عرض مشاركة واحدة
قديم 02-10-2024, 05:22 AM
المشاركة 3
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
الفصل الأول
في البدء كانت فرنسا

القضية لم تكن أبدا قضية فلسطين.
بل كانت منذ البداية قضية تعامل الغرب مع الخلافة الإسلامية منذ نشأتها، ومنذ انهيار سلطان الروم على الشام ومصر وإفريقيا، ثم انهيار الرومان وتفتت أوربا المسيحية لعدة دول ورثت عن أسلافها عقيدة الحرب تجاه الخلافة الإسلامية عبر عصورها المختلفة.
فجاءت الحملات الصليبية تترى على الشام ومصر تحديدا طمعا في انتزاع موطن قدم يمكنهم من فرض وجودهم الاستعماري مجددا.
لكن تلك الحملات-رغم نجاح بعضها في تكوين إمارات صليبية-إلا أنها كانت تفشل دائما رغم التشتت والتمزق الذي عانته الإمارات العربية المتناحرة
وهكذا مر تاريخ الحملات الصليبية صعودا وهبوطا حتى انتهت آخر الحملات الصليبية إلى غير رجعة بعد أن قامت الخلافة العثمانية واتسعت رقعتها، وامتد سلطانها إلى تخوم أوربا ثم كانت الضربة القاصمة بإسقاط (القسطنطينية) عاصمة الروم التاريخية لتنتهي حقبة المعارك الصليبية على الشرق في صورتها القديمة بعد أن نجحت الخلافة في مد رقعة سلطانها على شرق أوربا، وفرض إرادتها على معظم الممالك الصليبية في أوربا

وبمرور الزمن وضعف الخلافة العثمانية عاد الغرب فجَرّب الحملات العسكرية مرارا في العصر الحديث، ولكن مع الحملات العسكرية انتبه إلى طبيعة المواجهة بينه وبين المسلمين.
حيث كان التساؤل الدائم منذ أول معركة جرت بين المسلمين والرومان، هو الدهشة والذهول الحقيقي من تلك القدرة الفائقة التي اكتسبها العرب والتي مَكّنتهم بدون إمكانيات من إسقاط القوتين العظميين في عصرهما (فارس) و(الروم)
وكانت الفوارق الرهيبة في التسليح والتنظيم والإمكانيات اللامحدودة كلها لصالح الفرس والروم في مواجهة أعداد من العرب لا تجد عددا كافيا من الخيول أو أدوات القتال.
حتى عندما تعملقت الخلافة الإسلامية في عهد الأمويين والعباسيين والعثمانيين، كانت الغلبة الساحقة للمسلمين في مواجهة جيوش نظامية أوربية عالية الإمكانيات ومن عدة تحالفات بين دول أوربا.
بل إنه في زمن التشرذم والانهيار وبداية تفتت الخلافة العباسية إلى إمارات صغيرة، ورغم نجاح الأوربيين في تكوين إمارات صليبية في الشرق واحتلال القدس لسبعين عاما، إلا أن الإمارات الإسلامية الصغيرة نجحت في قهر الصليبيين عبر عشرات المواجهات، بل ونجحت في صد المغول أيضا" ".
وتجارب الإمارات الإسلامية المستقلة ونجاحها كان أمرا لافتا للغاية، لأن التمزق كان يضرب وحدة المسلمين في مقتل، لهذا كانت الدهشة واجبة من نجاح تجربة (عماد الدين زنكي) وولده (نور الدين محمود) وهما التجربتان اللتان مهدتا لظهور إمارة (صلاح الدين) وتحرير القدس في معركة (حطين) ثم التصدي للتحالف الأوربي بقيادة ريتشارد قلب الأسد
كما أن الدهشة كانت موجودة على الجانب الآخر من أوربا حيث تأسست إمارة (المرابطين) في المغرب وإفريقيا ببضعة أشخاص يتزعمهم فقيه مقاتل هو (عبد الله بن ياسين) مع الزعيم المغربي (يحيي بن إبراهيم) حيث قاموا بغير إمكانيات بتأسيس بذرة المرابطين لتصبح الإمارة بعد ذلك دولة عظيمة وسامقة نبغ فيها الأمير (يوسف بن تاشفين) والذي نجح في تأخير سقوط الأندلس بيد الصليبيين لعدة قرون، بعد أن خاض أول معاركه ضد القشتاليين بالتحالف مع أمراء الطوائف في معركة (الزلاقة)
ثم مد ابن تاشفين سلطانه إلى الأندلس لتحكمها دولة (المرابطين) ثم دولة (الموحدين) التي وقعت فيها موقعة (الأرك) المماثلة لموقعة حطين في القوة والتأثير لتمتد الإمارة الإسلامية في الأندلس من الفتح حتى السقوط قرابة ستة قرون كاملة بعد أن كادت تسقط بأكملها في يد القشتاليين في عهد ملوك الطوائف
وبطبيعة الحال كان الجواب دائما هو طبيعة العقيدة الإسلامية التي تُوَحد المسلمين تحت راية واحدة بغض النظر عن العرق والجنس واللغة.
وهي نفس العقيدة التي جعلت من القبائل العربية المتناحرة في عهد الجاهلية، قوة عظمى موحدة بالوحي الإلهي مصداقا لقوله تعالى:
(وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ)

لذلك بدأ الغرب مبكرا في دراسة الإسلام وعقيدته وتاريخه من الداخل بحركة بحثية عملاقة المعروفة باسم حركة (الاستشراق).
وكانت الحرب الفكرية قد استوت على سوقها وتأسست في العصر الحديث بداية من عصر النهضة الأوربية وبعد أن نجح الأوربيون في إلحاق الضعف والتآكل بالخلافة العثمانية وَدَفْعِها بالتدريج لكي تتخلى عن ثوابت الشريعة الإسلامية والغرق في محاولات التحديث الأوربية التي كانت الخطوة الأولى للسيطرة الفكرية والسياسية والاقتصادية على البلاط العثماني.

