الموضوع: الجرو
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
14

المشاهدات
6383
 
انمار رحمة الله
من آل منابر ثقافية

انمار رحمة الله is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
68

+التقييم
0.01

تاريخ التسجيل
Jul 2009

الاقامة

رقم العضوية
7382
01-08-2016, 11:12 PM
المشاركة 1
01-08-2016, 11:12 PM
المشاركة 1
افتراضي الجرو


منذُ أن كُنَّا صغاراً والعواءُ لا ينقطعُ ،متحرِّشاً بطمأنينةِ المساءات. منذ أن كُنَّا صغاراً وصورةُ ذلك الجرو ملتصقةٌ بصمغ الماضي،حين ظلّت تُخايلنا وهو يركضُ وراءنا، لمّا أرضيـنا غريزته باللعب والقفز والنباح غبطة وسرورا.كُنّا صغاراً لا نفهم كيف تتصرفُ القريةُ وأهلُها ،نركض في الدروب،معلنين عبثَ الطفولة وبراءتها ،في أزقَّة قرية متخمة بالتصنّع والمداهنة.قريتُنا الصغيرة يحيطها سورٌ طويل،أقنعونا أن خلف السور لصوصاً ووحوشاً وغيلان،وأن للقرية عيناً لا تنام ولا تكلُّ (حارسها الأمين الذي يحرسُ بوابتها العالية) .نسرقُ مِن وقتنا دقائق لنتجمع خطاً غير منتظم نطالع البوابة والحارس الذي كان يتركها كلَّ صباح قبل أن يغادر إلى بيته،مُخلِّفاً اسطوانة معدنية فيها جمرٌ يلفظُ أنفاسَه الأخيرة.ذات صباح وحين أنهى حارسُ البوابة نوبةَ حراسته الليلة ،راح يجرُّ خلفه نعاسه وإرهاقه وجرواً صغيراً.دُهشنا حين رأينا الجرو يقفز حول الحارس،متملّقاً ،نابحاً،مهرولاً أمامه وراجعا خلفه. حينها عرفنا أننا لسنا الأطفال الوحيدين في القرية ، فها قد التحق بنا جروٌ وديع ،أبيض فاقع له ذنب لا يكف عن التلويح،وعينان تطاردان أي حركة تصدر هنا وهناك. تسلَّلنا ذات يوم ،صوب بيت الحارس المنزوي في آخر القرية ،تدفعنا نسائم ربيع فَتيّ ،ورائحةُ عشب نَديّ،وزقزقةٌ نسمعها حيثما أدرْنا أسماعنا. وجدنا الجرو نائماً قرب باب المنزل ،وقد أنهكته الليلةُ البارحة،والحارس أيضاً يغطُّ في نوم عميق كجروه الذي ما أن أحسَّ بدبيب أقدامنا ،وصرخات إعجابنا به ،وابتهاجنا بشكله ،حتى اندفع نحونا نابحاً /قافزاً /مبتهجاً مثلنا،رمى احدُنا عصا صوب مكان في زاوية المنزل، فأسرع ناحيتها الجرو، التقمها وعاد بها نحونا،فنزلتُ عليه،مَسحتُ على ظهره ونباحُه لا ينقطع .التفتَ الجرو إلى باب المنزل حين شعرَ بشيء لم نشعر به من شدة الحبور والعجب ، انتبهنا إلى الحارس وهو يلوح بيديه لاعناً وجودنا ،شاتماً وقوفنا حول الجرو .لم نتمالك أنفسنا، وتدافعنا مهرولين إلى شارع آخر ،وقد لفظت مثانة كلِّ واحد منا ما بها من البول خوفاً من صراخ الحارس الحازم.. صورة الجرو وفكرة العودة إليه قد راودتني ليلتها ولم أكف عن التفكير به.
في اليوم التالي ،فجَّرتُ قنبلةَ الفكرة بين أصدقائي: (دعونا نرجع إلى الجرو مرةً أخرى...) فلم يوافقني جُلَّهم ،وتركوني أقطع لهم الوعودَ بمراوغة الحارس ،واللعب مع الجرو .لكنهم خافوا،فقررت الذهاب بمفردي، وقد ملأتْ قلبي الشجاعةُ والإصرار .تركتهم خلفي مهرولاً وصيحاتُ وعيدهم غرستْ أظفارها في ظهري، لكني قاومتُ على أن لا التفتَ وأرجع، فالجرو في انتظار صديق لكي يلعب معه ،وصوتٌ خفيٌّ كان يهمسُ في أذني (أنتَ خيرُ صديقٍ لذاكَ الجرو الوحيد).
وصلتُ إلى منزل الحارس أجسُّ بأقدامٍ خفيفةٍ جسدَ الأرض، وأفتِّشُ بعينيَّ عن الجرو،هامساً، مُبسْبِسَاً ،عله يخرجَ لي وأراهُ.لكني صُدِمتُ حينَ سمعتُ صوتَ نباحه عالياً،من دون أن أعثر على مكانه!.فتّشْتُ كثيراً وتعبتُ من دون جدوى ،فحاولتُ التركيزَ والتصميم على العثور عليه،فسحبني صوتُهُ شيئاً فشيئاً إلى تنّور قدْ بُنِيَ حديثاً ،ومازالت آثارُ البناء واضحة عليه.تنّورٌ كبير أقفلتْ اليدُ التي بَنَتْهُ كلَّ النوافذ سوى نافذة صغيرة في أسفله،كان يتسلَّلُ منها الصوت ،علمتُ ساعتها أن الجرو محبوسٌ في التّنّور،فاقتربتُ منه حَذِراً ، وما أن تحسس رائحتي،ظل ينبح عالياً، وأقسمُ أني كنت اشعرُ به يبكي خوفاُ من مكانه المظلم.حاولتُ إيجادَ منفذ لكي أساعده على الهروب ،لكنني لم أفلح،وتأخّري لم يكن لصالحي هذه المرة،حين لمحني الحارسُ لمّا مدَّ عنقه من نافذة المنزل،فخرج راكضاً ورائي بعصا غليظة يحملها معه دوماً،هربت صوبَ منزلنا وصوتُ الجرو يعصفُ في أذني ،والدموعُ التي لم تستقر في عينيّ، كانتْ خيرُ دليل على حجم اشتياقي وألمي على صديقي المُعتقل.
