لذلك فإن السر الحقيقي لتفوق العسكرية الفرنسية في عهده لم يكن قوة السلاح أو التدريب، لأن السلاح والتدريب والقوة كانوا متوفرين في جيوش إنجلترا والنمسا وإسبانيا وروسيا بأكثر من فرنسا نفسها.
ومع ذلك انطلقت الجيوش الفرنسية تحت قيادة نابليون كالوحش الكاسر والتهمت أوربا كلها حتى أنه أقتحم الجليد الروسي ووصل لعاصمتهم، فضلا على نجاحه في هزيمة التحالف الأوربي ضده عدة مرات.
ولم تكن العسكرية الفرنسية قبل نابليون بهذه القوة والجسارة والعنفوان.
لأن سر التفوق يكمن في أن نابليون كان قائدا عسكريا بارعا، وفي نفس الوقت مفكر ومثقف موسوعي من طراز رفيع.
وكان أبرع ما فعله هو أنه اهتم بالجانب المعنوي للجيش والروح القتالية المبنية على عقيدة عسكرية سليمة.
فكان يحرص على أن يكون كل جندي في الجيش له نصيب من القراءة والفكر والثقافة، حتى أنه في طريق حملته إلى مصر وأثناء تفقده الجنود في سفينته، صادف جنديا يتسلى بقراءة إحدى الروايات العاطفية.
فاشتعل غضب نابليون وأمسك بالرواية وألقاها إلى ركن الغرفة وقال للجندي:
(ما هذا الذي تقرؤونه، هذه قراءة تليق بخادمات الغرف، اقرءوا التاريخ فهو قراءة الرجال)
لهذا كان من الطبيعي أن يجعل نابليون من الجيش الفرنسي جيشا لا يُقهر، لأن جيوش أوربا كانت جيوشا مستعبدة، لا يلقى فيها الجنود الاهتمام، بل الاهتمام مُنْصَب فقط على القادة والضباط المترفين والمنتمين للعائلات الأرستقراطية.
وأمثال هذه الجيوش مهما بلغت قوتها وعتادها فإن روحها المعنوية تكون في أدنى معدلاتها نظرا للعنصرية الفجة التي يلاقيها الجنود بينما وقود الحرب في الأصل.
بخلاف انعدام الاهتمام الثقافي وتربية الجنود تربية فكرية واسعة تقنعهم بجلالة المهمة التي يؤدونها، وهو ما كان نابليون متفوقا فيه حتى جعل من جنوده نُسَخا مكررة من فكره وحماسته.

ونأتي الآن لنتأمل عناصر مشروع نابليون تتخلص في العناصر التالية:
الأول:
أنه بعد استقرار الأمور نسبيا في أوربا وضمان حدود فرنسا بانتصارات نابليون التي مثلت ردعا كبيرا للقارة العجوز، رأى نابليون أنه ليس هناك مجال مباشر لمواجهة خصمه اللدود بريطانيا في مواجهة مباشرة وشاملة، فضلا على بقية خصومه من دول أوربا لذلك فالحل هو تكوين الإمبراطورية الفرنسية في الشرق وقطع خطوط مواصلات بريطانيا بالهند التي تعتبر درة التاج في المستعمرات البريطانية.
الثاني:
أنه بعد النظر المدقق إلى ساحة الشرق الأوسط قرر نابليون حقيقة بازغة بالنسبة له، صارت فيما بعد عنوانا لأوربا كلها في التعامل مع الشرق.
حيث قرر نابليون أن (مصر هي أهم بلد في الدنيا)!
ولم يقل نابليون أن مصر هي أهم بلد في الشرق بل في العالم!
لأنه حدد استراتيجية تكوين قوة فرنسية عظمى بضرورة السيطرة على مفاصل الشرق الأوسط الذي يعتبر هو أهم منطقة مواصلات وثروات في العالم.
وبما أن هذه المنطقة ضرورية لتكوين الإمبراطورية، فقد وجد نابليون أن مفتاح السيطرة على المنطقة بأكملها لا يمكن أن يتم بغير السيطرة على مصر التي هي أهم بقعة في المنطقة ومصدر التأثير الأقوى لدول الشرق على كافة المستويات.