واللافت للنظر أن أوربا في عصر النهضة ومنذ الثورة الفرنسية خاضت حروبا داخلية عنيفة، ورغم ذلك لم تكن تلك الحروب عائقا عن إدراكهم وعقيدتهم الثابتة في عدوهم المشترك المتمثل في الخلافة العثمانية والإسلام بعموم.
وكان رأس الحربة الأوربي الحقيقي يتمثل في بريطانيا وفرنسا، حيث خرجت منهم أكبر الجيوش وأعتى الأقلام البحثية لمحاولة تطويع العثمانيين، وتطويع الشرق والتطلع لإعادة الحملات الصليبية بشكل جديد في العصر الحديث.
لكن البداية الحقيقية بالفعل كانت لدى فرنسا...
وبالتحديد عند إمبراطور فرنسا الشهير (نابليون بونابرت) والذي يُعْتبر القائد الأوربي الوحيد الذي نجح في وضع الاستراتيجية الفكرية والعسكرية الناجحة للسيطرة على الشرق وهدم الإسلام من داخله فكريا، وهزيمة قوته العسكرية خارجيا.
ودور نابليون وحملته الشهيرة على الشرق التي بدأت بمصر وانتهت بالشام، هذا الدور المركزي هو السبب الرئيسي والأساسي الذي استفادت منه بريطانيا بعد ذلك لتفعيل خطة نابليون وفكرته بتأسيس وطن قومي لليهود في الشرق في بؤرة أرض فلسطين بالتحديد.
ليس محبة في اليهود أو محاولة لمساعدتهم.
بل كانت فكرته العبقرية في إنجاح الغزو الصليبي للشرق بأكمله دون أن تتكلف أوربا إرسال الحملات العسكرية والنفقات الباهظة والحروب المتوالية.
وهذه النقطة الخطيرة كانت غائبة عن صفحات تاريخنا ودفينة في وثائق الحملة الفرنسية حتى حقبة التسعينيات من القرن العشرين.
لذلك كان من المهم أن نلخص طبيعة دور نابليون وفرنسا في تأسيس المشروع الصهيوني الذي كان له أكبر التأثير على تاريخ المنطقة والعالم.

*الثورة الفرنسية وأثرها على الشرق الإسلامي.
ربما كان من حق القارئ أن يندهش إذا عرف أن قيام الثورة الفرنسية كان له تأثير عارم وجارف على الشرق الإسلامي.
رغم أن المعلوم بالضرورة من كتب التاريخ أن الثورة الفرنسية كان لها التأثير الأعظم على أوربا باعتبارها الحدث المفصلي الذي أصبحت أوربا قبله مختلفة جذريا عن أوربا بعده.
وتأثير الثورة الفرنسية في الغرب لا علاقة له بموضوعنا، لكن تأثيرها على الشرق يكفي أن نقول بأنه لولا قيام الثورة الفرنسية وظهور شخصية (نابليون بونابرت) في موقع الأحداث، لما بزغت فكرة الوطن القومي لليهود، ولا تكونت دولة الكيان الصهيوني من الأصل!
وبالطبع تخالف هذه الحقائق كل ما درسناه سابقا عن نابليون والحملة الفرنسية والرعاية البريطانية لفكرة الدولة اليهودية.
وسبب ذلك أن الوثائق الكاشفة لهذه الحقائق ظلت مستترة ومهملة عنا حتى تسعينيات القرن العشرين تقريبا!
أي أن وثائق الحملة الفرنسية التي قلبت طاولة البحث العلمي حول الحملة الفرنسية ظلت بعيدة عنا حتى تسعينيات القرن العشرين.
ولكي يدرك القارئ تسلسل الأحداث بترتيبها التاريخي سنبدأ القصة من بدايتها.