***
سمعتُهم يتحدثون - رجالَ القرية - الذين فتلوا شواربهم ،واعدّوا لجلساتهم المتكأ المألوف في برانية شيخ القرية ،مع الحارس الذي راح يشرح بطولاته في حمايتهم وحراسة بوابة قريتهم العالية.كنتُ محشوراً إلى جنب أبي، لكي استمع قهراً إلى حديثهم الرتيب،وضحكاتهم المصطنعة.لكنَّني هذه المرة انتبهتُ بقوة وتوسعت أحداقي لكي أرى كلَّ تفاصيل المشهد،وانتصبت أذناي لكي تلتهمَ كلَّ الكلمات،حين تحدَّثَ الحارسُ عن جروه المحبوس،وقصة العثور عليه ،وتدريبه لكي يعاونه في حراسة البوابة.وعن أطفال أرادوا إفساد ما دبَّره ،فهو أراد جرواً يربيه ليكبر ويصير وحشاً يحرس باب القرية لا جرواً أليفاً يلاعب الأطفال،ولا يفقه من الغلظة شيئاً.فقرّر الحارس أن يبني تنّوراً يحبس الجرو فيه لكي يتوحش،ولن يعرفَ أحداً غيرَ الحارس من رائحته المعتادة حين يرمي إلى الجرو ما يزود من طعام .(إذن سيكون للقرية كلب يحرس بابها هذه المرة ؟) هكذا خَتَمَ شيخُ القرية الحديث بسؤاله،فلم يجبه الحارس إلّا بهزة رأس واثقة .تساءلت حينها بيني وبين نفسي (كيف لذلك الجرو الأليف أن يصير وحشاً؟).ورحتُ ألحُّ على نفسي أن تطاوعني وأجعل ذلك الجرو حرّاً مرة أخرى.كيف.؟ ومع من .؟ كلها أسئلة تطوف في مخيلتي التعبة،ومشاريع كبيرة أرهقت يومي ،وأشعلت النار في غابة أفكاري.عرفتْ أمي وأبي ما اشعر به فنهراني عنه وبكيتُ..بكيتُ من داخلي،فلم يساندني احدٌ،والجرو المسكين في طريقه إلى التحول إلى وحش عربيد.
مرَّتْ الأيامُ كالبرق في سماء الزمن،وصورةُ ذاك الجرو وصوتُه يحلّان ضيفين عليّ بين الحين والحين.نَبَتَ الشعرُ الخشنُ في ساعديّ وأجزاء من جسمي الذي بدأ يلفظُ طفولتَهُ ،كما نَبَتَ الحزنُ أيضاً في ارضِ قلبي ،التي اهتزَّتْ وربتْ به. نسمع أخبارَ الحارس وأخبار كلبه المخيف الذي لم يره احد .تناقلت الناس أن الجرو صار كلباً لا يعرفُ غيرَ الحارس ورائحته. يخرجُ معه ليلاً ويرجع معه فجْراً.وقد حذَّرَ الحارسُ أهل القرية من مغبّةِ التقرب صوب منزله إن لم يكن موجوداً ،إذ ينتظرهم في المنزل كلبٌ (وحشٌ) لا يرحم،ولا تأخذه بالمعضوض رأفة.فخاف أهلُ القرية وتهيَّبَ رجالُها ،وارتعبتْ نساؤها،وتبوَّلَ أطفالها في كل مرة ،فقد صارتْ سيرتُهُ قصةً تخيف بها الأمهاتُ الأطفالَ الذين يعاندون النوم.وبطولاتُهُ غدتْ فخراً لرجال القرية الذين تعوَّدوا المباهاة ببطولات غيرهم ،كما تتباهى المرأة الصلعاء بشعر أختها.والحارس لم ينل إلاّ الاحترام والتقدير والتبجيل من شيخ القرية وأهلها ،حتى زفَّ القدر إلى الناس خبراً أصابهم بالذعر. (لقد هرب الكلب ...) هكذا تلا الحارسُ نبأ تمرد كلبه ،حين شاهده جمع غفير راجعاً من عند باب القرية وحيداً ،وحين سألوه عن سبب هروب كلبه أجابهم: (لقد أُصيبَ بالجنون... نهرتُهُ فلمْ يُطعْ،فضربتُهُ بالعصا ،لكنه نبح في وجهي وقد تطاير الشر من عينيه،وحاول في النهاية أن يعضني ،فضربته بحجر ،وهرول هارباً مني والزبد يتطاير من فمه ولسانه المندلع .خذوا حذركم يا أهل القرية ...فالكلب سائب الآن ولم تعد لي سيطرة عليه).هلع أهلُ القرية جميعهم حين علموا بان الكلب يخْنُسُ الآن في إحدى الأمكنة،ولا يعلم أحد كيف يظهر وكيف يختفي .فاختفى الأطفال من الدروب ،وأقفلت الدكاكين باكراً،واختبأَ الناسُ في منازلهم سوى الحارس الذي أوكلوا إليه حماية قريتهم ،وهو من تصدى حالفاً لهم أن يكمل مشواره بلا كلل وخوف.كيف لا وهو الحارس الذي أمنت القرية في عهده ونامت واستقرت .أنا الوحيد الذي نام ليلته مرتاحاً ،علَّني أعثر عليه يوماً،وكنت اسأل نفسي:(هل سيتعرف عليَّ ؟هل يتذكر رائحتي؟ماذا لو لم يتذكرني وعضني ..!حينها سيكون ألم غدره بي أشد من ألف عضة).
***