من ذلك خرج بتلك النتيجة التي عمل عليها وهي أن مصر مفتاح الشرق والشرق مفتاح السيطرة العالمية ولذلك أصبحت مصر بالنسبة له هي أهم بلد في الدنيا.
الثالث:
من دراسته المستفيضة للحملات الصليبية وقع نابليون على السر الذي وقف خلف فشل كافة محاولات أوربا في السيطرة الدائمة، رغم تمتع بعض الحملات الصليبية باستقرار طويل في منطقة الشام، ورغم تأسيس إمارات كاملة للصليبيين فيها، ورغم فوارق القوة العسكرية بين أوربا والشرق، حيث كانت تلك الحملات دائما حملات غير مستقرة إما بسبب وجود إمارات مسلمة قوية بمصر والشام، وإما بوجود مقاومة دائمة لا تنكسر يتم تتويجها بتحرير المنطقة مرة أخرى.
وكان السر الذي توصل إليه نابليون الارتباط الأزلي بين الشام ومصر تاريخيا منذ آلاف السنين والذي يجعل من القطرين قطرا واحدا متصلا.
فالأمن القومي لمصر منذ عهد الفراعنة وهو مرتبط ارتباطا وثيقا بالشام، فلا يمكن لحدود مصر الشرقية أن يتم تأمينها بغير نظام حليف في الشام، ولا يمكن لدولة تقوم في الشام أن تضمن أمنها بغير ضمان وجود الحليف في مصر.
وذلك للاتصال الجغرافي بين البلدين والتماهي الديني والثقافي والحضاري بين الشعبين.
وبمراجعة تاريخ الحملات الصليبية توصل نابليون إلى أن مواجهة الصليبيين والمغول كانت دائما وأبدا تتم بالتحالف بين قوى مصر والشام
لذلك فإن انتصار المسلمين في المنطقة كان دائما بفضل وجود الزاوية القائمة التي تتكون من مصر والشام وتطل على بوابة البحر المتوسط من الجانبين.
لذلك وضع نابليون مشروعه على ضرورة فك هذا الارتباط بين ضلعي الزاوية بطريقة تضمن عدم التقائهما أبدا في مستقبل الأيام إذا أراد أن يضمن لمشروعه الاستمرار.

الرابع:
كان العنصر الثالث الذي بنى عليه نابليون مشروعه الاستعماري هو توصله للفكرة الاستراتيجية التي تضمن فك ضلعي الزاوية.
وذلك بزرع كيان غريب على المنطقة عند نقطة التقائهما البرية في فلسطين.
ضلع غريب وَمُعادي ومختلف تماما يتم زرعه في رأس الزاوية بين مصر والشام ليجعل تواصلهما الفعلي مستحيلا أو بالغ الصعوبة على الأقل.
فإذا تم زرع هذا العنصر الغريب بالتوطين في هذه المنطقة وتحت الحماية الفرنسية فهذا يعني ضمان النجاح لمشروع نابليون.
وكان العنصر الغريب الذي يمكنه أداء هذا الدور بكفاءة تامة هم (اليهود).
والواقع أن فكرة نابليون بتأسيس وطن قومي يهودي الديانة معادي بالفطرة للمنطقة فكرة خيالية جدا في ذلك الوقت نظرا لأن اليهود لم يكن لهم تجمع متفق أو وطن قومي بل هم مشردون في أصقاع الأرض وجمعهم في مكان واحد أمر من الاستحالة بمكان.
كما أن إيجاد الدافع والحماسة لتنفيذ هذا المشروع كان صعبا للغاية، حيث كانت الديانة اليهودية نفسها تعارض هذا الحلم!
السبب في ذلك أن شريعة اليهود كانت – ولا زالت-تؤمن بأن موعد تحقق الوعد الإلهي –بزعمهم-في التجمع بأرض فلسطين أو أورشليم هو وعد سيتحقق بعد نزول المسيح المخلص وفق معتقدهم وليس قبله.
أي لابد لهم أن ينتظروا ظهور المسيح المخلص الذي سيدعوهم لاستيطان أرض الأجداد وتكوين دولة (يهوذا) أو (داوود).
وبالتالي فمن المخالف لشريعة اليهود أنفسهم أن يتم تكوين هذا الوطن قبل ظهور المسيح الذين يؤمنون بعدم ظهوره حتى اليوم.