حيث ظهر في التسعينيات مرجع بالغ الأهمية للقضية الفلسطينية كتبه أستاذ الأجيال (محمد حسنين هيكل) وأصدره بعنوان (المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل) يؤرخ فيه للتاريخ السياسي الخاص بالقضية الفلسطينية واحتوى الجزء الأول من الكتاب على مفاجأة مذهلة وهي أن وثائق الحملة الفرنسية على مصر تم العثور عليها رغم أن هذه الوثائق كان متعارفا بين الباحثين أنها مفقودة وضاعت بعد خروج الحملة الفرنسية وأنها في الغالب غرقت مع الأسطول الفرنسي الغارق بعد معركة أبي قير البحرية الشهيرة.
واقتنع الباحثون أن كنز وثائق نابليون ضاع وتم فقده لأن الوقائع التاريخية تشير إلى أن الأسطول الإنجليزي الذي هزم الفرنسيين في معركة أبي قير قد ترصد للسفن الناجية من الأسطول الفرنسية وأغرقها
وقد بحث علماء التاريخ الحديث في خزائن وزارة الخارجية الفرنسية ووزارة المستعمرات ووزارة الحربية الفرنسية عن تلك الوثائق وبالفعل لم يجدوا منها شيئا
لكن أحد أهم علماء التاريخ الحديث وهو الدكتور (أحمد حسين الصاوي)، خطر بباله أن تلك الوثائق ربما نجت بالفعل وتم تخزينها في محفوظات وزارة البحرية الفرنسية والتي لم يخطر ببال الباحثين أن يطالعوا وثائقها.
وفوجئ الدكتور الصاوي بأن كنز وثائق الحملة الفرنسية يتركز معظمه في تلك المحفوظات، حيث عثر الصاوي على عشرين ألف وثيقة منها تقبع في انتظار التحقيق والبحث.
وهرع الدكتور الصاوي لوزارة الثقافة المصرية ووزيرها (فاروق حسني) ليطلب تمويل الجهود العلمية لتحقيق تلك الوثائق لكنه لم يجد حماسا أو تشجيعا!
وهذا أمر طبيعي لأن شلة وزارة الثقافة ومثقفيها ومن شايعهم كانت الحملة الفرنسية بالنسبة لهم كالكعبة المقدسة، لأنهم ينظرون لها كحملة تنوير!
أضف إلى ذلك أن الحديث عن مشروع نابليون الاستيطاني الذي مهد وخطط لتكوين الدولة اليهودية كانت موضوعا محظورا بالنسبة لفاروق حسني وبقية مثقفي التطبيع الذين ظهروا بمصر على فتر ات متفاوتة ويعطل طموحاتهم المختلفة، فمنهم من كان يسعى لمنصب دولي مثل (فاروق حسني) الذي تقدم لمنصب مدير اليونسكو، ومنهم من كان يسعى لجائزة نوبل ومنهم من كان يسعى للشهرة في عالم الغرب .... الخ تلك الطموحات" "!
وفي النهاية قاد الدكتور الصاوي حملة تبرعات لتحقيق الوثائق ونجح بالفعل في ذلك ليقدم للباحثين مصدرا هائلا أعاد النظر به إلى تاريخ تلك المرحلة من جديد
وكان الاكتشاف المذهل الذي أعلنت عنه وثائق نابليون وأوراقه الخاصة أن فكرة تجميع اليهود في موطن واحد في أرض فلسطين بالتحديد، لم تكن فكرة بريطانية بدأت مع نداءات المؤتمر الصهيوني الأول.
بل كانت الفكرة في الأساس فكرة (نابليون بونابرت).
بل المفاجأة الأعظم أن حملة نابليون على مصر لم تكن بهدف تأسيس إمبراطورية فرنسية في الشرق وفقط كما قالت كتب التاريخ، بل كانت حملة نابليون تهدف في الأصل إلى تخصيب وتجهيز الأرض لتوطين اليهود تحديدا على أرض فلسطين في خطة بعيدة المدى تمنح الاستقرار والديمومة للإمبراطورية الفرنسية في الشرق بحيث لا تتمكن حركات التحرر القومي من إعادة طرد الصليبيين الجدد مرة أخرى
وقد تمكن الإنجليز بعد ذلك من مطالعة خطة نابليون وأعادوا إحيائها وتخطيطها ليتم تنفيذها بخطوات استمرت أكثر من مائة عام قبل التنفيذ الفعلي!

لكن السؤال هنا؟
ما الذي كان يهدف إليه نابليون من فكرة توطين اليهود في فلسطين، وما الفائدة التي كانت ستعود على الإمبراطورية الفرنسية من ذلك؟
وكيف وقعت أوراق خطة نابليون في يد مليونيرات اليهود في إنجلترا وتحمست لها السلطة الإنجليزية باعتبارها خطة عبقرية تحقق لهم احتلال الشرق الأوسط والسيطرة عليه دون التورط في الاحتلال المباشر لكافة الدول العربية؟
ولماذا تحالف الغرب بأكمله حتى اليوم لدعم وجود إسرائيل في المنطقة باعتبارها صمام أمان المصالح الغربية في الشرق الأوسط؟!
هذا ما سنعرفه من تفاصيل فكرة نابليون وشخصيته.

*نابليون وحلم الإمبراطورية الفرنسية في الشرق

المصالح وثروات الشرق دائما كانت المحرك الرئيسي من الغرب في التعامل مع كافة دول الشرق الأقصى والأدنى والأوسط
وعندما احتل الرومان المشرق العربي في الشام ومصر لم يكن الهدف الرئيسي والمحرك الأساسي إلا المصالح الاقتصادية، رغم أنهم دوما يحملون الصليب ويجعلون الشعارات الدينية هي المحرك الظاهر أمام الجماهير.
وذلك لطبيعة التحالف الحاكم بين الكنيسة الغربية والأسر الحاكمة، حيث تقوم الكنيسة بمنح الشرعية الإلهية بالدين لسلطة الحكم، وفي المقابل يعطيها أهل الحكم الشراكة والدعم في مواجهة الجماهير المطحونة.
وليس معنى هذا أن التطرف الديني الصليبي كان زائفا، أو غير موجود بل كان موجودا – ولا زال-وبقوة لدى الكنيسة الغربية، لكن قصور الحكم الأوربي وقادته السياسيين دعموا هذا التطرف ووضعوا قواتهم تحت تصرفه لأنه يتوافق تماما مع مصالحهم السياسية والاقتصادية، ولولا هذا لظلت أحلام الكنيسة باستعادة الشام ومصر مجرد أحلام على الورق.
بمعنى أن حرب الغرب على الشرق كان دافعها لدى الملوك هو الهدف الإمبراطوري والسياسي الاقتصادي، ودافعها عند الكنيسة هو الهدف الديني