الشتاءُ صباحاتُهُ باردةٌ في قريتنا التي تلفُّها الغابةُ من كلِّ جهة،والفجرُ ما أن يتسلَّل على مشارفها،حتى نجد السوق قد فتح فمه للمتبضعين،حيث الشوارع تهزُّ أتربتَها الخطى السائرةُ ذهاباً وإياباً.كعادتي خرجت إلى دكان أبي الذي ينتظرني كلَّ صباح،لكنني هذه المرة حوَّلتُ مسيرةَ خطاي صوبَ جمهرة من الناس شكَّلوا دائرةً وهم ينظرون إلى شيء على الأرض.حَشَرتُ رأسي بين أكتافهم فأذهلني منظرٌ بشعٌ ،حيثُ مُدِّدَ حارسُ البوابة وقد ذُبِحَ بلعومُهُ ونُهِشَ صدرُهُ،وسالت دماؤه حتى ملأت المكان كبركة حمراء .عَلَتْ أصواتُ الاستغاثة،وصرخَ الجمعُ مناشداً بحمله بعيداً عن الطريق،فانتشرَ الخبر كالنار في البارود،وتجمع أهلُ القرية جماعات جماعات، يتداولون الحادثة برعب دفيق.شيخُ القرية أعدَّ مجلساً أجتمعَ فيه الرجالُ ،ليتداولوا أمرَ الحارس ومقتله البشع،وأيقنَ الجميع أن الحارس مات معضوضاً وقد عبثت مخالبُ حادةٌ بصدره مستخرجةً قلبَهُ الذي اختفى .فأشار شيخُ القرية على الرجال أن يحرس احدُهم الباب،فسكتَ الجميع ولم ينبسوا بكلمة.نظر إليهم شيخُ القرية مستغرباً بعد أن خيَّم الوجوم على وجوههم ثم قال متهكماً: (هل تريدون أن أحرس أنا الباب..؟).فسكتوا ولم يتبرع أحد بهذه المهمة.ثم أعلن شيخُ القرية عن أجرٍ كبيرٍ لِمَنْ يتبرع لحراسة البوابة ،لكن سكوت الرجال ظلَّ مستمراً، حتى انفجرَ الشيخُ في وجوههم مُعلناً عدم رضاه ورغبته في أن يغادروه في الحال.
كنت أنا وأمي في المنزل ننتظر أبي الذي قصَّ علينا ماجرى في بيت شيخ القرية وحين سألناهُ عن الفاعل أجابنا: (لقد أيقنَ الجميعُ أن مَن فعل الفعلة هو كلبُ الحارس المسعور).وفي اليوم التالي باتت القرية بلا حارس ،مرَّ الليلُ ثقيلاً هذه المرة،والشبابيك عانتْ من صراخ الريح الشتوية.صرنا نشتاق إلى الشمس ونورها.وبالفعل أتى النَّهار هذه المرة حاملاً في جعبته مفاجأة أخرى ،حين خرجنا إلى سوق القرية فوجدنا جثة رجل يبيع اللبن يخرج باكراً كلَّ يوم،وقد مُزِقَ بلعومه شر تمزيق ،وفُتِحَ صدرُهُ بمخلب حاد.هذه المرة داهمتْ القرية حالةُ من الذعر والهلع،فاجتمع الرجال من كلِّ بيت ،وقرَّرَ الجمع في بيت شيخ القرية أن يجدوا الكلب ويقتلوه ويريحوا القرية من شره ،وبالفعل أشعلَ الرجال المشاعل ،واجتمع كلّ خمسة رجال على حدا ،ليبحثوا عنه في دروب القرية ليلاً،لم يبق في البيوت غير الأطفال والنسوة الخائفات،وفي بيتنا لم تبق سوى أمي،لأنني هذه المرة غافلت أبي الذي حمل مشعله يطلب الكلبَ ليأخذ بثأر القرية منه .