والأهم من ذلك أن عدد اليهود في منطقة الشام والقدس لم يكن كافيا قط لتكوين وطن أو دولة بالشكل الذي يتمناه نابليون في مشروعه.
فاليهود في فلسطين كان عددهم 1800 في الشام منهم 135 يهوديا في القدس!
الخامس:
وهنا جاء العنصر الرابع من عناصر مشروع نابليون وهو وضع الحلول لمعضلات تحقيق حلمه بتكوين دولة يهودية في فلسطين تملك القوة والعتاد لصنع فاصل معادي بين مصر والشام.
حيث كان الحل الأول اختراق مصر بحملة عسكرية من عنصرين متمازجين، وهما العنصر العسكري والعنصر الفكري.
فأعد حملته المكونة من أربعين ألف جندي بأحدث الأسلحة، ومعها في نفس الوقت طابور طويل من العلماء في مختلف التخصصات، فضلا على المطبعة ذلك الاختراع الثوري في النشر وقتها.
ولهذا فالحملة الفرنسية عندما جاءت لمصر بالعلماء والمخترعات الحديثة لم يكن هدفها تطوير مصر أو تصدير الحضارة كما يقول بعض المتغربين في عصرنا الحالي، وإنما جاءت بالعلماء والمطابع كأسلحة حربية لتحقيق هدف الحملة ذاته.
بل إن خطورة تأثير العلماء والمخترعات أن نابليون كلفهم بضرورة ممارسة غسيل المخ على جموع الشعب المصري وإقناعهم بأن الحملة الفرنسية ليست حملة احتلال بل حملة تنوير وحضارة، وأن الهدف العسكري من الحملة هو تخليص مصر من حكم المماليك الذي شاع فساده وكرهه الناس.
وكان الهدف الاستراتيجي لنابليون من هذا أن يرحب المصريون بالحملة الفرنسية بحيث يواجه المماليك وحدهم ويقضي عليهم وتصفو له مصر وشعبها بالتأييد والتشجيع حتى يضمن الاستقرار الكامل للحملة في مصر.
ولذلك أعد العدة لما أسماه (الورقة الإسلامية).
والورقة الإسلامية هو المنشور الذي كتبه نابليون ليتم توزيعه على المصريين وفيها أجمل العبارات المنمقة عن الصداقة والإعجاب المتبادل بين نابليون والخليفة العثماني وعداؤه لحكم المماليك الذين قهروا الشعب المصري.
ثم زاد نابليون في ورقته الإسلامية نفاقا واضحا بإعجابه بالشريعة الإسلامية والمجتمع المصري وبمكانة وإعجاب الفرنسيين بمصر!
وهي بالطبع ورقة خداعية ظن فيها نابليون أنها ستمنحه التأييد الشعبي المصري وبالتالي يستقر له المقام دون الخشية من مقاومة مسلحة ضد حملته.
أما بالنسبة للخلافة العثمانية فلم تكن تمثل مشكلة في ذلك التوقيت لأن قوة الخلافة نفسها كانت قد دخلت مرحلة (رجل أوربا المريض) وبدأت الدول الأوربية بالفعل مرحلة التفكير في كيفية توزيع إرث العثمانيين فيما بينها بمجرد انتهاء الحروب الأوربية ـــــ الأوربية.
لكن الشيء الذي كان يخشاه نابليون هو تحالف السلطان العثماني مع البريطانيين ضده عند دخوله الشام.
وهو ما وضعه في حسبانه بأن تتم عملية احتلال مصر بسرعة قياسية ثم يتوجه بعدها للشام سريعا مع فتح خطوط التفاوض مع البلاط العثماني لمنع تحالفه مع أي طرف أوربي يعطل مشروعه.

أما بالنسبة لليهود.
فقد أعد لهم ورقة أكثر مصداقية وهي المعروفة باسم (الورقة اليهودية).