وعندما فتح المسلمون الشام وإفريقيا وحاربهم الرومان، ومن بعدهم الإمارات الصليبية كانت الحرب أيضا قائمة للنفوذ السياسي والمصالح الاقتصادية المتزاوجة مع الشعارات الدينية المتطرفة التي كانت سببا في الحملات الصليبية على الشرق.
وبطبيعة العصر في زمن أوربا الوسيط كانت المواجهة مع الشرق تتمثل في الحملات العسكرية وتأسيس الإمارات الصليبية في منطقتين تحديدا هما مصر والشام.
لكن القوة العسكرية الأوربية كانت تفشل دائما في تلك المواجهات بسبب التحالف الوثيق بين إمارات مصر والشام باستمرار.
حيث أصبح تواصل مصر والشام ضد الاحتلال الصليبي أمرا متكررا ومنهجا محسوما للدفاع عن الشرق والمنطقة بأكملها
وبفشل آخر الحملات الصليبية على مصر وهي الحملة الصليبية السابعة التي وقع فيها (لويس التاسع) أسيرا في المنصورة.
توقف النشاط الأوربي العسكري في فرنسا نتيجة للصراعات الداخلية والخلافات الخارجية حتى بدأت إرهاصات الثورة الفرنسية بعد فترة طويلة مع حكم لويس الرابع عشر حتى نجاحها في عهد لويس السابع عشر، نتيجة لجهود وكتابات فلاسفة (نظرية العقد الاجتماعي)، مثل (جان جاك روسو -لوك – هوبز)
وهم المفكرون الفرنسيون الذين خرجوا بأفكار جديدة مخالفة لأفكار الفلسفة الأوربية العتيقة لأفلاطون وأرسطو وسقراط وهي الفلسفة التي استمرت الكنيسة الغربية في تبني بعض أفكارها لتظل أوربا محكومة بالظلام الحضاري تحت سيطرة الكنيسة وقصور الحكم" ".
فجاءت فلسفة العقد الاجتماعي لتطرح قضية مشاركة الشعب في الحكم ومحاربة استئثار القلة الحاكمة بثروات البلاد
وقد تمت مواجهة هذه الأفكار بعنف السلطة لكنها لاقت رواجا كبيرا بين العوام، خاصة مع العنصرية العنيفة التي كانت تحكم الطبقات في المجتمع الأوربي.

في تلك الأثناء وُلد نابليون في جزيرة (كورسيكا) الإيطالية التي كانت ترضخ لظلم حكام (جنوة) الإيطاليون ولكن هذا الظلم تزايد بمصادفة قدرية جعلت هناك علاقة بين فرنسا وكورسيكا، حيث قامت فرنسا باستئجار كورسيكا لمدة 99 عاما من حكام جنوة فتوجه الغضب الشعبي الساحق في كورسيكا تجاه فرنسا التي كانت تعيش آخر فترات جبروت الأسرة الملكية الحاكمة
وولد نابليون عام 1769 تحت الاحتلال الفرنسي الغاشم، ورغم كون عائلته من العائلات الثرية العريقة إلا أن الاحتلال قام بتضييق سُبل الرزق والعيش لأقصي حد واضطرت أمه لاحتراف الأعمال اليدوية كي تنفق عليه فانحدرت أحوال الأسرة للفقر المدقع
وكعادة الظلم الغاشم ظهر من بين الشعب في كورسيكا زعيم شاب مناضل حاز شهرة واسعة بين العوام وهو (باسكال ياؤولى) قام بتشكيل ميلشيات مسلحة لمقاومة الاحتلال الفرنسي كان منهم والد نابليون وتم قمع حركة ياؤولى بالقوة المسلحة مما حداه للهروب إلى إنجلترا، وعلى إثر ذلك قام والد نابليون بالانسحاب من قوات المقاومة وحاول مد جسور الصداقة مع الحكام الفرنسيين المحتلين خوفا على عائلته
وكان والد نابليون من الآباء العباقرة الذين يجيدون قراءة مواهب أبنائهم فأدرك موهبة ابنه نابليون في هوايته للتاريخ والخطط الحربية، فعمل على إلحاقه بإحدى المدارس العسكرية التابعة للإمبراطورية الفرنسية التي تحتل بلاده عن طريق استغلال علاقته الجديدة مع الحكام الفرنسيين لبلاده، ونجح بالفعل في إلحاقه بمدرسة (برين) الحربية العريقة التي كانت تضم أبناء الصفوة والمتفوقين دراسيا فقط، وعانى نابليون من شظف العيش بين أبناء الأثرياء لذلك عمل على تقوية مركزه الدراسي والتفوق فيه كي يتفادى شعوره بالاحتقار بين زملائه أصحاب النفوذ والثراء الفاحش" "

