عرض مشاركة واحدة
قديم 09-04-2013, 12:49 PM
المشاركة 9
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
مخرجات العقول العبقرية تعود للضوء بعد سنوات لان مخرجاتها الكودية تحتاج الى الوقت ليتمكن الناس من استيعابها. جوزف كنراد كمثال:

=================
ترجمة: عبر رواية «قلب الظلام»

هدية حسين كاتبة عراقية

جوزيف كونراد يعود إلى دائرة الضوء الأدبية

إنها حكاية كثيراً ما تتكرر، عمل ما قد لا يلتفت اليه أحد فإذا به بعد عشرات السنين يصبح واحداً من أهم الأعمال، كذلك أسماء المبدعين في شتى المجالات، تبحث عن فرصة لتسليط الضوء عليها فإذا بالضوء كله يسطع بعد رحيل بعد رحيل تلك الأسماء، ولعلّ أدجار ألن بو واحد من الأمثلة على ما نقول، إذ جاء الاعتراف به بعد أكثر من مائة عام ومن بلد غير البلد الذي ينتمي اليه.
و(قلب الظلام) رواية جوزيف كونراد هي الأخرى عاشت بعيدة عن الضوء حتى مر وقت طويل صارت بعده واحدة من أهم الأعمال الكلاسيكية في العالم، وهي رواية نشرت قبل مائة عام في كتاب واحد مع قصتين.