تبعتهم وهم يحومون في الدروب بحثاً وتفتيشاً ،مروا على خربة القرية ،وعلى جانبي السور ،وصعد آخرون فوق المنازل ،فأضاءت المشاعل فضاء القرية.(ها هو ذا يركض هناك...الكلب الأبيض ) هتف أحد الرجال ،فركض وتبعه رجال يحملون السكاكين الطويلة،والبنادق المحشوة ،والقلوب المملوءة بالغيض والحقد.تبعتهم فرآني أبي الذي صرخ مذعوراً من حضوري ،فأقسمت له أن الكلب يعرفني ،وأنا قادر على ترويضه وإخفات زمجرة وحشيته،ضمَّني إلى حزبِهِ خوفاً عليَّ وانطلقَ خلفهم وراء الكلب المطلوب.جماعةٌ اتجهوا يميناً وجماعةٌ اتجهوا شمالاً ،فلم يبقَ سوى الدرب المؤدي إلى منزل حارس البوابة ،اقترب الرجال صوب المنزل ،فدلَّهم على الكلب عواؤهُ المنبعثُ من فوهة التنور،التنور الذي حُبِسَ فيه أيام طفولته ،صرختُ عالياً (اتركوه...أرجوكم) ،فلطمني أبي على وجهي واضعاً كفه على فمي الراجف .تحرَّكَتْ فئةٌ منهم يحملون أشدَّ المشاعل توهجاً ،فرموها على الكلب الذي زَمجرَ ونبحَ في وجهِ رجالِ القرية الممتلئين بالثأر.أشعلوا التنور وأنا اصرخ عالياً (لا تقتلوه...أرجوكم لا تقتلوه) حضنني أبي بقوة وأنا اصرخ بكل قوة ،والكلب يعوي عالياً..عالياً.عواؤهُ ملأ الفضاء،فاقشعر بدن الأشجار والبيوت والدروب،ولم تتأثر قلوب الرجال المكتظة بالثأر والغل.عوى عالياً من الألم ،وهو يحترق في التنور،الذي تحول إلى شعلةٍ من اللهب.عيناي لم تتحملا الصورة ،وأذناي لم تقويا على سماع صوت عواء الكلب، الذي بدأ يخفتُ شيئاً فشيئاً. لم انمْ ليلتها ،كنت أبكي إلى الصباح،صباح القرية الذي عاد يحمل لهم بشارةَ الخلاص من الكلب .في تلك الساعة تسابقَ رجالُ القرية عند شيخها للحصول على وظيفة الحارس الجديد،وكركرَ الرجال أمام الدكاكين ابتهاجاً بالخلاص ،وتباشرت النسوة المتبضعات،ورجع الأطفال من جديد إلى اللعب في الدروب .وأنا...كنتُ منزوياً في غرفتي التي كانت تتراءى لي مثل تنّور كبير،أنوح على صديقي الكلب/الجرو الأبيض.. لكن أهل القرية المسرورين بالخلاص والبشارة ،وبعد انتهاء عيدهم بالنصر والغنيمة ، لم يهنأوا بعيشهم أبداً،فقد ذُعِروا مرة أخرى،حين عثروا في فجر يوم آخر على جثةِ حارسِ القريةِ الجديد،ممدَّداً على الأرض منهوشاً صدره،وقد ترسَّبتْ تحته بركةٌ حمراء.