والواقع أن عقدة نابليون من زملائه كان لها أكبر الأثر في تشكيل عبقريته العسكرية والاستراتيجية لأنه وجد الحل الوحيد لمقاومة تكبر زملائه هو الانفراد بنفسه في المكتبة حيث عكف على قراءة المراجع الكبرى في التاريخ والعسكرية والتخطيط وخاصة مؤلفات المؤرخ الفرنسي (بلو تارك)
ظهر أثر ذلك سريعا عندما أحاطت الثلوج بمدرسته وَعَطّلت فنائها، فتقدم بفكرة عبقرية لقادته وهي استغلال الثلوج في تدريب الطلبة على مقاومة عوامل الجو والحرب في ظل ظروف جوية صعبة. وقد كانت هذه أول تكتيكات حروب الصاعقة الحديثة في أوربا والتي عرفها المسلمون الأوائل قبلهم بقرون.
لكن تطبيقها الأول في أوربا كان على يد نابليون.
وعلى إثر ذلك حاز نابليون على المركز الأول بلا منازع، ومن ثم انتقل للمدرسة الحربية الرئيسية للجيش الفرنسي في باريس وهناك صَدَمَته مظاهر الترف المذهلة للطلاب فتقدم بمذكرة لمدير المدرسة ينتقد فيها تلك المظاهر التي لا تناسب الحياة العسكرية مما لفت إليه الأنظار كضابط موهوب.
وظل نابليون بعيدا عن أسرته في باريس مشغولا في دراسته، حتى وفاة أبيه لكنه قاوم أحزانه واستمر بمدرسته حتى التخرج وخدم في فرقة الجنرال (لافيير) كملازم ثان ولم يتجاوز عمره 16 عاما

وكانت العنصرية في إمبراطورية فرنسا كعادة أوربا موجودة حتى في المجال العسكري, فكانت الترقيات العليا يتم توزيعها بناء على الانتماء للطبقات العليا في المجتمع لا الكفاءة العسكرية وكان نابليون يعلم ذلك بالطبع, لكنه وبقية عوام الشعب الفرنسي كانوا يقرءون ويطالعون أفكار فلاسفة الانقلاب الحضاري في فرنسا الذين تحدثنا عن أفكارهم إلى جوار بروز كتابات المفكر الفرنسي (فولتير ) الذى ركز الدعوة للتمرد والعصيان وهدم نظام الحكم وأفكار (جان جاك روسو ) الداعية لعقد اجتماعي جديد وإعلان حرب مستعرة ضد الحكم الإمبراطوري الإستعبادي
وتزايد التفاعل الجماهيري مع استمرار زيادة الضرائب وتنويعها لصالح الطبقة الحاكمة ورجال الكنيسة فضلا على القمع الشرس للشعب وشحن كافة المعارضين في معتقل (الباستيل) الرهيب الذي كان معتقلا تاريخيا في استخدامه لشتى أنواع التعذيب
وقد زاد من قوة الشحن أن الملك (لويس الرابع عشر) جد الحاكم المعاصر للثورة (لويس السابع عشر) كان قد بنى مجمعا سكنيا رهيبا بالغ الفخامة والاتساع بعيدا عن العاصمة وملأه بالقصور والمنتجعات وأطلق عليه اسم (قصر فرساي) وأصبح مقر الحكم الإمبراطوري ونقل إليه جميع الوزراء والنبلاء والأمراء وكبار رجال الحكم والإقطاعيين ليسكنوا فيه جميعا وتحيط بهم الأسوار الشاهقة، بعيدا عن العاصمة القديمة (باريس)