لماذا عاد كونراد الى الضوء بعد كل تلك السنين؟
سؤال طرحه صلاح حزين الذي ترجم وقدّم للرواية في كتاب صدر عن دار أزمنة للنشر والتوزيع في العام 2003، وأجاب عنه على الصفحتين 5 و 6 بالقول: خلال العقود القليلة الماضية عاد جوزيف كونراد إلى دائرة الضوء الأدبية بقوة كما لم يحدث إلا مع عدد قليل من الروائيين العالميين، ففي أواخر العام الماضي منحت جائزة نوبل للآداب للروائي بريطاني الجنسية ترينيدادي المولد هندي الأصل ف س نايبول، وعلى الرغم من أفكاره المثيرة للجدل فإن نايبول يعد واحداً من أكبر روائيي بريطانيا الأحياء، وتقارن أعماله على الدوام بأعمال جوزيف كونراد الذي كان مثله لاجئاً إلى بريطانيا ولكن من بولندا، وفي الواقع فإن أثر كونراد على نايبول أقوى من أن لا يلاحظ، ويمكن تلمس هذا الأثر في كتابه (عودة إيفا بيرون) حيث يفرد نايبول فصلاً للحديث عن كونراد بعنوان (ظلام كونراد) وأهم من ذلك أن نايبول -مايزال الكلام لصلاح حزين- يشترك مع كونراد في أن أعماله هو أيضاً كانت هدفاً لقراءات منظّري مدرسة (ما بعد الكولونيالية) في الأدب، وذلك بسبب تركيز أعمالهما على الجراح العميقة التي تركها الاستعمار في حيوات البلدان المستعمرة، وهذه النقطة تحديداً تمثل بؤرة اهتمام تيار ما بعد الكولونيالية في الأدب، وفي كل الأحوال فإن من غير الممكن عزل حقيقة إعادة تسليط الضوء على أدب جوزيف كونراد في السنوات الأخيرة عن ظهور ما بعد الكولونيالية التي تعد اليوم من أبرز النظريات الأدبية.
(قلب الظلام) تدور أحداثها في الكونغو في أواخر القرن التاسع عشر وتفضح ممارسات المستعمر البعيدة، حيث سجّل كونراد ما صادفه من أحداث حينما كانت الكونغو مسرحاً للنهب الإمبريالي وشاهد وحشية ما تتعرض له البلاد، ليكون ما سجله أساس روايته (قلب الظلام).
من ملتقى نهر التايمز تبدأ رحلة مجموعة من الرجال نحو قلب أفريقيا- الكونغو.. بطل الرواية يدعى مارلو، وهو الذي يقودنا إلى أكثر القصص رعباً، رعب يبدأ من السطور الأولى للرواية ويستمر معها حتى النهاية، حكايات يرويها مارلو وهو على متن المركب (نيللي) المتجه من لندن إلى حيث يعم الظلام في الكونغو.. يسير بطل كونراد حيث تقوده رغبته وحلمه الذي عاش معه في طفولته حينما أشار بإصبعه على الخريطة وقرر عندما يكبر أن يمضي إلى المكان الذي أشار إليه وهو الكونغو، وها هو يصبح رباناً لأحد الزوارق التابع لشركة من أهدافها بناء إمبراطورية وراء البحار لجني الملايين من الدولارات بطرق غير مشروعة.
من خلال حكايات مارلو يعري جوزيف كونراد أولئك المستعمرين ويكشف لنا عن أن قوتهم ماهي إلا نتيجة لضعف الآخرين.. يصف مارلو العمل على الزورق الذي أبحر عليه بالمواجهة الخطرة حيث الشاطىء الغامض الذي لا شكل له، والسفن الحربية حيث تدور المعارك، وأصوات المدافع والقنابل، واللهب والدخان، والرجال المستعبدين الذين رآهم وهو في طريقه لاستلام وظيفته، اولئك الرجال المقيدون بالسلاسل المأمورون بالعمل الشاق الذين يشبهون الأشباح من شدة نحولهم، ثم الجو الحار وضجيج العمال هناك، في تلك الأجواء عمل مارلو في مهنة لا تخلو من المتاعب، بل هي في قلب المتاعب.. وفي واحدة من تلك المصاعب يسير مارلو مع ستين رجلاً قبل أن يصل المحطة التي ستأخذه الى وظيفته، صعوداً ونزولاً لمسافة تقدّر بمائتي ميل وشبكة من الممرات التي لا تنتهي، على أرض خالية وتلال حجرية وعزلة تامة، مروراً بقرى هجرها سكانها وحيث الوحول والجثث الملقاة هنا وهناك والرجال البيض الذين وصلوا ليكسبوا أكبر قدر من المال عن طريق الاستحواز على خيرات البلد وهم يحملون هراواتهم ومستعدون للقتل من أجل أهدافهم غير النبيلة.
أما مدير الشركة فهو رجل بارد الملامح ذو نظرات كحد الفأس، عمل منذ شبابه في هذه المنطقة، مظهره لم يكن يوحي بحب أو باحترام بل بعدم ارتياح، ولم تكن لديه ملكة التنظيم كما عند كورتز المسؤول عن محطة تجارة العاج والذي يوصف بأنه رجل من الطراز الأول وقد استقبل مارلو بالقول: إن الوضع سيىء جداً.
سنعرف في سياق الحكايات التي يرويها مارلو أن حقائق الحياة تضيع في هذه البقعة من العالم، ولا تُعامل بما تستحقه إنسانيتك، المهم كم من الجهد تبذل لإرضاء مرؤوسيك الذين لا يقف جشعهم عند حد في جو تسوده النميمة والتآمر والحقد.. الى تلك البقعة وصل مارلو، لكن الزورق الذي من المفترض أن يعمل عليه كان قد غرق قبل وصوله ويحتاج الى أشهر من العمل لإصلاحه، وبين إصلاح الزورق وبدء العمل يلقي كونراد المزيد من الضوء على العلاقات السائدة، خصوصاً تلك التي تربط بين (السادة) و(العبيد) وكذلك الأجواء التآمرية من أجل الحصول على أكبر قدر من العاج الذي ينتزعونه بالقوة من الأهالي، والمنافسات غير الشريفة التي كثيراً ما تؤدي الى القتل.
تلك الحكايات المتصلة كان مارلو يقصها على مستمعيه وهم على ظهر المركب (نيللي) دون أن يكون لهم صدى في سير الأحداث، إنصات تام دونما مشاركة، كما لو أنه يحكي لنفسه، أو أنهم مفتونون بما يسمعونه الى الحد الذي يجعلهم لا يبادرون لمقاطعته، حتى الراوي الغامض الذي يحكي عن مارلو هو الآخر لا يتدخل الا حين يتوقف مارلو عن الكلام أو يوضح حركة قام بها مارلو قبل ان يتابع حكاياته، ربما مرة أو مرتين قال أحدهم جملة عابرة لم تعلق في الذهن بعد زمن طويل من سرد إحدى الحكايات الغارقة بسكون الحياة وقسوتها.
حكايات مارلو تمتد وتتشعب وتذهب إلى عمق الظلام والى الإرث الملعون والى الحياة البدائية التي تشبه حياة ما قبل التاريخ، هو وحده من يقود دفة الكلام حتى لتنسى أن هناك مستمعين على ظهر المركب.. إنها رحلة شقاء متواصل تلك التي أخذنا اليها جوزيف كونراد، رحلة عذابات في زمن البحث عن الثروات واستعباد البشر، رحلة ظلامية يخلخل اختصارها ذاك الاتساع في الرؤية التي أرادها المؤلف لقرائه، ولذلك لا يغني هذا العرض السريع عن اقتناء الرواية وقراءتها لاكتشاف قدرة الكاتب على الغوص في عمق المجهول في تلك المنطقة من العالم.
قلب الظلام رواية لم تفقد سحرها رغم عشرات السنين التي مرت على نشرها، كما لو أنها كُتبت بالأمس القريب، إنها رواية التيه إلى أقصى حدود الخطر لمستكشف مدّ يده يدعوك لمغامرة فيها من الخوف قدر ما فيها من متعة اكتشاف ذاك الزمن الغامض الممدود إلى ما لا نهاية، في بقعة مجهولة من العالم تعيش عزلة قاتلة وحرباً قذرة ضد أبناء الأرض الذين تحولوا إلى عبيد خشية القتل، وهي الرواية التي يرى فيها إدوارد سعيد نبوءة مبكرة للهيمنة الأمريكية على العالم.