وقد أعدها أيضا قبل حملته، غير أن الفارق بين الورقة الإسلامية واليهودية أن ورقته اليهودية سبقتها خطوات تنفيذية في أوربا حيث كلف نابليون بعض علماء الفرنسية بالاتصال بحاخامات اليهود المؤثرين في فلسطين مثل (موسى موردخاي) و(جاكوب الجازي) وغيرهم يُطْلعهم فيه على تعاطفه مع المسألة اليهودية والاضطهاد الذي يتعرضون له في أوربا وكان سببا في حملات طرد وتهجير وتضييق في مختلف الدول الأوربية وأنه يتعاطف مع مشروعية وبطولة الشعب اليهودي ويدعمهم لإقامة وطن تاريخي في أرض الأجداد تحت حماية الإمبراطورية الفرنسية.
وهو هنا قام بتمهيد الأرض في فلسطين حتى يقوم بتوزيع ورقته اليهودية في القدس، تلك الورقة التي يخاطب بها نابليون عموم اليهود في العالم ويدعوهم لترك الأوطان التي تحتقرهم وتضطهدهم ليقيموا وطنهم القومي في فلسطين تحت رعايته" "
وفي شأن مشكلة تبعثر اليهود في العالم وعدم تأثير وجودهم في فلسطين فإن نابليون اعتمد على أن مشروعه سيكون خطة بعيدة المدى تتسلح بإمكانيات مادية وسياسية هائلة بحيث يستغل حاخامات اليهود لإعادة اختراع الوعد الإلهي المزعوم لهم بفلسطين وتجاهل ضرورة وجود المسيح لتحقيق الوعد، بحيث يتم اعتبار نابليون مكان المسيح مؤقتا!
وبخبرة نابليون باليهود وتاريخهم فقد كان يعلم جيدا أن أسهل شيء لدى الحاخامات هو تزوير وثائق التوراة لأغراضهم الدنيوية" ".

وبالتالي إذا قامت حملة إعلانية ضخمة برعاية فرنسية لدعوة اليهود لوطنهم المزعوم، فإن العديد قد يستجيبون لها خاصة مع وجود جاليات يهودية كبيرة في أوربا وفي روسيا تبلغ 12 مليون يهودي معظمهم من الفقراء والمضطهدين وأقليتهم من الأغنياء والمؤثرين.
لذلك فإن قوام مشروع نابليون راهن على فقراء اليهود لأن غالبية اليهود من المهمشين المضطهدين في أوربا منذ زمن طويل حيث بدأت حملة الاضطهاد منذ سقوط الأندلس وانتشار محاكم التفتيش البشعة التي قامت بحملات اضطهاد دموية ضد المسلمين في الأندلس ومعهم اليهود الذين كانوا تحت حماية الحكم الأندلسي لقرون طويلة.
ولنا أن نتخيل المفارقة!
أن حماية الخلافة الأندلسية بل والعثمانية لليهود كانت تاريخية، بينما أوربا كان لها سجل هائل من الاضطهاد والتنكيل ضدهم.
وبالتالي فإن هؤلاء اليهود سيكون لدى معظمهم ضعف تجاه وطن يحتويهم بعقيدتهم الدينية المتفقة.
وفي سبيل ذلك دعا نابليون في عام 1807م، إلى عقد مؤتمر أو مجمع يهودي يحضره كل ممثلي اليهود في أوربا ممثلين في رؤساء طوائفهم المختلفة وتم عَقْد المؤتمر فعلا في (سانهردان) ودعا فيه نابليون إلى لم شمل اليهود واتخذ المجمع عدة قرارات، كان أخطرها – كما يقول هيكل – هو البند الثالث الذي جاء فيه:
(ضرورة إيقاظ وعي اليهود إلى حاجتهم للتدريب العسكري لكي يتمكنوا من أداء واجبهم المقدس الذي يحتاج إليه دينهم)
وهذا البند بالتحديد كان هو خلاصة مشروع نابليون، وذلك أنه لم يكن يريد تأسيس دولة أو تجمع يهودي مفتقد للقوة تقوم فرنسا على حمايته من الألف إلى الياء، بل كان يحتاج دولة وظيفية ذات نظام عسكري في مجملها، تقاتل وتدافع عن وجود هذا الوطن تحت ظل الحماية الفرنسية عند الحاجة.
وهكذا أصبح مشروع نابليون منطقيا وقابلا للتنفيذ كاستراتيجية بعيدة المدى تسير بخطوات ثابتة على الأرض.
ولم يبق إلا التنفيذ ببداية الحملة الفرنسية على مصر.