ورغم أن الهدف الرئيسي من هذا التجمع هو أن لويس الرابع عشر كان يخشى من انقلاب الأمراء عليه فعمل على جمعهم معه في مكان واحد، إلا أن هذا لم يكن الهدف الوحيد بل كان أحد أهم الأسباب هو جمع رجال الدولة في حصن فخم بعيدا عن الفقر المدقع وعشوائية العوام وتمردهم
وقد ورث (لويس السابع عشر) كل حقد الشعب الفرنسي على قصر فرساي ورغم أنه لم يكن حاكما غشوما كسابقيه إلا أن ضِيْق عقله وسيطرة رجال دولته عليه زادت من القمع بعد سيطرة (ماري أنطوانيت) زوجته على مقدرات الأمور واستغلت الملكة حصن قصر فرساي في حجب آهات الشعب عن مَلِكِه وأقنعه وزراؤه أن التمرد يأتي من قلة قليلة كالعادة
ولأن الثورة كانت تحتشد في النفوس بشكل طاغ يذكيها فلاسفة الثورة فقد تعددت التجمعات والإضرابات الشعبية وزادت ضراوتها حتى تجمع في العاصمة عدد هائل من جموع الشعب الفرنسي بغير قائد معروف أو رموز ثورية تقود الجماهير
ولعل هذا هو ما منح الثورة الفرنسية طابعا شعبيا كبيرا.
وفى غياب القادة وقفت الجماهير حائرة إلى أين تذهب؟!
فمقر حكم الإمبراطورية في قصر فرساي، ومقر القمع والقتل في معتقل الباستيل، ووسط هذه الحيرة دوت صرخة أنثوية من عجوز فرنسية بلا مأوى وتعيش على التسول قائلة:
(إلى الباستيل)
وبغير ترتيب مسبق استمعت الجماهير لها وتوجهت إلى معتقل الباستيل الرهيب لتكسر أسواره وتفتك بحراسه وتحرر آلاف المعتقلين في خطوة قذفت الرعب الحقيقي في قلوب الحكومة ورجال القصر، واستمر فوران الثورة رغم استفزازات النبلاء لهم ووصفهم بالرعاع والغوغاء فردت الجماهير بتتبع كل المنافقين ورجال الحكم الموجودون بالعاصمة باريس ووجهوا خطابا مفتوحا للملك لويس السابع عشر بترك قصر فرساي والانتقال لباريس العاصمة حتى يعاين أحوال رعيته" "
كانت الملكة (ماري أنطوانيت) سياسية محنكة وأدركت من انتشار جموع الغضب أن مطلب الشعب للملك بالانتقال لباريس لن يكون المطلب الوحيد وأن الاستجابة له معناها نهايتها ونهاية أسرتها
ولذلك قررت الفرار إلى شقيقها ملك النمسا، وبالفعل أقنعت زوجها بالفرار فحزموا حقائبهم للفرار إلى النمسا غير أن الخبر تسرب إلى جموع الثوار فتمكنوا من إلقاء القبض عليهم جميعا وحملوهم لباريس وهناك كان الشعب قد انتخب عددا من الثوار ليكونوا متحدثين باسمه فقدموا عريضة مطالب إلى الملك عام 1791 تتضمن دستورا وعقدا اجتماعيا جديدا للبلاد
واضطر الملك للقبول بلا قيد أو شرط وأصبحت الأمة هي مصدر السلطات وفق الدستور الجديد المبنى على نظرية العقد الاجتماعي
وهرب أغلب النبلاء والمتحالفين مع النظام الملكي إلى النمسا بطبيعة الحال باعتبار أن الحاكم فيها هو شقيق الملكة ماري أنطوانيت ووقف ملك النمسا في وجه الحكومة الفرنسية الجديدة وانتوى العمل على إعادة الحكم الإمبراطوري بالقوة
وأعلن أن الحكم الملكي الفرنسي هو الأصل وقام بسب الثوار، وتحت تأثير تصرفات ملك النمسا كان الملك الفرنسي المحاصر بالثوار لا يجرؤ على إبداء تأييده لتصرفات صهره ملك النمسا، وخضع للفرمانات التي طالبه بها الثوار من اعتبار كل من فر إلى النمسا خائن، وأعلن الحرب على النمسا وهو مجبر وعندما حاول إبداء اعتراضه على قرار إعلان الحرب على النمسا حاصر القصر أكثر من أربعين ألفا من الثوار
وتطورت الأحداث سريعا في أغسطس عام 1792 واندلعت مظاهرة أخرى أشد عنفا من الشعب وقاموا بمهاجمة القصر الملكي وقتل كافة أفراد الحراسة الملكية وألقوا القبض على الملك وزوجته وزجوا بهم في السجن عقابا لهم على ما فعلوه بالشعب الفرنسي
وفى تلك الآونة اهتزت عروش أوربا كلها في إنجلترا وإيطاليا وألمانيا والنمسا من قبلهم لما قد تفعله الثورة الفرنسية من تأثير ساحق على شعوبهم المقهورة فكان من الطبيعي أن يحاولوا الوقوف في وجهها بالتآمر ما دام التدخل العسكري لن يجدي، غير أن الشعب الفرنسي قام بمحاكمة سريعة للملك وزوجته وحاشيته وقاموا بإعدامهم تحت المقصلة بعد أن رأى الثوار تواطؤ ملوك أوربا لحماية الملكية الفرنسية وقامت الحروب بينهم وبين وأوربا التي قررت التدخل عسكريا لقمع الثورة الفرنسية بالقوة.

وهنا برز نجم نابليون.
ففي وسط غمار الأحداث وعندما واجهت الثورة الفرنسية منعطفا تاريخيا بعد أن انتوت الدول الأوربية التدخل العسكري لقمع الثورة.
هنا قرر الجيش الفرنسي وقياداته خوض غمار الحرب مدفوعا بقوة الثورة الشعبية.
وشاء القدر أن تكون المواجهة الأولى مع تحالف الجيش الإنجليزي شديد الاحتراف مع الجيش الإسباني، لكن نابليون –الذي قد أصبح ضابطا فذا في الجيش الفرنسي – قَدّم أول إبداعاته عندما نجح في كسر الجيش الإنجليزي في موقعة (تولون)
ورغم أن نابليون كان في عمر الرابعة والعشرين، ولم يكن قائد المعركة الأعلى، إلا أن حنكته وذكاءه في محاصرة الجيش الإنجليزي وبراعته الشديدة في استخدام المدفعية جعلت الجيش المهاجم يبادر للانسحاب تحت تأثير قوة النيران الفرنسية والاستبسال الذي خاض به نابليون المعركة مع فرقته.
ولمع اسم نابليون بشدة بعد هذه المعركة ليصدر القرار بترقيته لرتبة الجنرال، وتنفجر شعبيته وسط العوام كأسطورة حية.
وأدرك الإنجليز أنهم تسببوا في خلق أسطورة فدائية للثورة الفرنسية قد تسبب لهم القلق فيما بعد إذا التف حوله الشعب والجيش
فحاولوا اغتياله مرتين لكنهم فشلوا.
وبعد فشل محاولات الاغتيال بدأ نابليون يظهر كمفكر استراتيجي وسياسي محنك جنبا إلى جنب مع براعته العسكرية
وانتشرت كلماته الشهيرة التي قال فيها (المستحيل كلمة غير فرنسية) وأيضا مقولته العسكرية الشهيرة (الهجوم خير وسيلة للدفاع)
ومن أهم الملاحظات التي ينبغي التوقف عندها في آثار معركة (تولون) أن نابليون كان قائدا عسكريا بارعا لكنه من زمرة القواد أصحاب العنف الوحشي في القتال
فقد كانت الأشلاء المحترقة والضرب بالمدافع بلا تمييز هي سمة معركة تولون مما جعل جنود نابليون أنفسهم يشعرون بالاشمئزاز بعد دخولهم المدينة، وفى هذا كتب الأديب الأمريكي (آلان شوم) عن طبيعة نابليون في المعارك قائلا:
(إن مقارنة أفعال نابليون بجنكيز خان تبيض صفحة هذا الأخير ومجازره وأهواله التي سطرها التاريخ)

وهذه الوحشية في سلوك نابليون الإجرامي الذي لا يمت لتقاليد الشرف العسكري بصلة، هي مجرد تكرار واستنساخ للعقيدة العسكرية الأوربية كلها، بمعنى أن ما كتبه المفكرون والأدباء عن وحشية نابليون وهتلر وموسولينى بالذات، ورغم أنه حقيقي تماما إلا أن هناك ملحوظة بالغة الأهمية وهي أن وحشية هؤلاء كتب عنها المؤرخون الأوربيون والأمريكيون تحديدا للخصومة التاريخية بينهم وبين هؤلاء القادة بفعل معارك نابليون ضد الإنجليز ومعارك هتلر وموسولينى ضد الإنجليز والأمريكيين
وهذه الكتابات انتشرت فقط لمجرد تبييض صفحة قادة يتفوقون في الوحشية بمراحل على تلك الشخصيات وهم قادة الإنجليز والأمريكان الذين قادوا الحربين العالميتين وارتكبوا من المجازر ما تزيد أهواله بكثير أفعال نابليون وهتلر وموسولينى
فالفرنسيون قتلوا عشرات الملايين في مستعمراتهم أثناء احتلالها بعد العصر النابليوني، ومجازرهم في الجزائر وحدها خَلّفت مليون ونصف المليون قتيل تقريبا منهم مئات الآلاف في مظاهرة حاشدة تم ضربها بالطيران
والإنجليز ارتكبوا نفس المجازر في الشرق الأوسط والأقصى رغم سياستهم المنتشرة عنهم أنهم لا يلجئون للعنف المباشر ويفضلون سياسة (فرق تسد)
والأمريكيون في مجموع أعمالهم منذ الحرب العالمية الثانية فقط وحتى اليوم يتفوقون في عدد الضحايا على ضعف عدد ضحايا مجازر الدول الأوربية مجتمعة بدون أدنى مبالغة ويكفي أن بداية مجازرهم المعاصرة كانت بإلقاء القنابل الذرية والنووية على هيروشيما ونجازاكي دون أدنى مبرر عسكري فعلى لهذا الإجراء بعد أن انهزمت اليابان وألمانيا وإيطاليا وأصبح استسلامهم مسألة وقت لا أكثر
إلا أن الوحشية الأمريكية استخدمت القنبلة الذرية الأولى فقط لتعلن للعالم عن وجود سلاح هائل في حوزتها لم يعرف التاريخ الحديث مثله، فجربوه على اليابان في قنبلتهم الأولى، وبعد أن تبخر مائة ألف بشري في لحظة واحدة وأصيب نصف مليون من جراء هذه القنبلة لم يكتف الأمريكيون بذلك وقاموا بإلقاء القنبلة النووية الثانية لمجرد وكان مبررهم يبين مدى الاستهتار المخيف بالحياة البشرية
حيث قالوا لترومان -الرئيس الأمريكي وقتها -أنهم اخترعوا قنبلتان إحداهما انشطارية والثانية اندماجية ويحتاجون لتجربة القنبلتين معا في ميدان القتال، وبالفعل تم إلقاء القنبلة الثانية لتترك نفس الأثر الذي تركته القنبلة الأولى" "
وعبر تاريخ طويل من الوحشية في فيتنام والأميركتين والشرق الأوسط ختموا أعمالهم بما فعلوه في العراق عندما استخدموا الأسلحة الذرية المحدودة وقنابل اليورانيوم الـمُنَضّب لإخضاع المقاومة العراقية في (الفالوجا) تحديدا لتصبح هذه المدينة صاحبة أعلى رقم في معدلات التشوه الجنيني والأمراض السرطانية, فضلا على ما فعلوه قبل غزو العراق من الحصار الذى تسبب في موت مليوني طفل عراقي بدم بارد, حيث تم حظر تصدير الألبان والأدوية إليهم فقط لإخضاع نظام صدام , وعندما سُئلت مادلين أولبرايت عن هذه الفاجعة الإنسانية وكيف يسمح بها الضمير الأمريكي قالت أولبرايت بمنتهى البرود:
(نعم إنها تضحية كبيرة ... لكن الثمن يستحق!)
فالخلاصة من هذه الوقائع هو ضرورة الانتباه لأمرين:
الأول:
أن كثرة المصادر التي تتحدث عن فظائع نابليون وهتلر وموسولينى راجعة بالأساس أنه انتقام تاريخي نفذته الحضارة الغربية التي تتجاهل وحشيتها المماثلة لوحشية هؤلاء القادة
الأمر الثاني:
أن الإرهاب بأعتى صوره ومفاهيمه هو دين أوربي مستمر منذ عهد الإمبراطورية الرومانية وحتى العهد الأمريكي الحالي، بل إن عدد ضحايا النظام الغربي الحالي أضعاف التاريخ الوحشي القديم بسبب اختلاف نوع السلاح، وأن هذه الصورة الوردية التي يصدرونها لنا باعتبارهم دعاة إنسانية إنما راجعة بالأصل لسحر الإعلام الذي يمتلكون مفاصله حتى تمكنوا به من أن يقنعوا بعض المسلمين أن تاريخنا نحن هو تاريخ الإرهاب وأن الغرب دعاة لحقوق الإنسان!
وقصة الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان كشفتها عشرات بل مئات الجرائم التي توضح الانتهازية الغربية في السياسة الدولية وحتى السياسة الداخلية.
وقد لخص المفكر الكبير (نعوم تشومسكي) هذه الازدواجية الغربية في التعامل مع حقوق الإنسان بقوله في إحدى اللقاءات العامة:
(أن جزء كبيرا من مأساة الفلسطينيين يعود إلى أنهم لا يحظون بدعم دولي من الدول الغربية الكبرى، وسبب ذلك يعود في الأصل أنهم لا يملكون الثروات أو القوة التي تعود بالفائدة على الغرب وهذا هو مفهوم الغرب للحقوق.
فلو كنت بلا قوة أو ثروة فأنت لا تملك حقوقا، فلو كنت طفلا زنجيا فقيرا فلن تحظى بأي دعم أو حقوق)
وهو نفس الأمر الذي كشفه المفكر الفرنسي المسلم (روجيه جارودي) الذي فضح السياسة الغربية من الداخل في معظم مؤلفاته" "
فالبرجماتية والنفعية المحضة هي التي تحرك السياسة الغربية بالكامل, حتى ضد مواطنيهم أنفسهم, وقد رأينا في القديم والحديث أدلة ذلك بشكل علني لعل آخرها الحملات الدعائية المضادة لحرب روسيا مع أوكرانيا والتي اتهم فيها الغرب روسيا بارتكاب جرائم حرب بينما جرائم إسرائيل منذ الثلاثينيات ومذابحها الدورية لا تلقى أدنى إدانة أو اهتمام, بل بلغ بهم التبجح أنهم اتهموا المقاومة الفلسطينية في عملية (طوفان الأقصى) بارتكاب جرائم حرب بينما إسرائيل أغرقت غزة بأطنان المتفجرات التي قتلت 6000 طفل و5000 امرأة بخلاف الرجال والشباب حتى أوائل ديسمبر 2023 فقط.
وليس هذا فقط.
بل تم استنفار الآلة الإعلامية في الغرب كله للوقوف ضد المظاهرات الشعبية الغربية الداعمة لفلسطين في فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة وتم اضطهاد ومحاكمة معظم من شاركوا فيها أو دعوا لها رغم أنها كانت مظاهرات شعبية مليونيه.
فأين حرية الرأي والتعبير وأين الديمقراطية؟!

وعودة لتاريخ نابليون ...
ونابليون كما قلنا كان عبقريا حساسا، لذلك جاءت الوحشية رد فعل على صدمات نفسية تعرض لها كانت أولها صدمة العنصرية والفقر، وثانيهما صدمة عنيفة تكمن في أنه فشل في قصص حبه حيث فشلت قصته الأولى لرفض حبيبته الزوج منه احتقارا لشأنه
أما قصته الثانية والأشهر وهي قصته مع (جوزفين) التي تزوجها وهام بها فكانت أسوأ أثرا عليه من قصته العاطفية السابقة، حيث كانت جوزفين حديث المجتمع الفرنسي في انحلالها الأخلاقي الذي لم تكن تكتمه، وعندما تزوجت نابليون وأدركت عشقه لها استخدمت عواطفه للسيطرة عليه وجعلته يرفض نصائح واعتراضات عائلته ومستشاريه على العار الذي تسببت فيه جوزفين لسمعته بعد استمرارها في مواعدة عشاقها في فترات غياب نابليون في الحروب
وهذه الصدمات تحديدا غَيّرت في طبيعة نابليون لتكرس الوحشية في شخصيته العسكرية ثم كانت صدمة جوزفين سببا رئيسيا من أسباب لجوء نابليون للفلسفة العلمانية في الحكم وذلك بعد أن ضرب عرض الحائط بالقواعد الكنسية وطلق جوزفين فيما بعد، رغم أن الشريعة الكنسية تحرم الطلاق بقيود كثيرة